رسائل
تعد رسائل فرنكلين بالمئات، نشرت في مجموعات متعددة حسب موضوعاتها أو حسب الجهات التي أرسلت إليها، ومنها العام الذي يرتبط بالسياسة والعلم والمصالح القومية، ومنها الخاص الذي يراسل به أهله وذويه وخاصة صحبه، ويقصر في الأعم الأغلب على التحية وإسداء الرأي في المسائل البيتية.
فهذه الرسالة «فرنكلين» في أكثر من سمة واحدة؛ لأنه لا ينسى فيها الخصلة التي عرفت عنه في أدوار حياته من صباه إلى أواخر أيامه، وهي الحرص على كسب الأصدقاء واتقاء المغاضبة والعداء، وهي تطابق حكمته التي كررها كثيرًا، وفحواها أن يحسن الإنسان إلى الصديق ليستبقيه، ويحسن إلى العدو ليستدنيه أو يعيده إلى مودته، وهذا مع البر بالأهل والعناية بأداء الواجب وإنجاز ما يفرضه على كل من يناط به عمل يؤديه.
وهذه الرسائل التي نترجمها مقتبسة بغير عناء في الاختيار من أشتات رسائله الخاصة والعامة، لا نتوخى فيها إلا أن تكون معبرة عن فرنكلين في عادة فكر أو سجية شعور أو طريقة عمل، ولا حاجة إلى العناء الطويل في الاختيار لهذا الغرض؛ لأن كتاباته كما قدمنا فرنكلينية بطبيعتها في صفة واحدة على الأقل من هذه الصفات.
رد على خطباء القهوات
لقد كان لأثينا خطباؤها، وقد صنعوا لها في بعض الأوقات خيرًا كثيرًا، كما صنعوا لها الشر الكثير في أوقات أخرى، وكان أسوأ ما صنعوه من شر على الخصوص يوم نجحوا في إغرائها بشن الغارة على صقلية، فناءت بأعبائها وخسائرها، وكان من جرائر تلك الحرب أن الدولة الزاهرة سقطت ولم ترجع إلى ازدهارها بعد ذلك أبدًا.
وإن هؤلاء الصياحين بالدهماء بين الأقدمين يخلفهم في العصر الحديث كتاب نشراتكم السياسية، وكتاب الصحف، وخطباء القهوات.
ومما يلفت النظر أن رجال الجندية المنقطعين لهذه الصناعة، وهم أناس متصفون بالشجاعة التي لا جدال فيها، قلما يشيرون بالإقدام على الحرب إلا عند الضرورة القصوى، بينما يتعالى اللغط بالحرب لأتفه الأسباب من أناس كأولئك الصياحين والثراثرة والمحدثين الذين هم بطبيعتهم يهابون أو بحكم أعمالهم البدنية تعوزهم تلك النخوة التي تنبعث منها الشجاعة الصادقة، ويبدو عليهم كأنهم أشد بني آدم تعطشًا إلى الدماء.
وإننا لفي هذا الزمن الذي لم نكد فيه نتنفس في أعقاب الحرب الشعواء المرهقة التي أهدرت الدماء والأموال على نحو لم يسبق له مثيل في القارة الأوروبية، نرانا أمام طوائف ثلاث من الخطباء يجتهدون اجتهادهم في إثارتنا على أصدقائنا والاندفاع بنا إلى حرب مع البرتغال، وحرب مع هولندا، وحرب مع مستعمراتنا.
فأما الحربان الأوليان، فليس في نيتي أن أبحث فيما تنطويان عليه من الحكمة والإنصاف؛ إذ لا أحسب أن إنجليزيًّا يخامره الشك — إذا كان الهولنديون قد أساءوا إلى أجدادنا قديمًا قبل مائة وخمسين سنة — أن الانتقام منهم واجب في أية لحظة كائنًا ما كان مبلغ الصداقة بيننا بعد تلك الإساءة، وأن البرتغاليين — إذا كانوا يشترون ثيابهم من الفرنسيين بأثمان أقل من أثمان الثياب عندنا — حقيقون بأن نوسعهم ضربًا حتى يثوبوا إلى الصواب، ويتخذوا لهم رأيًا غير ذلك التفضيل والإيثار.
فإذا سلمنا أننا من القوة والبأس بحيث نقدر على ضرب هولندا والبرتغال معًا، لسبب أو لغير سبب، ومعهم أصدقاؤهم الذين ينتصرون بهم أو بمعزل من أولئك الأصدقاء، وعلينا أعداؤنا الذين يستثيرهم ذلك الصنيع أو بمأمن من أولئك الأعداء، وسلمنا كذلك أن الهولنديين أيضًا خليقون أن يبضوا لنا بالنفقات اللازمة للقتال، إذا سلمنا ذلك جميعًا فلا غرض لي إلا أن أضع بين يدي ذوي النظر، بكل خشوع، فرضًا يخطر على البال؛ وهو أن تكون لنا على تلك الفروض وسيلة أخرى لفض الخلاف بين وزرائنا الأسبقين ومستعمراتنا بوسيلة غير قطع الرقاب!
وكل خطوة تقودنا الآن إلى السخط على أمريكا، تتطاير النشرات والصحف ويضج خطباء القهوات بالأكاذيب التي تقول عنها أنها ثائرة عاصية، وتستدعي القوة والأساطيل والجحافل للذهاب إليها، وما يوجد منها هنالك ينبغي أن يُستدعى من الأرجاء النائية لاحتلال العواصم الكبرى، وينبغي كذلك أن يساق رءوس القوم إلى البلاد الإنجليزية لتعليقهم على المشانق وما شابه ذلك، ولماذا كل هذا؟
لماذا؟ أتسأل لماذا؟
نعم، أرجو أن يؤذن لي أن أسأل: لماذا؟
وجواب لماذا هذه أن القوم يبغون إسقاط الحكومة في هذه البلاد وإقامة أنفسهم في مقامها.
فكيف بدأ ذلك كذلك يا ترى؟
تقول: كيف بدأ؟ أليسوا جميعًا يحملون السلاح؟
نقول: كلا، بل هم جميعًا في سلام.
