الرسالة الخامسة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من رسالة العقل والمعقول، وبيَّنا فيها تعريف جواهر النفوس بحقيقتها وكيفية اجتماع صُوَر المعقولات في العقل المنفعل، وكنا قد بيَّنا قبل ذلك في رسالة ماهية الطبيعة ذكْر كيفية تأثيرات الأشخاص العلوية الفلكية في الأشخاص السفلية الكائنة تحت فلك القمر الذي هو عالم الكون والفساد، وبيَّنا فيها معنى قول القدماء في روحانيات الكواكب، وبيَّنا قول واضع الناموس في أجناس الملائكة وكيفية سريان قواها في العالم وإظهار أفعالها في الأجسام الموجودة فيه، فنريد أن نبين الآن ونذكر في هذه الرسالة أدوار الأشخاص الفلكية وأكوارها وقراناتها، فنقول:
إن للفلك وأشخاصه حول الأركان الأربعة التي هي عالم الكون والفساد أدوارًا كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولأدوارها كور، ولكواكبها في أدوارها وأكوارها قرانات، ويحدث في كل دور وكور وقران في عالم الكون والفساد حوادث لا يحصي عدد أجناسها إلا الله تعالى، ونريد أن نذكر من ذلك طرفًا مجملًا مختصرًا ليكون مثالًا ودليلًا على الباقية، فنقول:
اعلم أن الأدوار خمسة أنواع، فمنها أدوار الكواكب السيارة في أفلاك تداويرها، ومنها أدوار مراكز أفلاك التداوير في أفلاكها الحاملة، ومنها أدوار أفلاكها الحاملة في فلك البروج، ومنها أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج، ومنها أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان، وأما الأكوار فهي استئنافاتها في أدوارها وعودتها إلى مواضعها مرة بعد أخرى.
وأما القرانات فهي اجتماعاتها في درج البروج ودقائقها، وهي ستة أجناس: مائة وعشرون نوعًا، فمنها واحد وعشرون قرانًا ثنائية، وثلاثون قرانًا ثلاثية، وخمسة وثلاثون قرانًا رباعية، وواحد وعشرون قرانًا خماسية، وواحد وثلاثون قرانًا سداسية، وقران واحد سباعي فجملتها مائة وعشرون قرانًا نوعية مضروبة في ثلاثمائة وستين درجة يكون جملتها ثلاثة وأربعين ألفًا ومائتي قران شخصية.
وأما أدوار الألوف فأربعة أنواع؛ فمنها سبعة آلاف سنة، ومنها اثنا عشرة ألف سنة، ومنها واحد وخمسون ألف سنة، ومنها ثلاثمائة ألف وستين سنة.
ثم اعلم أن من هذه الأدوار والقرانات ما يكون في كل زمان طويل مرة واحدة، ومنها ما يكون في كل زمان قصير مرة واحدة؛ فمن الأدوار التي تكون في الزمان الطويل أدوار الكواكب الثابتة في فلك البروج، وهو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة. ومن الأدوار التي تكون في كل زمان قصير أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان الأربعة في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة، كما ذكر الله تعالى فقال: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وباقي الأدوار فيما بينهما. ومن القرانات ما يكون في كل ثلاثمائة وستين ألف سنة مرة واحدة، وهو أن تجمع الكواكب السيارة كلها بأوساطها في أول دقيقة من برج الحمل إلى أن تجتمع فيها مرة أخرى، ويسمى هذا الدور في زيج السند هندسية يوم واحد من أيام العالم الكبير. ومن القرانات ما يكون في كل شهر مرة واحدة، وهو اجتماع القمر مع كل واحد من الكواكب السيارة.
