الرسالة التاسعة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من بيان كمية أجناس الحركات وكيفية اختلافها، وأشرنا في ذلك أن العالم محدث مصنوع، ونريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة بيان العلل والمعلولات، فنقول:
إن نعمة الله تعالى على عباده جمة لا تفنى، ومواهبه كثيرة لا تحصى، ولكن يتفاضل بعضها بعضًا بحسب جزالتها وغزارتها، فمن مواهب الله الجزيلة وعطاياه الجميلة لبعض عباده، التي خص بها قومًا دون قوم، وهي الحكمة البالغة كما ذكر بقوله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا؛ يعني به علم القرآن خاصة وتفسير آياته ومعاني أسراره وإشاراته اللطيفة التي لا يمسها إلا المطهرون من العيوب والذنوب والكذب في حق الله وآياته؛ حيث يفسر قومٌ آيات الله على خلاف ما هو معناه؛ كما فسروا الاستواء بالجلوس والتمكن على العرش، والرؤية بالنظر إلى الجسم المشار إليه، وبالسمع والبصر فسروا الأعضاء الإلهية، وفسروا الكلام بالنطق والحروف، وبالنزول الانتقال من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من الآيات التي لا يعرف تأويلها إلا الله والراسخون في العلم، وهؤلاء هم الذين يعلمون ويعرفون تأويل آياته وأسراره ويقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، فهذا قول الحكماء الربانيين والعلماء المتفلسفين.
ثم اعلم أن لفظ الفيلسوف عند اليونانيين معناه الحكيم، والفلسفة تسمى الحكمة، والحكيم هو الذي أفعاله تكون محكمة، وصناعته متقنة، وأقاويله صادقة، وأخلاقه جميلة، وآراؤه صحيحة، وأعماله زكية، وعلومه حقيقية؛ وهي معرفة حقائق الأشياء، وكمية أجناسها، وأنواع تلك الأجناس، وخواص تلك الأنواع واحدًا واحدًا، والبحث عن عللها: هل هي، وما هي، وكم هي، وأي شيء هي، وكيف هي، وأين هي، ومتى هي؟ ولم كانت ومن هي؟ ويحسن أن يسأل عن هذه الوجوه أو يجيب عنها إذا سئل، ويفهم معانيها إذا فكر فيها وبحث عنها، كما قلنا في رسالة أجناس العلوم.
ثم اعلم أن أصعب الأجوبة عن هذه السؤالات التسعة جواب اللمية؛ لأنه سؤال عن العلل، والعلل كثيرة دقيقة غامضة، تحتاج إلى بحث شديد وفهم صادق ونفس زكية ونظر دقيق.
ثم اعلم أن المباحث والمطالب في معرفة حقائق الأشياء تسعة أنواع؛ أولها: هل هو؟ والثاني: ما هو؟ والثالث: لِمَ هو؟ والرابع: كم هو؟ والخامس: أي شيء هو؟ والسادس: كيف هو؟ والسابع: أين هو؟ والثامن: متى هو؟ والتاسع: مَن هو؟ ولكل سؤال من هذه السؤالات جواب خاص لا يشبه الآخر؛ فمن يتعاطى معرفة حقائق الأشياء ويخبر عن عللها وأسبابها يحتاج إلى أن يكون قد عرف هذه المباحث التسعة والجواب عن هذه السؤالات واحدًا واحدًا بحقه وصدقه.
ثم اعلم أن معرفة الكيفية قبل معرفة الكمية؛ فمن لا يدري كيفية الأشياء وترتيبها ونظامها لا يوثق بقوله إذا أخبر عن عللها وأسبابها بأن ذلك منه عن معرفة، بل هو حكاية وإخبار عن غيره ولا يكون إلا مبلغًا! وينبغي لمن يطلب حقائق الأشياء ويبحث عن عللها وأسبابها أن يبتدئ أولًا بمعرفة الأصول والقوانين والأجناس الكليات، ثم ينظر في الفروع والأنواع والأشخاص التي هي الحروف.
ثم اعلم أن ملاك الأمر في معرفة حقائق الأشياء هو في تصور الإنسان حدوث العالم، وكيفية إبداع الباري، تعالى، العالمَ واختراعه إياه، وكيفية ترتيبه للموجودات ونظامه للكائنات بما عليه الآن ولم كان ذلك.
ثم اعلم أن كل عاقل إذا سمع كلام العلماء في حدوث العالم، وأقاويل الحكماء في كيفية إبداع الباري، تعالى، العالمَ واختراعه له بعد أن لم يكن، وتَفكَّر فيما قالوه؛ فإنه يشتهي ويتمنى أن لو علم كيف صنعه، ومتى عمله، ولِمَ فعل ذلك بعد أن لم يكن قبل. فإن فكر في هذه الثلاثة من المباحثات، ولم يتصور كيفية ذلك، ولا متى، ولا لِمَ لصعوبتها ودقتها؛ فربما تَحيَّر عقله وتشككت نفسه فيما قالت الحكماء وارتابت بها وتبلبلت.
ثم اعلم أن العلة في صعوبة التصور لحدوث العالم وكيفية إبداع الباري تعالى له من غير شيء هو من أجل جريان العادة في الشاهد أن كل مصنوع فإن صانعه يعمله من هيولى ما، في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، بحركات وأدوات.
وليس حدوث العالم وصنعته وإبداع الباري تعالى له هكذا، بل أخرج من العدم إلى الوجود هذه الأشياء كلها؛ أعني الهيولى والمكان والزمان والحركات والأدوات والأعراض، فمن أجل هذا لا يُتصور كيفية حدوث العالم وإبداعه.
(١) فصل
ثم اعلم أن الله تعالى قد علم بأنه يعرض للعقلاء هذه الشكوك والحيرة، حيث تفكروا في كيفية حدوث العالم، ولا يتصور بهذه الطريقة لصعوبتها، فجعل له طريقًا آخر أسهل من هذه وأقرب، وركزها في نفوسهم كأنها مكتوبة فيها كتابة إلهية لا يمكن لأحد من العقلاء إنكارها إذا أنصف عقله؛ لأنه يجد صدقها في نفسه شاهدًا له بها، وهي كيفية صورة العدد ومنشؤه من الواحد الذي قبل الاثنين كما في رسالة الأرثماطيقي.
ثم اعلم أن الحكماء والعلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء هم سفراء الله بينه وبين خلقه، ليعبِّروا عنه المعاني ويُفهموها الناس بلغات مختلفة، لكل أمة ما تعرفه على قدر احتمال أفهامهم، فإذا مضت الأنبياء لسبلها خَلَفَهم العلماء والحكماء وقاموا مقامهم ونابوا منابهم فيما كانوا يقولون ويفعلون، ويعلمون الناس من معالم الدين وطريق الآخرة ومصالح الدنيا، فمَن قَبِل منهم ما قالوه وعمل بما أمروه فهو على طريق النجاة والفوز، ومن أبى وكفر به فهو على خطر عظيم وخوف من الهلاك، فاحذر يا أخي مخالفة الحكماء ومعاندة العلماء، بل كنْ منهم إذا استوى لك، وينبغي ألا ترضى لنفسك إلا بأعلى مرتبة في العلم والحكمة، فإن بذلك يكون القربة إلى الله تعالى كما ذكر بقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ، وإذ قد بان بما ذكرنا طرفٌ من فضيلة العلماء ومناقب الحكماء فنقول الآن: قد قالت الحكماء كلمة كلية صادقة، وهي قولهم «إن الطبيعة لم تفعل شيئًا باطلًا»؛ ومعنى هذا القول أنه ليس شيء في الموجودات بلا فائدة ولا عائدة، بل ما من شيء إلا وفيه جر لمنفعة أو دفع لضر.
فإذا كان الأمر كما ذكرت يحتاج كل من يدعي أنه يعرف الحكمة أو يتعاطى التحقيق أن يخبر إذا سئل عن علة كل موجود، ولماذا وكيف وما الحكمة في كونه وما الفائدة في وجوده — إن كان يحسن ذلك — وإلا ينبغي له أن يقول: «الله ورسوله أعلم»، ولا يأنف أن يقول: «لا أدري»، فنقول: قبل كل شيء إنه ينبغي لمن يريد النظر في حقائق الأشياء، والبحث عن عللها، والسؤال عن أسبابها ولِمَ وكيف ولماذا وما الحكمة فيها؛ أن يكون له قلب فارغ من هموم الدنيا وأمورها، ونفس زكية وفهم دقيق وعقل واضح وأخلاق طاهرة وصدر سليم من الدغل والغش والآراء الفاسدة، ويكون مرتاضًا بالرياضيات الحكمية الأربع والنظر في المنطق والطبيعيات، ويكون قد عرف السؤالات وأجوبتها — كما بيَّنا في رسالة الأجناس من العلوم — ثم ينظر في هذا الفن الذي يسمى علم الأنبياء، الملقب بعلم الإلهيات؛ لأن هذا العلم هو الغاية القصوى التي ينتهي إليها الإنسان في علم المعارف التي تلي رتبة الملائكة، الذين هم الملأ الأعلى وسكان السموات وملوك الأفلاك.
(٢) فصل في أن الأشياء هي أعيان؛ أي صور غيريات أبدعها الباري
ثم اعلم أن الأشياء هي أعيان؛ أي صور غيريات أفاضها وأبدعها الباري تعالى، كما أن العدد هو أعيان أي صور غيريات فاض من الواحد بالتكرار في أفكار النفوس، والأشياء كانت في علم الباري تعالى قبل إبداعه واختراعه لها، كما أن الواحد لم يتغير عما كان عليه قبل ظهور العدد منه في أفكار النفوس.
