الرسالة الرابعة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من بيان قول الحكماء «إن العالم إنسان كبير»، وأوردنا المثالات والإشارات والتشبيهات حسب ما جرت عادة إخواننا الكرام قد سبق منا ذكر المبادئ العقلية وبيَّنا فيه كيفية اختراع الموجودات وتكوين المخلوقات، وكذلك قد سبق منا في رسالة الحاس والمحسوس بيَّنا أن المحسوسات كلها أعراض جسمانية وهي كلها في الهيولى الجسماني، وأن إدراك النفس لها بطريق الحواس بقوتها الحاسَّة، وأن الحواس كلها آلات جسدانية، وأن الحس هو تغيير مزاج تلك الحواس عند مباشرة المحسوسات لها، وأن الإحساس هو شعور القوى الحساسة بتغيير تلك الأمزجة، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بالعقل والمعقول ونبين أن المعقولات أيضًا كلها صور روحانية تراها النفس في ذاتها وتعاينها في جوهرها بعد مشاهدتها لها في الهيولى بطريق الحواس إذا هي انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ونظرت بعين البصيرة إلى نور العقل واستضاءت بضيائه وتجملت ببهائه.
واعلم يا أخي أن العقل اسم مشترك يقال على معنيين: أحدهما ما تشير به الفلاسفة إلى أنه أول موجودٍ اخترعه الباري جل وعز، وهو جوهر بسيط روحاني محيط بالأشياء كلها إحاطة روحانية، والمعنى الآخر ما يشير به جمهور الناس إلى أنه قوة من قوى النفس الإنسانية التي فعلها التفكر والروية والنطق والتمييز والصنائع وما شاكلها، فنريد أن نتكلم في هذه القوة ونبين أقسامها ونَصِف أفعالها وكيفية إدراكها صورَ المعلومات في ذاتها وجوهرها.
واعلم يا أخي أنه لما كان العقل الذي نحن في ذكره قوة من قوى النفس الإنسانية هي أيضًا قوة من قوى النفس الكلية، والنفس الكلية هي فيض فاض من العقل الكلي الذي هو أول فيض فاض من الباري جل وعز، وهي كلها تسمى موجودات أولية احتجنا أن نذكر أولًا أقسام الموجودات وما معنى الموجود، ومعنى الوجود والعدم وطرق العلم بها.
واعلم يا أخي أن لفظة الموجود مشتقة مِن وَجَدَ يَجِدُ وِجدانًا، فهو واجِد وذاك موجود، فالموجود يقتضي الواجد؛ لأنهما من جنس المضاف، وقد بيَّنا معنى جنس المضاف في رسالة المنطق.
واعلم أن كل واجد من البشر شيئًا، إذا وَجد شيئًا، فإن وجدانه له لا يخلو من إحدى الطرق الثلاث: إما بإحدى القوى الحساسة كما بيَّنا في رسالة الحاس، وإما بإحدى القوى العقلية التي هي الفكرة والروية والتمييز والفهم والوهم الصادق والذهن الصافي، وإما بطريق البرهان الضروري كما بيَّنا في رسالة البراهين التي هي طريق الاستدلال، وليس إلى الإنسان طريق إلى المعلومات غير هذه.
وأما معنى العدم فهو ما يقابل كل نوع من هذه الطرق الثلاث، فيقال معدوم من درك الحس له، ومعدم من تصوُّر العقل، ومعدوم من إقامة البرهان عليه. وأما علم الباري جل ثناؤه بالأشياء فليس من هذه الطرق الثلاث بل أشرف وأعلى من هذه كلها؛ وذلك أنه لا يقال للباري سبحانه إنه واجد للأشياء، بل يقال إنه موجِد ومحدِث ومخترِع ومبدِع ومبقٍ ومتمِّم ومكمِّل.