فأما باقي القرانات ففيما بين هذين الوقتين، ومن الأدوار القصار ما يكون في كل أربعة عشر يومًا مرة واحدة، وهي دورة مركز الفلك: التدوير والقمر في فلكه الحامل له؛ ومنها ما يكون في كل سبعة وعشرين يومًا وسبع ساعات ونصفٍ مرةً واحدة، وهي أدوار للقمر في فلك البروج؛ ومنها أدوار الفلك الجو زهر في كل إحدى وعشرين سنة في كل ثمانية عشر سنة وسبعة شهور وتسعة عشر يومًا مرةً، وهو أدوار عطارد في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا وربع يومٍ مرةً واحدة، وهي أدوار الشمس والزهرة وعطارد في فلك البروج؛ ومنها ما يكون في ثلاثمائة وثمانية وسبعين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار زحل في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وتسعة وتسعين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار المشتري في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل خمسمائة وأربعة وستين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار الزهرة في فلك تدويرها؛ ومنها ما يكون في كل ثمانمائة وسبعين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار المريخ في فلك البروج؛ ومنها ما يكون في كل خمسمائة وسبعة وثمانين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار المريخ في فلك تدويره؛ ومنها ما يكون في كل أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وثلاثين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار مركز المشتري في فلك البروج؛ ومنها ما يكون في عشرة آلاف وسبعمائة وواحد وأربعين يومًا مرة واحدة، وهي أدوار مركز زحل في فلك البروج، وجملة هذه أربعة عشر نوعًا.
وأما القرانات القصيرة الزمان فمنها ما يكون في كل مائة وستة عشر يومًا مرة واحدة، وهو قران عطارد مع الشمس؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وواحد وثمانين يومًا مرة واحدة، وهي اقتران الشمس والزهرة وعطارد مع زحل؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثمائة وتسعين يومًا مرة، وهو اقتران المشتري والزهرة عطارد والشمس؛ ومنها ما يكون في كل سبعمائة وخمسة وثمانين يومًا مرتين، وهو اقتران الزهرة مع الشمس؛ ومنها ما يكون في كل سبعمائة وثمانين يومًا مرة واحدة، وهو اقتران الشمس مع المريخ؛ ومنها ما يكون في كل سنتين ونصف سنة بالتقريب مرة واحدة، وهو اقتران المريخ مع زحل والمشتري؛ ومنها ما يكون في كل عشرين سنة بالتقريب مرة، وهو اقتران المشتري وزحل.
ومن القرانات الطويلة الزمان ما يستأنف الدور في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة، وهو أن يستوفي زحل والمشتري اثني عشر قرانًا في المثلثة الواحدة؛ ومنها ما يكون في كل تسعمائة وستين سنة مرة واحدة، وهو يستوفي زحل والمشتري ثمانية وأربعين قرانًا في المثلثات الأربعة؛ ومنها ما يكون في كل ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعين سنة مرة واحدة، وهو أن يستأنف زحل والمشتري القرانات في المثلثات، وشرحها طويل ويَخرج بنا عما نحن فيه.
وإذ قد فرغنا من ذكر كمية دوران الفلك وعدد قرانات كواكبه في أبراجها في الأدوار والألوف واستئنافها أعدادها بالكور، ونريد أن نذكر ونلوح بظرف مما يتبعها من الحوادث الكائنات في عالم الكون والفساد التي دون فلك القمر، فنقول: إنا قد بيَّنا في رسالة السماء والعالم أن الفلك المحيط تديره النفس الكلية بتأييد العقل الكلي الفعال بإذن الله تعالى، وقد بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية أن النفس والعقل هما أمران مبدعان للباري، وهو مبدعهما وعلتهما ومثبتهما ومكملهما كيف شاء، فتبارك الله رب العالمين.
ثم اعلم أن كل الحوادث التي تكون في عالم الكون والفساد هي تابعة لدوران الفلك وحادثة عن حركات كواكبه ومسيرها في البروج وقرانات بعضها مع بعض واتصالاتها بإذن الله تعالى، فمن ذلك الحوادث ما هو ظاهر جليٌّ لكل إنسان، ومنها ما هو باطن خفي يحتاج في معرفتها إلى تأمُّل وتفكُّر واعتبار.
ثم اعلم أن كل حادث في هذا العالم سريعُ النشوء، قليلُ البقاء، سريعُ الفساد، فذلك عن حركة في الفلك سريعة قصيرة الزمان قريبة الاستئناف، وكل حادث بطيء النشوء، طويل الثبات، بطيء البلى، فذلك عن حركة بطيئة طويلة الزمان، بعيدة الاستئناف. ونحتاج في هذا الفصل إلى شرح طويل، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة تكوين المعادن، وطرفًا في رسالة النبات، وطرفًا في رسالة الحيوان.
ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا منه ليتبين الصدق ويتضح الحق ويتجلى الخفي للباحثين عن حقيقة هذا الأمر، ثم نذكر تأثيرات الأشخاص العالية في الأشخاص السافلة؛ فمن ذلك الحركات السريعة القصيرة الزمان القريبة الاستئناف أدوار الفلك المحيط بالكل حول الأركان في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة، كما ذكر الله تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، وهي التي بها يكون الليل والنهار في هذا العالم الذي نحن فيه.
ومن الحوادث الكائنة التي لا تخفى على أحد من العقلاء من هذه الحركة نوم أكثر الحيوان بالليل ويقظتها بالنهار؛ وذلك أنه إذا طلعت الشمس مع دوران الفلك على جانب الأرض أضاء الهواء بنورها وأشرق وجه الأرض بضيائها، فانتبهت أكثر الحيوانات من نومها، وتحركت بعد سكونها، وترنمت بعد عجمتها وهدوئها، وانتشرت في طلب معايشها، وتصرفت في مذاهبها، وفتحت أيضًا أكثر أكمام النبات وفاح نسيم روائحها، وذهب الناس في مطالبهم وسَعَوا في حوائجهم، وإذا غابت الشمس أظلم الهواء أو اسودَّ الجو، وامتلأ وجه الأرض من الظلام، واستوحش أكثر الحيوانات وتراجعت عن متصرفاتها إلى أوطانها وأماكنها، وانصرف الناس عن أسواقهم إلى منازلهم وعن مواضع أعمالهم إلى بيوتهم، ووقع عليهم النوم والنعاس والكسل بعد الانتشار والنشاط في الأعمال، والسكون بعد الحركة، والهدوء بعد الجلبة. فإذا تأمل المتفكر في حال هذا العالم بالنهار رآه كأنه حيوان منتبه متحرك حساس، وإذا تأمله بالليل رآه كأنه نائم أو ميت أو جامد من السكون والهدوء.
ثم اعلم أنه ما دامت هذه الحركة محفوظة في الفلك فهذه الحالة موجودة في الحيوان، فإذا سكنت تلك الحركة بطل ذلك النظام والترتيب، وهذه الحركة من أعظم نعم الله تعالى على خلقه كما ذكر تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، ومن الحوادث الكائنة عن هذه الحركة في هذه المدة كونُ بعض النباتات الناقصة كخضراء الدمن، فإنها تصبح بالغدوات ريانة من نداوة الليل وطِيب نسيم الهواء، فإذا أشرقت عليها الشمس نصف النهار جفت، ثم تصبح من الغد مثل ذلك، وترى هذا خاصة في أيام الربيع في أكثر المواضع.
ومن الكائنات الحادثة عن هذه الحركة في هذه المدة المذكورة كون بعض الحيوانات الناقصة الخلقة الضعيفة البنية، كالديدان والبق والبراغيث التي تتولد من العفونات وفي الزبل والسماد والورث وجثة الجيف وما شاكلها، فإذا أصابها أدنى حَرٍّ من الشمس أو برد من الهواء هلكت.
وبالجملة فكل كائن عن هذه الحركة التي تستأنف الدور في كل أربع وعشرين ساعة مرة واحدة، وكل حادث عنها من أشخاص الحيوانات والنبات الناقص الخلقة الضعيف البنية، فإنها لا تبقى سنة تامة؛ لأنه يهلكها إما حر الشمس في الصيف أو برد الشتاء، وقد بيَّنا علتها في رسالة الحيوان والنبات.
وما دامت هذه الحركة محفوظة في الفلك فإن صورة هذه الكائنات عنها الحادثات في هذا العالم تكون موجودة في الهيولى، ومتى وقف الفلك فسد النظام وبطل الكون، وذلك كائن لا محالة إذا بلغت النفس الكلية أقصى غرضها؛ لأن الغرض هو غاية سبق إليها الوهم، ومن أجل البلوغ إليها يفعل الفاعل فعله، وإذا بلغ إليه قطع الفعل.