ومن أخص أوصاف الباري أنه غير الوجود وأصل الموجودات وعلتها، كما أن الواحد أصل العدد ومبدؤه ومنشؤه، فلو كان الباري تعالى ضدًّا لكان العدم، ولكن العدم ليس بشيء، والباري تعالى في كل شيء ومع كل شيء من غير مخالطة لها ولا ممازجة معها، كما أن الواحد في كل عدد ومعدود، فإذا ارتفع الواحد من كل الموجود توهمنا ارتفاع العدد كله، وإذا ارتفع العدد فلم يرتفع الواحد، كذلك لو لم يكن الباري لم يكن شيء موجودًا أصلًا، وإذا بطلت الأشياء لا يبطل هو ببطلان الأشياء، ومن الموجودات ما هو أقرب إلى الباري تعالى رتبة ومنزلة وهو العقل، كما أن من الأعداد ما هو أقرب إلى الواحد رتبة ونسبة، وهو الاثنين ثم الثلاثة ثم الأربعة، ثم ما زاد بالغًا ما بلغ، فهكذا حكم الموجودات من الله تعالى مرتَّبة ومنتظمة كترتيب العدد ونظامه، كما بيَّنا في رسالة العدد، وفي رسالة المبادئ العقلية.
ثم اعلم أن كثيرًا ممن ينظرون ويتفكرون في مبادئ الأمور يظنون ويتوهمون بأن المعلومات في علم الله لم تزل مثل صور المصنوعات في أنفس الصناع قبل إخراجهم لها ووضعهم في الهيولى المعروفة في صنائعهم، أو مثل صورة المعقولات في أنفس العقلاء وتَصورهم لها، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، بل مثل كون العدد في الواحد كما بيَّنا قبل؛ لأن صورة المصنوعات حصلت في أنفس الصناع بعد النظر منهم في مصنوعات أستاذيهم والتأمل لها والتفكر فيها والاعتبار لها، والتي في أنفس أستاذيهم الذين أبدعوا الصناعات واخترعوها حصلت في نفوسهم بعد النظر منهم إلى المصنوعات الطبيعية والتأمل لها والتفكر فيها، وهكذا حكم صورة المعقولات في أنفس العقلاء حصلت فيها بعد النظر إلى المحسوسات وتأملهم لها والفكر منهم فيها، وليس حكم الله تعالى كذلك، بل علمه من ذاته، كما أن العدد من ذات الواحد.
والمثال ينبغي أن يكون مطابقًا لما يمثل به في أكثر المعاني لا في أقلها، فمثال الباري تعالى بالواحد في نسبته إلى المبروزات بالأعداد أكثر مطابقة له من غيرها من المثالات.
ثم اعلم أن كل موجود تام فإنه يفيض منه على ما دونه فيض ما، وأن ذلك الفيض هو من جوهره أعني صورته المقومة التي هي ذاته؛ والمثال في ذلك حرارة النار، فإنها تفيض منها على ما حولها من الأجسام من التسخين والحرارة، وهي جوهرية النار التي هي صورتها المقومة لها، وهكذا أيضًا يفيض من الماء الترطيب والبلل على الأجسام المجاورة له، والرطوبة جوهرية في الماء، وهي صورة مقومة لذاته، وهكذا أيضًا يفيض من الشمس النور والضياء على الأفلاك والهواء؛ لأن النور جوهري في الشمس، وهي صورته المقومة لِذَاته، وهكذا أيضًا تفيض من النفس الحياة على الأجسام؛ لأن الحياة جوهرية لها، وهي الصورة المقومة لذاتها.
فصل
ثم اعلم أنه ما دام الفيض من الفائض، يكون متواترًا متصلًا ما دام ذلك المفاض عليه، ومتى لم يتواتر متصلًا عدم وبطل وجوده؛ لأنه يضمحل الأول فالأول. والمثال في ذلك الضوءُ في الهواء، إذا تواتر البرق واتصل بقي الهواء مضيئًا مثل النهار؛ لأن الشمس تفيض الفيض منها على الهواء متواترًا متصلًا، فإذا حجز بينهما حاجز، عدم ذلك الضوء من الهواء لأنه يضمحل ساعة ساعة ولا يتواتر الفيض عليه، وهكذا الحياة من النفس على الأجسام ما دامت متصلةً متواترةً تدوم الحياة، فإذا فارقت النفسُ الجسدَ بطلت حياة الجسد من ساعته واضمحلت، وهكذا حكم وجود العالم وبقائه من الباري تعالى، فما دام الفيض والجود والعطاء متواترًا متصلًا، دام وجود العالم من الله تعالى.
واعلم أن أكثر العقلاء يظنون ويتوهمون أن وجود العالم من الله تعالى كوجود الدارِ المبنيةِ من البناء، المستقلةِ بذاتها، المستغنيةِ عن البنَّاء بعد بِنائه، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ لأن بناء الدار تركيب وتأليف من أشياء هي موجودة بأعيانها، قائمة بذواتها، كالتراب والماء والحجارة والآجر والجص واللبِن والخشب وما شاكلها، وليس الإبداع والاختراع تركيبًا وتأليفًا، بل إحداث واختراع من العدم إلى الوجود، والمثال في ذلك كلام المتكلم وكتابة الكاتب، فإن أحدهما يشبه الإبداع وهو الكلام، والآخر يشبه التركيب وهو الكتابة، فمن أجل هذا صار إذا سكت المتكلم بطل وجدان الكلام، فإذا أمسك الكاتب لا يبطل الموجود من الكتابة، فوجود العالم من الله تعالى كوجود الكلام من المتكلم، إذا أمسك عن الكلام بطل وجدان الكلام، والدليل على ما قلنا وحقيقة ما وصفنا قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا … الآية وكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ولا يشغله شأن عن شأن.
ثم اعلم أن كل لبيب عاقل إذا فكر في كيفية حدوث العالم، وإبداع الباري له، وخلقه أطباقَ السموات والأرض، وتركيبه أكر الأفلاك، وتدويره أجرام الكواكب البسيطة والأركان الأربعة، وتكوينه المولدات الثلاثة منها؛ فلا بُدَّ أن يعتقد فيها أحد الآراء الثلاثة: إما أن يظن ويتوهم بأنها أُبدعت دفعة واحدة وأخرجها الباري تعالى من العدم إلى الوجود على ما هي عليه الآن، أو يظن ويتوهم بأنها أُبدعت على تدريج فأخرجت على ترتيب أولًا فأولًا إلى آخرها على ممر الدهور والأزمان، أن يقول بعضها دفعة وبعضها على التدريج! إذ ليس في القسمة العقلية غير هذه الثلاثة. فأما من يظن ويقول إنها أُبدعت دفعة واحدة بلا زمان فلا يجد لما يقول عليه دليلًا من الشاهد فيتشكك فيما يقول.
وأما من يقول إنها أُبدعت وأُخرجت من العدم إلى الوجود على تدريج ونظم وترتيب، فهو يجد على ما يقول شواهد كثيرة من الموجودات باستقراء واحد.
وأما من يقول إن بعضها أُبدع وأُحدث دفعة واحدة وبعضها على التدريج، فهو يحتاج إلى أن يبينها ويشرحها ويفصلها.
(٣) فصل في أن الأمور الطبيعية أُحدِثت على تدريج ممر الدهور والأزمان
فنقول: إن الأمور الطبيعية أُحدِثت وأُبدِعت على تدريج ممر الدهور والأزمان؛ وذلك أن الهيولى الكلي — أعني الجسم المطلق — قد أتى عليه دهر طويل إلى أن تمخض وتميز اللطيف منه من الكثيف، وإلى أنْ قَبِل الأشكال الفلكية الكُرِيَّة الشفافة وتَركَّب بعضها في جوف بعض، وإلى أن استدارت أجرام الكواكب النيرة وركزت مراكزها، وإلى أن تميزت الأركان الأربعة وترتبت مراتبها وانتظمت نظامها.
والدليل على ذلك قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.
فأما الأمور الإلهية الروحانية، فحدوثها دفعة واحدة مرتبة منتظمة بلا زمان ولا مكان ولا هيولى ذات كيان، بل بقوله: كُنْ فَيَكُونُ والأمور الروحانية الإلهية هي العقل الفعال والنفس الكلية والهيولى الأولى والصور المجردة، والعقل هو نور الباري تعالى وفيضه الذي فاض أولًا، والنفس هي نور العقل وفيضه الذي أفاضه الباري منه، والهيولى الأولى هي ظل النفس وفيئها، والصور المجردة هي النقوش والأصباغ والأشكال التي عمتها النفس في الهيولى بإذن الله تعالى وتأييده لها بالعقل.
وهذه الأمور كلها بلا زمان ولا مكان، بل بقوله: كُنْ فَيَكُونُ كما قال: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
والمثال حدوث البرق، وإشراق نور الشمس في الهواء، وإضاءة الإبصار ورؤية الأشياء دفعة واحدة بلا زمان.
ثم اعلم أن الأركان الأربعة متقدمة الوجود على مولداتها بالأيام والشهور والسنين، كما أن الأفلاك متقدمة الوجود على الأركان بالأزمان والأدوار والقرانات، وعالم الأرواح متقدم الوجود على عالم الأفلاك بالدهور الطوال التي لا نهاية لها، والباري تعالى متقدم الوجود على الكل، كتقدم الواحد على جميع العدد.
ثم اعلم أنه قد أتى على النفس دهر طويل قبل تعلقها بالجسم ذي الأبعاد، وكانت هي في عالمها الروحاني ومحلها النوراني ودارها الحيوانية مقبلةً على علتها، العقل الفعال، تقبل منه الفيض والفضائل والخيرات، وكانت منعمة ملتذة مستريحة مسرورة فرحانة.
فلما امتلأت من تلك الفضائل والخيرات أخذها شبه المخاض، فأقبلت تطلب ما تفيض عليه تلك الخيرات والفضائل، وكان الجسم فارغًا قبل ذلك من الأشكال والصور والنقوش، فأقبلت النفس على الهيولى تميز الكثيف من اللطيف، وتفيض عليه تلك الفضائل والخيرات.
فلما رأى الباري تعالى ذلك منها مكَّنها من الجسم وهيَّأ لها، فخلق من ذلك الجسمِ عالَمَ الأفلاك وأطباق السموات من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وركَّب الأفلاك بعضها في جوف بعض، وركز الكواكب مراكزها، ورتب الأركان مراتبها على أحسن النظام والترتيب بما هي عليه الآن؛ لكيما تتمكن النفس من إدارتها وتسيير كواكبها، ويسهل عليها إظهار أفعالها وفضائلها والخيرات التي قبلتها من العقل الفعال.