واعلم أيها الأخ إنما عِلم الإنسان بالباري عز وجل ووجدانه له بإحدى طريقتين؛ إحداهما عموم والأخرى خصوص: فالعموم هي المعرفة الغريزية التي في طباع الخليقة أجمع بهويته؛ وذلك أن الناس كلهم، العالم والجاهل والخير والشرير والمؤمن والكافر، كلهم يفزعون عند الشدائد إلى الله ويستغيثون به ويتضرعون إليه، حتى البهائم أيضًا في سني الجدب ترفع رءوسها إلى السماء تطلب الغيث، فهذا العلم منهم يدل على معرفتهم بهويته.
وأما معرفة الخصوص فهي بالوصف له والتجريد والتنزيه والتوحيد، وهي التي بطرق البرهان، ويختص بها فضلاء الناس؛ وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والأخيار والأبرار كما وصفهم، فقال في محكم تنزيله: سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ، إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ وهي معرفة ضرورية.
واعلم يا أخي بأن الموجودات كلها التي أوجدها الباري سبحانه وتعالى، بأي طريق كان وجدانها، ليست تخلو من أن تكون جواهرَ أو أعراضًا أو مجموعًا منهما، هيولى أو صورة أو مركبًا منهما، عللًا أو معلولات، أو مشارًا إليهما جسمانيًّا روحانيًّا أو مقرونًا بينهما، بسيطًا أو مركبًا أو جملتهما. ولما كانت هذه الأقسام محتوية على الموجودات كلها احتجْنا أن نبين نفس معاني هذه الألفاظ الغامضة التي تاه فيها أكثر العلماء عن الوقوف على حقائق معانيها.
واعلم يا أخي بأن الموجودات كلها صور وأعيان غيريات أفاضها الباري عز وجل على العقل الذي هو أول موجود جَادَ به الباري وأوجده، وهو جوهر بسيط روحاني فيه جميع صور الموجودات غير متراكمة ولا متزاحمة، كما يكون في نفس الصانع صور المصنوعات قبل إخراجها ووضعها في الهيولى وهو فائض تلك الصور على النفس الكلية دفعة واحدة بلا زمان، كفيض الشمس نورها على الهواء. وأن النفس قابلة لتلك الصورة تارة وفائضة على الهيولى تارة، كما يقبل القمر نور الشمس تارة ويفيض على الهواء تارة. وأن الهيولى قابلة لتلك الصور من النفس الكلية شيئًا بعد شيء على التدريج بالزمان، كما يقبل الهواء نور القمر في وقت دون وقت ومن مسامتة دون مسامتة، كما يقبل التلميذ من الأستاذ شيئًا بعد شيء.
واعلم يا أخي أن صور الموجودات كلها يتلو بعضها بعضًا في الحدوث والبقاء عن العلة الأولى التي هي الباري عز وجل، كما يتلو العدد أزواجه أفراده بعضها بعضًا في الحدوث والنظام عن الواحد الذي قبل الاثنين. ثم اعلم أن هذه الألفاظ كلها ألقاب وسمات يشار بها إلى الصور ليميز بين إضافات بعضها إلى بعض، كما يميز بين الأعداد بالألفاظ؛ وذلك أن الصورة الواحدة تارة تسمى هيولى وتارة تسمى جوهرية وتارة تسمى عرضية، وتارة بسيطة وتارة مركبة، وتارة روحانية وتارة جسمانية، وتارة علة وتارة معلولة، وما شاكل هذه الألفاظ، كما يسمى العدد الواحد تارة نصفًا وتارة ضعفًا وتارة ثلثًا وتارة ربعًا، وتارة غير ذلك لإضافة بعضها إلى بعض؛ مثال ذلك أيضًا أن القميص هو أحد الموجودات الجسمانية الصناعية المدركة بالحس، وماهيته أنه صورة في الثوب والثوب هيولى لها، وماهية الثوب أيضًا أنها صورة في الغزل والغزل هيولى لها، والغزل أيضًا ماهيته أنه صورة في القطن والقطن هيولى لها، والقطن أيضًا ماهيته أنه صورة في النبات والنبات هيولى لها، والنبات أيضًا ماهيته أنه صورة في الأجسام الطبيعية التي هي النار والهواء والماء والأرض، وكل واحد منها أيضًا صورة في الجسم المطلق كما بيَّنا في رسالة الكون والفساد، والجسم المطلق أيضًا صورة في الهيولى الأولى كما بيَّنا في رسالة الهيولى، والهيولى الأولى هي صورة روحانية فاضت من النفس الكلية، والنفس الكلية أيضًا هي صورة روحانية فاضت من العقل الكلي الذي هو أول موجود أوجده الباري عز وجل كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية.
