الممثلون وحجة الغياب
سار السيد ماندون مانديفيل — مدير المسرح — بخُطًى سريعةٍ عبر الممرات خلف الكواليس، أو بالأسفل منها على وجه الدقة. كانت ملابسه أنيقة ومُبهِجة، وربما كانت مبهجة بطريقةٍ مبالَغ فيها بعض الشيء؛ فكانت الوردة المعلَّقة في عروة سُتْرته مبهجة، وكذلك لمعان حذائه الشديد كان مبهجًا، لكن وجهه لم يكن مبهجًا على الإطلاق. كان الرجل ضخم الجثة ذا رقبةٍ قصيرة وغليظة، وجبهةٍ سوداء، بدت في تلك اللحظة أكثر سوادًا من المعتاد. وعلى أي حال، كان لديه الكثير من الأشياء المزعجة التي تحاصر رجلًا في نفس منصبه؛ وهي تتراوح بين القديم والجديد، وبين التافه والمهم. وقد أزعجه أيضًا السير عبر الممرات وسط المناظر القديمة المتكدِّسة الخاصة بالمسرحيات التمثيلية الصامتة؛ نظرًا لأنه بدأ مسيرته المهنية بنجاح في هذا المسرح من خلال تقديم مسرحياتٍ تمثيلية صامتة شهيرة، وبعد ذلك اضطر إلى المغامرة بتقديم مسرحياتٍ كلاسيكيةٍ أكثر جدية وقد أنفق عليها مبلغًا كبيرًا من المال؛ ومن ثم فإن رؤيته للبوابات الياقوتية الزرقاء للقصر الأزرق من حكاية بلوبيرد، أو أجزاء أشجار البرتقال الذهبية من حكاية البستان المسحور، وهي مائلة تستند على الحائط وقد زينتها خيوط العنكبوت أو خرَّبتها الفئران؛ لم تُثر في نفسه إحساس البساطة الهادئ الذي نشعر به جميعًا حين تُعرَض علينا لمحة من حكايات طفولتنا. كما أنه لم يكن لديه وقت ليذرف دمعة على الأشياء التي وضع فيها أمواله، ولا ليحلم بجنة بيتر بان؛ ذلك أنه قد استُدعي على وجه السرعة ليحل مشكلةً فعلية، وهي ليست إحدى مشكلات الماضي، إنما هي مشكلة في الوقت الراهن. كانت المشكلة من النوع الذي يحدث أحيانًا في عالم ما وراء الكواليس الغريب، لكنها كانت مشكلةً كبيرة بما يكفي لتُشكِّل خطورة؛ إذ إن الآنسة ماروني — وهي الممثلة الشابة الموهوبة ذات الأصول الإيطالية، والتي تولَّت مهمة أداء دورٍ مهم في المسرحية التي سيتم إجراء تجربة أداء لها في فترة ما بعد الظهيرة ثم عرضها في المساء من ذلك اليوم — قد رفضتْ فجأة وبشدة القيامَ بأي شيء سواء التجربة أو تقديم العرض، وذلك في اللحظات الأخيرة. لم يكن السيد ماندون قد رأى السيدة الغاضبة بعدُ، وقد بدا من غير المحتمل أنه سيراها في اللحظة الراهنة؛ ذلك أنها قد أغلقت على نفسها باب حجرة ملابسها وتحدَّت العالم من خلف الباب. كان السيد ماندون مانديفيل بريطانيًّا بما يكفي لكي يقول مغمغمًا إن كل الأجانب يتَّسمون بالجنون، لكن فكرة أن حظه الطيب قد جعله يقطن الجزيرة الوحيدة في العالم كله التي تتسم برجاحة العقل؛ لم تكن كافية لتهدئته مثلما لم تفعل ذكرى حكاية البستان المسحور. كانت كل هذه الأشياء وأكثر تمثِّل مصدر إزعاج له، وعلاوة على ذلك فإن من يلاحظه عن كثب سيشك بأن هناك خطبًا ما بشأن السيد مانديفيل الذي تخطَّى حدود مجرد الشعور بالانزعاج.
فإذا كان من الممكن لرجلٍ يتمتع بقوة جسده وثرائه أن تبدو عليه ملامح الهزال والشحوب، بدا السيد مانديفيل هزيلًا شاحبًا. كان وجهه ممتلئًا، لكن محجرَي عينَيه كانا غائرَين؛ كما أن فمه يتحرك دومًا وكأنه يحاول أن يعضَّ على شاربه الأسود الرفيع الذي كان أقصر من أن يطاله فمه. ربما بدا وكأنه قد بدأ في تعاطي المخدِّرات، لكن، وحتى في ظل ذلك الافتراض، كان هناك شيء يوحي بأن ثمة سببًا يدفعه لفعل ذلك؛ وأن المخدِّرات لم تكن هي السبب في المأساة، بل إن المأساة التي لحقت به هي السبب في تعاطيه للمخدرات، ولكنْ أيًّا كان سره الكبير، فقد بدا جسده كما لو أنه يحتل النهاية المظلمة لذلك الممر الطويل حيث يوجد مدخل غرفة مكتبه الصغيرة؛ وبينما كان يسير عبر الممر الفارغ، كان بين الحين والآخر يلقي بنظرات تنمُّ عن انفعاله.
لكن على أي حال، يظل العمل هو العمل، فعبر الممر حتى النهاية المقابلة منه حيث كان الباب الأخضر، الذي يخلو من أي تزيين، لغرفة الآنسة ماروني، يقف في وجه العالم. وأمامه يقف مجموعة من الممثلين وأشخاص معنيين آخرين، وقد يُهيَّأ للمرء أنهم كانوا يتشاورون ويبحثون مدى فاعلية استخدام سلاح دكِّ الحصون لفتح هذا الباب. من بين هذه المجموعة كان هناك رجلٌ واحد على الأقل يتمتع بقدر من الشهرة؛ حيث يضع المعجبون صورته فوق رفِّ المدفأة، ويجمعون توقيعه على الأوتوجراف؛ ذلك أنه على الرغم من أن نورمان نايت كان يلعب دور البطل في مسرح لا يزال تقليديًّا بعض الشيء وقديم الطراز، وكذا يمكن أن يُقال عنه إنه كان من بين أوائل الممثلين الذين يقع عليهم الاختيار لأداء الأدوار التي تتطلَّب مظهرًا أنيقًا يُثير الإعجاب وإن كانت صغيرة؛ فإن الرجل كان على الأقل في طريقه لتحقيق نجاحات أكبر. كان نورمان نايت حسن المظهر له ذقن يحمل طابع الحسن، وشعر جميل منسدل على جبهته؛ مما جعله يبدو بمظهر الإمبراطور نيرون الروماني، لكن ذلك المظهر لم يتماشَ تمامًا مع حركاته التي تتسم بالاندفاع والتهور. ومن بين الحاضرين أيضًا رالف راندال، الذي يؤدي أدوار الشخصيات المتقدمة في العمر، وهو ذو وجهٍ طويل ونحيف بشكلٍ مثير للسخرية، وكان ضاربًا للزرقة بفعل حلاقة ذقنه، وملطخًا بالمساحيق. كما تضمَّنت المجموعة أيضًا ثاني أهم الممثلين في فرقة السيد مانديفيل، ذلك الذي يضطلع بأدوار مساعد البطل، ويستكمل تقاليد تشارلز فريند التي لم تندثر بالكامل بعدُ، وهو شابٌّ داكن البشرة ذو شعرٍ مجعد ويحمل ملامح الساميين واسم أوبري فيرنون.
