تمهيد
إنسان وافر النصيب من ثناء الناس، ومن ثناء الذين لا يثنون على أحد إلا بمقدار، وقلما يثنون بمقدار.
وقال بلزاك: «إنه اخترع عمود الصواعق، واخترع القفشة، واخترع الجمهورية.»
هؤلاء يحملون غصن التحية.
وأناس آخرون يثنون عليه وهم لا يحملون غير الميزان، وقد يحسنون حمله باليمين وباليسار.
كان للحياة في نفسه حب وعلاقات شتى، وكان يحسن المتعة باللغو، ويجتذب إليه القلوب ويملكها بتلك المودة التي تنجم من القناعة العميقة والصفاء القرير. وحق أنه كان إلى العطف أقرب منه إلى الشعور اللاعج، وإلى الفطنة أقرب منه إلى القريحة الشعرية، وإلى الأخلاق العملية أقرب منه إلى السريرة الصوفية، وإلى الإصلاح أقرب منه إلى الثورة، والانقلاب، وإلى أن يعد في زمرة أبناء الدنيا أقرب من أن يعد في زمرة الأنبياء، ولو أنه قذف به إلى جزيرة خالية لكان مسلكه فيها كمسلك روبنسون كروزو، ولم يكن مسلكه ثمة كمسلك إسكندر سلكيرك من تصنيف كوبر، وإن اختلاف الرأي في عرض هذا الخلق على معيار النقد ليتوقف على مزاج الناقد وتقديره، وإنما أساس النقد كله أن فرنكلين قد أفرط في التوحيد بين الفضيلة والنجاح المحترم، أو كما كتب على هامش ترجمته: ما من شيء كالفضيلة يكفل للمرء حظه، ولكن مما يوضع له في الكفة الأخرى أنه إذا لم يكن قد عبر علمه وحبه لخير بلاده الأمريكية، كما جعل الدنيا كلها مكانًا أصلح للعيش فيه. وقد صعد بمجهوده في سلم وطنه الجديد، وقذف بكل عن أرفع الآفاق وأبعد الأعماق في الطبيعة الإنسانية. قد جعل بفضل ما عنده في معركة الديمقراطية التي تقابل المجتمع الخاضع لسلطان الاستبداد، وآمن بأن الناس جميعًا ينبغي أن يكونوا — في كل مكان — راضين سمحين أحرارًا مثقفين، وأن العمل لمثل هذه الغاية وحسن الإبانة عنها ليس بالمطلب الصغير ولا بالأمر الهين.
ومن الذين يثنون عليه من لا يحملون غصن التحية ولا يحملون ميزان الحساب، ولكنهم يحتكمون إلى هوى العاشق وشوق المفتون، ويقولون بلسان قائلهم لورنس نبي الجسد في القرن العشرين: «إنني لأعجب به.»
«أعجب بشجاعته الدءوب قبل كل شيء، ثم أعجب بحصافته، ثم ببصره النافذ في غمائم البروق والرعود والكهربا، ثم بفكاهته الدارجة؛ كلها خصال الرجل العظيم الذي لم يكن قط أكبر من مواطن عظيم.»
ثم يقول، أو تقول شيعته كلها بلسانه: «إنه طابع، فيلسوف، عالم، مؤلف، وطني، زوج صالح، مواطن، فما باله لا يكون نموذجًا يقاس عليه؟»
أتراه رائدًا؟ يا للرواد!