فقد بان لك بهذا المثال أن الموجودات كلها صور متعلقة حدوثها وبقاؤها يتلو بعضها بعضًا إلى أن تنتهي إلى المبدع الأول الذي هو الباري عز وجل، كتعلق حدوث العدد أزواجه وأفراده عن الواحد الذي قبل الاثنين.
فقد بان بهذا المثال أن الموجودات كلها صور غيريات، وهي أعيان الأشياء، وأنها متتاليات في الحدوث والبقاء كتتالي العدد من الواحد … وأنها كلها من الله مَبدؤها وإليه مرجعها، كما ذكر في كتابه على لسان نبيه فقال: إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا، وقال: وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وقال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، كما أن العدد إلى الواحد ينحلُّ، كما أن منه تركَّب في الأصل حسب ما بيَّنا، كذلك الموجودات كلها مرجعها ومصيرها إلى الله الواحد الأحد.
(١) فصل في أن الموجودات نوعان جسماني وروحاني
فاعلم يا أخي أن الموجودات كلها نوعان: جسماني وروحاني؛ فالجسماني ما يدرك بالحواس، والروحاني ما يدرك بالعقل ويُتصوَّر بالفكر.
فأما الجسماني فهو على ثلاثة أنواع: منها الأجرام الفلكية، ومنها الأركان الطبيعية، ومنها المولدات الكائنة.
والروحاني أيضًا على ثلاثة أنواع: منها الهيولى الأولى الذي هو جوهر بسيط منفعل معقول قابل لكل صورة، والثاني النفس التي هي جوهرة بسيطة فعالة علامة، والثالث العقل الذي هو جوهر بسيط مدرك حقائق الأشياء.
وأما الباري جل وعز فليس يوصف لا بالجسماني ولا الروحاني، بل هو علتها كلها، كما أن الواحد لا يوصف بالزوجية ولا الفردية بل هو علة الأزواج والأفراد من الأعداد جميعًا.
واعلم أن الموجودات كلها علل ومعلولات، فنبدأ أولًا بذكر العلل الجسمانية لأنها أقرب لفهم المتعلمين وأسهل على المبتدئين بالنظر في العلل والمعلومات الروحانية.
واعلم أن الموجودات الجسمانية لكل واحد منها أربع علل: علة فاعلة، وعلة صورية، وعلة تمامية، وعلة هيولانية؛ مثال ذلك السرير فإنه أحد الموجودات الجسمانية له أربع علل: فعلته الفاعلة النجار، والهيولانية الخشب، والصورية التربيع، والتمامية القعود عليه؛ وهكذا السكين فإن علتها الفاعلية الحداد، والهيولانية الحديد، والصورية الشكل الذي هو عليه، والتمامية ليقطع به اللحم أو الحبل أو شيء ما آخر. وعلى هذا القياس — إذا اعتبر — وجد لكل شخص من الأجسام الموجودة هذه العلل الأربع.
وأما الجسم المطلق فعلَّته الهيولانية هو الجوهر البسيط الذي قبل الطول والعرض والعمق فصار بها جسمًا، وعلته الفاعلية هو الباري عز وجل، وعلته الصورية العقل لأن الطول والعرض والعمق إنما هي صورة عقلية، وعلته التمامية هي النفس لأن الهيولى من أجلها خلق وموضوع لها لكيما تفعل فيه، ومنه ما يعمل ويصنع ليتم الهيولى ويكمل النفس الذي هو الغرض الأقصى في رباط النفس مع الهيولى كما بيَّنا في رسالة المبادئ.