فهذا الذي كان سبب كون العالم — أعني عالم الأجسام — بعد أن لم يكن، من يُرِدْ أن يتصور كيفية تمخُّض الهيولى وتميُّز أجزاء الجسم اللطيف منها من الكثيف، وقبولها الأشكال الكُرِيَّة الفلكية الشفافة، وكيف تركب بعضها في جوف بعض في مراتبها ودورانها، وكيف استدارت أجرام الكواكب النيرة وركزت مراكزها في أفلاكها في مسيراتها، وكيف تمخضت أجزاء الأركان الأربعة بعضها مع بعض، وتميز بعضها من بعض، وترتبت على ما هي عليه الآن كلها من هيولى واحد من حيث الجسمية مع اختلاف صورها وفنون أشكالها؛ فلْيعتبرْ تركيب جسده من دم الطمث في الرحم كيف تمخض وتميز، وصار بعضها عظامًا بيضًا صلبة، وبعضها لحمًا أحمر، وبعضها شحمًا دسمًا أصفر، وبعضها عروقًا مجوفة، وبعضها أعضاء آلية، وبعضها أعضاء متشابهة الأجزاء، وكيف صار بعضها قلبا، وبعضها جرم الكبد، وبعضها جرم الرئة، وكذلك المعدة والطحال والدماغ والأمعاء، وكيف صار بعضها جلدًا وشعرًا وظفرًا، وما شاكل هذه الأشياء المختلفة الأشكال والصور والألوان والطعوم والروائح والطباع.
وإن عجز فهْمه عن تصور كون هذه من دم الطمث ومن النطفة وتركيبها منه وكيفية قبولها هذه الصور والأشكال والطعوم والألوان، التي هي أقرب إليه ومعرفتها أسهل عليه، فهو عن تصور كيفية الأفلاك وخلْق أطباق السموات والأراضين أبعد، وهو بها أجهل وأقل فهمًا.
(٤) فصل في أن النفس الكلية سترجع إلى عالمها الروحاني
ثم اعلم أنه سترجع النفس الكلية إلى عالمها الروحاني ومحلها النوراني وحالتها الأولى التي كانت عليها قبل تعلقها بالجسم، كما قال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ، ولكن لا يكون ذلك إلا بعد مضي الدهور والأزمان الطوال والأدوار، وسيخرب العالم الجسماني إذ فارقته النفس وسكن الفلك عن الدوران، والكواكب عن السير، والأركان عن الاختلاط والمِزاج، ويبلى النبات والحيوان والمعادن ويخلع الجسم الصور والاشكال والنقوش ويبقى فارغًا كما كان بديا إذ أعرضت عنه النفس وأقبلت نحو عالمها ولحقت بعلتها الأولى وصارت عنده واتحدت به؛ لأن مَثَل النفس في إقبالها على الجسم واشتغالها به في إصلاح شأنه — بعدما كانت مقبلة على علتها في عالمها مستفيدة منها الفيض من الفضائل والخيرات — كمثل الرجل الخير العاقل المحب المقبل على أستاذه، المحب الحريص في تعلمه العلم والحكم والمعارف، المتخلق بأخلاقه الجميلة وآدابه الصحيحة مدة من الزمان، حتى إذا امتلأ من الخيرات والفضائل والعلوم والحكم أخذه عند ذلك شبه المخاض، واشتهى وتمنى وطلب من يفيض عليه من تلك الخيرات والفضائل ويفيده إياها.
فإذا وجد تلميذًا يعلم أنه يَقبل منه تأديبه ويفهم علمه وحكمته، أقبل عليه بالفيض والإفادة طمعًا في إصلاحه وحرصًا في تعليمه ورغبة في تأديبه، تشبهًا بأستاذه في أفعاله وصنائعه، مثل ما كان يفعل أستاذه به تشبهًا بأستاذه ومعلمه ومخرجه الأول الذي أدبه وخرجه وهذب جوهره وصفى عنصره.
فإذا فرغ من تعليمه وتثقيفه بتأديبه، أقبل عند ذلك على عبادة ربه، وطلب الخلوات لمناجاة باريه، وتمنى اللحوق بأسلافه وأقاربه والدخول في زمرة ملائكته. وهكذا سيرة الأنبياء، صلوات الله عليهم، وكذلك أيضًا كانت سيرة الحكماء والقدماء الربانيين، كل ذلك تشبهًا بالله تعالى في إظهار حكمته وفيض فضائله على بريته إذ أوجدهم بعد أن لم يكونوا، فأفاض عليهم من فنون نعمه وألوان الخيرات والبركات مما لا يحصي عددها إلا الله، فافهم يا أخي هذه الإشارات والتنبيهات، لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.
فصل
حكي في بعض الأخبار أن نبيًّا من أنبياء الله تعالى قال في مناجاته مع ربه: يا رب لِم خلقت الخلق بعد أن لم تكن خلقته؟ فقال له ربه على سبيل الرمز: كنت كنزًا مخفيًّا من الخيرات والفضائل، ولم أكن أعرف فأردت أن أعرف.
معناه لو لم أخلق الخلق لخفيتْ هذه الفضائل والخيرات التي أفضتها وأظهرتها من عجائب خلقي ومصنوعاتي المحكمات التي كلَّت الألسن عن البلوغ إلى كنه صفاتها، وحارت عقولهم عن كنه معرفتها بحقائقها.
وأنت يا أخي، فاحذر من سوء الفهم من كلام العقلاء والحكماء، ولطيف أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني الدقيقة! فإن سوء الفهم يؤدي صاحبه إلى سوء الظن بالحكماء؛ فمن ذلك ما يتوهمه كثير من الناس في حق الحكماء أنها تقول بقِدم العالم وأزليته، وهذا هو سوء الظن منهم لسوء فهمهم لأقاويلها وإشاراتها، وذلك أنهم لما سمعوا قول الحكماء «إنَّ العالم لم يُخلق في زمان ولا هو في مكان» ظن مَن سمع هذا القول منهم أنهم يقولون بقِدم العالم ولم يفهم ما أرادوا، وإنما أرادوا بقولهم: لا زمان ولا مكان أفضل؛ لأن الزمان عدد حركات الفلك والمكان سطحه الخارج، فإذا لم يكن فلك فلا زمان ولا مكان، بل لَمَا أبدع الباري تعالى الفلك وأداره وأوجد المكان والزمان معًا بعد وجود الفلك.
ومن ذلك أيضًا قولهم: إن الجوهر جوهر لنفسه، والعرض عرض لنفسه. فظن من سمع هذا القول ولم يفهم المراد أنهم يقولون إنها ليست بجعل جاعل أو بصنع صانع إذ كان لنفسه! وليس الأمر على ما ظنوا وتوهموا، وإنما قالت الحكماء هذا القول لما تأملت الموجودات وتصفحت أحوالها وجدت بعضها صفات وبعضها موصوفات مختلفات، وعرفت أن علة اختلاف الموصوفات هي مِن أجل اختلاف الصفات، وأما اختلاف الصفات فهي لأنفسها لأن الله تعالى أبدعها مختلفة بأعيانها لا لعلة فيها.
والمثال في ذلك اختلاف حال الأسود والأبيض، فإنه من أجل اختلاف السواد والبياض في ذاتيهما لا لعلة أخرى.
فمَن ظن أن السواد والبياض لهما علة أخرى تمادى إلى غير النهاية! وذلك أن الأسود هو موصوف، وإنما كان أسود لكون السواد فيه، فهكذا الأبيض إنما كان أبيض لكون البياض فيه، فأما السواد والبياض فإنهما في أنفسهما مختلفان، لا لصنعة فيهما، بل بذاتيهما مختلفان؛ لأن الله تعالى أبدعهما هكذا مختلفَي الذاتين، فهذا معنى قول الحكماء: إن السواد سواد لنفسه لا لصفة فيه، ولم يريدوا أن السواد ليس بجعل جاعل ولا بصنع صانع، كما توهم كثير من الناس الذين هم غير مرتاضين بالحكمة ولا متحققين بالشريعة.
ثم اعلم أن العجز هو أحد الأسباب التي تعوق الفاعل عن إظهار أفعاله والصانع عن إحكام صنعه، ولكن ربما يكون من الفاعل لضعف قوته ولقلة معرفته، وربما كان من عدم الأدوات والآلات التي يحتاج إليها الصانع في إحكام صنعته أو من عدم المكان والزمان والحركات وما شاكلها، أو ربما يكون العجز من قبل الهيولى وعسر قبولها الصورة من الصانع الحكيم. مثال ذلك تعسر قبول الحديد من الحداد أن يفتل من الحديد البارد حبلًا طويلًا كما يفتل الحبال من القنب، فليس العجز من الحداد ولكن من الحديد لعسر قبوله للفتل، ومثل الهواء لا يقبل كتابة الكاتب فيه لسيلان عنصره، ومثل النجار لا يقدر أن يعمل سلمًا يبلغ السماء لعدم الخشب، لا لعجز فيه، ومثل رجل حكيم لا يقدر أن يعلم الطفل لا لعجز في الحكيم، بل لأن الطفل غير مستعد لقبول ذلك في حال الطفولية. وعلى هذا القياس يوجد العجز من الهيولى وعسر قبولها للصور لا لعجز في الصانع الحكيم.
(٥) فصل في ما العلة؟ وما المعلول؟ وكم العلل؟ وكم المعلول؟
ما العلة؟ هي السبب الموجب لكون شيء آخر. ما المعلول؟ هو الذي لكونه سبب من الأسباب. كم العلل؟ أربعة أنواع: فاعلية وهيولانية وصورية وتمامية. كم المعلول؟ أربعة أنواع وهي: المصنوعات كلها؛ فمنها مصنوعات بشرية حيوانية، ومنها طبيعية وهي المعادن والنبات والحيوان، ومنها نفسانية بسيطة وهي الأفلاك والكواكب والأركان، ومنها الروحانية الإلهية وهي الهيولى والصورة المجردة والنفس والعقل. ما الصنعة؟ هي إخراج الصانع ما في نفسه من الصور ونقشها في الهيولى، وكل صانع حكيم فله في صنعته غرضٌ ما، والغرض هو غاية تسبق في علم العالم أو في فكر الصانع، ومن أجله يفعل ما يفعله، فإذا بلغ إليه قطع الفعل وأمسك عن العمل.