– أفلم يمتنعوا عن أداء التعويض للمصابين في حوادث الشغب الأخيرة كما طلبت الحكومة هنا؟
– كلا، بل هم قد بذلوا الترضية الوافية، وهي — على فكرة — ترضية لم تبذل هناك لضحايا الشغب الذي حدث منكم هنا.
– أفلم يشعلوا النار في دار المكوس والجمرك؟
– كلا، إن القصة كلها أكذوبة ملفقة لا أصل لها على الإطلاق.
– أفلم يتمردوا على القانون البرلماني الذي ينص على إيواء الجنود؟ فلم يرسلوا إلى الحكومة هنا طالبين إلغاء الحجر على تجارتهم، وإلغاء قانون الملاحة بهذه المثابة؟
– إن الجمعية في ولاية واحدة — ولاية نيويورك — هي التي أنكرت ذلك القانون، وإن بعض التجار في تلك الولاية هم الذين اجترءوا على ذلك الطلب. فإذا سلمنا أن الإنكار والطلب خيانة عظمى، فهل نسلم أن خمسًا وعشرين ولاية تعاقب بجريرة ولاية واحدة؟
هلموا ننظر في سكون في معنى ذلك القانون، ومعنى إنكاره، ومعنى الطلب من أولئك التجار.
إن القانون قد صدر من نفس الإدارة التي أصدرت قانون الدمغة، ولعله قد أريد به تيسير إرهاب الولايات لإخضاعها لحكمه، ولهذا اشتملت نسخته عند تدوينها لأول مرة على فقرة تخول ضباط الجيش أن ينزلوا الجنود في المنازل الخاصة بأمريكا، ولما عورضت هذه الفقرة أشد المعارضة، انتهى الأمر بحذفها والاكتفاء باستئجار المساكن الخالية والأنبار (مخازن الغلال) لإيواء الجنود حيث يزودون بالوقود، والمصابيح، والفراش، وأدوات الطبخ وتهيئة الطعام، مع خمسة أكواب من الجعة أو السدر، أو نصف كوب من شراب الروم لكل جندي كل يوم، وبعض أشياء أخرى لا تُؤدى أثمانها جميعًا، بل تتكفل بها خزانة الإقليم. وما من وسيلة في الإقليم لجمع المال غير إصدار قانون من مجلس الولاية يوجب تحصيله، وعلى هذا وجب أن ينظر إلى الأمر على اعتباره قانونًا صدر هنا ليعززه قانون يصدر من المجالس الأمريكية، وقد ارتاب بعضهم في صواب هذا الإجراء؛ لأنهم يرون أن المجالس في أمريكا إنما هي برلمانات صغيرة، وليست هيئات تنفيذية أو ديوانًا من دواوين الحكومة يعمل عمله تنفيذًا للأمر الذي يصدر إليه، فإنما هي هيئات مشورة وإبداء آراء ينظر أعضاؤها فيما يعرض عليهم؛ ليتدبروا منافعه وضروراته، ووجوه الصواب والإمكان فيه، ثم يقرروا ما يقررونه حسبما يرونه، فإذا أكرهت هذه المجالس على سن القوانين، على صواب أو على خطأ إطاعة لتشريع تمليه عليها هيئة تشريعية أخرى، فلا نفع لها باعتبارها هيئة نيابية، ولم تبق لها صفتها ولا حقيقة كيانها.
والحق أن القانون البرلماني نفسه يلوح عليه أنه أحس ذلك؛ لأن القوانين الأخرى التي تفرض الواجبات على الأشخاص تنص على عقوبة الرفض والإهمال، وعلى الطريقة التي تتبع في تنفيذ تلك العقوبة، ولم يرد نص كهذا — ولا يعقل أن يرد — في مثل هذا القانون البرلماني عما يطلب من مجالس الأقاليم، فوقع في حساب الأمريكيين أنه طلب تنظر فيه المجالس لتقره أو لا تقره، كله أو بعضه، حسب اختلاف الأحوال بين الأقاليم، ومن ثم قبلته ولاية بنسلفانيا حيث يقل عدد الجنود على العموم، ولم تقبله ولاية نيويورك حيث تعبر الجنود جيئة وذهابًا عدة مرات بين بريطانيا والولايات الفرنسية، وحيث يشعرون بثقل العبء عليهم من جراء تنفيذه، ولهذا قبلت الولاية جزءًا من الطلب ووجهوا خطابًا إلى حاكمهم سردوا فيه أسبابهم بأسلوب مِلْؤُه اللطف والاحترام.
وإن كثيرًا من الناس لَيَبْدُو لهم أن هذا القانون خطأ على التحقيق؛ إذ ليس من اليسير توضيح سبب حسن لإنزال الجنود في مكان من الأمكنة بين مستعمرات الملك جميعًا لتزويدها بشيء ما في مقابلة لا شيء، إنهم يصطحبون معهم صرافًا على الدوام، فلماذا لا يؤدي الثمن لكل ما يحصلون عليه؟
إن هذه التكاليف عبء ينفرد بحمله الإقليم الذي يتفق أن يلقى عليه، وهو من ثم غير عادل وغير سواء، وفي بريطانيا يلقى هذا العبء على أصحاب الخانات ويعتبر كالضريبة التي تفرض على أرباب هذه الصناعة، وفي وسعهم تعويض الغرم بزيادة الأجر على النزلاء وتوزيع الضريبة بهذا الأسلوب على نحو أقرب إلى المساواة، ولكن الولاية التي يتفق أن تتعرض لهذا الغرم لا تستطيع أن تلقيه على ولاية أخرى معفاة منه بحكم موقعها.