وضمَّت المجموعة خادمة زوجة السيد ماندون مانديفيل أو مساعدة الملابس الخاصة بها، وهي تبدو ذات شخصيةٍ قوية مع شعرٍ أحمرَ مشدود ووجه يحمل ملامحَ جامدة. وكان من قبيل المصادفة أن ظهرت بينهم زوجة السيد مانديفيل نفسها، حيث كانت تقف في هدوء خلفهم، وهي ذات وجه شاحب تبدو عليه أمارات الحلم والكياسة، أما خطوط وجهها فلم تفقد صفات التناسق والجدية الكلاسيكيَّة، إلا أن الشحوب هو ما طغى عليها بسبب عينَيها الشاحبتَين، وشعرها الشاحب الأصفر المنسدل في جديلتَين بسيطتَين وكأنها سيدة من أصلٍ نبيل في زمنٍ غابر. لم يكن الجميع يعرفون أنها كانت فيما مضى ممثلةً قديرة وناجحة لمسرحيات إيبسن، وكذلك المسرحيات الفكرية الأخرى، لكن زوجها لم يكن يلقي بالًا لمسرحيات المشكلات، وبالتأكيد في تلك اللحظة كان أكثر اهتمامًا بمشكلة إقناع ممثلةٍ أجنبية بالخروج من غرفتها الموصَدة عليها؛ وكأنها نسخةٌ حديثة من خدعة استحضار المرأة المختفية.
صاح بنبرةٍ حاسمة وهو يتحدث إلى مساعدة زوجته بدلًا من أن يتحدث إلى زوجته نفسها: «ألم تخرج بعد؟»
أجابته المرأة — التي تُعرف باسم السيدة ساندس — بنبرةٍ نكِدة قائلة: «نعم يا سيدي.»
قال راندال العجوز: «بدأنا نشعر بالقلق؛ لقد بدت وكأنها غير متزنة نوعًا ما، ونخشى أنها قد تؤذي نفسها.»
قال مانديفيل بأسلوبه البسيط: «يا للأسى! إن الدعاية شيءٌ جيد للغاية، لكننا لا نريدها بهذا الشكل. أليس لها أصدقاء هنا؟ أليس هنا مَن له تأثير عليها؟»
قال راندال: «يعتقد جارفيس أن الرجل الوحيد القادر على استمالتها هو القَس الخاص بها والموجود في الكنيسة المجاورة لناصية الشارع، وقد اعتقدت أنه من الأفضل حقًّا أن يكون حاضرًا في حال أنها بدأت تشنق نفسها على مشجب القبعات، لقد ذهب جارفيس لإحضاره … وفي الواقع، ها قد وصل.»
ظهر رجلان آخران في ذلك الممر تحت المسرح، كان الأول أشتون جارفيس، وهو ذو شخصية مبتهجة ويقوم بأداء أدوار الشر في العادة، لكنه قد تنازل عن تلك المهمة الرفيعة في ذلك الوقت للشاب ذي الشعر المجعَّد الذي لديه المقدرة على أداء الدور. أما الرجل الثاني فكان قصيرًا وبنيته مربعة الشكل ويرتدي ملابس سوداء؛ وهو الأب براون من الكنيسة الواقعة عند ناصية الشارع.
بدا الأب براون وكأنه يتعامل مع الأمر بصورةٍ طبيعية، بل وحتى بإهمال؛ ذلك أنه استُدعي لينظر في أمر السلوك الغريب لأحد رعيته، سواء كان ينبغي النظر إليها باعتبارها شاةً سوداء أو مجرد حَملٍ ضال، لكنه لم يبدُ عليه أنه يعير اهتمامًا كبيرًا للاقتراح الذي يشير إلى أنها قد تنتحر.
قال الأب براون: «أرى من المؤكد وجود سبب يدفعها لأن تفقد صوابها بهذا الشكل، فهل يعلم أحد ما هو؟»
قال الممثل العجوز: «أعتقد أنها غير راضية عن دورها.»
غمغم السيد ماندون مانديفيل قائلًا: «هنَّ دومًا كذلك. كنت أعتقد أن زوجتي ستهتم بهذه الترتيبات.»
قالت السيدة ماندون ضَجِرة: «لا يسعني سوى أن أقول إنني أسندتُ إليها أفضل الأدوار. من المفترض أن مثل هذا الدور هو ما ترغب فيه الممثلات الشابَّات المتحمِّسات للتمثيل؛ إنها تؤدي دور البطلة الشابة الجميلة التي ستتزوَّج البطل الشاب الوسيم وسط وابلٍ من باقات الأزهار والهتافات على المسرح، أليس هذا رائعًا بما فيه الكفاية؟ إن امرأة في مثل سني يجب أن تتراجع لتؤدِّيَ أدوارًا مثل دور مدبِّرة المنزل الرصينة، وقد حرصتُ على أن أقيد نفسي بذلك.»
قال راندال: «على كل حال، سيكون من غير الملائم تمامًا تغيير الأدوار الآن.»
قال نورمان نايت بنبرةٍ حازمة: «ليس هذا الأمر مطروحًا حتى، بالكاد يمكنني أداء دوري، لكن فات الأوان الآن على أي حال.»
كان الأب براون قد انسلَّ من بينهم وتقدم حتى وقف أمام الباب الموصَد يسترق السمع.
سأله مدير المسرح في قلقٍ واضح: «هل هناك أي صوت؟» ثم أضاف في نبرةٍ خفيضة أكثر: «أتعتقد أنها يمكن أن تؤذي نفسها؟»
أجابه الأب براون في هدوء: «هناك صوتٌ محدد، وأميل إلى أن أستنتج منه أنها تكسر النوافذ أو المرايا، ربما بأقدامها. لا، لا أعتقد أن هناك خوفًا من إيذاء نفسها؛ فتكسير المرايا يُعدُّ مقدِّمة غير عادية لأن يُقدم المرء على الانتحار. كنت سأقترح أن نكسر الباب على الفور لو كانت من أصولٍ ألمانية وتنصرف إلى التفكير في طبيعة الواقع والشعور بالكآبة. أما الإيطاليون فإنهم لا يتركون الحياة بسهولة؛ ولا يُعرف عنهم أنهم قد يقتلون أنفسهم عند الغضب. ربما كان غيرها ليفعل ذلك، أجل، ربما، وسيكون من الأفضل أن نتخذ تدابير الحيطة المعتادة في حال كانت تنوي التصرف بطريقةٍ مندفعة.»
سأله مانديفيل: «إذن أنت لا ترجِّح أن نكسر الباب؟»
أجابه الأب براون: «لا، إذا كنت تريدها أن تمثِّل في مسرحيتك. إنك إذا ما فعلت ذلك سيزداد غضبها وترفض البقاء في المكان، أما إذا ما تركتها وشأنها فمن المحتمل أن يدفعها الفضول إلى الخروج. ولو كنتُ مكانك، لتركتُ أحدًا هنا يحرس الباب بشكل أو بآخر، وتركتُها ساعة أو اثنتين.»
قال مانديفيل: «في هذه الحالة لا يسعنا سوى التدريب على المشاهد التي لا تظهر فيها. ستتكفَّل زوجتي بتدبير لوازم المشاهد الآن. ففي النهاية، الفصل الرابع من المسرحية هو الحدث الرئيسي. من الأفضل أن تشرعوا في العمل الآن.»
قالت زوجة مانديفيل للآخرين: «هذه ليست تجربة أداء بملابس المسرحية.»
قال نايت: «أمرٌ جيد، ليست تجربة بالملابس، طبعًا. أتمنى لو أن ملابس تلك الحقبة الجهنمية لم تكن بمثل هذا التعقيد.»