ثم اعلم أن كل مصنوع فله أربع علل: علة فاعلية، وعلة هيولانية، وعلة صورية، وعلة تمامية. مثال ذلك السريرُ؛ فإن علته الفاعلية النجار، والهيولانية الخشب، والصورية التربيع، والتمامية القعود عليه. وكل صانع بشري يحتاج في صناعته إلى ستة أشياء حتى يتم صنعته: هيولى ما، ومكانٍ ما، وزمانٍ ما، وأدواتٍ ما كاليد والرجل، وآلاتٍ ما كالفأس والمنشار، وحركاتٍ ما. وكل صانع طبيعي يحتاج إلى أربع منها: وهي الهيولى والمكان والزمان والحركة. وكل صانع نفساني يكفيه اثنان منها: هيولى وحركاتٌ ما. والباري تعالى لا يحتاج إلى شيء منها؛ لأن فعله إبداع واختراع لهذه الأشياء؛ أعني الهيولى والزمان والحركات والآلات والأدوات.
واعلم أن كل صانع حكيم من البشريين يجتهد أن يُحكم صنعته إحكامًا أجود ما يقدر عليه، ولكن ربما عرض له عوائق؛ إما لعلة المادة أو لعسر الهيولى عن قبول الصورة، أو لعدم الأدوات والآلات، أو ضعف القوة والنسيان والغفلة والسهو وقلة المعرفة بالحذق في الصنعة، والله تعالى منزَّه عن جميع ذلك كله.
(٦) فصل في أن الموجودات نوعان كليات وجزئيات
ثم اعلم أن الموجودات كلها نوعان: كليات وجزئيات، فالكليات رتَّبها الباري من أشرفها إلى أَدْونها، كما بيَّنا في رسالة المبادئ والجزئيات، ابتدأها من أدونها إلى أتمها وأكملِها رتبة، كما بيَّنا في رسالة الطبيعيات.
ثم اعلم أنه ربما يكون في المسألة الواحدة عدة أجوبة، ولكن ليس كل جواب يصلح لكل واحد؛ وذلك أن في الناس خواص وعوام؛ أما جواب الخاص إذا سأل عن حدوث العالم وعلته الموجبة، فجوابه على ما سنذكره ونشرحه من بعد. وأما جواب العامة إذا سألوا لِم خلق الله العالم بعد أن لم يكن، فجوابه أن في خلقه العالم حكمة وخيرًا، وفعل الحكمة عن الحكيم واجب! فلو لم يخلق العالم لكان تاركًا للحكمة وفعل الخيرات، وهذا هو الجواب. فإن قال: لم خلق في وقت دون وقت؟ فيقال: لأنه كان عالمًا أنه سيخلق في الوقت الذي خلق فيه، فلو خلق قبل ذلك لكان فعله مخالفًا لعلمه — تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. فإن قيل: لم خلق الله تعالى العالم على هذه الصورة التي هو عليها الآن ولم يخلقه على غيرها من الصور؟ فيقال: لأن هذا أحكم وأتقن. فإن قيل: بل غيره أحكم وأتقن! فيقال له: بيِّن كيفية ذلك، فإن الحكماء الربانيين قالوا لا يجوز ولا يمكن أحكم من هذا ولا أتقن منه. فإن قال: أوَليس زيد الزمن قد كان يمكن أن يكون أحكم بِنْيةً وأحسن صورة مما هو عليه الآن؟ فيقال: سألتنا عن صورة العالم بكليته لا عن صورة حروف أجزائه، بل ماذا تقول في صورة الإنسانية؛ هل يجوز أن تكون أحكم وأتقن مما هي عليه الآن؟
ثم اعلم أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم بالقصد الأول، فأما صورة زيد الزمن وعمرو المفلوج للأسباب الفلكية والعلل الطبيعية، ويطول شرح ذلك؛ وذلك أن الحكماء بحثوا عن علل الأشياء وخبروا عن أسبابها، فإنما كان ذلك عن علل الكليات، فأما علل الجزئيات فلا يبلغ فهم البشر معرفتها، بل تقصر عقولهم عن معرفتها وعن عللها وأسبابها الدقيقة الخفية.
ونريد أن نذكر عن تلك العلل والأسباب، التي أدركها الحكماء بدقة نظرهم وشدة بحثهم وجودة فكرهم واعتقادهم، طرفًا ليكون دلالة على الباقية وقياسًا لما نريد النظر فيها والحث عليها والاعتبار لها تشبهًا بهم واقتداء بمذاهبهم. وإذ قد ذكرنا ما يحتاج إليها فنريد الآن أن نبين طرفًا من كيفية السؤال والجواب عن علل الأشياء وماهية الحكمة فيها.
(٧) فصل في علة خلق العالم
وكيف إذا قيل لِمَ خلق الله تعالى بعد إن لم يكن؟ فيقال: لأن الله حكيم وخلقه العالم حكمة، وفعل الحكمة عن الحكيم واجب، وبواجب الحكمة إذَنْ خلق العالم. وإذا قيل: لِمَ خلق الله في وقت ولم يخلق قبل ذلك؟ قيل: لعلمه السابق أنه سيخلق في هذا الوقت لا قبل. فإن قيل: لِمَ خلقه على هذه الصورة التي عليها الآن ولم يخلقه على صورة غيرها؟ فيقال: لعلمه أن هذه الصورة أحكم وأتقن، ففعل كما علم ليكون فعله موافقًا لعلمه. وإذا قيل: كيف خلق الله العالم؟ وكيف ابتدأه من أوله إلى آخره؟ فقد أوردنا لهذا العالم أربع رسائل: رسالتين في المبادئ، ورسالتين في العالم، بيَّنا فيها كيف أبدع الباري تعالى الموجودات وجميع الكائنات، وكيف رتبها ونظمها بعضها يتلو بعضًا في الوجود والبقاء كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين.
وينبغي لمن يريد النظر في هذه الرسالة أن يكون قد نظر في رسالة الأربعة الموصوفات قبل هذا؛ لأن معرفة كيف هو قبل معرفة لِمَ هكذا، كما بيَّنا في رسالات أجناس السؤالات التسعة وأجوبتها للحكماء.
ثم اعلم أن لله تعالى عالَمين: أحدهما جسماني والآخر روحاني؛ فالعالم الجسماني هو الفلك المحيط وما يحويه من سائر الأفلاك والكواكب والأركان والمولدات الثلاثة، والعالم الروحاني هو عالم العقل وما يحويه من النفس والصور التي ليست بأجسام ذوات الأبعاد الثلاثة التي هي ظل ذي ثلاث شعب.
ثم اعلم أن العالم الروحاني محيط بعالم الأفلاك، كما أن عالم الأفلاك محيط بعالم الأركان الذي دون فلك القمر، وقد جعل الله تعالى عالم الأفلاك كريات الأشكال مستديرات الحركات؛ لأن هذا الشكل هو أفضل الأشكال من عدة وجوه ومعانٍ، والحركة المستديرة أفضل الحركات من جهات شتى، وقسم الله تعالى الفلك اثني عشر قسمًا؛ لأن هذا العدد أفضل الأعداد، وذلك أنه أول عدد زائد، وجعل عدد الأفلاك تسعة مطابقة لأول عدد فرد مجذور، وجعل عدد الكواكب السيارة سبعة مطابقة لأول عدد كامل، وجعل فيها نيرين، واثنين سعدين، واثنين نحسين، وواحد ممتزج. وجعل أيضًا في الفلك عقدتين، وجعل بعض البروج منقلبة وبعضها ذا جسدين وبعضها ثابتة، وبعضها نارية وبعضها ترابية؛ كل ذلك — لما فيه من وجوه الحكمة وإتقان الصنعة، لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها إلا مَن ألهمه الله تعالى وهَدى قلبه وشرح صدره بنور حكمته كما ذكر بقوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، فإذا قيل: لِم جعل الباري تعالى عالم الأجسام قسمين اثنين، أحدهما علوي وهو عالم الأفلاك وما فيها من أصناف الأكر والكواكب، والآخر سفلي وهو عالم الأركان وما فيها من أجناس الخلائق؟ فيقال له: لعلل شتى وأسباب عدة، ولما فيه من إتقان الحكمة وأحكام الصنعة ما لا يبلغ فهم البشر كنه معرفتها، ولكن نذكر منها طرفًا، فنقول:
ليكون في ذلك تبصرة للعقلاء وبيانًا لأولي الأبصار، فإن لله تعالى دارين اثنتين، إحداهما هي الدنيا التي هي عالم الأجسام ومسكن الأجرام، والأخرى هي دار الآخرة التي هي عالم الأرواح ومحل النفوس، فإن قيل لم جعل الباري تعالى في عالم الأفلاك نيرين وسعدين ونحسين وعقدتين وقد كان في واحد واحد كفاية؟ قيل له: ليكون ذلك دلالة على تحقيق ما قلنا وصحة ما وصفنا من أن له دارين اثنتين وهما الدنيا والآخرة، وذلك أن حالات أحد النيرين تشبه حالات أمور الدنيا وأبنائها وهو القمر، والآخر تشبه حالاته حالات الآخرة وأبنائها وهي الشمس النير الأكبر؛ ولذلك أن أمور الدنيا وحالات أبنائها تعد من أنقص الوجوه وأدون المراتب مرتبة إلى أتمها وأكملها، فإذا بلغت إلى غاياتها أخذت في الانحطاط والنقصان إلى أن تضمحل وتتلاشى، وهذا حال القمر من أول الشهر ثم إلى نصفه، ومن نصف الشهر إلى آخره تشاهد في كل سنة اثنتي عشرة مرة.