(١) فصل
ثم اعلم يا أخي أن دوران الفلك أكرم الأفعال وأشرفها، فغرض فاعله أيضًا أشرف الأغراض وأكرمها كما بيَّنا في رسالة البعث والقيامة. ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل شهر مرتين، وهي حركة مركز فلك تدوير القمر في الفلك الحامل في كل أربعة عشر يومًا مرة واحدة، وفي هذه المدة يكون القمر مقبِلًا بوجهه الممتلئ من النور نحو مركز الأرض، يعرف حقيقةَ ما قلنا أهلُ الصناعة الذين يعرفون عِلمَ ما في المجسطي، والذي يتبع هذه الحركة من الحوادث والكائنات في هذا العالم كثرة الربو والزيادة في الأشياء، وسرعة النشوء في الأشياء المبتدئة الحادثة من الحيوان والنبات والمعادن، والزيادة أيضًا في المدود والرطوبات والأنداء، يعرف ذلك أهل التجارب والعلماء المتيقظون المتفكرون في الآفاق، المعتبرون أحوال الموجودات. وفي النصف الثاني من الشهر يدور هذا المركز في الفلك الحامل مرة أخرى، ولكن يكون القمر موليًّا بوجهه الممتلئ من النور عن مركز الأرض نحو فلك عطارد، يدور القمر في الفلك الحامل مرة واحدة في هذه المدة، والذي يحدث عن هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم الذبولُ والهزال والنقصان في الأشياء النامية، والنضج والجفاف واليبس في الأشياء البالغة إلى التمام من الحَب والثمر.
يعرف صحة ما قلنا أهل الصناعة المتقدم ذكرهم، وفي هذه المدة عن هذه الحركة يتكون بعض الجواهر المعدنية كالملح والكمأة وأمثالهما.
واعلم يا أخي أن الكمأة نبات معدني، والملح معدن نباتي، كما بيَّنا في رسالة المعادن، وفي هذه المدة أيضًا عن هذه الحركة قد يتم كون بعض النبات ويبلغ ويُنتفع به كالبقول، وفي هذه المدة أيضًا قد يتم كون بعض الحيوانات كالطيور ودود القز وزنابير النحل، فإن أكثرها يتم في خلقتها في أربعة عشر يومًا، ويخرج بعد واحد وعشرين يومًا، ويتولى في ثمانية وعشرين يومًا ويخرج.
وهذا المدة هي مقدار مسير القمر من يوم الحضانة إلى يوم الخروج من البرج الذي كان فيه إلى البرج التاسع، الذي هو بيت النقلة والسفر، فينتقل من هذه الحيوانات الكائنة من حال إلى حال في هذه المدة. وما دامت هذه الحركة محفوظة في الفلك فصُور هذه الكائنات موجودة في الهيولى في هذا العالم، وإليها أشار جل ثناؤه فقال: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
واعلم يا أخي أن كل الكائنات عن هذه الحركة من الحيوانات والنبات؛ فمنها ما هي طويلة البقاء، ومنها ما هي قصيرة المدة، ولكن أطولها بقاءً لا يتجاوز مائة وعشرين شهرًا والقصيرة المدة ما دون ذلك.
وعلة نهاية بقاء أشخاص هذا النوع في الهيولى المقدارَ من الزمان هو أن علة حدوثها حركة القمر في فلك البروج المقسوم بثمانية وعشرين منزلًا لدورة واحدة؛ وذلك أن القمر إذا كان في برج من الأبراج في منزل من المنازل يوم حضانة الطير، فإنه يوم يخرج الفرخ يكون في المنزل العشرين من ذلك المنزل، وفي البرج التاسع من ذلك البرج، وقد قطع مائتين وأربعين درجة في الفلك وبقي له تسعة منازل، مائة وعشرون درجة إلى أن يعود إلى الدرجة التي كان فيها يوم ابتداء الحضانة فيستأنف هذا الكائن العمر الطبيعي في الدنيا لكل درجة شهر، وهذا هو العمر الطبيعي.
وأما ما يهلك قبل هذه المدة أو يعيش أكثر من هذا المقدار، فذلك لأسباب وعلل وأغراض يطول شرحها.
وعلى هذا البيان لكل كائن تحت فلك القمر حركة لشخص من الأشخاص الفلكية لاستئنافه الدور في مدة معلومة، طالت أو قصرت، فيكون بقاء تلك الكائنات عنها على هذا المثال الذي ذكرنا من الكائنات من حركة القمر.
ومثال آخر نذكر في أمر الإنسان، وذلك أنه إذا سقطت النطفة في الرحم من جنس البشر أو بعض الحيوانات التي تلد لتسعة أشهر، فلا بُدَّ من أن تكون الشمس في تلك الساعة في درجة في برج من الفلك.