سأل القَسُّ بنبرة تنمُّ عن شيء من الفضول: «ما هي المسرحية؟»
قال مانديفيل: «مدرسة الفضائح. قد تكون من النوع الأدبي، لكنني أريد تقديم مسرحيات حقيقية. تحب زوجتي ما تطلق عليه الكوميديا الكلاسيكية. وهذه المسرحية كلاسيكية أكثر من كونها كوميدية.»
في تلك اللحظة، كان حارس الباب العجوز سام، والذي يمكث أيضًا في المسرح وحيدًا أثناء ساعات إغلاقه، قد أتى يتهادى نحو المدير ممسكًا ببطاقة تعريف، ويقول إن السيدة ميريام ماردن ترغب في رؤيته. استدار المدير مبتعدًا، لكن الأب براون استمر في النظر خلسة لعدة ثوانٍ نحو زوجته، ورأى أن وجهها الشاحب قد اعتلتْه ابتسامةٌ باهتة؛ ولم تكن هذه الابتسامة تنمُّ عن السرور إطلاقًا.
تحرَّك الأب براون بصحبة الرجل الذي رافقه أثناء حضوره، والذي تصادف أنه، في الواقع، صديق ويعتنق نفس عقيدته، وهذا أمرٌ شائع بين الممثلين. وبينما كان يسير، سمع السيدة مانديفيل تأمر السيدة ساندس في هدوء أن تقوم بدور الحراسة على الباب الموصَد.
أشار الأب براون لرفيقه قائلًا: «تبدو السيدة مانديفيل امرأةً ذكية، رغم أنها تُخفي الكثير.»
قال جارفيس بنبرة تنمُّ عن الأسى: «كانت فيما مضى على قدرٍ كبير من الثقافة والاطلاع، لكن قد يقول البعض إن موهبتها ضاعت وتبدَّدت بالزواج من وغدٍ كالسيد مانديفيل. أتعرف؛ إن لديها أعلى المثل الدرامية، لكنها بالطبع لا تستطيع في الغالب أن تحمل زوجها ورب عملها على النظر في هذا الاتجاه. أتعلم أنه كان يريد امرأة مثلها لكي تلعب دور صبي في مسرحية تمثيلية صامتة؟ لقد كان يعترف بأنها ممثلةٌ قديرة، لكنه قال إن المسرحيات التمثيلية الصامتة تعود بربحٍ أفضل. من شأن هذا أن يعطيك لمحة عن منظوره النفسي وطريقة تفكيره، لكنها لم تتذمَّر قط، كما قالت لي ذات مرة: «يرتدُّ إلينا التذمُّر كصدى صوت من أقصى نهايات العالم، لكن الصمت يزيدنا قوة.» لو أنها فقط تزوجت من شخص يفهم أفكارها لكانت قد أصبحت واحدة من أهم الممثلات في عصرها؛ وفي الواقع، لا يزال النقاد الرفيعي المستوى يظنون أنها من بين الأفضل، لكن على عكس المتوقع، فقد تزوجت من ذلك الرجل.»
وأشار إلى حيث كان يقف جسد السيد مانديفيل الضخم والمظلم، وكان ظهره مستديرًا نحوهم حيث يتحدث إلى السيدتين اللَّتَين استدعتاه عند مدخل الممر. كانت السيدة ميريام طويلة القامة هادئة الحركة أنيقة المظهر؛ وبدت حسنة المظهر بثياب حديثة تُحاكي المومياوات المصرية بصورةٍ كبيرة؛ وكان شعرها الداكن قصيرًا ومربع الشكل وكأنه خوذة، وشفتاها مطليتَيْن وبارزتَيْن فكانتا تظهرانها وكأنها تشعر دومًا بالازدراء. أما رفيقتها فهي امرأةٌ شديدة الحيوية ذات وجهٍ قبيح الملامح بصورةٍ لافتة للنظر، وشعرها ذو لون رمادي. كان اسمها الآنسة تيريزا تالبوت، وهي ثرثارة للغاية، فيما بدت السيدة ميريام في غاية التعب لدرجة أنها لا تستطيع الحديث، لكن حين مرَّ بهما الرجلان، استجمعت السيدة ميريام شيئًا من طاقتها وقالت: «المسرحيات شيء مضجر؛ لكنني لم أرَ يومًا تجربة أداء يرتدي فيها الممثِّلون ملابسهم العادية. ربما كان هذا مثيرًا للسخرية بعض الشيء. بطريقةٍ ما؛ أصبح من الصعب أن تجد حدثًا لم تشاهدْه من قبلُ.»
قالت السيدة تالبوت للسيد مانديفيل وهي تربت على ذراعه في إصرارٍ مفعم بالحيوية: «ينبغي لك الآن أيها السيد مانديفيل أن تسمح لنا بحضور تجربة الأداء تلك؛ إذ لا يمكننا الحضور الليلة، ولا نرغب في ذلك. إننا نريد رؤية أولئك الأشخاص الهزليين وهم يرتدون الملابس الخاطئة.»
قال مانديفيل في عجالة: «يمكنني بالطبع أن أجد لكما مقصورة، أستميح سيادتكِ أن ترافقيني.» ثم قادهما نحو ممرٍّ آخر.
قال جارفيس متأملًا: «أتساءل إن كان مانديفيل يحب هذا النوع من النساء في الأساس.»
سأله رفيقه القَسُّ: «حسنًا، هل هناك أي سبب يدفعك للاعتقاد بأن مانديفيل يفضل نوعها؟»
نظر له جارفيس وطالت نظرته للحظة قبل أن يجيب.
قال جارفيس بجدية: «يشكِّل مانديفيل لغزًا. أوه، أجل، أعرف أنه يبدو وكأنه وغدٌ عادي كهؤلاء الأوغاد الذين يسيرون في شارع بيكاديلي، لكنه حقًّا يمثل لغزًا. هناك خطب ما بشأن ضميره، هناك شيء ما غامض في حياته. وأشك أن ذلك يرتبط بزوجته المسكينة المهمَلة أكثر مما يرتبط بعبارات الغزل اللبقة. وإذا كان الأمر كذلك، فهناك شيء بشأن هذَين الزوجَين أكثر مما تراه للوهلة الأولى. في الواقع، أعرف عن علاقتهما أكثر مما يعرف أي شخصٍ آخر، وذلك بمحض الصدفة، لكنني لا أستطيع أن أفهم شيئًا مما أعرفه بشأنهما، سوى أن ذلك مجرد لغز.»
ثم نظر حوله في الردهة ليرى ما إذا كانا بمفردهما، وأضاف بنبرةٍ منخفضة أكثر: «لا أجد مانعًا لإخبارك؛ ذلك أنني أعرف أنك بئر أسرار عميقة، لكنني تعرضتُ مؤخرًا لصدمة أثارت فضولي، وقد تكرر ما حدث لعدة مرات منذ ذلك الحين. تعرف أن مانديفيل يعمل دومًا في تلك الحجرة الصغيرة في نهاية الممر، تحت المسرح تمامًا. في الواقع، تصادف مرتَين أنني كنت أمرُّ من هناك حين كان الجميع يعتقدون أنه بمفرده؛ والأكثر من ذلك، هو أنني أعلم كل النساء اللائي يعملن في الفرقة المسرحية، وكل النساء اللائي من المرجح أن يتعاملن معه، سواء كنَّ غير حاضرات أو كنَّ في أماكنهن المعتادة.»