وهكذا حكم السعدين ودلائلهما، أحدهما تدل على سعادة أبناء الدنيا، والآخر يدل على سعادة أبناء الآخرة، وذلك أن الزهرة التي هي السعد الأصغر إذا استولت على مواليد أبناء الدنيا، دل لهم على حسن الرتبة والعز والكرامة والسرور واللذة والنعمة والرفاهة واللعب واللهو والغناء، وما يتنافس فيه أبناء الدنيا من هذه الخصال ويعدُّونها سعادة وليست هي سعادة بالحقيقة، بل هي محنة وشقاء وبلوى.
وأما إذا استولى المشتري الذي هو السعد الأكبر على مواليد الناس؛ دل لهم على حسن الأخلاق، وجودة النفس، ومحبة الخير والعمل به، والعدل والإنصاف في المعاملات، والتمسك بالدين وكثرة العبادة، وذكر الميعاد وترك اللذات والشهوات الدنياوية، والتفكر في أمر الآخرة والتقلب بعد الموت، وما شاكل هذه الخصال المتضادة لما يدل عليه أبناء الآخرة. وهكذا حكم النحسين وذلك أن أحدهما يدل على محنة ومنحسة أبناء الدنيا، وهو زحل، إذا استولى على المواليد دل على الفقر والبؤس والشدائد والذل والهوان والعلل والأمراض والتعب والعناء والمصائب والغموم والأحزان ونوائب الحدثان، التي هي أكثر من أن تحصى، وأبناء الدنيا مرهونون بها لا ينفك أحد منها.
وإذا استولى المريخ على المواليد وتقوى فدلالته على أنواع الشرور: على الفسق والفجور وقتل الأنفس وقطع صلة الرحم وإهراق الدماء وهتك الحرم وانتهاك المحارم والخروج عن الطاعة والحمية الجاهلية والسرعة والعجلة وترك النظر في العواقب وقلة الورع والإنكار لأمر المعاد والمنقلب بعد الموت! ومن كانت هذه حاله في الدنيا فليس له في الآخرة إلا العذاب. وأما كون عطارد ممازجًا للكواكب ففيه دلالة على أن أمور الدنيا معلقة بأمور الآخرة ممازجة لها، وهكذا حكم البروج المنقلبة يدل على تقلب أمور الدنيا وحالات أهلها، والبروج الثوابت تدل على ثبات أمور الآخرة وحالات أهلها، والبروج ذوات الجسدين تدل على أن أمور الدنيا متصلة بأمور الآخرة وممازجة لها.
وأما كون العقدتين في الفلك اللتين أحدهما رأس الجوزهر والأخرى ذنب الجوزهر، وهما خَفِيَّتَا الذات وظاهرتا التأثيرات في الفلك، فتدلان على أن في العالم جواهر لطيفة خفيات الذوات ظاهرات الأفعال والتأثيرات، وهم أجناس الملائكة وقبائل الجن وأحزاب الشياطين وأرواح الحيوانات ونفوسها. فإن قيل: لم جعل الكسوف للنيرين دون سائر الكواكب؟ قيل: لتزول الشكوك عن قلوب المرتابين الذين يظنون أنهما إلهان اثنان، فإنهما لو كانا إلهين لما انكسفا.
ثم اعلم أن الله تعالى جعل في جبلة الحيوان أربعة أسباب: آلامها، ودواعي عطب أبدانها، وشقاوة نفوسها، وهلاك هياكلها؛ وهي الجوع والعطش والشهوات المختلفة واللذات الذليلة. أما قصد الباري الحكيم في فعله ذلك كله فهو لبقاء نسلها وصلاح معاشها. وأما الذي يعرض لها من الآلام والنكب فليس بالقصد الأول، ولكن بالعرض من أجل النقص الذي هو في الهيولى، وذلك أن الله تعالى جعل لها الجوع والعطش لكيما تدعو بهما إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموس بدل ما يتحلل من البدن؛ لأن البدن في التحلل دائمًا من أسباب خارجة وأسباب داخلة. وأما الشهوات فلكيما تدعو إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما تحتاج إليه طباعها. وأما اللذة فلكيما تأكل بقدر الحاجة من غير زيادة ولا نقصان، فإن قيل: لِم جعل للنفوس من الآلام والأوجاع والأفزاع عند الآفات العارضة لأجسادها؟ قيل له: لكيما تحرص نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى وقت معلوم؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها. فإن قيل: لِم جعل بعض الحيوانات أكلة لحوم بعض؟ قيل: لكيما لا يضيع شيء مما خلق الله بلا نفع؛ وذلك أنه قد تاهت أوهام العلماء وتحيرت عقولهم في طلب علة أكل الحيوانات بعضها بعضًا، وما وجه الحكمة منه إذ كان الباري تعالى جعل ذلك طباعها جبلة، وهيأ بها آلات وأدوات تتمكن بها كأنياب ومخاليب وأظافر حداد، التي تقدر بها على القبض والبسط والضبط والخرق والنهش والأكل والشهوة واللذة والجوع، وما شاكل ذلك مهما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل والأمراض!
فلما تفكر في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا ما وجه العلة والحكمة، اختلفت عند ذلك بهم الآراء، والتبست بهم المذاهب حتى قال بعضهم: إنَّ تسلط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعضها لبعض ليس من فعل الحكيم، بل فعل شرير قليل الرحمة، فلهذا قالوا إن للعالم فاعلين خير وشرير! ومنهم من نسب ذلك إلى النجوم، ومنهم من قال عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب في الأدوار السالفة — وهم أهل التناسخ — ومنهم من قال بالعرض، ومنهم من قال إن هذا أصلح، ومنهم من أقر على نفسه بالعجز وقال: لا أدري ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضًا ولا ما وجه الحكمة فيه! غير أنه قال: الباري الحكيم لا يفعل شيئًا إلا بحكمته. ومنهم من قال: بل لا حكمة فيه.
وكل هذه الأقاويل قالوها في طلبهم الحكمة والعلة، وإنما لم يقفوا عليها لأن نظرهم كان جزئيًّا، وبحثهم عن علل الأشياء خصوصيًّا، وليس يعلم علل الأشياء الكليات بالنظر الجزئي؛ لأن أفعال الباري إنما الغرض منها النفع الكلي والصلاح العمومي، وإن كان قد نقص من ذلك ضرر جزئي ومكاره خصوصية وليس يعلم علل الأشياء الكليات أحيانًا.
والمثال في ذلك أحكام الشريعة النبوية وحدوده فيها، وذلك لحكم القصاص في القتل، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ وإن كان موتًا وألمًا للذي يقتص منه، وكذلك قطع يد السارق منه نفع عمومي وصلاح الكل وإن كان يناله حزن وألم، وكذلك غروب الشمس وطلوعها والأمطار كان النفع منها عموميًّا والصلاح كليًّا، وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر جزئي.
وهكذا أيضًا قد ينال الأنبياء والصالحين وأتباعهم شدائدُ وجهد وآلام في إظهار الدين وإفاضة سنن الشريعة في أول الأمر.
ولكن لما كان الباري، تعالى، غرضه في إظهار الدين وسنة الشريعة هو النفع العام وصلاح الكل من الذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ولا يحصى عددهم ونفعهم وصلاحهم، سهل في جنب ذلك وصغر ما نال النبي ﷺ من أذية المشركين وجهاد الأعداء المخالفين، وما لاقوه من الحروب والقتال في الغزوات وتعب الأسفار وقيام الليل وصيام النهار وأداء الفرائض، وما فيها من الجهد على النفوس والتعب على الأبدان.
ولما كان نزول الأمر في المنقلب إلى الصلاح العمومي والنفع الكلي كانت الشدائد والجهد والبلوى في جنبه أمرًا صغيرًا جزئيًّا، فعلى هذا المثال والقياس ينبغي أن يعتبر من يريد أن يعترض، ما العلة وما وجه الحكمة في أكل الحيوانات بعضها بعضًا ليتبين له الحق والصواب، ونحن نريد أن نبين ما العلة وما وجه الحكمة في الكل وفي أكل الحيوانات بعضها بعضًا، ولكن لا بُدَّ أن نقدم أشياء لا بُدَّ من ذكرها.
(٨) فصل في إنكار أكل الحيوانات لما ينالها من الآلام عند الذبح والقتل
فنقول: اعلم أن عقول القوم إنما أنكرت أكل الحيوانات لِمَا ينالها من الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل، ولولا ذلك لما أنكروا كما لا ينكرون أكل الحيوان والنبات؛ إذ ليس ينال النبات الآلام والأوجاع، فنقول: قصد الله وغرضه في الألم الحيوانات ما جبلت عليه طباعها، والأوجاع التي تلحق نفوسها عند الآفات العارضة ليس عقوبة لها وعذابًا كما ظن أهل التناسخ، بل حثًّا لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة لها كلها من الآفات العارضة لها؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ولا دفع مضرة عنها، ولو لم يكن ذلك كذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى الهلاك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها، ولهلكت كلها دفعة واحدة في أسرع مدة.
فلهذه العلة جعلت الآلام والأوجاع للحيوان دون النبات، وجعل فيها حُبًّا للبقاء إما بالحرب والقتال، وإما بالهرب والفرار والتحرز لحفظ جثتها من الآفات العارضة إلى وقت معلوم، فإذا جاء أجلها فلا ينفع القتال ولا الهرب ولا التحرز، بل التسليم والانقياد، ولو كان ينالها بعض الآلام والأوجاع.