وأما الهيولى الأولى الذي هو جوهر بسيط روحاني فله ثلاث علل: الفاعلية وهو الباري عز وجل، والصورية وهو العقل، والتمامية وهي النفس.
وأما النفس فلها علتان: وهما الباري عز وجل والعقل؛ فالباري علتها الفاعلة المخترعة لها، والصورية هي العقل الذي يفيض عليها ما يقبل من الباري عز وجل من الفضائل والخير والفيض.
وأما العقل فله علة واحدة فاعلة الذي هو الباري عز وجل، الذي أفاض عليه الوجود والتمام والبقاء والكمال دفعة واحدة بلا زمان.
أردنا بالعلة الفاعلة أنه أبدعه بلا واسطة، فهذا العقل هو الذي أشار إليه بقوله في كتابه على لسان نبيه محمد ﷺ: وما أَمْرُنا إِلَّا واحدةٌ كَلَمْحٍ بالبصر أو هو أقرب، وإليه أشار بقوله سبحانه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، وقال: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ فالخلق هو الأمور الجسمانية، والأمر هو الجواهر الروحانية.
واعلم يا أخي أن أكثر أهل العلم ظنوا أن الموجودات ليست إلا نوعين حسْب: أحدهما الباري عز وجل، والآخر الجسم وما يحله من الأعراض، وليست لهم خيرة بالجواهر الروحانية والصور المجردة؛ ومن أجل هذا نسبوا كل ما يظهر من الأفعال والصنائع والعلوم والحكم على أيدي البشر باختياراتهم، وما يظهر من الحيوانات من الأفعال الطبيعية إلى الجسم المؤلف من اللحم والدم على بينة مخصوصة، وإلى أعراض حية فيها بزعمهم مثل الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، ولا يدرون أن مع الجسد جوهرًا آخر هو المحرك له والمظهر به ومنه أفعاله.
وأما الحكماء والنجباء الراسخون في العلم، فإنهم شاهَدوا بصفاء نفوسهم ونور عقولهم جواهرَ أُخرَ غيرَ جسمانية علامة بقوتها، سارية في الأجسام بلطافتها، فعالة فيها برويتها، هي جند الله ولب الخليقة؛ نسبوا هذه الأفعال الطبيعية إليها، ونزهوا الباري سبحانه عنها إلا ما يليق به من الحكمة والسياسة والتدبير.
واعلم يا أخي أن الحكماء الذين عرفوا الجواهر الروحانية إنما وصلوا إلى معرفتها بعد اعتبار حال الجسم والأعراض التي تحله؛ وذلك أن الجسم من حيث هو جسم ليس بفاعل ولا متحرك، بل هيولى، منفعل قابل للصورة والأعراض الحالة فيه، وكذلك الأعراض التي تحل الجسم لا فعلَ لها؛ لأنها أنقص حالًا من الجسم إذ كان لا وجود لها إلا بتوسط الجسم.
وأما الحياة والقدرة والعلم وما شاكلها، التي زعموا أنها أعراض حالة في الجسم وبها يفعل هذه الأفعال — وها هنا وقع اللبس — فإنها ليست هي أعراضًا جسمانية، بل هي أعراض روحانية توجد في بعض الأجسام بمقارنة النفس إياها لها، وتفقد عند مفارقتها إياها.
فصح بهذا الاعتبار أن مع الأجسام الحيوانية جواهر أخرى غير جسمانية؛ هي الفعالة في الأجسام هذه الأمارات التي تظهر في بعضها دون بعض، وسمَّوْها نفوسًا.
ولما رأوا أن النفوس تتفاضل بعضها على بعض بأمرٍ آخرَ مؤيدٍ لها ومفيض عليها الخير والفضائل، علموا أنه جوهرٌ أشرفُ وأفضلُ من جوهر النفس وسموه العقل.
ولما كان العقل هو المُقِرَّ على نفسه بأنه مربوب، وله مدبر خالق صانع حكيم نزَّهَهُ من جميع صفات النقص فحينئذ صح لهم، وبهذه الاعتبارات ما قالوه ووصفوه من مراتب هذه الموجودات الروحانية التي تَقدَّم وصفها وذكرها؛ وهي: الهيولى الأولى، والنفس، والعقل، والباري جل ثناؤه.
