عِلميَّات
لندن في السابع من نوفمبر سنة ١٧٧٣
سيدي العزيز
ولعلك لا تأبى أن أبسط لك كل ما سمعت وعلمت وعملت في هذا الصدد، وهأنذا أستأذنك في أن أبسطه بين يديك: في سنة ١٧٥٧ كنت في أسطول مؤلف من ستة وتسعين شراعًا يتجه إلى لويربورج، ولاحظت أن مؤخرة سفينتين في الأسطول هادئة على نحو يلفت النظر، على حين لاحظت الاضطراب في السفن الأخرى بمهب الريح التي أخذت في الهبوب. وحرت في الاختلاف بين المنظرين، وأفضيت بحيرتي إلى الربان سائلًا عن سر هذا الاختلاف، فقال لي: إن الطباخين على ما يظهر قد أفرغوا في البحر بقايا الماء الوضر، فأسلست قليلًا جوانب السفينتين، وكان في إجابته مسحة من الاستخفاف بهذا الجهل لأمر من الأمور االتي لا يجهلها أحد، ولكنني استخففت أيضًا بالتفسير الذي أبداه، وإن لم يكن في وسعي أن أعثر على تفسير خير منه، ثم تذكرت ما قرأت في بليني، فعولت على تجربة أثر الزيت على الماء عند سنوح الفرصة الملائمة.
وعدت إلى البحر منفردًا سنة ١٧٦٢، فلاحظت أولًا ذلك الهدوء العجيب في الزيت الذي كان على ماء المصباح المترجح الذي علقته في الكبينة كما وصفته في أوراقي، وطفقت أنظر إليه وأظنه ظاهرة ليس لها تفسير. وكان معي من الركاب ربان قديم لم يهتم بالملاحظة؛ لاعتقاده أن الظاهرة من قبيل ظاهرة الزيت الذي يراق على الأمواج لتهدئتها، وهي كما قال عادة البرموديين كلما أرادوا إصابة سمكة يحول اضطراب الموج دون رؤيتها، ولم أكن قد سمعت بهذه العادة قبل ذلك، فكنت مدينًا له بما أخبرني عنها، وإن كنت لا أوافقه على التشابه بين ظاهرة المصباح وظاهرة الموج؛ لما بينهما من الاختلاف في العمل والنتيجة؛ إذ كان الماء في إحدى الحالتين هادئًا حتى يوضع الزيت عليه فيضطرب، وكان الماء في الحالة الثانية مضطربًا حتى يوضع الزيت عليه فيهدأ.
وأخبرني السيد نفسه أن العادة متبعة بين الصيادين من أهل لشبونة، كلما عادوا إلى النهر وأبصروا على حوافي القوارب طفاوات يخشون أن تغمرها، فإنهم في هذه الحالة يفرغون زجاجة أو زجاجتين على ماء البحر فلا يطغى على القوارب ويمرون بسلام.
ولم تسنح لي فرصة لتعزيز هذا الخبر حتى تحدثت مع شخص آخر طويل الخبرة بالملاحة في البحر الأبيض المتوسط، فأخبرني أن الغطاسين هناك إذا احتاجوا إلى النور في القاع وحال بينهم وبينه اضطراب سطح الماء، نفثوا من أفواههم قليلًا من الزيت بين حين وحين، فصعد إلى السطح وهدأ الماء فنفذ منه النور، وجعلت أقلب هذه المعلومات في ذهني وأعجب لخلو كتبنا في التجارب الفلسفية من الإشارة إليها.
وألفيتني أخيرًا في كلافام، وفيها بركة لاحظت يومًا من الأيام أنها مضطربة الماء فأرقت عليها قليلًا من الزيت ورأيته ينتشر على سطحها بسرعة مدهشة، ولكنه لم يؤثر في تهدئة الماء؛ لأنني أرقته في اتجاه الريح حيث كان معظم الموج فعادت به الريح إلى الشاطئ، فقصدت بعد ذلك إلى الجهة التي تهب منها الريح ويتموج عندها الماء، وألقيت ثمة قليلًا من الزيت لا يزيد على ملء ملعقة من ملاعق الشاي، فما هو إلا أن وصل إلى الماء حتى سكن على الأثر إلى مدى عدة ياردات، وراح ينتشر وينتشر حتى بلغ الجانب الآخر مهدئًا تلك الرقعة كلها — قرابة نصف فدان — كأنها صفحة مرآة.
بعد ذلك تعودت أن آخذ معي — كلما ذهبت إلى الخلاء — قليلًا من الزيت في تجويف القصبة العليا من عصاي لأكرر التجربة حيث تتهيأ لي الفرصة، فوجدتها ناجحة على الدوام.