إلا أن خطباءنا — خطباء القهوات — ينظرون إلى المسألة نظرتهم ويقررون أن هذا الإنكار الموافق لمجرى القانون عصيان يعاقب بما يلائمه. وإنه لخليق أن يكون إجراء نادرًا ذلك الإجراء الذي يجعل القانون يفرض شيئًا جديدًا ولا يقرر وسيلة تطبيقية، ولا العقوبة التي تترتب على مخالفته، ثم يأتي بعد المخالفة فيقرر هذه وتلك. فتلك فيما أرى أول سابقة من نوعها في شئون التشريع، ولا تحسب في باب الشرائع كما تحسب في باب الفخاخ التي تنصب للرعايا ليقعوا فيها، وكذلك يكون عصيانه ضربًا جديدًا من العصيان؛ إذ كان المفهوم من العصيان دائمًا أن يفعل الإنسان شيئًا، وهذا عصيان يقوم على أن المرء لا يفعل شيئًا من الأشياء. فإن كان كل إنسان يهمل شيئًا في قانون ما أو يدع تنفيذ ذلك القانون يحسب ثائرًا عاصيًا، فإنني لأخشى أن يكون عدد الثوار بيننا أكثر مما نحسب، ومنهم — ولا نحصيهم — أولئك الذين أهملوا تسجيل أوزان الأطباق وسداد الضريبة عنها، وهم فيما أظن غير قليلين، ويصح أن يضاف إليهم أولئك الذين يلبسون الحرائر الفرنسية وما شابهها من فاخر الثياب.
أما قصة الطلب أو العريضة التي سبقت الإشارة إليها، فقد سمعت من بعض التجار أبناء ولاية نيويورك رأيًا يقولون فيه: إن القوانين التي تقيد التجارة في الولايات لا تضر الولايات فحسب، بل يتعداها الضرر إلى المملكة الأم (يعني إنجلترا)، وإنهم ليذكرون الأسباب التي يبنون عليها هذا الرأي وهي جديرة أن تدرس هاهنا. وقد يتبين أنهم على صواب فلا يستحقون الزجر، بل يستحقون الشكر والثناء، وإلا ففي الوسع إلقاء الطلب جانبًا والإعراض عنه، فليس الطلب ثورة ولا عصيانًا، ولكنه في صميمه اعتراف بالسلطان لمن يتقدم الطلب إليه، وأن مقدميه من رعاياه.
بيد أن الآراء المتحيرة تخلق من الحبة قبة في كثير من الأحيان، وحين يكون الذئب قد عقد العزيمة على مخاصمة الحمل، فلا فرق بين وقوفه على اتجاه الماء أو على غير ذلك الاتجاه، وما أيسر ما توجد التعلات أو تخلق إذا لم توجد، ولا مبالاة بالحكمة والإنصاف فإنهما لمن وراء الحسبان!
محادثة عن الرق
قال بعد مقدمة يذكر فيها مناسبة إرسال هذا الحديث «الخيالي» الحقيقي إلى الصحيفة:
فتعلم كيف كان هذا بشهادة العيان.
أما وزر إنجلترا في المظالم الأمريكية، فليذكر سيدي أنها هي التي بدأت بتجارة الرقيق، وأن تجارها من لندن، وبريستول، ولفربول، وجلاسكو يرسلون سفنهم إلى أفريقيا لشراء العبيد. فإذا أساء التجار استخدام الوسيلة في اقتناص العبيد، وإذا شنت الغارات لاحتجان الأسرى، وإذا استدرج الأحرار إلى متون السفن ثم سيقوا إلى الأسر غيلة وغدرًا، وإذا بذلت الرشى للأمراء الصغار إغراء لهم ببيع رعاياهم وهم في الحق طائفة من العبيد — إذا حدث هذا كله فهل تقع جرائر هذه السيئات كلها على عاتق أمريكا؟
إنكم تجلبون العبيد إلينا، وتغروننا بشرائهم، ولست أريد أن أسوغ وقوعنا في الغواية، ولكنني أقول: إنكم إذا سرقتم الناس تبيعونهم لنا ونحن نشتريهم، فلتذكروا المثل القائل: إن المشتري من السارق والسارق سواء، وقد وضع هذا المثل للذين لا يعلمون أن آخذ الشيء المسروق في حكم سارقه، ولكن العكس لم يكن بحاجة قط إلى مثل لتوضيحه؛ إذ ما من أحد يجهل أن اللص كمن يشتري منه في المنكر والسوء.
وإنكم لم تفعلوا هذا وتقنعوا به وتثابروا على فعله وحسب، بل زدتم على ذلك أنكم أنكرتم القوانين التي وضعت في أمريكا لتصعيب تجارة الرق، وفرض الضرائب الثقيلة على الموردين للأرقاء، وأمرت حكومتكم بنقضها لأنها ضارة بمصالح الشركة الأفريقية.
ويسلك فرنكلين مثل هذا المسلك «المنطقي» لإقناع مخالفيه داخل بلاده في مسألة الرق، كما سلكه في مناقشة المخالفين خارج بلاده لإقناعهم في هذه المسألة، وقوام الإقناع عنده في الحالتين أن يأخذ المخالفين له بما يدينون به ويسلمونه، وأن ينبههم إلى أحوالهم التي يغفلون عنها ولا يلتفتون إلى مغزاها، وأن يريهم أنهم يصابون بالحجة التي يسوقونها قبل أن يصيبوا بها غيرهم، وهذا الأسلوب المنطقي أفعل الأساليب في إلزام حجتهم؛ لأنها في النضال المنطقي بمثابة نقل الهجوم إلى معسكر الخصم من داخله ليشتغل بنفسه عن مهاجمة غيره.
خطاب سيدي محمد إبراهيم
سيدي محرر الفدرال جازيت
قرأت أمس في صحيفتكم الغراء خطاب مستر جاكسون في مجلس النواب يستنكر به تعرضهم لمسألة الرق ومحاولتهم تحسين أحوال الرقيق، فذكرني خطابه هذا بخطاب ألقي قبل مائة سنة بلسان سيدي محمد إبراهيم عضو الديوان بالجزائر كما أثبته مارتن في سجل قنصليته سنة ١٦٨٧. وكان هذا الخطاب معارضًا لجماعة الطريقة الصوفية التي توسلت إلى الديوان أن يأمر بإلغاء القرصنة والنخاسة؛ لأنهما تناقضان العدل والإنصاف.