واعلم يا أخي أنه قد بان بما ذكرنا أن النفس الكلية هي جوهرة روحانية فاضت من العقل الذي أشارت إليه الفلاسفة، وأنها كالهيولى الموضوع له لما يفيض عليها من الصور والفضائل والخيرات لتكمل هي، وأنها كالصانع المصور للجسم بما تنقش فيه من الصور والأشكال لتُتمَّه بذلك.
واعلم أن النفس الكلية هي صورة فيها جميع الصور، كما أن الجسم الكلي شكل فيه جميع الأشكال، غير أن الصور في ذات النفس لا تتراكم ولا تتزاحم؛ لأنها جوهرة روحانية لطيفة حية علامة فعالة.
وأما الجسم فإن الأشكال تتراكم فيه وتتزاحم من أجل أنه جوهر غليظ كثيف ميت جاهل منفعل، كما بيَّنا في رسالة المبادئ.
فصل
واعلم أن النفس هي في ذاتها جوهرة، ولكن كونها مع الجسم بالعرض لغرضٍ ما، والغرض هو أمر سابق إلى وهم الفاعل، فإذا بلغ الفاعل إليه قطع الفعل.
فصل
وإذ قد فرغنا من ذكر النفس الكلية والعقل الكلي، فنريد أن نذكر النفس الإنسانية إذ هي قوة من قوى النفس الكلية.
ونذكر أيضًا العقل الإنساني؛ إذ هو قوة من قوى النفس الكلية ونِصف أفعال النفس وقواها إذ كانت النفس جوهرة روحانية.
ولما كانت الجواهر الروحانية لا تدرَك بالحواس ولا تعرَف إلا بما يصدر عنها من الأفعال والأعمال بحسب القوى، احتجنا إلى أن نذكر كمية قواها، ونِصف فنون أفعالها، وعجائب صنائعها، وغرائب علومها، وظرائف أخلاقها، واختلاف آرائها.
واعلم يا أخي أن للنفس الإنسانية قوًى كثيرة لا يحصي عددها إلا الله جل ثناؤه، وأن لها بكل قوة في عضو من أعضاء الجسد فعلًا خلاف عضو آخر، قد بيَّنا طرفًا من ذلك في رسالة تركيب الجسد، وطرفًا في رسالة الحاس والمحسوس، وطرفًا في رسالة الإنسان عالم صغير؛ ووصفنا فيها أن نسبة القوى الحساسة إلى النفس فيما يأتون به إليها من أخبارِ محسوساتها كنسبة أصحاب الأخبار للملك قد ولى كل واحد منهم ناحية من مملكته ليأتوه بالأخبار من تلك النواحي.
وذكرنا فيها أيضًا أن لها خمس قوًى أخرى، نسبتهن إليها كنسبة الندماء إلى الملك؛ وهي: القوة المفكرة، والقوة المتخيلة، والقوة الحافظة، والقوة الناطقة، والقوة الصانعة.
واعلم أن القوة المفكرة التي مسكنها وسط الدماغ من بين هذه القوى كالملك، وسائرها لها كالجنود والأعوان والخدم والرعية، يتصرفون بأمرها ونهيها فيما يفعلون في أعضاء الجسد من الحركات وما يظهرون من الصنائع والأعمال، وأن موضعها من بين مواضع سائر القوى في أشرف عضو من الجسد وأخص مكان منه، كما أن دار الملك في أشرف مدينة من بلدان مملكته، وفي أجلِّ موضع من المدينة وفي أشرف بقعة منها.
واعلم يا أخي أن أفعال هذه القوى الخمس أشرف وأكرم من أفعال سائر القوى.