وقد لفتني في جميع هذه التجارب شيء واحد بصفة خاصة، وهو هذا الانتشار الواسع السريع القوي الذي تنتشره قطرة واحدة من الزيت على صفحة الماء، ولا أعلم أن أحدًا اهتم بهذه المشاهدة قبل الآن. فإن قطرة الزيت إذا وضعت على مائدة من المرمر المصقول أو على مرآة في وضع أفقي تلبث في موضعها ولا تنتشر إلا قليلًا.
إلا أنها إذا ألقيت في الماء لا تلبث أن تنتشر على صفحته عدة أقدام، وترق جدًّا حتى تنعكس عليها ألوان الطيف إلى مدى غير قصير، ثم لا تزال ترق وراء هذا المدى حتى لا تبدو للنظر، إلا ما يكون من أثرها في تهدئة الموج، وكأنما يحدث بين أجزائها تدافع مشترك في اللحظة التي تقع فيها على الماء، ويكون ذلك التدافع من القوة بحيث يعمل عملًا في الأجسام العائمة على صفحة الماء من قبيل القش أو ورق الشجر أو الحتاتة، مضطرًّا إياها أن ترجع عن القطرة كأنها ترجع عن مركز حركة إلى مدى غير قريب، ولم أتبين بعد مقدار هذه القوة، ولا قياس المدى الذي يمتد إليه أثرها، ولكني أحسبها مسألة من مسائل البحث وأود أن أستطلع سرها.
وقد ذهب صديقنا سير جون برنجل بعد ذلك إلى سكوتلاند، فعلم أن الصيادين الذين يعملون في صيد سمك الرنجة يستطيعون رؤيتها على بعد، وأنهم ربما ساعدهم على الرؤية مادة زيتية تنبعث من أجسامها.
وأخبرني سيد من جزيرة رود أنهم لاحظوا هناك في ميناء نيوبورت أن الماء يظل ساكنًا ما بقيت فيه سفينة من السفن التي تستخدم في صيد الحيتان، وربما كان ذلك لأن الآنية التي يودعونها دهن الحوت يرشح منها الدهن إلى الماء الذي يفرغونه من سفنهم وينتشر على صفحة الماء في الميناء، فيحول دون إثارة الأمواج عليه.
وسأحاول تفسير ذلك المانع؛ فالظاهر أنه لا توجد بين الماء والهواء طبيعة التدافع التي تمنع اتصال أحدهما بالآخر. ومن ثم نجد في الماء بعض الهواء ويعود الهواء بمثل ذلك المقدار إلى الماء إذا استخرجناه بالمضخات، وعلى هذا يمكن أن يمر الهواء على صفحة الماء الساكنة ويحدث فيها الثنايا التي تتكون منها الأمواج، ومتى برزت موجة — بالغة ما بلغت من الصغر — على وجه الماء لم تهبط على الأثر فتترك الماء إلى جانبها على سكونه، بل يكون هبوطها سببًا لبروز موجة أخرى بغير اختلاف في احتكاك الأجزاء، وإذا ألقي في الماء حجر نشأت منه موجة واحدة حوله في أول الأمر ويتركها فيرسب في القاع، ولكن هذه الموجة تهبط فتبرز إلى جانبها موجة أخرى فموجة غيرها إلى أمد بعيد.
والقوة الصغيرة إذا تكررت كان لها أثر كبير. فالإصبع إذا لمست جرسًا كبيرًا لمسة واحدة لم تحركه إلى حركة يسيرة، ولكنها إذا لمسته مرة بعد مرة بالقوة نفسها زادت الحركة حتى يصل الجرس إلى أعلى ذروته بقوة لا تستطيع الذراع كلها أن تقاومها، وكذلك الموجة الصغيرة الأولى التي تظل الريح مؤثرة فيها تزداد في الامتداد، وإن كانت الريح لا تزداد في القوة، وترتفع ثم ترتفع فتمتد قواعدها حتى تشمل مقدارًا كبيرًا من الماء في كل موجة، وتندفع في حركتها بقوة شديدة.
أما إذا وجد التدافع المتبادل بين أجزاء الزيت، ولم يوجد التجاذب بين الزيت والماء، فالزيت الذي يراق في الماء لا يتماسك في الموضع الذي ألقي فيه ولا يمتصه الماء، وينطلق ممتدًّا بغير عائق فينبسط على صفحة واسعة تحول — فضلًا عن ملاستها — دون احتكاك الهواء مباشرة بالماء، ويستمر هذا المانع مع امتداد الزيت حتى يبلغ من الامتداد غايته القصوى فيضعف أثره ويزول.