وإذ قد ذكرنا ما يحتاج إليه، فنقول الآن: إن الله تعالى لما خلق أجناس الحيوانات التي في الأرض وعلم أنها لا تدوم بذاتها أبد الآبدين، جعل لكل نوع منها عمرًا طبيعيًّا أكثر ما يمكن منه، ثم يجيئه الموت إن شاء أو أبى، وقد علم الله تعالى أنه يموت كل يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل عدد لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم جعل بواجب الحكمة جثة جيف موتاها غذاءً لأحيائها ومادة لبقائها؛ لئلا يضيع شيء مما خلق الله تعالى بلا نفع ولا فائدة، وكان في هذا منفعة لأجسادها ولم يكن فيه ضرر على الموتى. وخصلة أخرى لو لم تكن الأحياء تأكل جيف الموتى منها لبقيت تلك الجيف واجتمع منها على ممر الأيام والدهور حتى تمتلئ منها الأرض وقعر البحار وتنتن، ويفسد الهواء والماء من نتن روائحها، فيصير ذلك سببًا لكونها وهلاكها للأحياء، فأي حكمة أكثر من هذه أن جعل الباري تعالى في أكل الحيوانات بعضها بعضًا من المنفعة للأحياء ودفع المضرة عنها كلها، وإن كانت تنال بعضها الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل؟ وليس قصد القابض من القاتل من ذبحها وقبضها إدخال الألم والوجع عليها، بل لينال المنفعة فيها لدفع مضرة بها.
فصل
فإذَنْ قد تبين بما ذكرنا ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضًا، فأما المنفعة العامة والصلاح الكلي في أكل الحيوانات بعضها بعضًا فهو أنه لو لم يكن لامتلأ وجه الأرض وقعر البحار وجوف الأنهار من جيف الحيوانات المنتنة في كل يوم على ممر الدهور، ولفسد جو الهواء وعرض من ذلك الوباء للأحياء منها وهلكت كلها دفعة. وعلة أخرى، وذلك أن الله تعالى لما خلق الأحياء، إما لجرِّ منفعة أو لدفع مضرة عنا، لم يترك شيئًا بلا نفع ولا عائدة، فلو لم يجعل أكل بعض الحيوانات بعضها بعضًا، لكان بعض الحيوان باطلًا بلا فائدة، وكان يعرض منها ضررٌ عام وهلاك كلي، كما ذكرنا آنفًا، فأما الآلام والأوجاع والفزع الذي يعرض لها عند الذبح والقتل والموت والأمراض، فلم يجعل ذلك الباري تعالى تعذيبًا لنفوسها ولا عقوبة ساقها لها — كما ظن ذلك أهل التناسخ — بل جعل ذلك حثًّا لنفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها إلى أجل معلوم، وإذا لم يكن كذلك لَتهاونت النفس بالأجساد، وتركتها هذه الآفات، وأسلمتها إلى المهالك والتلف، وكانت تهلك جميعًا قبل مجيء آجالها وفناء أعمارها وقبل تمامها وكمالها.
وإذا قيل: ما العلة في محبة الحيوانات الحياة وكراهيتها الموت؟ قيل: ذلك لعلل شتى وأسباب عدة؛ أحدها أن الحياة تشبه البقاء والموت يشبه الفناء، والبقاء محبوب في جبلة الخلائق كلها؛ إذ كان البقاءُ قرينَ الوجود والفناءُ قرينَ العدم، والعدم والوجود متقابلان، والله تعالى لما كان هو علة الموجودات وهو باقٍ أبدًا، صارت الموجودات كلها تحب البقاء وتشتاق إليه؛ فمن أجل هذا قالت الحكماء إن الله تعالى هو المعشوق الأول المشتاق إليه سائر الخلائق، وعلة أخرى لكراهية نفوس الحيوانات الموتَ وهو ما يلحقها من الآلام والأوجاع والفزع عند مفارقة نفوسها أجسادها، وعلة أخرى أن نفوسها لا تدري أن لها وجودًا خلوًّا من الأجساد، فإن قيل: فلِمَ لا تدري نفوسها بأن لها وجودًا خلوًّا من الأجسام؟ قلنا: لأنه لا يصلح لها أن تعلم هذه المعاني؛ لأنها لو علمت لفارقت أجسادها قبل أن تتم وتكمل، وإذا فارقت أجسادها قبل ذلك بقيت فارغة عطلاء بلا فعل ولا عمل، وليس من الحكمة أن يكون كذلك إذ كانت علتها التي هي خالقها لم تخلُ من تدبير ليكون فارغًا بلا فعل البتة، بل كل يوم هو في شأن.
(٩) فصل في أن النفوس التامة إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة
ثم اعلم أن النفوس التامة الكاملة إذا فارقت الأجساد تكون مشغولة بتأييد النفوس الناقصة المجسدة؛ لكيما تتم هذه وتكمل تلك، وتتخلص هذه من حال النقص وتبلغ تلك إلى حال الكمال، وترتقي هذه المؤيدة أيضًا إلى حالة هي أكمل وأشرف وأعلى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى.
والمثال في ذلك الأب الشفيق والأستاذ الرفيق في تعليمهما التلامذة والأولاد وإخراجهما إياهم من ظلمات الجهالات إلى فسحة العلوم وروح المعارف؛ ليتمم التلامذة والأولاد ويكمل الآباء والأستاذون بإخراج ما في قوة نفوسهم من العلوم والمعارف والصنائع والحكم إلى الفعل والظهور اقتداءً بالله تعالى وتشبهًا به في حكمته؛ إذ هو العلة والسبب والمبدأ في إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل والظهور، وكل نفس هي أكثر علومًا وأحكم صنائع وأجود عملًا فهي أقرب تشبهًا بربها وأشد تشبهًا، وهذه هي مرتبة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ؛ ولهذا المعنى قالت الحكماء: الحكمة هي التشبه بالله بحسب طاقة البشر.
معناه أن تكون علومه حقيقية، وصناعته محكمة، وأعماله صالحة، وأخلاقه جميلة، وآراؤه صحيحة، ومعاملته نظيفة، وفيضه على غيره متصلًا؛ والله سبحانه تعالى كذلك.
ثم اعلم أنه قد اختلف الحكماء في ماهيةِ الإنسان وما حقيقة معناه اختلافًا كثيرًا، والبحثِ في ذلك القيل والقال، ولكن يجمعها كلها ثلاث مقالات؛ وذلك أن منهم من قال: إن الإنسان هو هذه الجملة المرئية المبنية بِنْية مخصوصة من اللحم والدم والعظم وما شاكل ذلك لا شيء آخر سواها. ومنهم من قال: إن الإنسان هو هذه الجملة المجموعة من جسد جسماني، ومن روح نفساني؛ أي روحاني مقترني المجموعة. ومنهم من قال: إن الإنسان بالحقيقة هو هذه النفس الناطقة، والجسد لها بمنزلة قميص ملبوس أو غلاف مغشًّى عليه. فهذه ثلاث مقالات في كلام الحكماء في ماهية الإنسان. فأما اختلافهم في ماهية النفس فنبينه أيضًا ويجمعها ثلاث مقالات؛ وذلك أن منهم من قال إن النفس هي جسم لطيف غير مرئي ولا محسوس، ومنهم من قال إنما هي جوهرة روحانية غير جسم معقولة وغير محسوسة باقية بعد الموت، ومنهم من قال إن النفس عرض يتولد من مزاج البدن وأخلاط الجسد، يبطل ويفسد عند الموت إذا بَلِيَ الجسد وتلف البدن، ولا وجود لها إلا مع الجسم البتة، وهؤلاء قوم يقال لهم الجسميون، لا يعرفون شيئًا سوى الأجسام المحسوسة والأعراض ذات الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، والأعراض التي تحلها مثال الألوان والطعوم والروائح والأشكال ذوات الأضلاع من الأقطار والزوايا، وليس عندهم علم من الأمور الروحانية والجواهر النورانية والصور العقلية والقوى النفسانية السارية في الأجسام المظهرة فيها ومنها أفعالها وتأثيراتها حسب.
(١٠) فصل في معرفة الإنسان نفسه
ثم اعلم أن من العلوم الشريفة والمعارف النفيسة معرفة الإنسان نفسه؛ لأنه قبيحٌ بكل عالِم أنْ يدعي معرفة حقائق الأشياء، وهو لا يعرف نفسه ويجهل حقيقة ذاته وهو يتعاطى الحكمة؛ لأن مَثَل ذلك كمثل من يطعم غيره وهو جائع، أو يكسو غيره وهو عريان، ويهدي غيره وهو ضال في الطريق الأنهج. وقد علم كل عاقل ذاته في هذه الأشياء بأنه ينبغي للإنسان أن يبتدي أولًا بنفسه ثم بغيره.
ثم اعلم أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف نفسه على الحقيقة إلا أن ينظر ويبحث، وذلك من ثلاث جهات: أحدها الجسد بمجرده عن النفس، والثاني النظر في أمر النفس والبحث عن جوهرها بمجردها عن الجسد، والثالث النظر والبحث عن الجملة المجموعة من النفس والجسد جميعًا> وقد بيَّنا في رسالة تركيب الجسد هذه الأبواب الثلاثة بشرح طويل، ولكن نذكر طرفًا منها ها هنا مما لا بُدَّ منه، فنقول:
إن الجسد هو جسم مؤلف من لحم وعظم وعروق وعصب وما شاكل ذلك، وهذه كلها أجسام طويلة عريضة عميقة، وجملة ذلك تدرك بالحس ولا يشك فيها عاقل.
وأما النفس فهي جوهرة سماوية روحانية حية بذاتها، علامة دراكة بالقوة، فعالة بالطبع لا تهدأ ولا تقر عن الجولان ما دامت موجودة، وهكذا خلقها ربها يوم خلقها وأوجدها، والدليل على ما قلنا وصحة ما وصفنا حسب ما بيَّنا من أمر النفس آنفًا، وكذلك نبين أيضًا فيما بعدُ هذا.
وأما الجملة المجموعة من الجسد والنفس بهذا المحسوس المشاهَد المخاطب المتكلم السائل المجيب العالم العارف ما دام حيًّا، فإذا مات بطل منه ظهور هذه الأشياء؛ لأن الموت ليس هو شيئًا سوى مفارقة نفسه جسدها، وعند ذلك يعدم منه جميع فضائله الظاهرة من العلوم والصنائع والكلام والحركات والحواس وما شاكلها.