بسم الله. الله أكبر. ومحمد نبيه ورسوله
ترى هل فكر أصحاب هذه الطريقة في عواقب الاستجابة لرجائهم؟ وكيف ترانا نصل إلى البضاعة التي تأتي من البلاد المسيحية، ولا غنى لنا عنها إذا نحن كففنا عن شن الغارة على المسيحيين؟ ومن الذي يزرع لنا الأرض في هذه البلاد الحارة إن لم نتخذ منهم عبيدًا مسخرين؟ ومن الذي يؤدي لنا عمل الخدم في المدن والبيوت؟ ألا يئول بنا الأمر يومئذ أن نصبح نحن العبيد المسخرين لأنفسنا؟ ألسنا هنا أحق بالرحمة من أولئك الكلاب؟
لدينا الآن خمسون ألفًا في الجزائر وحولها ينقصون يومًا بعد يوم إن لم يأت المدد من جديد، فإن كففنا عن اغتنام سفن الكفرة، واسترقاق الملاحين والمسافرين على متونها فلسوف تصبح أرضنا هملًا لا قيمة لنا لانقطاع العمل في زراعتها. وسوف تهبط أجور بيوتنا في المدينة إلى نصفها، وتنفد موارد الخزانة العامة تبعًا لذلك. ومن أجل ماذا كل هذا يا ترى؟ كل ما هنالك أن نرضي أهواء طائفة من أصحاب الأحوال والبدوات يودون لو أننا أطلقنا الأرقاء الذين في حوزتنا فضلًا عن تحريم المزيد من المدد الجديد.
وبعد، فمن الذي يعوض سادتهم عن ضياعهم؟ أتعوضهم الدولة؟ أفي خزانتها كفاية من المال؟ أترى يعوضهم أبناء تلك الطريقة أم في وسعهم هذا التعويض؟ أم هم في سبيل الإنصاف الذي يزعمونه لأولئك العبيد يتجافون عن إنصاف أولئك السادة المظلومين؟ وهبونا أطلقنا عبيدنا، فماذا يصير من أمرهم بعد إطلاقهم؟ إن قليلًا منهم من يعودون إلى بلادهم لعلمهم بالمصاعب التي تنتظرهم هنالك، وهم لا يؤمنون بديننا ولا يسيرون على نهجنا في حياتنا ولا يتبعون عاداتنا، ولا يقبل أبناء قومنا أن يدنسوا أنفسهم بمخالطة أنسابهم. فهل ترانا نستبقيهم بيننا متسولين في طرقاتنا؟ أو ترانا نترك أمتعتنا لمن يريد منهم أن يسرقها ويسلبها؟ إن الذين طال بهم عهد العبودية لن يعملوا لكسب أقواتهم إن لم يجدوا من يكرههم على العمل لها، وماذا لعمري في معيشتهم اليوم من السوء أو مما يستدر الرحمة والإشفاق؟ ألم يكونوا عبيدًا في بلادهم قبل هذه البلاد؟ أليست بلاد الإسبان، والبرتغال، والفرنسيين، والإيطاليين مسخرة في طاعة حكام مستبدين؟ أليست إنجلترا تسوم ملاحيها سوم العبيد وتقبض عليهم حكومتهم كما تشاء لتحبسهم في سفن الحرب وتكرههم لا على العمل وحسب، بل على القتال من أجل رزق قليل أو مئونة تسد الرمق ولا تفضل في شيء ما نسمح به نحن للعبيد. فهل تسوء أحوالهم إذن لأنهم يقعون في أيدينا؟ كلا. بل قصارى الأمر أنهم يستبدلون رقًّا برق، وأقول: إنه لرق خير من رقهم لأنهم يعيشون هنا حيث تشرق شمس الإسلام في روعتها وبهائها، وحيث تتاح لهم الفرصة للاهتداء إلى الدين الحق والنجاة بأرواحهم من الهلاك. أما الذين يمكثون منهم في أرضهم، فلا أمل لهم في هذه السعادة، ولن يكون إرسال العبيد من بلادهم إلا كإخراجهم من النور إلى الظلمات.
وأعود فأسأل: ماذا عسى أن يصير من أمرهم؟ لقد سمعت من يقول أنهم يرسلون إلى القفار حيث تتسع الأرض لمعيشتهم ويقيمون أحرارًا في أرضهم. على أنني أحسبهم لا ينشطون لعمل قط ما لم يدفعوا إليه على الرغم منهم، وإنهم لأغبى من أن ينهضوا بحكومة حرة لحكم أنفسهم، ولن يلبثوا أن يغير عليهم الأعراب من أهل البادية فيستعبدوهم، ولكنهم حين يقيمون في خدمتنا يلقون منا الرفق وحسن الرعاية على سنة الرحمة والمروءة، وليس للعمال في أوطانهم كما أعلم نصيب من ذلك، بل هم على نصيب قليل من الغذاء والمسكن والكساء، فهم على هذا تصلح أمور الأكثرين منهم بيننا، ولا حاجة بهم إلى ترفيه أو إصلاح حال؛ إذ هم هنا في أمان لا يجبرون على الجندية ولا على أن يعمل المسيحيون منهم في قطع رقاب إخوانهم المسيحيين كما يحدث فيما يشجر بينهم من الحروب. فإذا كان أناس من هؤلاء المجاذيب الذين يحتجون بالغيرة على الدين فيما بيننا قد حسن لديهم أن يرفعوا العرائض تترى للإفراج عن هؤلاء الأسارى فما كان ذلك من كرم فيهم ولا من مروءة ورحمة، وإنما هي أعباء ذنوبهم وخطاياهم يرزحون بها ويخيل إليهم أن هذا المطلب خليق — لما يتوهمونه من إحسانه وفضله — أن ينجيهم من الهلاك وسوء الجزاء.
وما أضل هؤلاء المتهوسين حين يحسبون أن الاسترقاق محرم في القرآن؟ أليس أمر السادة بالرفق وأمر العبيد بالطاعة والأمانة نصًّا على جواز الاسترقاق؟ كذلك لا يحرم في الكتاب سلب الكفار؛ لأن المعلوم منه أن الله قد وهب الدنيا وكل ما فيها لعباده المؤمنين يغتنمون ما افتتحوا منها.
