خاتمة
قليل من القراء من يعلم أنني دخلت مدرسة «الصنائع» ببولاق لدراسة الكهربا والتلغراف، وأقل منهم من يعلم الصلة بين اتجاهي إلى هذه الوجهة، وبين اسمين من كبار المخترعين الذين بدءوا حياتهم بالعمل في الصحافة والكهربا؛ هما فرنكلين وأديسون.
ولست أذكر على التحقيق متى سمعت لأول مرة باسم فرنكلين واسم أديسون، ولكنني أذكر جيدًا أنني لم أعرفها من كتاب أو من دراسة علمية، وإنما سمعت بهما من موظف في التلغراف شديد الإعجاب بهما، على أثر حادث من حوادث المصادفات، تناولته الصحف بالتعليق السياسي في ذلك الحين، ولم تعره شيئًا من الاهتمام من الناحية العلمية.
كان ذلك الحادث، على ما أذكر الآن، سقوط صاعقة على بناء مجلس الوزراء، وكنت لا أزال يومئذ في بلدتي أسوان لم أبرح مدرستها الابتدائية، ودار الحديث عن الصاعقة وعن التعليقات السياسية عليها، وتحدث الموظف بالتلغراف من جيراننا عن رجل يسمى فرنكلين، ورجل يسمى أديسون؛ كلاهما عامل صغير بدأ حياته بالعمل اليدوي في الصحافة، ثم اخترع باجتهاده أكبر المخترعات في الكهربا، ثم جرى — في شيء من اللغط المبهم — ذكر عمود الصواعق وذكر الفنغراف، وفضل العاملين الصغيرين في كل من هذين الاختراعين.
وقام بذهني أن أصنع مثل هذا الصنيع يومًا من الأيام، فلم أزل حتى دخلت مدرسة «الصنائع» في نحو الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمري، وشعرت يومئذ كأنني أفسر حلمًا قديمًا كاد يذهب بين الوعي والنسيان، وكاد فرنكلين إذن يتوجه بحياتي وجهة غير وجهتها، يوم كان اسم فرنكلين يحضرني مقرونًا بالكهربا ولا يحضرني منه شيء من سيرته الطويلة في الكتابة والتفكير والسياسة.
ووقع في يدي بعد ذلك كتيب من سلسلة كبيرة تلخص التراجم والمؤلفات لأعلام النوابغ في الثقافة الغربية، فبدأت به قراءة تلك السلسلة؛ لأنه مكتوب عن صاحبنا القديم فرنكلين.
ومن تحكم الذاكرة أنني أذكر حتى اليوم منظرين من مناظر السيرة التي لخصها ذلك الكتيب الصغير.
أحدهما منظر الطفل الجائع فرنكلين يقضم رغيف الخبز وتترصد له طفلة في طريقه لا تزال تداعبه وتلح في مداعبته وتوقع في روعه أنها تريد أن تخطف الرغيف من يديه، حتى يوشك أن يبكي من الغيظ الذي لم يكن يكرهه كل الكراهية على ما يظهر!
والمنظر الآخر منظر الحوار بين فرنكلين ورجل من رجال الدين تلقى من يديه عارفة مشكورة، فإذا هو يشكره بالنيابة عن الله، كأنما هو غريب عن الموضوع لا شأن له بين المحسن والمحسن إليه، ويأبى فرنكلين أن يفوت على الرجل روغانه هذا من واجب الشكر، فيقول له: إنما أعطيتك أنت يا أبتاه!
وأقول: إن بقاء هذين المنظرين دون غيرهما من مناظر تلك السيرة في ذلك الكتيب الصغير، إنما كان من تحكم الذاكرة فيما تأخذ وفيما تدع؛ لأنني حين توسعت في قراءة فرنكلين، وفي القراءة عنه بعد ذلك، وجدت في السيرة الحافلة مناظر لا تحصى مما يصح أن يعلق بالذاكرة ويغطي على منظر الرغيف المهدد ومنظر القس الرائغ من الشكران، ولا أحسب — على هذا — أن أظلم الذاكرة كل الظلم، فلعل هذين المنظرين يجمعان من فرنكلين في نفس القارئ الشاب، ما لم يجتمع من منظرين غيرهما في الكتيب الصغير.
وقرأت بعد ذلك كثيرًا من فرنكلين وعن فرنكلين، ولم أنس قط أنه كاد يوجه حياته وجهة أخرى في يوم من الأيام.
«فرنكلين مندوب المستعمرات الأمريكية الثائرة على الوطن الأم، وفد إلى باريس سنة ١٧٧٧، ورأى الفلكي دي بايلي من واجبه أن يزور الأمريكي النابه، فاستقبله فرنكلين بترحاب غاية في المودة، وبادله بضع كلمات من التحيات التي تتبادل في مثل هذا المقام، وجلس بايلي على مقربة من الفيلسوف الأمريكي، وترقب بكل عناية ما يفوه به من الأسئلة، وانقضى نصف ساعة وفرانكلين لا يفتح فمه، وأخرج بايلي علبة السعوط وقدمها إلى جاره دون أن ينبس بكلمة، فأشار فرنكلين بيده إشارة معناها أنه لا يتعاطاه، واستمرت هذه المساجلة الصامتة ساعة كاملة، فنهض دي بايلي واستعد للانصراف، وبدا على فرنكلين كأنه فرح بلقاء فرنسي يستطيع أن يلوذ بالصمت ويمسك لسانه، فأخذ بيده وشدها شدة حميمة وهو يقول في حماسة بينة: حسن جدًّا يا سيد بايلي حسن جدًّا. وتوثقت بينهما المودة بعد ذلك، فأصبحا من خيرة الأصدقاء.»