ثم اعلم أن أكثر العقلاء وكثيرًا من العلماء ممن يقر بوجود النفس أو يتكلم في أمرها يظنون ويتوهمون أنها شيء متولد من مزاج الجسد، وليس الأمر كما ظنوا وتوهموا؛ لأن المتولد من الشيء يتكون من جوهر ذلك الشيء، والجسم جسم لا شك فيه، والنفس ليس بجسم ولا عرض من الأعراض.
والدليل على ذلك أنها ليست بجسم، وهو أن الجسم لا يعقل إلا متحركًا أو ساكنًا؛ فلو كان متحركًا من حيث هو جسم لكان يجب أن يكون كل جسم متحركًا، ولو كان ساكنًا لكان يجب أن يكون كل جسم ساكنًا، وليس يوجد الأمر كذلك، بل قد يوجد بعض الأجسام متحركًا دائمًا، وبعضها متحركًا تارة وساكنًا أخرى، مثل الهواء والماء والنار والحيوان والنبات، فيدلنا بأن شيئًا آخر هو الذي يحركها ويسكنها.
وليست النفس بجسم ولا بعرض من الأعراض القائمة بالجسم المتولد منه أو فيه؛ لأن العرض هو شيء لا يقوم بنفسه، وهو أنقص حالًا من الجسم، والمحركُ للشيء المسكن له هو أقوى منه وأشرف.
ودليل آخر أن العرض لا فعل له؛ لأن الفعل عرض من الأعراض قائم بفاعله، ولو كان للعرض فعل لكان يجب أن يكون العرض قائمًا به، ولا هو يقوم بنفسه فكيف يقوم بغيره.
فهذا دليل على أن العرض لا فعل له، وقد بيَّنا أيضًا أن الجسم لا فعل له؛ لأن الفاعل بالحقيقة هو الذي يقدر على أخذ الفعل وتركه، لأن ترك الفعل أسهل من أخذه، فلو كان للعرض فعل لكان يقدر على تركه كما يقدر على أخذه، فمن ظن أن النفس الناطقة الفاعلة الحساسة الدراكة العلامة الصانعة الحكيمة المتكلمة العارفة المجردة من الكائنات: من تركيب الأفلاك وأقسام البروج والحركات والمولدات المركبات من الحيوان والنبات والمعادن وأنواعها وخواصها ومنافعها ومضارها؛ إنما هي عرض أو مزاج متولد من أخلاط البدن، من غير دليل على ما زعم أو حجة بينة دعته إلى ما هو عليه ويتوهم، فهو جاهل بأمر نفسه لم يعرف حقيقة ذاته، فكيف يوثق بقوله إنه يعرف حقائق الأشياء ويعبر عن علل الموجودات الغائبات عن الحواس، وإنه يعلم أسباب الكائنات الخفيات التي لا تُعلم إلا بدليل عقلي وبراهين حكمية ومقدمات ونتائج منطقية أو هندسية؟! وهذا يظن أن نفسه العالمة الناطقة الصانعة الحكيمة جسمٌ أو مزاج أو عرض من الأعراض، لا قوام لها ولا حس ولا حركة ولا شعور هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ، بعيد عن الحق، ونودي به من مكان بعيد، ضل عن طريق الصواب من يظن بنفسه هذه الظنون، وما قَدَر الله حقَّ قَدْره؛ إذ مَن جهل نفسه كيف يتيسر له معرفة الله كما قال النبي ﷺ: «من عرف نفسه فقد عرف ربه، وأعرفكم بنفسه أعرفكم بربه»، وقال تعالى: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وقال: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وقال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا، وقال: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، قال أهل المعارف: أشار بقوله تعالى شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ يعني العارفين بأنفسهم لينتبه الجاهل من نوم غفلته.
فإن قيل: ما الحكمة في اختلاف أنواع النبات وأوراقها وثمارها وفنونها وألوانها وطعومها وروائحها وطباعها المختلفة؟ قيل: لما فيها من كثرة المنافع للحيوانات المختلفة الصور، المتغايرة الطباع، المفننة الأخلاق، الكثيرة المتصرفات. فإن قيل: لِمَ جعل في طباع بعض الحيوانات وجبلتها الألفة والأنس والمودة؟ يقال: ليدعوها ذلك إلى اجتماع المعاون لما فيه من صلاحها وكثرة منافعها. وإن قيل: فما الحكمة في كون النفور والوحشة والعداوة في جبلة بعض الحيوانات؟ يقال: لكيما يدعو ذلك إلى التباعد في الأماكن والانتشار في البلاد مما فيه من صلاح حالها وسلامتها من الآفات، ولكيما تتزاحم في الأماكن ويضيق بها التصرف والفسحة ورغدة العيش، ثم اجتمع الناس في المدن والقرى وتزاحموا لشدة حاجتهم إلى معاونة بعضهم بعضًا؛ لأن الإنسان لم يقدر أن يعيش وحده إلا عيشًا نكدًا.
(١١) فصل في علة اختلاف لغات الناس وألوانهم وأخلاقهم وصورهم
ما العلة في اختلاف لغات الناس وألوانهم وأخلاقهم، وصَوَّرَهم واحدٌ وكلُّهم أبوهم واحد؟ فنقول: اختلاف أماكن أبدانهم وألوانهم واختلاف تربها وتغيرات أهويتها وطوالع البروج عليها ومُسامَتات الكواكب وفنون آرائهم مع كثرة العداوة منهم في ذلك؛ لكيما يدعوهم إلى استخراج فنون العلم والاجتهاد في تهذيب النفس، أو الانتباه من نوم الغفلة والخروج من ظلمات الجهالة والبلوغ إلى التمام والكمال والبقاء على أتم الأحوال ما أمكن واستوى.
وأيضًا لما حكم على نفوس الحيوانات كلها بالموت؟ لتنتقل إلى حالة هي أتم وأكمل وأفضل.
(١٢) فصل في أن الموجودات مرتبة مراتب الأعداد
ثم اعلم أنه ينبغي لمن يريد أن يعرف حقائق الأشياء أن يبحث أولًا عن علل الموجودات وأسباب المخلوقات، وأن يكون له قلبٌ فارغ من الهموم والغموم والأمور الدنياوية، ونفسٌ زكية طاهرة من الأخلاق الردية، وصدرٌ سليم من الاعتقادات الفاسدة، ويكون غير متعصب لمذهب أو على مذهب؛ لأن العصبية هي الهوى، والهوى يعمي عين العقل، وينهي عن إدراك الحقائق، ويعمي النفس البصيرة عن تصور الأشياء بحقائقها، فيصدها ذلك عن الهوى ويعدل عن طريق الصواب.
ونحن نريد أن نبحث في هذه الرسالة عن علل الموجودات وأسبابها، فنريد أن نبين من ذلك طرفًا حسبما جرت عادة إخواننا، وعلى حسب جهدنا وطاقتنا فيما وهب الله لنا من الهداية، ولكن نبدأ أولًا بتوطئة أصول لا بُدَّ من ذكرها مقدمات ينتج عنها ما نريد أن نبين من هذه العلل والأسرار، فنقول:
إن العلماء الراسخين والحكماء الربانيين قالوا إن الله تعالى لما أبدع الموجودات واخترع المخلوقات رتبها مراتب الأعداد المتواليات ونظمها نظامًا واحدًا يتلو بعضها بعضًا في الموجودات إلى الأعداد المتناسبات؛ إذ كان ذلك أحكم وأتقن، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية.
وأما فعل الباري تعالى حسب ما ذكرنا؛ وذلك أنه جعل كل جنس من الموجودات على أعداد مخصوصة مطابقة بعضها لبعض، إما بالكمية وإما بالكيفية، ليكون ذلك دليلًا للعلماء وبيانًا للعقلاء إذا بحثوا عنها واعتبروا واستدلوا بشاهدها الجلي على غائلها الخفي، فيبين لهم ويعلمون أنها كلها من صنع بارئ حكيم؛ فيزدادون بذلك بصيرة ويقينًا، وإلى لقاء الله تعالى اشتياقًا، ويعبدون ربهم ليلًا ونهارًا.
ثم اعلم أن من الأشياء الموجودة ما هي على أعداد مخصوصة، ومنها ما هي في البروج والأفلاك، ومنها ما هي في الأركان والأمهات، ومنها ما هي في خلقة النبات، ومنها ما هي في تركيب جثة الحيوانات، ومنها ما هي في سنن الشرائع من المفروضات، ومنها ما هي في الخطاب والمحاورات.
فمن ذلك أن الله تعالى أنزل القرآن بلغة فصيحة هي أفصح اللغات، وجعل هذا الكتاب مهيمنًا على كل كتاب أنزله قبله، وجعل هذه الشريعة أتم الشرائع وأكملها، وحكم في سنن المفروضات أمورًا مثنويات ومثلثات ومربعات ومخمسات ومسدسات ومسبعات ومثمنات، وما زاد بالغًا ما بلغ؛ ليكون إذا تأمل أولو الألباب وتفكر فيها أولو الأبصار واعتبروا فيها، وجدوا في سنتها وأحكامها أمورًا معدودة مطابقة لأمور من الرياضيات والطبيعيات والإلهيات، ويتعلمون ويتيقنون أن هذا الكتاب هو من عند الصانع الحكيم الذي هو صانع المخلوقات وبارئ الموجودات، وأن هذه الشريعة هي التي وضعها وشرحها فيزول الشك العارض عن قلوب هؤلاء المتعاطين الحكمة من تلك الأمور المعدودة، وهذه الحروف التي في أوائل السور أن الله تعالى أورد من جملة الحروف المعجمة الثمانية والعشرين حرفًا أربعة عشر حرفًا حسْب، ولم يزد عن أربعة عشر، وهي: «ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ﻫ، ي»، فجعل منها في بعض السور حرفًا حرفًا، وفي بعضها حرفين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، ولم يزد على ذلك.