علَّق الأب براون مستفسرًا: «كل النساء؟»
قال جارفيس في صوت يشبه الهمس تقريبًا: «إلا أنني كنت متأكدًا من وجود امرأة بالداخل معه، فهناك امرأة ما تزوره دومًا، إنها امرأة لا يعرفها أحد منا. ولا أعرف حتى كيف تدخل إلى هناك؛ حيث إنها لا تستخدم الممر المؤدي إلى الباب، لكنني أعتقد أنني رأيت ذات مرة شخصًا يرتدي حجابًا أو عباءة وهو يخرج من خلف المسرح عند مغيب الشمس، وكأنه شبح، لكن لا يمكن لها أن تكون شبحًا. ولا أظن أيضًا أن ما بينهما هي «علاقة» عادية. كما لا أعتقد أنها علاقة عشق وغرام، إنما هي علاقة ابتزاز.»
سأله الآخر: «ما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟»
قال جارفيس وقد تحوَّلت نبرتُه من الجدية إلى التجهُّم: «لأنني ذات مرة سمعتُ أصواتًا تشبه العراك، ثم قالت المرأة الغريبة كلمتَين بصوتٍ رنانٍ متوعِّد: «أنا زوجتك».»
قال الأب براون متأملًا: «أنت تعتقد أنه متعدد الزوجات. في الواقع، كثيرًا ما يترافق تعدد الزوجات والابتزاز بالطبع، لكنها قد تكون مخادعة بقدر ما قد تكون مبتزَّة له. وقد تكون مجنونة؛ فأولئك المسرحيون غالبًا ما يطاردهم أشخاص مهووسون. وقد تكون على حق، لكنني لا ينبغي أن أقفز إلى استنتاجات بهذا الشأن … وبالحديث عن العاملين بالمسرح، أليست تجربة الأداء على وَشْك أن تبدأ، وأنت شخصٌ مسرحي، أليس كذلك؟»
قال جارفيس متبسمًا: «ليس لي ظهور في هذا المشهد. إنهم يتدرَّبون على مشهدٍ واحد فقط، حتى تعود صديقتك الإيطالية إلى رشدها.»
أشار القَسُّ قائلًا: «بالحديث عن صديقتي الإيطالية، أفضِّل الآن أن أعرف ما إذا كانت قد عادت لرشدها أم لا.»
قال جارفيس: «يمكننا أن نعود لنرى ذلك.» ثم نزلا مرةً أخرى إلى الطابق السفلي والممر الطويل الذي كانت غرفة مكتب السيد مانديفيل تقع في إحدى نهاياته، وفي النهاية الأخرى كان الباب الموصد لغرفة السيدة ماروني. بدا أن الباب لا يزال مغلقًا، وكانت السيدة ساندس تجلس عنده متجهِّمة، كانت جامدة لا تتحرك وكأنها تمثالٌ خشبي.
وعند النهاية الأخرى من الممر، لمحا بعض الممثلين الذين سيؤدُّون المشهد، وهم يرتقون السلالم نحو المسرح فوقهم تمامًا. ويتقدَّمهم فيرنون وراندال العجوز وهما يهرولان على السلم، لكن السيدة مانديفيل كانت تسير ببطء أكثر وبطريقتها المبجلة، وبدا أن نورمان نايت يتباطأ قليلًا ليتحدث إليها. فتناهت بضع كلمات إلى آذان السامعين عن غير عمد بينما كانوا يمرون.
كان نايت يقول بنبرةٍ عنيفة: «أقول لكِ إن هناك امرأة تزوره.»
قالت السيدة بنبرتها الناعمة الواضحة الرنانة التي كان بها شيء من صرامة وقوة: «اصمت! لا ينبغي لك أن تتحدَّث بهذه الطريقة. تذكَّر أنه زوجي.»
قال نايت: «كم أتمنى لو أستطيع أن أنسى ذلك!» ثم هُرع على السلم نحو المسرح.
تبعته السيدة حتى تؤدي دورها على المسرح، وكانت لا تزال شاحبة وهادئة.
قال القَسُّ في هدوء: «هناك آخرون يعلمون بالأمر، لكنني أشك أن هذا من شأننا.»
غمغم جارفيس: «أجل، يبدو أن الجميع يعرفون بهذا الشأن، لكن لا أحد يعرف التفاصيل.»
ثم تقدما بطول الممر نحو النهاية الأخرى حيث كانت الحارسة المتجمدة تجلس عند باب الممثلة الإيطالية.
قالت المرأة بنبرتها المتجهِّمة: «لا، لم تخرج بعدُ. وهي ليست ميتة؛ لأنني سمعتها تتحرَّك بين الحين والحين. لا أعرف الحيلة التي تحاول القيام بها.»
قال الأب براون في نبرةٍ مهذبة غير متوقَّعة: «سيدتي، أتعرفين أين هو السيد مانديفيل الآن؟»
فأجابت على الفور: «أجل، رأيته وهو يدخل غرفته الصغيرة عند نهاية الممر قبل دقيقة أو اثنتَين؛ تمامًا قبل أن ينادي الملقِّن وترفع الستائر — لا بد أنه لا يزال هناك؛ لأنني لم أره وهو يخرج.»
قال الأب براون بسرعة: «تقصدين أنه ليس هناك بابٌ آخر لغرفة مكتبه. حسنًا، أعتقد أن تجربة الأداء ستبدأ الآن بكل قوة، على الرغم من غضب السيدة الإيطالية.»
قال جارفيس بعد لحظة من الصمت: «أجل، يمكنني سماع أصواتهم على المسرح من هنا. يتمتع العجوز راندال بصوتٍ مميز ورائع.»
وقف الرجلان يُنصتان للحظة، ذلك أن صوت الممثل المدوِّي على المسرح كان يتردَّد بشكلٍ خافت على السلالم وفي الممر. وقبل أن يستطردا في حديثهما أو يستأنفا ما كانا يقومان به، ضجَّت آذانهما بصوتٍ آخر؛ كان صوت اصطدام غير واضح، لكنه كان ثقيلًا، وقد أتى من خلف الباب الموصَد لغرفة السيد ماندون مانديفيل.
انطلق الأب براون عبر الممر كالسهم المنطلق من قوسه، وكان يكافح ليفتح الباب من مقبضه، كل ذلك قبل أن يستفيق جارفيس من ذهوله ويبدأ في اتباعه.
قال القَسُّ وهو يدير وجهه الذي بدا شاحبًا قليلًا: «الباب موصَد، وأنا أؤيد وبشدة كسر هذا الباب.»
قال جارفيس وقد اعتلت وجهه نظرةٌ مرعبة للغاية: «أتعني أن الزائر المجهول قد حلَّ هنا مرةً أخرى؟ أتعتقد أن الأمر خطير؟» ثم بعد لحظة أضاف قائلًا: «ربما يمكنني تحريك المزلاج؛ أنا أعرف كيفية التعامل مع مزاليج هذه الأبواب.»
انحنى على ركبته وأخرج سكين جيب به أداةٌ صلبةٌ طويلة، وعالجه للحظة، فانفتح باب غرفة مكتب المدير. كان أول ما لاحظاه تقريبًا أنه لم يكن هناك بابٌ آخر أو نافذةٌ أخرى للمكان، لكن كان هناك مصباحٌ كهربائيٌّ كبير على الطاولة، إلا أن ذلك المصباح لم يكن هو أول شيء يلاحظانه؛ ذلك أنهما لاحظا قبل ذلك أن السيد مانديفيل كان يرقد على وجهه ممدَّدًا على الأرض وسط الغرفة وكان الدم يتسلل من تحت وجهه وكأنه ثعابينُ قرمزيةٌ مشئومة تتألَّق لامعة تحت تلك الإضاءة غير الطبيعية.