وقد بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس أن القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ نسبتها إلى القوة المفكرة بما تجمع إليها من أخبار المحسوسات كنسبة صاحب الخريطة إلى الملك، ونسبة القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ إلى المفكرة كنسبة الخازن الحافظ ودائعَ الملك، ونسبة القوة الناطقة التي مجراها على اللسان إلى المفكرة كنسبة الحاجب والترجمان إلى الملك، ونسبة القوة الصانعة التي مجراها اليدان والأصابع إلى المفكرة كنسبة الوزير المعين له في تدبير مملكته والمساعد له في سياسته لرعيته.
(٢) فصل فيما تتولى القوة المفكرة بنفسها من الأفعال
واعلم يا أخي أنه إذا أوصلَت القوة المتخيلة رسوم المحسوسات إلى القوة المفكرة بعدَ تناوُلها من القوى الحساسة وغابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم في فكر النفس مصورة صورة روحانية، فيكون جوهر النفس لتلك الرسوم المصورة فيها كالهيولى وهي فيها كالصورة.
والمثال في ذلك أن الإنسان إذا دخل مدينة من البلدان، وطاف في أسواقها ومحالِّها، وعايَنَ طرقاتها وشاهد أهلها، ورأى هيئاتهم وسمع أقاويلهم وعرف شمائلهم، ثم خرج منها وغابت مشاهدة حواسه لها؛ فإنه كلما فكر في تلك المدينة وما شاهد فيها، تخيلها كأنه يراها معاينة على مثل ما كان شاهَد في وقت كونه فيها، لو كان ذكر لها بعد حين من الدهر.
فتلك الفكرة ليست شيئًا سوى لمحات النفس إلى ذاتها، وتخيُّلها لصورة تلك المدينة، وما رأى فيها من الموجودات ليس شيئًا سوى صور تلك الموجودات انطبعت في جوهر نفسه كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم.
وعلى هذا القياس حكْم سائر المحسوسات؛ من أول استعمالِ آلات الحواس إلى وقت تركها لها عند الممات، الذي هو ترك النفس استعمال الجسد.
واعلم يا أخي أنه إذا حصلت رسوم المحسوسات في جوهر النفس، فإن أول فعل القوة المفكرة فيها هو تأمُّلها واحدةً واحدةً لتعرف معانيها وكمياتها وكيفياتها وخواصها ومنافعها ومضارها، فإذا حصل العلم بهذه المعاني أودعتها القوة الحافظة إلى وقت التذكار، فإذا أراد الإنسان الإخبار عن معلوماته للمخاطبين له والجواب للسائلين له عن متصوراته ومفهوماته، استعانت عند ذلك القوة المفكرة بالقوة الناطقة في النيابة عنها في الجواب لغيرها كما يستعين الملك بحاجبه وترجمانه في النيابة عنه في الخطاب لغيره. ولهذه القوة المفكرة في معلوماتها المحفوظة أفعالٌ أُخر، ذكرنا طرفًا منها في رسالة المنطق، وطرفًا آخر في رسالة الموسيقى، وطرفًا آخر في رسالة الإنسان عالم صغير، حسب ما يليق بكل رسالة منها؛ لان العلوم كلها لا يمكن أن تُجمع في دفتر واحد جسماني، فأما النفس فإنها تجمع علومًا شتى وصنائع عدة وأخلاقًا مختلفة وآراءً متفاوتة؛ لأنها دفتر روحاني لا تتزاحم فيها صور المعلومات كما تتزاحم في الهيولى الجسماني؛ مثال ذلك أن السواد والبياض لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد، ولا الحلاوة والمرارة في جسم ذي طعم، ولا التدوير ولا التربيع في شكل واحد مجسم، وما شاكلها من الصور والأعراض المتضادة؛ فإن بعضها يفسد بعضًا إذا كانت من جنس واحد.
فأما في جوهر النفس فلا تتزاحم فيها الصور، بل كلها تجمع في نقطة واحدة كما تلتقي الخطوط في مركز الدائرة في نقطة واحدة، وكما تلتقي صور المرئيات كلها مع اختلاف أجناسها في المرآة وفي الحدقة التي هي نقطة من العين، كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوسات، فلْيطلب هناك.