ولم أكد أصدق ما قرأت، واتهمت جهلي بالفرنسية، فاختلست فرصة من فرص السجن أعرضها فيها على زميلنا الأستاذ حسن النحاس، فقال لي: إنني فهمت منها الصواب.
إن موضع العجب في القصة أن فرنكلين لم يشتهر في مجالسه بشيء، كما اشتهر بلباقة الحديث والسمر وأفانين الكلام المستحب بين الجد والفكاهة، فما الذي ألجأه إلى ذلك الصمت مع العالم الفرنسي الكبير؟
لا أعلم، ولم أجد من سيرته مع هذا العالم أو مع غيره ما يجلو لي سر هذه «الصمتة» الغريبة، ولكنني عرفت منها حقيقة لا ريب فيها؛ عرفت منها أن هذا الرجل يستطيع أن يشع من حوله جو المحبة والمودة، وأن يمحو من ظن جليسه كل احتمال للجفاء والفتور، ولولا ذلك لانصرف العالم الفرنسي من حضرته وهو عدو مبين، ولم ينصرف — كما قالت القصة وقال التاريخ — صديقًا من أخلص الأصدقاء المقربين.
ثم حان الأوان وشرعت في كتابة هذه السيرة وأنا أحس كأنني جددت الصلة الفكرية بصاحب قديم، وتبينت من مراجع السيرة كلما أمعنت في تصفحها أنها بنت أوانها، إذا كان لكتابة السير أوان مفضل عدا ما تستحقه كل سيرة من التسجيل والتحليل.
فنحن في عصر التجزئة والتفتيت، أحوج ما نكون إلى مثال كامل لإنسان لم يمزقه التخصص شلوًا شلوًا بين شواغل العقل، وشواغل الحياة.
ونحن في عصر الطغيان على «الشخصية» الفردية، أحوج ما نكون إلى مثال من غمار الناس لم يستغرقه الغمار، ولم يمسح ملامحه المتميزة بين أمواج التيار.
ونحن في عصر النبوغ العصامي نحتاج إلى عظمة تقرب العصامية لمن يهابها، وتيسر القدوة لمن تروعه هالات العظمة في أعلام التاريخ، فيحجم عن الاقتداء بها، ويحسب نفسه من غير معدنها.
فالعظمة في هذا العصامي من «طينة عامة» حيثما واجهتها كما قال فيه أصدق مترجميه. إلا أنك تواجهه من جهات شتى، فتلمح في كل منها تلك العظمة التي تحسبها من الطينة العامة، وتعرف كيف تكون العظمة الإنسانية أحيانًا «كالسهل الممتنع» في بلاغة البلغاء، يغريك بالمحاكاة والاقتداء، ولا تعرف كيف يمتنع عليك إلا وقد تمكن منك الإغراء.
وفيما لقي هذا الرجل العظيم من العرفان تشجيع أي تشجيع.
وفيما لقي هذا الرجل من الإنكار عزاء أي عزاء، وربما كان العزاء من سير العظماء أجدى وألزم من التشجيع.
لقد كرمته معاهد العلم في أمم الحضارة بأشرف ألقابها، وعرفت له أمته مآثره في جهاده فاستقبلته كما يستقبل الفاتحون، ومحضته من الإكبار والإعجاب ما يبسط العذر للحاسدين؛ فلا عذر لمن يحسد هذا الرجل، إلا أنه استحق الحسد بفرط ما استحق من إكبار وإعجاب.
ولو أن عظيمًا بين أبناء آدم وحواء ينجو من الحسد، لنجا منه هذا العظيم الذي غض من كبريائه باختياره، فلم يدع فيه بقية لمن ينكر عليه الكبرياء، ولو أنكر عليه عرفان العارفين بالقدر الكبير.
مات ولم يشكره مجلس الأمة الذي كان له فيه أنداد وزملاء، ولبس عليه الحداد مجلس الأمة الذي لم يعرفه إلا بالسماع. مجلس الشيوخ يضن عليه بالشكر، ومجلس النواب يلبس السواد ثلاثين يومًا؛ حزنًا عليه.
لعله لو لم يحسد هذا الحسد لقيل: إنه لم يبلغ من عرفان قومه غاية ما يستطاع.
واليوم وقد أخذ الفناء ما أخذ، وأبقى الخلود ما أبقى، لا يضار المحسود بما أصابه، كما يضار الحاسد بما أصاب، ولو كتب لفرنكلين أن يعود إلى الدنيا كما تمنى أن يعود كل مائة عام، لما تمنى — بخبرة الحياة والموت — أن يتبوأ من دنياه مكانًا أرفع مما تبوأه بعمله وذكراه.