لم يعرفا كم مضى من وقت وهما يحدِّقان كلٌّ منهما إلى الآخر حين قال جارفيس متنهِّدًا وكأنَّه يُطلق شيئًا كان يحبس أنفاسه: «إذا كانت المرأة الغريبة قد دخلت بطريقةٍ ما، فلا بد أنها خرجت بالطريقة نفسها.»
قال الأب براون: «ربما تفكِّر في شأن المرأة الغريبة كثيرًا. هناك الكثير من الأشياء الغريبة التي تحدث في هذا المسرح الغريب، حتى إنك من كثرتها تنسى بعضها.»
سأله صديقه بسرعة: «ما هي تلك الأشياء التي تشير إليها؟»
قال القَسُّ: «هناك الكثير منها؛ فهناك الباب الآخر الموصَد على سبيل المثال.»
صاح جارفيس وهو يحملق فيه: «لكن الباب الآخر موصَد.»
قال الأب براون: «لكنك نسيته تمامًا.» وبعد مضيِّ لحظات بدا أنه يفكر خلالها قال: «السيدة ساندس تلك، إنها شخص غاضب وغامض.»
سأله الآخر في صوت خفيض: «أتقصد أنها تكذب، وأن السيدة الإيطالية خرجت بالفعل؟»
قال القَسُّ في هدوء: «لا، أعتقد أني أقصد أن ما قلته كان عن دراسةٍ متعمقة ومنفصلة عن الشخصية.»
صاح الممثل: «لا يمكن أن ترمي إلى أن السيدة ساندس فعلتها بنفسها، أليس كذلك؟»
قال الأب براون: «لم أقصد دراسة شخصيتها هي.»
وبينما كانا يتبادلان تلك الأفكار السريعة، انحنى الأب براون على ركبتيه بجوار الجثة، فتأكَّد من أن الرجل قد قُتل، وأن أي أمل أو شك في أنه لا يزال على قيد الحياة قد تلاشى تمامًا. وبجوار الجثة كان هناك خنجر مُلقى، من النوع الذي يُستخدم في المسارح، رغم أنه لم يكن ظاهرًا لمن يقف عند مدخل الباب، وكأنه قد سقط من مكان الجرح أو من يد القاتل. وبالنسبة لجارفيس الذي تعرَّف الخنجر، لم يكن هناك الكثير من المعلومات التي يمكن أن يستنبطها منه، إلا إذا تمكن الخبراء من استخراج بعض البصمات منه؛ حيث كان الخنجر ملكيةً عامة للمسرح؛ بمعنى أنه لم يكن مملوكًا لأحد بعينه؛ فقد كان يتنقل هنا وهناك في المسرح لفترةٍ طويلة من الزمن، ويمكن لأي شخص أن يستخدمه. حينئذٍ استقام القَسُّ في وقفته وبدأ ينظر حوله في الغرفة بجديةٍ بالغة.
ثم قال: «لا بد أن نبعث في طلب الشرطة، وطبيب أيضًا، رغم أن الطبيب سيأتي بعد فوات الأوان. بالمناسبة، إنني بعد معاينة هذه الغرفة لا أستطيع أن أُحدِّد كيف يمكن لصديقتنا الإيطالية أن ترتكب هذه الجريمة.»
صاح صديقه: «الإيطالية! لا أعتقد ذلك. إنني أعتقد أن لديها حجة غياب؛ أكثر من أي شخصٍ آخر. غرفتان منفصلتان، وعليهما بابان موصَدان، وكلتاهما على طرف النقيض من الأخرى، وهناك شاهدة تراقبها ولم تبرح مكانها.»
قال الأب براون: «لا، ليس تمامًا. تكمن الصعوبة في إمكانية دخولها هنا. فأنا أعتقد أنها قد تمكَّنَت من الخروج من غرفتها.»
سأله الآخر: «ولماذا؟»
قال الأب براون: «أخبرتك أنه كان هناك صوتٌ صادر من غرفتها بدا وكأنها كانت تكسر الزجاج — زجاج مرايا أو زجاج نوافذ. ولكن لغبائي نسيتُ شيئًا أعرفه معرفةً تامة؛ ألا وهو أنها تؤمن بالخرافات كثيرًا. لم يكن من المرجَّح أن تقوم بكسر المرايا؛ لذا أشك في أنها كانت تكسر نافذة. صحيح أن كل هذا يحدث تحت الطابق الأرضي، لكن لا بد أنها فتحة سقف أو نافذة تؤدي إلى مساحةٍ مفتوحة، لكن لا يبدو لي وجود فتحات سقف أو نوافذ تؤدِّي إلى مساحةٍ مفتوحة هنا.» ثم حدَّق في السقف طويلًا وباهتمامٍ شديد.
ثم عاد لوعيه مرةً أخرى وكأنه قد استفاق، وقال: «لا بد أن نصعد إلى الطابق العلوي، ونجري مكالمةً تليفونية ونخبر الجميع. إن الأمر مؤلم للغاية … يا إلهي، هل ما زلت تسمع أصوات أولئك الممثلين وهم يصيحون ويصرخون أعلى السلم؟ إن المسرحية لا تزال مستمرة. أفترض أن هذا هو ما يقصدونه بالإشارة إلى الملهاة المبكية.»
حين شاء القدر أن يتحول المسرح إلى مكان للحزن، كانت تلك فرصة للممثلين ليُظهروا كثيرًا من الفضائل الحقيقية لهم ولمهنتهم؛ لقد تصرفوا كنبلاء، كما يُقال، وليس كمجرد ممثلين مهمين. لم يكن جميعهم يحب أو يثق بمانديفيل، لكنهم كانوا يعرفون تمامًا ما يقولون عنه؛ ولم يُظهروا تعاطفهم فقط، وإنما أظهروا كياسة أيضًا في تعاملهم مع أرملته. لقد أصبحت ملكة المأساة بمعنًى جديدٍ ومختلف تمامًا — كانت أدنى كلمة منها كالأمر بالنسبة إليهم، وكانت تتحرك ببطء وحزن، وقد قاموا ببعض المهام نيابةً عنها.
قال راندال العجوز بصوتٍ أجش: «كانت دومًا صاحبة شخصيةٍ قوية، وكانت هي الأفضل تفكيرًا من بيننا. بالطبع لم يكن مانديفيل المسكين على مستوى تعليمها نفسه وما إلى ذلك، لكنها كانت دومًا تؤدي واجباتها على نحوٍ رائع. كان من المثير للشفقة أن تراها أحيانًا وهي تقول إنها تتمنى لو أن حياتها كانت أثرى على الجانب الثقافي، لكن مانديفيل كان — حسنًا، لا بد أن نذكر محاسن الموتى كما يقولون.» وذهب الرجل العجوز في طريقه وهو يهزُّ رأسه في حزنٍ وأسًى.
قال جارفيس مغمغمًا: «اذكروا محاسن موتاكم! حقًّا؟ لا أعتقد أن راندال قد سمع بأي حال من الأحوال عن قصة المرأة الغريبة التي كانت تزور المكان. بالمناسبة، ألا تظن أنها كانت هي الفاعلة على الأرجح؟»
قال القَسُّ: «يتوقف هذا على من تقصد بالمرأة الغريبة.»