(٣) فصل فيما يختص بالقوة الناطقة من الأفعال
فنقول: اعلم أن من شأن القوة الناطقة، إذا استعانت بها القوة المفكرة في النيابة عنها في الجواب والخطاب، أنْ تؤلف ألفاظ من حروف المعجم بنغمات مختلفة السمات التي هي الكلام، ثم تضمن تلك الألفاظ المعاني التي هي مصورة عند القوة المفكرة، فتدفعها عند ذلك إلى القوة المعبرة لتُخرجها إلى الهواء بالأصوات المختلفة في اللغات، لتحملها إلى مسامع الحاضرين بالقرب، فتكون تلك الألفاظ المؤلَّفة من الحروف المختلفة الأشكالِ والسمات كالأجساد المركبة من الأعضاء المختلفة، وتكون تلك المعاني المضمنة في تلك الألفاظ كالأرواح لها؛ لأن كل لفظة لا معنى لها فهي بمنزلة جسد لا روح فيه، وكل معنًى في فكر النفس ليس له لفظة تعبر عنه بمنزلة روح لا جسد له، وقد بيَّنا كيفية حمل الهواء صور الأصوات وحفْظها بهيئتها إلى أن توردها وتؤديها إلى السمع في رسالة الحاس والمحسوس. وذكرنا أيضًا أن الأصوات لما كانت لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظها ثم تضمحل، احتالت الحكمة الإلهية بأن قيدتها بالقوة الصناعية التي هي الكتابة؛ وذلك أن القوة المفكرة لما رأت أن الكلام لا يثبت في الهواء دائمًا، لأنه جسم سيال، احتالت حيلة أخرى واستعانت بالقوة الصناعية أن نقشتْ حروفًا خطوطية بالقلم تحاكي معاني حروف لفظية، ثم ألفتها ضروبات التأليف، حتى صارت كتابًا مكتتبًا وأودعتها وجوه الألواح وبطون الطوامير؛ لكيما يبقى العلم مفيدًا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرًا من الأولين للآخِرين، وخطابًا للحاضرين من الغائبين، وبالعكس. وهذا من جَسيم نعم الله تعالى على الإنسان كما ذكر الله تعالى في كتابه: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
ثم اعلم أن للقوة الصناعية أفعالًا كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة الصنائع. وكذلك القوة الناطقة لها لغات كثيرة وألفاظ مختلفة ونغمات مفننة لا يحصي عددها إلا الله عز وجل، وقد ذكرنا منها طرفًا في رسالة اختلاف اللغات، وطرفًا في رسالة الموسيقى. ثم اعلم أن القوة المفكرة لها أفعال كثيرة تستغرق فيها أفعال سائر القوى.
وذلك أن أفعالها نوعان؛ فمنها ما يخصها بمجردها، ومنها ما يشترك مع قوًى أخرى؛ فمنها الصنائع كلها فإنها مشتركة بينها وبين القوة الصناعية، ومنها الكلام وأقاويل اللغات فإنها مشتركة بينها وبين القوة الناطقة، ومنها تناول رسوم المعلومات المحفوظة فإنها مشتركة بينها وبين القوة الحافظة، وأما التي تخصها من الأفعال فالفكر والروية والتصور والاعتبار والتركيب والتحليل والجمع والقياس، ولها الفراسة والزجر والتكهن والخواطر والإلهام وقبول الوحي وتخييل المنامات.
وتفصيل ذلك: فأما بالفكر فاستخراج الغوامض من العلوم، وبالروية تدبير الملْك وسياسة الأمور، وبالتصور درك حقائق الأشياء، وبالاعتبار معرفة الأمور الماضية من الزمان، وبالتركيب استخراج الصنائع أجمع، وبالتحليل معرفة الجواهر البسيطة والمبادئ، وبالجمع معرفة الأنواع والأجناس، وبالقياس درك الأمور الغائبة بالزمان والمكان، وبالفراسة معرفة ما في الطبائع من الأمور الخفية، وبالزجر معرفة حوادث الأيام، وبالتكهن معرفة الكائنات بالموجبات الفلكية، وبالمنامات معرفة الإنذارات والبشارات، وبقبول الخواطر والإلهام والوحي معرفة وضع النواميس وتدوين الكتب الإلهية وتأويلاتها المكنونة التي لا يمسها إلا المطهرون من أدناس الطبيعة، الذين هم أهل البيت الروحانيون.