فإذا كان أول الشهر التاسع يكون قد قطعت الشمس بسيرها ثمانية أبراج، وقد استوفت طبائع البروج المثلثات مرتين وبلغت إلى أول البرج التاسع بيت السفر والنقلة، فينتقل المولود من مكان إلى مكان ومن حال إلى حال أخرى، وتكون قد سارت الشمس في فلك البروج من يوم مسقط النطفة إلى ذلك اليوم مائتين وأربعين درجة لها مائة وعشرون درجة إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة بها، فجعل نهاية بقاء أشخاص هذا النوع وعمرها الطبيعي في الهيولى لكل درجة سنةً، فإن زاد أو نقص فلأسباب أو علل، وعلى هذا القياس يعتبر كل مولود من أنواع الحيوان، فيكون عن حركة شخص من الأشخاص الفلكية مما يكون ولادته وكونه الطبيعي لستة عشر يومًا أو لواحد وعشرين يومًا أو لأربعين يومًا، أو لأربعة أشهر أو لخمسة أو لستة أو لسبعة أو لتسعة أو لعشرة، أو لسنة أو لسنتين؛ فإنه يستوفي ذلك الشخص الموجب لكونه، المحمل في الفلك بعض الدائرة قبل الولادة الطبيعية لذلك النوع، ويكون مدة العمر الطبيعي لهذا النوع بمقدار ما بقي لذلك المتحرك من المسير في الفلك إلى إتمام دورة واحدة بروجًا كانت أو درجًا أو دقائق أو ساعات وأيامًا، وذلك أن الحيوانات الناقصات الخلقة الضعيفة البنية التي سببُ كونها وعلة حدوثها حركةُ ذلك الشكل الذي يستأنف الدور في أربع وعشرين ساعة كما ذكرنا قبل، فإن أشخاص النوع أكثر بقائها وعمرها الطبيعي تسعة أيام، وإن زاد أو نقص فلأسباب أخر؛ وذلك أنها تتم خلقتها وتكمل صورتها في ست عشرة ساعة؛ مقدار ما يدور من الفلك ثمانية أبراج، وإذا ابتدأ البرج التاسع بالطلوع نَهَضَ وتحرك وانتقل في طلب القوت والغذاء الذي هو مادة بقاء شخصها في الهيولى أو تبقى إلى تمام الدور تسع ساعات، فيستأنف العمر في الدنيا تسعة أيام، لكل ساعة يوم، ثم يهلك ويتكون غيرها ويكون ذلك النوع محفوظًا والأشخاص في السيلان.
واعلم يا أخي أن لكل كائن تحت فلك القمر من الحيوان والنبات والمعادن، له عن وقت كونه وحدوثه إلى وقت فنائه وعدمه، مقدارًا من الزمان؛ وهو دورة واحدة من أدوار الأشخاص الفلكية.
بيان ذلك أن كل كائن في هذا العالم له أربع أحوال متباينة؛ أحدها ابتداء كون الوجود، ومنها زيادته ونموه وارتقاؤه إلى نهايةٍ ما، ومنها توقفه وانحطاطه ونقصه، ومنها زمان بواره وعدمه. وعلة ذلك أن كل شخص في الفلك له حركة دائرة تخصه، فإن لحركته في دائرته أربع أحوال؛ منها صعود من الحضيض، ومنها صعود إلى الأوج، ومنها هبوطه من الأوج، ومنها هبوطه إلى الحضيض.
يعرف حقيقة ما قلنا أصحابُ المجسطي. ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يدور في كل أربعة أشهر مرة واحدة، وهي حركة عطارد في فلك تدويره؛ تارة مستقيمة، وتارة راجعًا، وتارة مشرقًا، وتارة مغربًا، وتارة محترقًا، وتارة صاعدًا في ذروته، وتارة هابطًا إلى حضيضه، وتارة واقفًا من موازاة درجة واحدة، والذي يحدث ويتم من هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم كون بعض النبات كالسمسم والذرة والشعير وأمثالها، كما بيَّنا في رسالة النبات، وعن هذه الحركة في هذه المدة قد يتم كون بعض الجواهر المعدنية كما يتم بالصنعة.
يعرف ما قلنا أصحابُ المعادن، والذين يسبكون الزجاج، والذين يتعاطون صناعة الكيمياء، عن هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم قد يتم خلقة بعض الحيوانات وتولدها كبعض السباع والوحوش والغزلان وببعض الغنم كما بيَّنا في رسالة الحيوانات. ومما يكون عن هذه الحركة في هذه المدة في هذا العالم ما يعرض لبعض الناس من الحوادث عند اختلاف أحوال عطارد في دورانه مما يذكره أصحاب أحكام النجوم في مواليدهم.