قال جارفيس بسرعة: «أوه، لا أقصد المرأة الإيطالية. على الرغم من أنك كنت محقًّا بشأنها أيضًا في واقع الأمر. حين دخلوا غرفتها كانت فتحة السقف مهشَّمة والغرفة فارغة؛ لكن وعلى قدر ما استطاعت الشرطة أن تكشفه، قد عادت للمنزل ببساطة ولم تُصب بأدنى شيءٍ من أذًى، لكنني أعني المرأة التي سُمعت وهي تُهدِّده في ذلك اللقاء السري؛ المرأة التي قالت إنها زوجته. أتعتقد أنها كانت زوجته حقًّا؟»
قال الأب براون وهو يحدِّق في الفراغ: «من المحتمل أنها كانت زوجته بالفعل.»
قال جارفيس مستعرضًا الأمر: «من شأن هذا أن يقدم لنا الدافع وهو الغيرة من تعدد زوجاته. ذلك أن الرجل لم يُقتَل بدافع السرقة؛ لذا لسنا في حاجة لأن نبحث عن لصوص بين الخدم أو حتى مفلسين بين الممثلين، لكن وبهذا الخصوص، بالطبع، لا بد أنك لاحظتَ الشيء الغريب والمميز بشأن هذه القضية، أليس كذلك؟»
قال الأب براون: «لقد لاحظت العديد من الأشياء الغريبة، أيَّها تقصد؟»
قال جارفيس بنبرة رصينة: «أقصد حجة الغياب الجماعية. فلا يحدث كثيرًا أن تجد مجموعة بأكملها تتشارك في حجة غياب بهذا الشكل؛ حجة غياب على مسرح مُضاء وكل شخص شاهد على حضور الآخر. يبدو أنه من حظ أصدقائنا الطيب هنا أن مانديفيل المسكين قد وضع سيدتَي المجتمع السخيفتَين في المقصورة لمشاهدة تجربة الأداء. حيث ستشهدان بأن الممثلين قد أدوا المشهد من دون تأخير أو توقف، وكان الممثلون يعتلون المسرح طوال الوقت. وقد بدأت التجربة قبل وقتٍ طويل من رؤية مانديفيل لآخر مرة وهو يدخل غرفة مكتبه، واستمروا لمدة خمس أو عشر دقائق على الأقل بعد أن وجدتُ أنا وأنت الجثة. وبمحض الصدفة السعيدة، كانت اللحظة التي سمعنا سقوطه فيها هي اللحظة نفسها التي كان الممثلون فيها جميعهم واقفين على خشبة المسرح.»
قال الأب براون مصدِّقًا على كلامه: «أجل، هذا أمر في غاية الأهمية بكل تأكيد ويزيد من بساطة الأمور. لنُجرِ حصرًا للأشخاص الذين تشملهم حجة الغياب. كان هناك راندال: أرى أن راندال كان يكره المدير حقًّا، رغم أنه يحاول إخفاء مشاعره الآن كما ينبغي، لكنه مُستبعَد؛ فقد كان صوته مسموعًا بكل وضوح على المسرح من فوقنا. وهناك فتى الفرقة الأول، السيد نايت: هناك سببٌ قوي يدفعني للاعتقاد بأنه يحب زوجة مانديفيل وأنه لا يخفي مشاعره تلك كما ينبغي، لكنه مستبعَد أيضًا؛ ذلك لأنه كان على المسرح في اللحظة نفسها، وكان أحد الممثلين يوجه له الكلام. وهناك ذلك اليهودي الودود الذي يُدعى أوبري فيرنون، وهو مستبعَد. وهناك السيدة مانديفيل، وهي مستبعَدة. إن حجة الغياب الجماعية لهم كما تقول تعتمد بصورةٍ أساسية على السيدة ميريام وصديقتها في المقصورة؛ رغم أن تأييد تلك الحجة يتماشى مع المنطق السليم القائل بأن المشهد كان مكتملًا، وأن روتين المسرح لم يلقَ مقاطعة، لكن الشهود القانونيين هم السيدة ميريام وصديقتها السيدة تالبون. أنا أفترض أنك متأكد من مصداقيتهما، أليس كذلك؟»
قال جارفيس وقد بدا متفاجئًا: «السيدة ميريام؟ أوه، أجل … أعتقد أنك تقصد أنها تبدو امرأة لعوبًا وغريبة، لكنك ليس لديك أدنى فكرة عما تبدو عليه الآن سيدات أفضل العائلات. إلى جانب ذلك، هل هناك سببٌ محدَّد يدفعك للشك في مصداقيتهما؟»
قال الأب براون: «إنها فقط تُفضي بنا إلى طريقٍ مسدود. ألا ترى أن حجة الغياب الجماعية هذه تغطي الجميع فعليًّا؟ كان أولئك الأربعة هم الممثلين الوحيدين في المسرح وقت وقوع الجريمة، وبالكاد كان هناك خدم، بل لم يكن هناك خدم في الواقع، سوى سام العجوز الذي يحرس باب المسرح، والمرأة التي كانت تحرس باب حجرة السيدة ماروني. ليس هناك أي شخصٍ آخر يمكن توجيه الاتهام له إلا أنا وأنت. قد يكون هناك احتمالٌ كبير بأن نُتَّهم نحن في الجريمة، خصوصًا أننا نحن من وجدنا الجثة. يبدو أنه ليس هناك أي شخصٍ آخر يمكن أن تُوجَّه له أصابع الاتهام. أنت لم تقتله في غفلة مني، أليس كذلك؟»
رفع جارفيس نظره في ذهول وحدَّق فيه للحظة، ثم عادت تلك الابتسامة الكبيرة على وجهه الداكن اللون، وهزَّ رأسه نافيًا.
قال الأب براون: «أنت لم تفعلها، وسنفترض الآن جدلًا فقط أنني لم أفعلها أيضًا، وباستبعاد الأشخاص الذين كانوا على المسرح، لا يتبقى سوى المرأة الإيطالية التي كانت خلف بابها الموصَد، والمرأة التي تحرس بابها، والعجوز سام. أم أنك تفكر في المرأتَين اللتين كانتا في المقصورة؟ ربما تمكنتا من أن تتسلَّلا خارج المقصورة؟»
قال جارفيس: «لا، أنا أفكر في المرأة المجهولة التي أتت وقالت لمانديفيل إنها زوجته.»
قال القَسُّ: «ربما.» هذه المرة كانت نبرة القَسِّ الرصينة تحمل نغمة جعلت رفيقه يهبُّ واقفًا على قدمَيه مرةً أخرى ويتكئ على الطاولة.
ثم قال بنبرةٍ خفيضةٍ ممزوجة بحماسة: «لقد قلنا إن تلك الزوجة الأولى كانت تغار من زوجته الأخرى.»
قال الأب براون: «لا، ربما كانت تغار من الفتاة الإيطالية، أو من السيدة ميريام ماردين، لكنها لم تكن تغار من الزوجة الأخرى.»
«ولمَ لا؟»
قال الأب براون: «لأنه لم يكن هناك زوجةٌ أخرى. يبدو لي أن السيد مانديفيل كان بعيدًا كل البُعد عن كونه متعدد الزوجات، وأنه كان مخلصًا جدًّا لفكرة الزواج من امرأةٍ واحدة. لقد كانت زوجته بالفعل هي من تعاتبه داخل مكتبه، وأنت ظننت بحُسن نية أن امرأةً أخرى هي مَن تواجدت معه، لكنني لا أفهم كيف كانت معه أيضًا لحظة مقتله؛ لأننا اتفقنا أنها كانت طوال الوقت تمثل تحت أضواء المسرح. وكانت تؤدي دورًا مهمًّا أيضًا …»
صاح جارفيس: «أتقصد أن المرأة الغريبة التي كانت تطارده كشبح لم تكن سوى السيدة مانديفيل التي نعرفها؟» لكنه لم يتلقَّ أي إجابة؛ ذلك أن الأب براون كان يحدق في الفراغ وقد اعتلت وجهَه تعبيراتُ اللامبالاة، فبدا وكأنه أبله. لطالما كان يبدو كثيرًا كالأبله في تلك اللحظات التي يتَّقد فيها ذكاؤه.