ثم اعلم أن العلماء المفسرين تناظروا وشرعوا في القيل والقال في معاني هذه الحروف التي في أوائل سور القرآن، وما حقيقة تفسيرها، والغرض منها ما هو، وهي عدة سور في القرآن أولها الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ، الم * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، المص، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ، الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ، الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ، كهيعص، طه * مَا أَنْزَلْنَا، طسم، طس، طسم، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا، الم * غُلِبَتِ الرُّومُ، الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ، يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم * عسق، حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ، ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ؛ فذلك تسع وعشرون سورة، منها ما جاء في أولها حرف واحد مثل «ق، ص، ن»، ومنها ما جاء في أولها حرفان مثل «طه، يس، حم»، ومنها ما جاء في أولها ثلاثة أحرف مثل «الم، طسم، الم، الر»، ومنها ما جاء في أولها أربعة أحرف «المر، المص»، ومنها ما جاء في أولها خمسة أحرف مثل «كهيعص، حم عسق»، ولا يزيد على خمسة أحرف.
فمن العلماء من قالوا إن هذه الحروف قَسَم أقسم الله تعالى بها. ومنهم من قال إن كل حرف منها كلمة قائمة بنفسها مثل: ألف الله، لام جبرائيل، ميم محمد عليه السلام. ومنهم من قال إنها حروف حساب الجمل، كما جاء في الخبر أن علماء التوراة ورؤساء اليهود اجتمعوا في المدينة وزعموا أنهم يعلمون حد هذه الأمة كم هو بحساب الجمل، ولأن لها قصة معروفة مشهورة تركنا ذكرها. ومنهم من قال إن هذه الحروف سر القرآن، ولا يعلم تأويل ذلك إلا الله. ومنهم من قال إن الراسخين في العلم أيضًا يعلمون تفسير ذلك لما علمهم الله تعالى كما ذكر بقوله: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. ومنهم من قال إن معرفتها أسرارٌ لا يصلح أن يعلمها كل أحد إلا الخواص من عباد الله الصالحين.
ثم اعلم أن كل هذه الأقاويل مقنع لنفوس أقوام دون أقوام؛ وذلك أن في الناس أقوامًا عقلاء لا يرضون بالتقليد، بل يريدون البراهين والكشف عن الحقائق وطلب العلة، ولمَ، وكيف، ولماذا. ولا يغنيهم من جوع ما يتأولون من التفسير في هذا المعنى، بل يطلبون وراء ذلك ما هو أحسن تأويلًا وأَبْين تفسيرًا، ونحن نذكر الآن من ذلك طرفًا ونشير إليها إشارة حسبما تحتمل عقول هؤلاء القوم من أهوائها.
فصل
فنقول: اعلم أن من يريد أن يعلم لِمَ لَمْ تَرِدْ من جملة الثمانية والعشرين حرفًا إلا أربعة عشر حرفًا ولم يزدْ على خمسة أحرف منها، وما المراد والحكمة في ذلك، فينبغي له أن يبحث ويعتبر جميع المحسوسات المفروضات في سنن الشريعة؛ مثل الصلوات الخمس والزكوات الخمس، وأن شرائط الإيمان خمس إذ بنى الإسلام على خمس، والفضلاء من أهل بيت النبوة خمسة، وواضعو الشريعة خمسة، ومراقي منبر النبي خمسة، وما شاكل هذه المخمسات في أمور الدين والشريعة وأحكامها. وما يحققها أيضًا من المعدودات المخمسات مثل الكواكب الخمس السيارة التي لها رجوع واستقامة، ومثل الحواس الخمس في الحيوانات التامة الخلقة، ومثل المخمسات في خلقة النبات، وما في أسماء الأيام الخمسة من جملة السبعة، والخمسة المسترقة من جملة أيام السنة، وما شاكل هذه المخمسات في الموجودات المطابقة بعضها بعضًا. ويعتبر أيضًا خاصية الخمس من العدد لأنها عدد كُرِي، ويقال إنها عدد دوائر وأنها تحفظ نفسها وما يتولد منها، كما بيَّنا في رسالة الأرثماطيقي والاشكال الخمسة الفاضلة المذكورة في كتاب إقليدس، والنسبة الخمسة الفاضلة في الموسيقى وما شاكل هذه الأمور من المخمسات. فإذا اعتبر اللبيب العاقل هذه الأشياء التي ذكرنا وتأملها، فعسى الله أن يفتح قلبه ويشرح صدره ويوفقه لعلمه علل الموجودات وأسباب المخلوقات وما الحكمة في كونها على ما هي عليه الآن.
وهكذا ينبغي لمن يريد أن يعرف سر هذه الحروف التي هي في أوائل السور لِمَ كان منها أربعة عشر من جملة ثمانية وعشرين حرفًا، أن يعتبر الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون فإنه يجدها تنقسم قسمين حيث ما وجد؛ فمن ذلك ثمانية وعشرون عدد مفاصل اليدين للإنسان فإنها في اليد اليمنى أربعة عشر وأربعة عشر في اليد اليسرى، وأن عددها مطابق لعدد ثمانية وعشرين خرزة هي في عمود ظهر الإنسان، منها أربعة عشر في أسفل الصلب وأربعة عشر في أعلاه، وهكذا توجد خرزات العمود التي في أصلاب الحيوانات التامة الخلقة كالبقر والجمل والإبل والحمر والسباع.
وبالجملة كل حيوان ترضع وتلد منها أربعة عشر في مؤخر الصلب وأربعة عشر في مقدم البدن، وهكذا وجد عدد الريشات التي في أجنحة الطير المعتمدة عليها في الطيران، فإنها أربعة عشر ظاهرة في كل جناح، وهكذا توجد عدد الخرزات التي في أذناب الحيوانات الطويلة الأذناب كالبقرة والسباع وكل ما له ذنب طويل، وهكذا يوجد في عموم صلب الحيوانات الطويلة الخلقة كالسمك والحيات وبعض الحشرات، وهكذا يوجد عدد الحروف التي في لغة العرب التي هي أتم اللغات وأفصحها ثمانية وعشرون حرفًا منها أربعة عشر حرفًا تدغم فيها لام التعريف، وهي:
١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٦ | ٧ |
التاء | والثاء | والدال | والذال | والراء | والزاي | والسين |
٨ | ٩ | ١٠ | ١١ | ١٢ | ١٣ | ١٤ |
والشين | والصاد | والضاد | والطاء | والظاء | واللام | والنون |
وأربعة عشر لا تدغم فيها، وهي: «الألف والباء والجيم والحاء والخاء والعين والغين والفاء والقاف والكاف والميم والهاء والواو والياء»، وهكذا يوجد حكم الحروف التي تخط بالقلم قسمين: أربعة عشر منها معلم، وهي «الباء والتاء والثاء والجيم والخاء والذال والزاي والشين والضاد والظاء والغين والفاء والقاف والنون والياء»، وأربعة عشر غير معلم، وهي «الألف والحاء والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين والكاف والميم والواو واللام»، وهكذا حكم الحكيم الواضع للخط العربي فإنه اقتفى في وضعه الخط العربي حكمة الباري تعالى، فإنه كان حكيمًا فيلسوفًا، وقد قيل: إن الحكمة هي التشبه بالإله بحسب طاقة البشر، ومعنى هذه الكلمة أن يكون الإنسان حكيمًا مصنوعاته محققًا في معلوماته خيرًا في أفعاله. ومن التي عددها ثمانية وعشرون هي منازل القمر في الفلك، فإن عددها ثمانية وعشرون، منها في البروج الشمالية أربعة عشر، وفي البروج الجنوبية أربعة عشر.
فقد علم مما ذكرنا وصدق بما قلنا أن الموجودات التي عددها ثمانية وعشرون تنقسم قسمين أي موضع وجدت، كل أربعة عشر منها لها حكم ليست للأربعة عشر الأخرى، فلهذه العلة أورد من جملة الثمانية والعشرين حرفًا حروف الجمل أربعة عشر حرفًا، ولم يورد الأربعة عشر الأخرى؛ لأن لهذه حكمًا ليس لتلك، وهي السر المكتوم الذي لا يصلح أن يعلمه كل أحد إلا الخواص من عباد الله المخلصين.
وإذ قد ذكرنا طرفًا من الإشارة إلى هذه الحروف، ودللنا على أنها سر القرآن ولا يجوز الإفصاح عنها؛ إذ لم يأذن لنا الحكماء والأنبياء — صلوات الله عليهم — وفيما ذكرناه كفاية لمن كان له قلب زكي ونفس زكية وأخلاق طاهرة، فلْنذكُر الآن طرفًا من فضيلة ثمانية وعشرين على سائر الأعداد، فنقول:
اعلم أنه ما من عدد من الخليقة إلا وله فضيلة ليست لشيء آخر غيره، وقد ذكرنا طرفًا من فضيلة الأعداد في رسالة الأرثماطيقي؛ فمن فضيلة الثمانية والعشرين أنه من الأعداد التامة، والأعداد التامة هي أفضل من الأعداد الناقصة والزائدة، أو أنها قليلة الوجود؛ وذلك أنه يوجد في كل مرتبة من مراتب الأعداد واحدة لا غير كالستة في الآحاد وثمانية وعشرين في العشرات، وأربعمائة وستة وتسعين في المئات، وثمانية آلاف ومائة وعشرين في الألوف، فنقول:
إنه أيضًا لما كان الاثنان أولَ عدد الزوج والثلاثةُ أولَ عدد الفرد، والأربعة أول العدد المجذور يجمع بين ذلك، وكانت السبعة التي هي عدد كامل، وعدد الكواكب السيارة مطابقها، ثم ضرب الثلاثة في الأربعة، وكان اثنا عشر الذي هو أول عدد زائد، وجعل برج الفلك اثنا عشر مطابقًا له، ثم ضربت السبعة في أربعة وكان ثمانية وعشرين، التي هي عدد تام، وجعل منازل القمر مطابقًا له، وجعل سائر الموجودات الاثنا عشرية مطابقة لعددها مثل الثقب للإنسان التي هي اثنا عشر، والأعضاء الاثنا عشر وشهور السنين الاثنا عشر عددها.
وعلى هذا القياس يوجد أشياء كثيرة اثنا عشريات وسبعيات وستيات وخمسيات وأربعيات وثلاثيات ومثنويات مطابقة بعضها لبعض، ليدل ذلك على أنها كلها من صنع صانع كريم، كما قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى طريق السداد وهداك وإيانا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.