فلا نستمعن بعد الآن لذلك الطلب البغيض، ولنعلمن أن إطلاق الأرقاء النصارى يسلط الكساد والخراب على أراضينا وبيوتنا، ويحرم الكثيرين من رعايانا الأمناء طيبات أرزاقهم، فيثير القلق في النفوس، ويغري المتذمرين بالفتنة، ويزعزع مكانة الحكومة، ويعم الديار بالفوضى والاضطراب، ولا يخامرني الشك — لهذا — في أن هذا المجلس الحكيم يؤثر سعادة الأمة المؤمنة كلها على إرضاء فئة من أبناء الطريق، ويعرض عما يطلبون.
إن القول بأن سلب النصارى واسترقاقهم ظلم ومجافاة للعدل، إنما هو على الأقل من الأقوال المختلف عليها، ولكنه من الواضح أن الإبقاء على هذه الحالة في مصلحة الدولة. فلا تقبل تلك العريضة بناء على هذا الاعتبار.
ولما كانت البواعث المتشابهة تميل بعقول الناس إلى ما يشببها من الآراء والقرارات، أفلا يجوز لنا — يا مستر براون — أن نستخلص من ذلك أن العرائض التي أرسلت إلى برلمان إنجلترا لإلغاء النخاسة، ولا نذكر ما عدا ذلك من المطالب، وشيكة أن تصير كما تصير المناقشات فيها إلى مصير كهذا المصير.
معاهدة مع سيدة
باسي، في ٢٧ من يوليو سنة ١٧٨٢
ما أبعد الفارق بينك وبيني! إنك تعدين عيوبي كثيرة حتى لقد تربى على الإحصاء، وأنا لا أرى لك إلا عيبًا واحدًا لعله من عيوب نظارتي، ذاك ضرب من الطمع يوحي إليك أن تعظمي عاطفتي وتستأثري بها وحدك، حتى لا بقية فيها لواحدة من سيدات وطنك المحبوبات، وكأنك تحسبين أنها من العواطف التي لا تقبل القسمة إلا نقصت وتفرقت، وهي غلطة في الحساب وفي النظر إلى طبيعة الموقف الذي وقفتني فيه وقضيت به عليَّ. فإنك تجردين حبنا من كل صلة جسدية غير ما يكون من عناق كعناق أولاد العم عند مقدمهم من الريف. فماذا بقي من العاطفة مما يسوغ لي أن أتجه به إلى الأخريات دون أن يغض ذلك أو ينقص من محبتي إياك؟ إن خطرات الفكر، والتقدير، والإعجاب، والتوقير، بل العطف نفسه على موضوع من موضوعاته ليقبل المضاعفة والزيادة كلما تضاعفت تلك الموضوعات وازدادت دون أن يخل ذلك بحق صاحب العطف الأصيل، أو يسوغ له الشكاية من ضرر. وإنه لفي طبيعته من قبيل تلك الألحان العذبة التي توقعينها على المعزف ببراعتك الألمعية، ويستمع لها عشرون، فيغتبطون بسماعها، ولا يغض ذلك من نصيبي الذي تريدين أن يخصني منها، وقد يحق لي إذن أن أطالبك بمنعها أن تصل إلى أذن غير أذني. وسترين على هذا كيف جاوزت بمطالبك حد العدل والنصفة، وزدت عليها إعلان الحرب عليَّ إن لم أذعن لجميع تلك المطالب، ولو أنصفتني لكان من حقي أنا أن أشكو إليك. وها هو ذا ولدي الصغير لم يسمن ولم يكتنز كعهدي بالأطفال في رسومك الرشيقة، بل هو يهزل ويتضوع إلى غذائك المريء الذي تنكرينه عليه أنت أمه الحنون، ثم هأنتذي تتوعدينه بقص جناحيه كي يقعد عن البحث عنه في مكان.
ويخيل إليَّ أن الحرب التي تشهرينها لا أغنم منها ولا تغنمين، ولما كنت أنا الأضعف وجب عليَّ أن أصنع ما يصنعه الأحكم، وأن أبدأ بطلب الصلح، ولا ضمان لدوام الصلح إلا أن تصاغ شروطه في قالب الإنصاف وتبادل الرضا والموافقة، وهذه هي مواد المعاهدة التي أعرضها للقبول والإبرام:
- المادة الأولى: يتقرر السلام الدائم مع الحب والصداقة بين الطرفين مدام بريون، ومستر فرنكلين.
- المادة الثانية: لدوام هذه العلاقات تقبل المدام من جانبها أن يكون مستر فرنكلين على استعداد لتلبية الدعوة كلما خطر لها أن تدعوه إلى حضرتها.
- المادة الثالثة: على مستر فرنكلين أن يبقى بعد حضوره طالما سمحت له بالبقاء.
- المادة الرابعة: إذا وجد معها فعليه أن يتناول الشاي، وأن يلعب بالشطرنج، وأن يستمع إلى الموسيقى، وأن يستجيب لكل أمر يصدر إليه من جانبها.
- المادة الخامسة: عليه ألا يحب امرأة قط غيرها.
- المادة السادسة: والمذكور فرنكلين يتعهد من جانبه أن ينصرف من عندها حين يشاء.
- المادة السابعة: ويتعهد المذكور أيضًا بالتغيب كما يشاء.
- المادة الثامنة: وأن يفعل ما يشاء حين يكون في حضرتها.
- المادة التاسعة: وألا يحب امرأة أخرى إلا بمقدار ما عندها من دواعي المحبة.