وفي اللحظة التالية، هبَّ على قدمَيه وقد بدت عليه أمارات الانزعاج واليأس. ثم قال: «هذا شيءٌ بغيض. لستُ واثقًا مما إن كانت هذه القضية هي الأسوأ بين كل ما واجهني من قضايا، لكن ينبغي عليَّ أن أمضي قدمًا في الأمر. أيمكنك أن تذهب وتطلب من السيدة مانديفيل أن أتحدَّث معها على انفراد؟»
قال جارفيس بينما كان يتجه نحو الباب: «أوه، بكل تأكيد. لكن ما خطبك؟»
قال الأب براون: «لا شيء، مجرد أنني أحمق بالفطرة. إنه اتهامٌ شائع للغاية في وادي الدموع هذا. كنت أحمق بما يكفي لكي أنسى تمامًا أن اسم المسرحية هو مدرسة الفضائح.»
ظل يمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا حتى عاد جارفيس مرةً أخرى وقد تغيَّرت ملامح وجهه فصارت تعبِّر عن الذعر.
قال جارفيس: «لا أجدها في أي مكان، ولا يبدو أن هناك من رآها.»
سأله الأب براون ساخرًا: «ولم يروا نورمان نايت أيضًا، أليس كذلك؟ في الواقع، لقد أنقذني هذا من أكثر المقابلات المؤلمة في حياتي. حمدًا لله، كنت خائفًا للغاية من تلك المرأة، ولكنها كانت خائفة مني أيضًا؛ خائفة من شيء قلته أو رأيته. كان نايت يستجديها دومًا أن تهرب معه، وقد فعلت؛ وأنا أشعر بأسفٍ شديد تجاهه.»
سأله جارفيس: «تجاهه؟»
قال الآخر بنبرةٍ مجردة من العواطف: «لا يمكن أن تسير الأمور على ما يرام أبدًا حين يهرب المرء مع قاتلة، لكنها في الواقع كانت أسوأ من كونها قاتلة.»
«كيف ذلك؟»
قال الأب براون: «إنها مغرورة. كانت من الأشخاص الذين ينظرون في المرآة قبل أن ينظروا من النافذة، وهذه هي الكارثة الأسوأ في الحياة البشرية. كانت المرآة شؤمًا عليها، حسنًا؛ لكن ذلك لأنها لم تكن مكسورة.»
قال جارفيس: «لا أفهم ماذا يعني كل ذلك. إن الجميع يعتبرونها مثلًا أعلى، وكأنها تتحرك على مستوى روحاني لا يرقى إليه بقيتنا …»
قال الآخر: «كانت تعتبر نفسها كذلك أيضًا، وكانت تعرف كيف تتلاعب بالجميع لتصديق ذلك. ربما لم أكن أعرفها لفترةٍ طويلة كفاية كي أحدد شخصيتها، لكنني عرفت نوعية الأشخاص التي تنتمي إليها بعد خمس دقائق فقط من أول مرة وقعت عيني عليها فيها.»
صاح جارفيس: «أوه، توقَّف يا رجل. أنا واثق أن سلوكها تجاه المرأة الإيطالية كان لطيفًا.»
قال الآخر: «سلوكها كان لطيفًا على الدوام، لقد سمعت من الجميع هنا بشأن كياستها ورقَّتها وسموِّ روحها الذي يتخطَّى مانديفيل المسكين، لكن يبدو لي أن رقَّتها وسموَّها الروحي يُختزلان في الحقيقة البسيطة التي مفادها أنها كانت وبكل تأكيد سيدة من أصلٍ نبيل وأنه لم يكن كذلك. لكن، أوَتعلم؛ لم أكن واثقًا قط من أن القديس بطرس سيجعل هذا هو الاختبار الوحيد لدخول الجنة عند بابها.»
ثم استطرد بحيويةٍ متزايدة: «أما بالنسبة إلى ما تبقى، فقد عرفت من كلماتها الأولى أنها لم تكن منصفة بحق المرأة الإيطالية المسكينة، بالرغم من مظهرها الرقيق الذي ينمُّ عن سماحة وسعة صدر باردة. وقد أدركت ذلك مرةً أخرى حين عرفت أن اسم المسرحية كان مدرسة الفضائح.»
قال جارفيس في نبرة تنمُّ عن حيرةٍ كبيرة: «أنت تتحدث بسرعةٍ كبيرة ولا أفهمك. ما علاقة المسرحية بذلك؟»
قال القَسُّ: «لقد قالت إنها أسندت إلى الفتاة دور البطلة الجميلة وأسندت لنفسها دور مدبرة المنزل الأكبر سنًّا. يمكن تطبيق هذا النهج على أي مسرحيةٍ أخرى؛ لكنه يزيف الحقيقة بشأن هذه المسرحية بالتحديد. لا بد أنها كانت تعني أنها أسندت للمُمثلة الأخرى دور ماريا، الذي يمكن أن نقول عنه إنه دور بالكاد. أما إذا أشرنا إلى دور المرأة المتزوجة الغامضة والمنكرة لذاتها، فلا بد أنه دور السيدة تيزل، وهو الدور الوحيد الذي قد تريد أي ممثلة أن تؤديه. وإذا كانت الممثلة الإيطالية من الطراز الأول قد وُعدت بأن تؤدي دورًا من الطراز الأول، فلا بد أن هناك عذرًا — أو على الأقل سببًا — لأن يعتريها ذلك الغضب الإيطالي الكبير. وهناك قاعدةٌ عامة بالنسبة لشعور الإيطاليين بالغضب، وهي أن اللاتينيين يتبعون المنطق ويكون لديهم أسباب لشعورهم بالغضب، لكن هذه القاعدة الصغيرة ساعدتني في تسليط الضوء على معنى سماحة السيدة مانديفيل ورحابة صدرها. وهناك شيءٌ آخر بعدُ. لقد ضحكتَ مني حين أخبرتك أن مظهر السيدة ساندس العابس والمتجهِّم كان تأملًا في الشخصية؛ لكن ليست الشخصية المعنية هنا هي شخصية السيدة ساندس. ومع ذلك فقد كان الأمر صحيحًا؛ إنك إذا ما أردت أن تعرف كيف تبدو إحدى السيدات حقًّا، فلا تنظر إليها؛ لأنها قد تفوقك ذكاءً، ولا تنظر إلى الرجال من حولها؛ ذلك لأنهم قد يجاملونها على نحوٍ سخيف، لكن انظر إلى المرأة القريبة منها دومًا، وخصوصًا إذا كانت أدنى منها منزلة؛ سترى في تلك المرآة وجهها الحقيقي، وكان الوجه الذي تعكسه السيدة ساندس في غاية القبح.