لقد كان بنيامين رائدًا من أكبر الرواد في الولايات المتحدة، ولكننا لا نستطيع أن نسلك معه، فما هو جانب الخطأ فيه؟ وما هو جانب الخطأ فينا؟
«إنني لأذكر في صباي كيف كان أبي يشتري الكتاب الذي يسمى التقويم، وتظهر على غلافه صور الشمس والقمر والنجوم، وتتخلله النبوءات عن الحروب والمجاعات، ومعها في الزوايا نوادر وأضاحيك تمازجها العبر والعظات، وقد كنت أضحك ضحكتي الصغيرة الغريرة من تلك المرأة التي تعودت أن تعد الكتاكيت قبل انفراج البيض عنها وما إلى هذه الفكاهات، وعلمت من ثم أن الأمانة أفضل سياسة بشيء من تلك الغرارة، وكان مؤلف هذه الشذور ريتشارد المسكين، وكان ريتشارد المسكين بنيامين فرنكلين، كاتبًا ما كتب في فلادلفيا قبل أكثر من مائة عام، وربما كنت حتى اليوم لا أسيغ تلك العبر والعظات، ولا أزال ضائقًا بها، كأنها الشوك في لحم الصبي الصغير، ولأنني لا أزال أومن بأن الأمانة أفضل سياسة أراني أبغض السياسة بحذافيرها، وإنه لسواء عندي أن تعد الكتاكيت قبل مولدها، وأن تعدها منهومًا بمنظرها بعد خروجها من البيضة، ولقد لبثت السنوات الطوال، وعانيت الوخزات التي لا عداد لها كي أخلص من ذلك السلك الشائك الذي أقام به ريتشارد المسكين أسوار الأخلاق.»
وهذا هو الشرط الناقص في معيار لورنس نبي الجسد في القرن العشرين، أو نبي النزوات الحسية على التعبير الصحيح.
فلا يوافق ذوقه نظام متكشف لضوء النهار، ولا بد من الألفاف المتشابكة على غير نسق معلوم، ولا بد من الزوايا المظلمة، واللفحات المضطربة هنا وهناك، ولا بد من صدع الحائط حول البستان ليزول البستان اسمًا وسمة، ولا يبقى غير الغابة ذات الألفاف، وذات السباع، وحبذا لو اتسعت للأفاعي مع السباع!
ولا يطلب من كل عظيم أن يكون وفقًا لشروط لورنس فيما يستحق به المحبة والعاطفة المشتعلة، حسب العظيم أن يكون وفقًا لإعجابه وتعظيمه بسبب أو سببين، وقد كان فرنكلين وفقًا لشروط إعجابه بأسباب كثيرة: شجاعة وحصافة وبصر نافذ خلل الغمام، وفكاهة دارجة ووطنية جديرة بالإعظام والإكرام.
ولا نكتم عن أنفسنا أننا نرضى عن معيار لورنس في تقدير العظمة بعض الرضا، ولا نحس في صميم الوجدان أننا ننكره كل الإنكار.
أتكون عظمة بغير نار مقدسة؟
كلا. لا غنى عن هذه النار المقدسة في عظمة عظيم، وليس من حق النظام ولا النور أن يسلبها تلك النار التي لا يقر لها قرار.
إلا أن العبقرية كلها نار مقدسة، والعبقرية كلها لا يقر لها قرار مع اضطرام تلك النار.
وفرنكلين على وفاق هذا الشرط بغير شذوذ ولا استثناء، فلا دخان ولا شرر ولا قعقعة من الوقود المتأجج بين الضرام.
ولكن النار هناك في الموقد المصون.
لا صاعقة تنقض على الحطام بين البروق والرعود، ولكن العمود هناك يتلقى الصاعقة في أمان.
والتفرقة بين النارين حتم في مقام الكلام على عبقرية فرنكلين. أليس هو صاحب الموقد الذي نحس ناره ولا نحس دخانه وشرره؟ أليس هو صاحب العمود الذي يستنزل الصاعقة ويروضها بعد الجماح رياضة الفارس الخبير؟
إن العبقرية التي يعجب بها لورنس كالنار التي تلتهب في المدخنة، ثم تطير الحرارة منها بين الجدران وبين الهواء والهباء.
ولم تذهب هذه النار بين يدي فرنكلين؛ لأنه صاحب الموقد الذي اخترعه ليحفظ النار ويبثها على السواء بين الجدران، وليرسل منها إلى الفضاء ما تستغني عنه الأبدان.
والصاعقة لم تذهب كذلك بين يديه، ولكنه ساسها وقادها وأسلس زمامها، فهي صاعقة في طريقها بين السماء والأرض، ولكنها من قبيل العبقرية التي خلقت لفرنكلين!
ويوشك أن يكون التشبيه هنا واقعة محتومة لا مجاز فيها، ويوشك أن يكون الموقد وعمود الصاعقة من اختراع هذا العبقري؛ لأنهما أشبه النيران بعبقريته الطيعة الرفيقة: عبقرية تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.