وإنني أتخيل الآن أن الريح متى هبت على ماء مغطى على ذلك النحو بطبقة من الزيت، لم يسهل احتكاكها به ذلك الاحتكاك الذي يبرز الموجة الأولى، بل تنساب فوقه وتدعه ساكنًا كما كان، وهي تحرك الزيت قليلًا ولا شك، ولكنها حركة بين الزيت والماء تساعده على الانسياب وتمنع الاحتكاك، كما يمنع احتكاك أجزاء الآلات، ولهذا يذهب الزيت الذي يراق في اتجاه الريح إلى الوجهة المقابلة؛ إذ كانت الريح في هذه الحالة لا تتمكن من إثارة الخلجات الأولى التي تتكون منها الأمواج، فتبقى البركة كلها على حالها من الهدوء.
وفي وسعنا إذن أن نقمع الموج حيث نريد إذا وصلنا إلى المهب الذي تنشأ منه أوائلها، ويتعذر ذلك في البحر المحيط أو يحدث في الندرة القليلة إن حدث، إلا أنه قد يتيسر بعض العمل لتخفيف دفعة الأمواج حين نكون في وسطها، فنمنع انكسارها كلما وافقنا ذلك؛ إذ لا يخفى أن الريح كلما هبت من جديد نجم وراء كل موجة خلجات صغار تزعج صفحتها وتهيئ للريح أن تأخذ بمقبضها لتدفعها دفعة أقوى، وهذا المقبض لا يتهيأ للريح بمنع الخلجات الصغار، وربما لم يتهيأ كذلك عند تزييت صفحة الموجة، فتدفعها الريح إلى أسفل بدلًا من تحريكها إلى جانبها، وتعمل بذلك على تهدئة الموج بدلًا من استمراره.
وهذا — على اعتباره من قبيل التخمين — لا قيمة له إن لم يكن صب الزيت في وسط الأمواج ذا بال، ولم يفسر بعدُ بتفسير غير هذا التفسير.
إن الريح عندما تهب متوالية بحيث لا تسرع الموجات إلى تلبية فعلها تكون رءوسها خفيفة، فتندفع وتتكسر كالرغو الأبيض، وإن الأمواج عادة ترفع السفينة ولا تدخلها، ولكن هذه الأمواج المرغية المزبدة إذا تعاظمت وارتفعت قد تغمرها وتعرضها للخطر العظيم.
إنه على مقربة من جزائر بول وأمستردام لم يوجد ما يستحق التبليغ، إلا ما حدث من اضطرار الربان طلبًا للسلامة أن يصب الزيت على الماء لمنع تدفق الأمواج فيها، فكان لذلك أثر بيِّن ونجونا بفضله، ولما كان الربان قد حرص على صب الزيت قليلًا بعد قليل، فشركة الهند الشرقية مدينة بنجاة سفينتها لست قنينات من زيت الزيتون، وقد كنت على ظهر المركب عند إجراء هذه التجربة، ولم يحملني على الكتابة بها إليك إلا ما وجدته من شك القوم في نفعها وضرورة العلم بهذا النفع وإقرار هذه التجربة بشهادتنا وشهادة الضباط في السفينة، مما تيسر لنا بغير مشقة.
لهذه المناسبة رويت للربان بنتنك فكرة خطرت لي أثناء الاطلاع على رحلات ملاحينا المتأخرين، وبخاصة حين يذكرون الجزر الجميلة الخصبة التي يتوقون إلى الإرساء بها إذ يلجئهم إلى ذلك الدوار والمرض، ثم يحول البحر المضطرب دون بلوغهم شواطئها، والفكرة التي خطرت لي أنهم يستطيعون الإرساء بها إذا ترددوا جيئة وذهوبًا على مسافة قريبة من الشاطئ، وصبوا الماء أثناء ذلك مع اتجاه الريح الساحلية، فربما هبطت الأمواج قبل وصولهم إلى الشاطئ، وهدأت حركتها العنيفة هدوءًا يمكنهم من الوصول إليه، إذ يكون في الأمر من الفائدة ما يساوي قيمة الزيت المصبوب.
وتفضل السيد، الذي أُثِرت عنه الغيرة على تحقيق كل ما فيه المصلحة، وإن لم يلتفت إلى مخترعاته الذكية الالتفات الواجب لها، فدعاني إلى بورتسموث حيث يرجى أن تسنح الفرصة للتجربة على شواطئ سبتهيد، وتلطف فزاملني في الرحلة، ووعد بإعطائي الزوارق اللازمة لتلك التجربة.