بين العلة والمريض
وكان السيد بريون قرين السيدة بريون يشكو مرض النقرس الذي أصيب به فرنكلين وحاول كعادته أن يلطف ألمه باستخراج العبرة منه، فكتب الحوار الآتي مع رسالة إلى السيدة للتسرية عن قرينها في مرضه، وتكلم عن النقرس بضمير المؤنث وسماه السيدة على سبيل التهكم، فترجمناه بأم النقارس لتصوير العلة في هذه الصورة بقدر المستطاع:
ولتنظر إلى صديقتك في أوتيل — تلك المرأة التي تلقت من الطبيعة نصيبًا من العلم الحق أوفر من أنصباء ستة منكم أدعياء الحكمة الذين يقتبسونها من الكتب، فإنها حين تنوي أن تشرفكم بزيارتها تمشي على قدميها من الصباح إلى المساء، وتدع أمراض الكسل كلها تتوزع بين خيلها، فانظر كيف تحافظ على صحتها بل على محاسنها، وأنتم تنوون زيارة أوتيل ففي المركبة تذهبون، ولا فرق بين المسافتين: من أوتيل إلى باسي، أو من باسي إلى أوتيل.
الرفق بالحيوان
حضرة السيدة النابهة العلية الشأن والمقام
بلغتنا الساعة نبذة من خبر مرعب نغص علينا سعادتنا التي ننعم بها في حظائر الطير والغاب لديك. بلغنا أنك لما سمعته من بعض الوشايات من أعدائنا (الأب موريليه، والأب روس) قد حكمت علينا بالنفي، وأننا سنعتقل بوسيلة شيطانية، ونحبس في باطية، ويقذف بنا إلى أعماق النهر، حيث نترك فيه لرحمة الأمواج، وإننا لنسمع في هذه اللحظة التي نكتب فيها هذه العريضة المتواضعة ضربات المطارق في أيدي الحوذية الذين عهد إليهم بصنع الآلة الجهنمية التي فيها هلاكنا.
ولكن — سيدتنا علية الشأن — أتسمحين أن يقضى علينا هكذا دون أن يستمع للدفاع من جانبنا؟ وهل تريننا وحدنا من الذين تطعمينهم وتغذينهم نحرم ما في صدرك الحنون من العطف والشفقة؟ إننا نرى يدك الكريمة كل يوم تطعم مئات الفراخ، والكنار، والحمائم التي لا عداد لها، كما تطعم عصافير الجيرة أجمعين، وأسراب الشحارير في غاب بولون، بل تسخو بالطعام والشراب حتى للكلاب في هذه الرحاب، فهل نحن وحدنا نحرم هذه الخيرات من يدك ولا يكفينا هذا، بل نصبح دون غيرنا هدفًا للقسوة التي لا مكان لها بين مآثرك وسجاياك؟ كلا، إن سجاياك التي انطوت عليها فطرتك البارة ستعيد إلى قلبك من عواطف الحنان ما هو أشبه بهذا الحنان.
وا أسفاه! ما هي جرائمنا التي اجترحناها؟ إننا نتهم — وما أكثر ما تفعله الوشايات والتهم — أننا نأكل الفراخ الصغار، ونغير من حين إلى حين على الحمائم، ونرقب طيور الكنار حتى تدنو منا فنقبضها وندع الفيران تعيث في دارك آمنة مطمئنة!
لكن هل يكفي مجرد الاتهام للإدانة بالإجرام؟ إننا لنستطيع أن ندحض هذه التهم جميعًا في غير عناء، وينبغي أولًا ألا ننسى أنها لا تقوم على بينة أو برهان.
فإذا سلمنا أن هناك بقية من أجل الحمائم وريشها تقدم في معرض البينة على إدانتنا، فهل تصلح هذه البينة للإدانة أمام محكمة من المحاكم على وجه الأرض كلها؟
إن الجرائم يخلقها العوز، والحاجة، ونحن بحمد الله في رحابك ثماني عشرة قطة ننعم بالخير الجزيل، ولا نشعر بالعوز ولا بالحاجة؛ فهل يعقل مع هذا أن نخدش اليد التي تطعمنا؟ ألم تبصري بعينيك فراخك تدنو منا، وتأكل معنا في صحافنا، ولا تعترضها حركة مسيئة من جانبنا؟ وإذا قيل لك أننا لا نلتهم الفراخ ونحن نحس رقابة الأعين علينا، وإننا تحت جنح الظلام نجترح ما نجترح من جرائمنا، فإنما هم أعداؤنا الذين يستترون بجنح الظلام لافتراء الأقاويل علينا، ويحق لنا أن نرميهم بذلك؛ لأنهم ينسبون إلينا الجرائم الليليلة التي يدحضها مسلكنا في وضح النهار.
وقد يقول أعداؤنا: إن حظائر سيدتنا العلية الشأن تكلفها خمسة وعشرين لويزًا ذهبًا (أي ستمائة ليرة في العام) وإنها لا تأكل منها أكثر من خمسين، يحسب ثمن الواحدة باثنتي عشرة ليرة لحسن تدبيرها وعنايتها بنفقتها، فأين تذهب البقية يا ترى؟
ولنا أن نسأل أولًا، هل عدت الفراخ وسلمت إلينا فنحن مسئولون عنها؟ وهل نحن دون غيرنا موضع الشبهة بين أولئك الأعداء المحيطين بها وأولهم أبناء آدم وحواء الذين يخالون أن الفراخ لم تخلق في هذه الدنيا إلا ليأكلوها؟ في كل يوم من أيام الآحاد يقدم على باب غاب بولون وفي منتديات أوتيل مئات من صحاف اللحم المفروم. أفلا يجوز أن يكون بعض فراخك قد تسرب في لطف إلى تلك المنتديات؟ إن كان ذلك كذلك، فلم نكن نحن يقينًا من يتولى تسليمها إلى أصحاب المطاعم والحانات.
وبعد، فنحن لا نريد أن نقف موقف الاعتذار لسارقي الدجاج، ولكنك — سيدتنا — تسمحين لنا أن نلاحظ أن فراخك على اختلاف الأسباب التي تنقصها وتقلل من عددها، إنما يجري هذا النقص فيها على سنن الطبيعة، ويعود عليك بالراحة والرضا؛ لأنه يحد من تكاثر نوعها وزيادتها على مقدارها، ولو أنها تركت تنمو وتتكاثر بغير حد مقدور لم يبق في رحابك متسع لها، ولم تترك لك فترة للراحة من رعايتها.