وبيان ذلك أن إذا خلف عطارد يعرض لبعض الناس أمراضٌ وأعلال وأوجاع — وخاصة للصبيان — وما يعرض لبعض الكتَّاب والعمال وأصحاب الدواوين والوزراء من العَزل والاعتقال والمصادرات، ولبعض الصناع من العطلة والكسل، ولبعض التجار من الخسران والمَحْق، ولبعض الناس من الحبس والاستتار والعسرة، وعند استقامته وتشريفه ما يعرض لهم من الخلاص والسلامة والظهور والولاية والنشاط واستقامة الأحوال، وعند وقوفه ورجوعه ما يعرض لهم من الحيرة والشكوك والظنون والريبة والتوقف والتخلف من سقوط الجاه وذو العز ونقصان المراتب، وكل ذلك بحسب ما أوجب شكل الفلك في أصل المواد وطبقات أحواله، يُعرف بعضها لطبقات أجناسهم ويَعلم تفصيلها أصحابُ النجوم.
ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل مرة واحدة، وهي حركة الشمس في فلك تدويرها، والزهرة وعطارد في فلك البروج؛ تارة في البروج الشمالية وتارة في الجنوبية، وتارة في المستقيمة الطلوع وتارة في المعوجة، وتارة في النارية وتارة في الترابية، وتارة في الهوائية وتارة في المائية، وتارة صاعدة وتارة هابطة، وتارة في بيوتها، وتارة في وبالها وتارة في حظوظها، وتارة في إغرابها وتارة في إشراقها، وتارة في هبوطها وتارة في أوجاتها وتارة في حضيضها، وتارة مسرعة وتارة بطيئة، وتارة عند رءوس جو زهراتها وتارة عند ذنب جو زهراتها، وتارة متيامنة بعضها من بعض وتارة متياسرة، وتارة شرقية وتارة غربية، وتارة مناظرة وتارة ساقطة وتارة خالية، وتارة وحشية وتارة في الأوتاد وتارة فيما يليها وتارة زائلة عن الأوتاد، وتارة في البروج المنقلبة وتارة في الثابتة، وتارة في ذوي الأجسام وما شاكل هذه الدلالات.
(٢) فصل
واعلم يا أخي أن الذي يحدث عن هذه الحركات في هذه المدة في هذا العالم، وعن أحوال هذه الكواكب من الفنون المختلفة والحالات المتغايرة، أشياءُ لا يحيط علمًا بكثرتها إلا الله تعالى، ولكن نذكر منها طرفًا ليكون دليلًا على الباقية، ونبدأ أولًا بذكر الزمان وأحواله وأرباعه وتغيرات الهواء؛ وذلك أنه إذا ابتدأت الشمس بحركتها في أول برج الجدي، صاعدة من الجنوب نحو الشمال، ومن الحضيض نحو الأوج مرتفعة في الفلك، أخذت الطبيعة عند ذلك بمعاونتها بإذن الباري جل وعز في جذب الرطوبات المختلفة بالتراب من الأمطار وامتصاصها في عروق الشجر والنبات إلى أصولها وقضبانها وإمساكها هناك بالقوة الماسكة، وذلك دأبها إلى أن تبلغ الشمس آخر الحوت.
فإذا نزلت أول دقيقة من برج الحمل فهو الربع الربيعي، استوى الليل والنهار في الأقاليم، واعتدل الزمان، وطاب الهواء، وهب النسيم، وذابت الثلوج، وسالت الأودية، ومدت الأنهار، ونبعت العيون، وارتفعت الرطوبات إلى أعلى فروع الأشجار، ونبت العشب، وطال الزرع، ونما الحشيش، وتلألأ الزهر وأوراق الشجر، وتفتح النور، واخضر وجه الأرض، وتكونت الحيوانات والدبيب، ونتجت البهائم، ودرت الضروع، وانتشرت الحيوانات في البلاد عن أوطانها، وطاب عيش أهل الوبر، وطلب أعلى السطوح أهل المدن، وأخذت الأرض زخرفها، وفرح الناس والحيوان أجمع بطيب نسيم الهواء، وازينت الأرض وصارت كأنها جارية شابة قد تزينت وتحلَّت للناظرين، فلا تزال تلك حال الدنيا وأهلها من الحيوان والنبات إلى أن تبلغ الشمس آخر الجوزاء؛ رأس أوجها.