أما بالنسبة إلى كل الانطباعات الأخرى، كيف كانت؟ لقد سمعت الكثير عن سذاجة مانديفيل الراحل وعدم جدارته، لكن كل تلك الأقاويل كانت عن أنه شريك غير جدير، وأنا واثق من أن ذلك كله كان مصدره امرأته وإن كان من طريق غير مباشر، ولكن على الرغم من ذلك، فقد افتُضح الأمر. من الواضح، عبر ما يقوله كل رجل بالفرقة، أنها أفضت إليهم جميعًا بشعورها بالوحدة البغيضة على المستوى الفكري. لقد قلتَ أنت بنفسك إنها لم تتذمر قط؛ ثم اقتبستَ من كلامها أن صمتها وعدم تذمرها قد أمدَّا روحها بالقوة. وهذه هي الملحوظة البارزة؛ أسلوبها الذي لا شك فيه. إن الأشخاص الذين يتذمرون هم مجرد أشخاص مؤمنين مزعجين للغاية؛ ولا مأخذ لي عليهم. إنما الأشخاص الذين يتذمرون من أنهم لا يتذمرون فهؤلاء هم الأشرار، إنهم أشرار حقًّا؛ أليس التبجح بشأن الجَلَد والتحمل هو المغزى من عبادة الشيطان؟ لقد سمعت بكل هذا؛ لكنني لم أسمع قط بشيءٍ مادي يمكن لها أن تتذمر بشأنه. لم يقل أحد إن زوجها كان يعاقر الخمر، أو يتعدى عليها بالضرب أو يمنع عنها الأموال، أو إنه حتى كان غير مخلص لها، حتى ظهور تلك الإشاعة حول مقابلاته السرية، والتي لم تكن سوى عادتها الميلودرامية في إزعاجه بمحاضراتها المسرحية في مكتبه. وحين ينظر المرء لتلك الوقائع — وبمعزل عن جو انطباعات التضحية التي دبرت لنشرها — سيجد أنها تدل على العكس تمامًا. لقد توقف مانديفيل عن كسب الأموال من خلال تقديم المسرحيات التمثيلية الصامتة من أجل إسعادها، وبدأ يخسر الأموال بتقديم المسرحيات الكلاسيكية من أجل إسعادها. كانت هي التي تصمِّم المشهد والأثاث المستخدم به كما يحلو لها، كانت ترغب في تقديم مسرحية ريتشارد شيريدان وقد حصلت على ذلك، وأرادت دور السيدة تيزل وقد حصلت عليه بالفعل، وأرادت أن تتم تجربة الأداء من دون ملابس المسرحية في ذلك الوقت تحديدًا، وكان لها ما أرادت. قد يكون من الأجدر أن نشير إلى الحقيقة المثيرة للفضول وهي أنها أرادت كل ذلك.»
سأله الممثل؛ وهو لم يكن قد سمع صديقه القَسَّ يُلقي خطابًا مطوَّلًا كهذا من قبلُ: «لكن ما جدوى هذا الحديث المطوَّل؟ يبدو أننا انجرفنا كثيرًا عن الجريمة بالحديث عن مثل هذا التحليل النفسي. ربما تكون قد هربت مع نايت، وربما خدعت راندال، ربما خدعتني. لكن لا يمكن أن تكون قد قتلت زوجها؛ ذلك أن الجميع يتفق على أنها كانت على المسرح طوال فترة أداء المشهد. ربما تكون امرأةً خبيثة، لكنها ليست ساحرة.»
قال الأب براون مبتسمًا: «حسنًا، لكني لو كنت محلك لما تحدثت بكل تلك الثقة؛ فهي لم تكن بحاجة إلى الأعمال السحرية في هذا الأمر. أنا أعرف الآن وبكل بساطة أنها ارتكبت الجريمة.»
سأله جارفيس وهو ينظر إليه في حيرة: «لماذا أنت واثق إلى هذا الحد؟»
قال الأب براون: «لأن المسرحية هي مدرسة الفضائح، وبسبب ذلك المشهد بعينه من تلك المسرحية. وربما يجب أن أذكِّرك — كما ذكرْتُ لتوِّي — أنها هي من رتَّبت الأثاث بالطريقة التي تفضلها، وأذكِّرك أيضًا أن المسرح مصمَّم لتقديم المسرحيات التمثيلية الصامتة؛ لذا من الطبيعي أن يكون به أبوابٌ ومخارجُ سحرية. وحين تقول إن الشهود سيشهدون بأنهم كانوا يرون جميع الممثلين على المسرح، فسأذكِّرك بأن أحد الممثلين الرئيسيين في المشهد الرئيسي في مسرحية مدرسة الفضائح يظل على المسرح لفترةٍ طويلة لكنه يكون غير مرئي؛ لذا فمن الناحية الفنية هي «على» المسرح، لكن من الناحية العملية قد تكون «بعيدة» عنه كثيرًا. هذا هو ستار السيدة تيزل، وحجة غياب السيدة مانديفيل.»
ساد الصمت لحظة قبل أن يقول الممثل: «أتظن أنها تسللت من بابٍ سحري في الكواليس ونزلت إلى الطابق السفلي، حيث تقع غرفة المدير؟»
قال الآخر: «لا بد أنها تسللت بطريقةٍ ما، وهذه هي الطريقة الأكثر احتمالًا، وأظن ذلك لأنها استغلت فرصة تجربة الأداء من دون ملابس المسرحية، بل وحتى رتبت لذلك. إن هذا هو تخميني، لكنني أتخيَّل أنها لو كانت تجربة باستخدام ملابس المسرحية لكان من الصعب عليها أن تتسلَّل من الباب الخفي بتلك الملابس التي تعود للقرن الثامن عشر. هناك الكثير من العقبات الصغيرة بالطبع، لكنني أرى أن بإمكانها التغلُّب عليها في الوقت والمكان المناسبَين.»
قال جارفيس بينما دفن رأسه بين كفيه متأوِّهًا: «ما لا أستطيع التغلُّب عليه هو تلك العقبة الكبيرة. إنني ببساطة لا يمكنني تخيُّل أن مخلوقة متألِّقة وهادئة مثلها يمكن أن تفقد توازنها الجسدي — إن صح التعبير — فضلًا عن اتزانها النفسي. هل كان لديها دافعٌ قوي بما يكفي؟ هل كانت واقعة في حب نايت إلى ذلك الحد؟»
أجابه رفيقه: «آمل هذا؛ لأن ذلك هو الدافع الإنساني الوحيد، لكن يؤسفني أن أقول إن الشكوك تساورني حيال ذلك. لقد أرادت أن تتخلَّص من زوجها، الذي كان رجلًا فاشلًا وريفيًّا عتيق الطراز؛ لا يجني الكثير من المال. لقد أرادت أن تكون زوجةً متألِّقة لممثلٍ متألِّق له نجمٌ صاعد، لكنها وفي هذا الصدد لم تُردْ أن تمثِّل في مسرحية مدرسة الفضائح. لم تكن لتهرب مع رجلٍ آخر إلا إذا كان هذا هو ملاذها الأخير. لم يكن دافعها في هذه الجريمة يستند إلى عاطفةٍ إنسانية، إنما كان باعثًا شيطانيًّا. كانت دائمًا ما تلاحق زوجها سرًّا وتزعجه باستمرار مطالِبةً إياه بأن يُطلِّقها وإلا فليبتعد عن طريقها، وفي النهاية دفع ثمن رفضه. وهناك شيءٌ آخر ينبغي لك أن تتذكَّره؛ أنت تقول إن الأشخاص المثقفين يمتلكون ذوقًا أسمى في الفن والدراما الفلسفية، لكن تذكَّر إلى أين يؤدي الاستغراق في الفلسفة! تذكر ما يقدمه هؤلاء المثقفون غالبًا من سلوك للصفوة! كل شيء يتمحور حول الرغبة في القوة والسلطة والحق في العيش والحق في التجربة، هراءٌ لعين وأكثر من هراءٍ لعين؛ هراء يجلب اللعنة.»
قطَّب الأب براون جبينه، وهو شيء نادرًا ما كان يصدر عنه؛ وحين اعتمر قبعته وخرج في ظلمة الليل، كانت ملامح التجهُّم لم تفارق وجهه بعدُ.