لهذه العبقرية محلها بين العبقريات في كل زمن، ولعلها أولى بالمحل الأول من هذا الزمن خاصة؛ لأنه زمن لا تعوزه عبقريات اللهيب والدخان، وقد تعوزه المئات من عبقريات النور والهداية والأمان.
ومن رسائل هذه العبقرية في هذا الزمن أنه زمن ضاعت فيه الشخصية الإنسانية بين التخصص والكثرة العددية، وكلاهما «فناء» لمزايا الإنسان أشبه بفناء «النرفانا» في عقائد المنهزمين المنكرين للحياة.
إن «التخصص» قد جار على «الشخصية الإنسانية» فلم يترك في كل امرئ إلا جزءًا من إنسان مستغرقًا في جزء من المعرفة وجزء من العناية بالعالم الواسع الذي يعيش فيه، وليس أضر، ولا أوخم من هذه التجزئة في الزمن الذي ولدت فيه الفكرة العالمية وأصبحت علاقة العالم الإنساني بعضه ببعض حقيقة متمكنة تتطلب الإنسان كله للمساهمة فيها، ولا تقنع منه بجزء ناقص محبوس في أصداف المحار.
وإن هذه العبقرية التي تعددت جوانبها وتشعبت شواغلها، مع الاتزان والاعتدال وحسن الإحاطة والإجمال، لهي الترياق الذي يشفي من هذه الآفة، والقدرة التي تستنهض الهمة لمحاكاتها، ثم لا تيئسها من بلوغ الغاية في المحاكاة؛ لأنها — بطبيعتها — تعجب النفوس والعقول، ولكنها لا تروع ولا تهول.
وقد جارت الكثرة العددية على معالم الشخصية الإنسانية فوق هذا الجور الذي ابتليت به من داء التخصص والانحصار، وقد تجدي هذه العبقرية جدواها التي لا تشبهها جدوى العبقريات الأخرى في إنصاف «الشخصية» الممتازة من طوفان الكثرة العددية؛ لأنها من هذه الكثرة خرجت، ولهذه الكثرة عملت، وعلى هذه الكثرة عولت في كل مرحلة من مراحل النجاح وعلى كل درجة من درجات السمو والارتفاع، فلم يمنعها ارتفاعها من غمار الكثرة العددية أن تكون من زمانها إلى هذا الزمان مثلًا نادرًا «للشخصية» الفذة التي لا تضيع في غمار.
والصفحات التالية صور متتابعة لهذه الشخصية أو لهذه العبقرية، لم نحفل فيها بسجل الأرقام ولا بإحصاء الأيام، ولم نكتبها لنبدأ فيها بسنة الولادة، ونختمها بسنة الوفاة، ونمضي فيها مع التقويم شهرًا بعد شهر وعامًا بعد عام، ولكننا كتبناها كما نكتب تراجمنا عامة لنعرض فيها لمحة بعد لمحة تتم بها ملامح الصورة بعد الفراغ من النظر إليها، وقد يتابعها القارئ فلا يفوته من ذلك سجل الأرقام ولا إحصاء الأيام، وإنما يلم بها حيث يعبرها في طريقه، ويستغني عنها بعد ذلك إذا شاء، أو يبقيها على حد سواء.
وسنبدأ «الصورة» بترجمة مجملة ترسم مراحل الطريق، أو ترسم حدود النظر إلى الإطار الذي يحيط بملامحها وقسماتها، ثم نتبعها بصورة لكل جانب من جوانب هذه الشخصية على أعمها وأوسعها، مع صعوبة التعميم والإحاطة بهذه الشخصية الفذة التي لم تدع شأنًا من شئون عصرها إلا اشتغلت به في وقت من الأوقات، ثم ندع لها أن تتكلم بلسانها، وتعبر لنا عن كل جانب من جوانبها، ولعل الكلام الذي نسمعه منها أدل عليها من كل كلام يقال فيها.
ولنبدأ بالترجمة: ترجمة العالم الكاتب السياسي الفيلسوف الإنسان.