أما التهمة التي رمينا بها من أجل طيور الكنار، فإنك لترين عفوًا بغير عنت أنها محض سخافة وتلفيق؛ فإن فتحات القفص الكبير الذي تقيم فيه أضيق من أن تتسع لمدخلنا، وربما خطر لنا من باب اللعب واللهو أن نزج بأيدينا خلالها، فلا نقدر على إخراجها بعد ذلك بغير جهد ومشقة، وقد يحدث أحيانًا أن نسري عن أنفسنا بالنظر إلى تلك الخلائق الصغيرة البريئة، ولا نذكر أننا ندين أنفسنا بإهدار قطرة واحدة من دمها.
ولسنا نحاول أن ندافع بمثل هذا الدفاع عن أنفسنا فيما يخص العصافير، والشحارير، والزرازير التي نتمكن من اقتناصها، إلا أننا نسوق في مساق المعاذير أن عدوينا الأبوين طالما اشتكيا هذه الطيور، واستنكرا منها تلك المتالف التي تصيب بها أشجار الكراز والثمرات، وكثيرًا ما سمعنا الأب موروليه يصب اللعنات على الشحارير، والزرازير التي تغير على كرومك بغير رحمة، وتصنع مثل صنيعه بتلك الكروم، ونحن نرى — سيدتنا علية الشأن — أن العنب أهل لأن تأكله الشحارير كما تأكله الآباء، وأن حملتنا على النابهين المجنحين تذهب سدى إن كنت مع هذا تشجعين النابهين بغير ريش على انتهاب أضعاف ما ينتهبه المجنحون.
وخاتمة التهم التي نرمى بها — سيدتنا علية الشأن — أننا نترك دارك عرضة لذلك الجيش من الفيران يغير عليها في أمان، ويقال: إنها تقرض المقادير الجمة من السكر، والحلوى، وتعدو على كتب علمائك وحكمائك وتجترئ حتى على قرض أخفاف وصيفتك القديمة الآنسة لويلييه وهي تلبسها وتمشي فيها.
ويقال في سياق الاتهام: إن العناية الإلهية التي ترعى جميع خلائقها في الحقيقة على السواء لم تخلق القطط إلا لاصطياد الفيران، فإن هي قصرت في هذه المهمة فلا جزاء لها على التقصير في رسالتها الإلهية غير الإغراق.
والحق — يا سيدتنا العلية الشأن — إنه لمن أيسر الأمور أن تنكشف هذه التهمة عن أهواء أعدائنا وأغراضهم الشخصية، فإن السيد كابانيس نزيل قصرك الذي لا يزال على استعداد لاختلاس قالب من السكر كلما سنحت له الفرصة، لذو مصلحة عظيمة في إقناعك بجسامة جشع الفيران كلما قرضت قطعة من السكر، أو شرعت في لحس قدر من المربى قبل أن يصل إليها، غير أنه يفتر عن القسوة — لا عن الغرض فحسب — إذ يقضي علينا بالموت؛ لأننا لا نحول بين تلك الخلائق الصغار التي تغتنم ما تقدر عليه من الفرصة لاستغلال خطة النهب التي يقترفها — على جلالة قدره — كل يوم بغير أسف وبغير ندم، أفي وسعه يا ترى أن يشتط في قسوته وراء هذا الشطط لو أننا نحن كنا مثله ومثل الفيران من آكلات السكر والمربى؟ ألا يظهر من هذا جليًّا أن النهم وحده هو الذي يوحي إليه بمثل تلك البواعث النفسية المنكرة، وهل تسمحين أنت أن تفسحي لها مكانًا في صدرك الحنون؟
وهذه البراهين على قوتها ليست هي عذرنا الوحيد بين يديك من التلف الذي توقعه الفيران بما في دارك. آه أيتها السيدة العلية الشأن، بأي ضمير يجوز اتهامنا في حين نراك أنت تصحبين كلبيك المتعطشين إلى دمائنا، فلا نجترئ على الاقتراب منك لأداء واجب التحية التي تنبغي لسيدتنا؟ كلبان اثنان، يكفي هذا يا سيدتنا وأنت لا يخفى عليك أنهما من نوع تربى على بغضنا ويملؤنا الرعب كلما استمعنا إلى نباحهما على مقربة منا، كيف يجوز لأحد أن يظلمنا بالملام إذا ابتعدنا عن الأماكن التي تقيم فيها حيوانات بهذه الضراوة وهذه الكراهية المطبوعة لنا، وهذه القدرة على إهلاكنا، وهي طليقة لا يكبح لها عنان؟
ونعود فنكرر الأسف على تلك الأيام التي خلت، وعلى العهد القططي الذي خلفه هذا العهد الكلابي، وقد كانت الحظوظ حظوظنا في أيام دولته، فأما اليوم فكل ما نملكه من العزاء أن نذهب إلى ضريحه، ونروي بدموعنا غصون البان التي ترفرف على مثواه الأخير.
آه، أيتها السيدة العلية الشأن، لتكن ذكرى ذلك القط الحبيب باعثة في صدرك على الأقل شيئًا من الرأفة بنا، ونحن لا ندعي أننا من زمرته؛ لأنه كان منذورًا للعفة من صباه، ولكننا من نوعه على كل حال، ولا يزال طيفه يحوم حول هذه البقاع، ويدعوك أن تنقضي ذلك الحكم الدموي الذي يتوعدنا، وكل ما تسدينه إلينا من البقايا الصالحات موقوف منذ اليوم إلى أواخر أيامنا على المواء لك بوفائنا الدائم، حافظين ذكراه إلى أبنائنا وأبناء أبنائنا جيلًا بعد جيل.
شواغل الشيخوخة
كتبت إليك بضعة أسطر منذ أيام ومعها الوسام، وكان ينبغي أن أكتب إليك أكثر من ذلك لولا أنني فوجئت بفضولي شغلني إلى مساء ذلك اليوم، فاحتملته جهدي، كما أرجو أن تحتملني جهدك الآن. فلعلي أفيض في ثرثرة الفضول بما أجيب به الآن.