وعلى ذلك ذهبت إلى بورتسموث حوالي منتصف أكتوبر الماضي مع بعض الصحاب، وهبت ريح ساحلية بين مستشفى هسلار والموقع القريب من جليكر، فخرجنا من السفينة سنتاءور في زورق طويل وصندل متجهين إلى الساحل، وكان ترتيبنا هكذا؛ الزورق الطويل على مسافة ربع ميل من الساحل، وفئة من الصحبة نزلت على الساحل وراء الموقع القريب من جليكر؛ وهو مكان محمي من ناحية البحر، ثم جاءت واستقرت على مكان مواجه للزورق الطويل حيث يتسنى لهم أن يراقبوا صفحة الماء، ويلاحظوا ما يطرأ عليها من التغيير بعد صب الزيت، وكانت فئة أخرى على الصندل على اتجاه الريح من ناحية الزورق الطويل في موضع وسط بينه وبين الساحل تذهب وتجيء وهي تصب الزيت على الماء من قدرة فيها سدادة مفتوحة أوسع قليلًا من ريشة الأوزة، فلم تسفر التجربة عن النجاح الذي رجوناه ولم يلاحظ فرق محسوس على الموج بجوار الساحل، غير أن ركاب الزورق الطويل شاهدوا ممرًّا هادئًا على طول المسافة التي كان الصندل يصب الزيت عليها يتسع كلما اقترب من الزورق الطويل، وأقول: إنه ممر هادئ، ولا أعني أن صفحة الماء كانت مستوية، بل أعني أنها مع ارتفاع الموج فيها لم يكن ثمة أثر للخلجات الصغيرة التي أشرت إليها آنفًا، ولا للزبد الذي يعلو فوق رءوس الأمواج، وإن يكن في متجه الريح والجانب المقابل له كثير من تلك الخلجات، واتفق مرور زورق منشور الشراع هناك، فاختار الممر طريقًا للعبور.
وقد يفيد وصف التجربة التي لم تنجح عسى أن تصحح التجربة في مرة أخرى، ولهذا وصفتها بالتفصيل، وأرجو أن أضيف إلى وصفها تعليلًا لحبوطها وخيبة الأمل فيها.
يلوح لي أن عمل الزيت على الماء «أولًا» أن يمنع ارتفاع موجات جديدة بهبوب الريح، وثانيًا أن يمنع اندفاع الموجات التي ارتفعت فعلًا بقوتها الأولى، فلا تحدث موجات أخرى ترتفع مثل ارتفاعها كما يحدث لو لم يكن على صفحة الماء زيت مصبوب. إلا أن الزيت لا يمنع التموج الذي يحدث لسبب آخر أو قوة أخرى، كقوة الحجر الذي يسقط في بركة ساكنة؛ لأن الموج يرتفع إذن بقوة الحجر الدافعة «الميكانيكية» التي لا تستطيع الصفحة المزيتة أن تمنعها كما يمتنع اتصال الهواء بالماء وإثارة الأمواج فيه.
والموجات التي ترتفع بقوة الريح أو بغيرها تعمل عملًا واحدًا في الارتفاع والهبوط، كما يعمل الرقاص بعد انقطاع عمل القوة التي دفعته إلى الحركة الأولى، وهي حركة تسكن مع الزمن، ولكن لا بد لها من زمن على أية حال.
وعلى ذلك يمكن أن يضعف الزيت على البحر الهائج دفعة الموج الذي على صفحته، فيهبط لامتناع التأثير الجديد الذي يطرأ عليه، ولكنه لا بد من مرور زمن قبل ظهور الأثر على مثال ما يحدث عند هدوء الريح فجأة؛ فإن الأمواج لا تهدأ فجأة بهذه السرعة، بل تأخذ في الهدوء شيئًا فشيئًا حتى تنقطع الريح.
ونحن كذلك وصلنا بصب الزيت على الماء إلى تهدئة الأمواج التي ارتفعت قبل ذلك، ولم يكن منتظرًا أن تتم هذه التهدئة على الأثر حتى تستوي الصفحة كل الاستواء، ولا بد للحركة التي بعثتها أن تستمر بعض الوقت، وأن تصل إلى الساحل بقوة وسرعة إن لم يكن على مسافة بعيدة، فلا يلاحظ عليها ضعف محسوس، ويجوز أننا — على مسافة أبعد من تلك — كنا نحس للتجربة أثرًا أكبر من ذلك لو أننا بدأنا عملنا على مسافة أبعد من الساحل، أو يجوز أن الزيت الذي صببناه لم تكن فيه الكفاية، وتظهر النتيجة في التجارب التالية.
ولقد شكرت الربان بنتنك لمساعدته الطيبة الرضية، ولا أنسى فضل مستر بانكس، والدكتور سولاندر، والجنرال كارنوك، والدكتور بلاجدن الذين اشتركوا في التجربة في ذلك اليوم المضطرب المزعج، وصبروا على الدأب فيها صبرًا لا باعث له غير زيادة المعرفة، وبخاصة تلك المعرفة التي تنفع الناس في مواقف الشدة والحرج.
وبودي لو أطلعت صديقك الألمعي مستر فاريس على هذه الرسالة مع تبليغه تحيتي واحترامي، وإنني يا سيدي العزيز مع تقديري الخالص … إلخ إلخ.