فإذا نزلت الشمس أول السرطان تناهى طول النهار وقصر الليل في الأقاليم كلها، وأخذ النهار في النقصان والليل في الزيادة، وانصرف الربيع ودخل الصيف، واشتد الحر وحمى الجو وهبت السمائم، ونقصت المياه ويبس العشب، واستحكم الحب وأدرك الحصاد والثمار، وأخصبت الأرض وكثر الريف، ودرت أخلاف النعم وسمنت البهائم، واتسع للناس القوة من الثمار وللطير من الحب وللبهائم من العلف، وصارت الدنيا كأنها عروس منعمة بالغة تامة كاملة كثيرة العشاق، فلا يزال ذلك دأبها ودأب أهلها إلى أن تبلغ الشمس آخر السنبلة وأول الميزان.
ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، ما يكون في كل ثلاثة عشر شهرًا بالتقريب مرة، وهي حركة جرم زحل والمشتري في فلكي تدويرها.
وبالجملة، ما يعرض منها من الفساد عند هذه الحركة في جنب ما يكون منها من الصلاح في العلام شيء يسير.
مثال ذلك حركة الشمس بالطلوع والغروب ليكون بها الليل والنهار، ومسيرها في البروج ليكون الشتاء والصيف كما بيَّنا قبل، ولكن ربما حدث من إسخانها حر شديد؛ فيهلك بعض النبات، ويقتل بعض الحيوانات الضعيفة البنية بلا قصد من الطبيعة ولا عناية من الحكمة.
وكذلك الأمطار القصد منها إحياء البلاد والعشب والكلأ، أو سقْي الزروع والثمر لتكون قوتًا للحيوان، ولربما كانت مُهلكة لبعض الزروع مفسدة لبعض الثمار، وربما خرب السيل بعض البلاد، لكن ذلك في جنب ما يكون من صلاح عامة البلاد والحيوان والنبات شيء يسير.
وهكذا حكم المريخ وزحل والذنب، وما يذكر من مناحسها شيء يسير في جنب ما يكون عن حركاتها من الصلاح في العالم.
ثم اعلم يا أخي أن كثيرًا ممن يُقر بصحة أحكام النجوم أو يتكلم فيها يظن أن زحل والمريخ والذنب نحوس بالكلية، والزهرة والقمر والمشتري سعود بالكلية، وليس الأمر على ما ظنوا؛ لأنه ربما عرض عن إفراط القوة المنبثة منها في العالم فساد من الرطوبات والبرودات المفرطة، مثل ما يعرض عن إفراط حر الشمس وبرد زحل ويبس المريخ ورطوبة الزهرة والقمر، وأكثر العفونات منها كما يعرض عن المريخ وزحل.
ومن الحركات السريعة القصيرة الزمان، القريبة الاستئناف، حركة فلك تدوير زحل في فلك الحامل الممثل بفلك البروج في كل خمسة آلاف وسبعمائة وواحد وأربعين يومًا مرة واحدة، والذي يحدث عن هذه الحركة في هذه المدة تتميم بعض المعادن؛ كالكحل والزرنيخ والحديد وثمار بعض النبات كالزيتون والجوز وبلوغ الإنسان أشده، وعمارة بعض البلاد واستحداث بعض المدن والقرى وانتقال الملك من قوم إلى قوم وما شاكل ذلك.
ومن الحركات البطيئة الطويلة الزمان، البعيدة الاستئناف، حركات الكواكب الثابتة في فلك البروج في ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة.
وأوجات الكواكب السيارة وحضيضها وجو زهراتها، والذي يحدث عن هذه الحركات في هذه المدة في عالم الكون والفساد، تقل العمارة على سطح الأرض من ربع إلى ربع، وأن تصير مواضع البراري بحارًا، ومواضع البحار جبالًا، كما بيَّنا في رسالة المعادن كيفية ذلك. وإذ قد فرغنا من ذكر حوادث الأدوار، فنريد أن نذكر طرفًا من القرانات وألوفها.