وقد بيَّنا في رسالة الناموس أن وضْع النواميس وتدوين الكتب الإلهية أعلى رتبةٍ ينتهي إليها الإنسان بالتأييد الرباني، وهي أشرف صناعة تجري على أيدي البشر مثل شريعة صاحب التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
واعلم يا أخي أن الباري جل جلاله جعل الأمور الجسمانية المحسوسة كلها مثالات ودلالات على الروحانية العقلية، وجعل طرق الحواس درجًا ومراقي يُرتقى بها إلى معرفة الأمور العقلية التي هي الغرض الأقصى في بلوغ النفس إليها.
فإذا أردت يا أخي أن تبلغ إلى أفضل المطلوبات وأشرف الغايات التي هي الأمور العقلية، فاجتهدْ في معرفة الأمور المحسوسة؛ فإنك بذلك تنال الأمور العقلية، وقد بيَّنا في رسائلنا الطبيعية طرفًا من ذلك. ثم اعلم أن معرفة الأمور الجسمانية المحسوسة هي فقر النفس وشدة الحاجة، ومعرفة الأمور المعقولة الروحانية هي غناؤها ونعيمها، وذلك أن النفس في معرفة الأمور الجسمانية محتاجة إلى الجسد وحواسها وآلاتها لتدرك بتوسطها الأمور الجسمانية.
وأما إدراكها الأمور الروحانية فيكفيها ذاتها وجوهرها بعدما تأخذها من الحواس بتوسط الجسد، وإذا حصل لها ذلك فقد استغنت عن الجسد وعن التعليم بالجسم بعد ذلك.
فاجتهد يا أخي في طلب الغنى الأبدي بتوسط هذا الهيكل وآلاته ما دام يمكنك ذلك قبل فناء العمر وتصرُّم المدة وفساد الهيكل وبطلان وجوده، واحذر كل الحذر أن تبقى نفسك فقيرة محتاجة إلى هيكل ليتم به ما فاته من الكمال؛ فتكون ممن يقول: يا ليتنا نُرَدُّ فنَعْملَ غيرَ الذي كُنَّا نَعمَل، وتبقى في البرزخ إلى يوم يبعثون، ومن أين لهم أن يشعروا أيان يبعثون ما دامت هي ساهية لاهية غافلة مقبلة على الشهوات الجسمانية من اللذات الجرمانية والزينة الطبيعية والغرور بالأماني في هذه الحياة الدنيا المذمومة، التي ذمها رب العالمين فقال: أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ إلى قوله: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وقال في قصة قارون: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
ثم حكي قول الربانيين العلماء العارفين بالأمر الأشرف في المراتب العالية وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ؛ يعنون به الدار الآخرة التي هي الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ؛ يعني به عالم الأرواح الذي كله روح وريحان وتحية ورضوان.
ثم ذمَّ الذين لا يَعرفون مِن هذه الأمور المعقولة إلا المحسوسات حسْب، فقال: وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ؛ يعني أمر الآخرة ودار النعيم ودار السلام التي ترتقي إليها نفوس الأخيار بعد مفارقتها أجسادها كما ذكر في كتابه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ؛ يعني روح المؤمن وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ؛ أي يرغِّبه فيها وهمته ترقيه إلى هناك وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وروح ورضوان وغير ذلك من الآيات المذكورة في القرآن وأخبار الأنبياء عليهم السلام في ذم الدنيا والاجتناب عنها، وكذلك إشارات الحكماء شعرًا:
فعليك ألا تغترَّ بزخارف هذه الدنيا الدنية، وعليك أن تتبع الآراء الحسنة، وتهذب النفس، وفقك الله وإيانا وإخواننا للسداد، وهداك وإيانا سبيل الرشاد، إنه رءوف بالعباد.