(٣) فصل في أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع
فنقول: اعلم أن الكائنات التي يستدل عليها المنجمون سبعة أنواع: فمنها الملل والدول اللتان يستدل عليهما من القرانات الكبار التي تكون في كل ألف سنة بالتقريب مرة واحدة؛ ومنها تنقل المملكة من أمة إلى أمة، أو من بلد إلى بلد، أو من أهل بيت إلى أهل بيت آخر، وهي التي تكون ويستدل على حدوثها من القرانات التي تكون في كل مائتين وأربعين سنة مرة واحدة؛ ومنها تبدل الأشخاص على سرير الملك وما يحدث بأسباب ذلك من الحروب والفتن التي يستدل عليها من القرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة واحدة؛ ومنها الحوادث الكائنات التي تحدث في كل سنة من الغلاء والرخص والخصب والجدب والوباء والموت والقحط والأمراض والعلل والحدثان والسلامة؛ ومنها يستدل على حدوثها من تحاويل سِنِي العالم التي عليها تؤرخ التقاويم، ومنها حوادث الأيام شهرًا بشهر ويومًا بيوم، التي يستدل عليها من أوقات الاجتماعات والاستقبالات التي تؤرخ في التقاويم؛ ومنها أحكام المواليد لواحد واحد من الناس في تحاويل سنيهم من حيث ما يوجب لهم تشكيل الفلك ومواضع الكواكب في أصول مواليدهم وتحاويل سنيهم؛ ومنها الاستدلال على الخفيات من الأمور الجزوية كالخبء والسرقة واستخراج الضمير، والمسائل التي يستدل عليها من طالع وقت المسألة والسؤال عنها.
ثم اعلم أن في كل ثلاثة آلاف سنة تنقل الكواكب الثابتة وأوجات الكواكب السيارة وجو زهراتها في البروج ودرجاتها، وفي كل تسعة آلاف سنة تنتقل من ربع إلى ربع من أرباع الفلك، وفي كل ستة وثلاثين ألف سنة تدور في البروج الاثني عشر دورة واحدة، فبهذا السبب تختلف شعاعات الكواكب على بقاع الأرض وأهوية البلاد، ويختلف تعاقب الليل والنهار والشتاء والصيف عليها؛ إما باعتدال واستواء، وإما بالزيادة والنقصان، وإفراط الحرارة والبرودة واعتداله بينهما، ويكون هذا أسبابًا وعللًا لاختلاف أحوال أرباع الأرض، وتغيرات أهوية البلاد والبقاع وتبدلها بالصفات من حال إلى حال — يَعرف حقيقة ما قلنا المتحذلقون في المجسطي وأحكام القرانات — ويصير بهذه العلل والأسباب زوال الملك والدول وانتقاله من قوم إلى قوم وتغييرات العمارات من ربع إلى ربع آخر، وتكون هذه بموجبات أحكام القرانات الكائنة في الوقت والزمان من جهة القرانات والأدوار في كل ألف سنة مرة واحدة، وفي كل اثنين وعشرين ألف سنة أو في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة، والقرانات الدالة على قوة النحوس وفساد الزمان وخروج الناس عن الاعتدال وانقطاع الوحي وقلة العلماء وموت الأخيار وجور الملوك وفساد الأخلاق للناس وشر أعمالهم واختلاف آرائهم، ويمنع نزول البركات من السماء بالغيث؛ فلا تزكى الأرض ويجف النبات ويهلك الحيوان وتخرب المدن والبلاد؛ إذ هي بروز آخر القران! والقرانات الدالة على قوة السعود واعتدال الزمان واستواء طبيعة الأركان والحدوث بوحي الأنبياء — صلى الله عليهم وسلم — وتواتره وكثرة الأنبياء وعدل الملوك وبركات السماء بالغيث، وتزكو الأرض والنبات، ويكثر تولد الحيوان، وتعمر البلاد، ويكثر بنيان المدن والقرى، وكل ذلك بأمر بارئها على حسب أفعال العباد من الخير والشر جزاءً لأعمالهم، فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، واعلم وتيقَّنْ أن ما وراء عالمك المحسوس هي جهنم وجحيم عالم آخر، وأمور أُخر هي عالم الأرواح ومقر الملائكة والكرويين والروحانيين الموكلين بحفظ هذا العالم ومراتبها. وفقك الله وإيانا بروح منه وجميع إخواننا السداد، إنه رءوف بالعباد.