وليتني أملك شعوري كالملك المطلق، وأزداد في الحكمة والخير كلما نقصت قواي، ولا نقرس ولا حصاة، إلى أن تحين الوفاة.
على أنها محض أمنية. وماذا تغني الأماني؟ إن الأمور لتجري كما يتفق لها. وقد أنشدت ذلك النشيد ألف مرة في شبابي، ثم بلغت الثمانين فإذا بالمحظورات الثلاثة قد اصطلحت عليَّ، فتعرضت للنقرس، وللحصاة، ولم أملك شعوري كالملوك المطلقين! وكأنني تلك الفتاة المترفة التي نذرت ألا يكون زوجها من طائفة القسس، ولا من الكنيسة المشيخية، ولا من أبناء أيرلندا. فلما تزوجت إذا بالثلاثة يجتمعون في واحد: قسيس أيرلندي من الكنيسة المشيخية.
وإنك لترى إذن أنني أتمنى — لسبب معقول — ألا أكون في الحياة الأخرى، كما كنت في هذه الحياة وحسب، بل أفضل وأسعد ولو قليلًا، ولي رجاء في ذلك لأنني كشاعركم أومن بالله، ويؤيد هذا الرجاء أنني أرى في آيات خلقه دلائل القصد والتدبير، وهي ظاهرة في إبداعه وسيلة التناسل والتجديد التي تعمر عالمه بالنبات والحيوان بدلًا من خلقها كل مرة من جديد، وظاهرة كذلك في جعل الأشياء قابلة للرجوع إلى عناصرها الأولى؛ كي تصلح لاستخدامها في تركيب بعد تركيب بدلًا من خلق مادة جديدة في كل حين، وهكذا قد يتركب الخشب من التراب والهواء والنار، ثم يعود بعد انحلاله ترابًا، وماء، وهواء، ونارًا، وكلما نظرت فلم أر شيئًا يفنى ولا قطرة ماء تضيع في الغمار لم يسعني أن أتصور فناء الأرواح، ولا أن أعقل أنه يدع الملايين من العقول تزول، وينشئ في مكانها عقولًا أخرى بادئ ذي بدء كأول مرة. ولهذا أرى نفسي في الدنيا وأعتقد أنني باقٍ فيها على صورة من الصور، وإنني على كل ما في الحياة الإنسانية من النقائص والنقائض لا أمانع في إخراج طبعة جديدة مني، على أمل في تصحيح الأغلاط التي كانت تشوب الطبعة السابقة.
أعيد إليك مذكرتك عن الأطفال الذين تلقاهم ملجأ اللقطاء في باريس من سنة ١٧٤١ إلى سنة ١٧٥٥، وقد أضفت إليها السنوات السابقة منذ سنة ١٧١٠ مع بيان تسجيلات التنصير وإحصاء السنوات اللاحقة إلى سنة ١٧٧٠، ولم أستطع العثور على غير هذا الإحصاء، وفي الهامش ملاحظات على التدرج في الزيادة من اعتبار الطفل عاشرًا إلى اعتباره ثالثًا بين المواليد. وقد مضت خمس عشرة سنة منذ ذلك التاريخ، فلا يبعد أن النسبة قد وصلت اليوم إلى النصف! فهل من الصواب تشجيع هذا النقص في حاسة العطف الطبيعية؟ إنني لقيت طبيبًا هنا يتهم نساء باريس بقلة الصبر أو قلة القدرة على الإرضاع، ويؤكد لي ذلك قائلًا: إنك تستطيع أن تعرف ذلك من النظر إلى صدورهن السوية! فليس فيها نمو أكبر من النمو الذي تراه على ظهر كفي! ومنذ ذلك الحين يلوح لي أن كلامه لا يخلو من الصدق، وأن الطبيعة أحست أنهن لم ينتفعن بالأثداء فكفت يدها عن ملئها، هذا وإن تكن الحالة قد تغيرت بعض الشيء منذ تكلم روسو بفصاحته المعجبة عن حق الأطفال في ألبان أمهاتهم، فأصبح بعض النساء من العلية يرضعن أبناءهن ويجدن في أثدائهن اللبن اللازم للرضاع، وأسأل الله أن تهبط «البدعة» إلى الطبقات الدنيا، فتبطل تلك العادة التي مردن عليها؛ عادة إلقاء الأطفال إلى الملاجئ زاعمات في غير اكتراث أن الملك أقدر على تربيتهم وتموينهم منهن.
وقد اتصل بي من ذوي ثقة أن تسعة أعشارهم يموتون على الأثر مما يفرج عن الملاجئ التي لا تكفي مواردها لولا ذلك للإنفاق على البقية. أما فيما عدا النسوة القلائل من العلية اللائي أشرت إليهن، وفيما عدا غيرهن ممن يضعن أبناءهن في المستشفيات، فالعرف الشائع أن يدعى بالمرضعات من الريف ليعهد إليهن في تربية الأطفال هناك، وفي المدينة مصلحة تعنى بالكشف على المرضعات وإعطائهن الشهادة التي تثبت صلاحهن لهذا العمل، وكثيرًا ما نراهن عائدات إلى قراهن يحملن طفلًا على كل ذراع، ولكن الفئة التي تبلغ بها الطيبة أن تربي أطفالها على هذا النحو قد تعوزها النفقة التي تكفي للتربية، وتمتلئ السجون بالآباء والأمهات المقصرات في هذا الواجب، وإن يكن من العادات المستحبة هنا أن يؤدي المحسنون غرامة أولئك الآباء والأمهات لتسريحهم من السجون، وحبذا لو أفلح المشروع الجديد الذي يدبر الوسائل لتمكين الفقراء من تربية أطفالهم في البيوت، إذ لا مرضع كالأم، أو لا كثير من المرضعات يغنين غناءها، إن وجدن. ومتى بقي الطفل في حجر أمه أيامًا، ولم يعجلوا بإرساله إلى الملجأ، تمكن حبه من قلوب أبويه وبذلا من الجهد فوق ما يبذلانه لكسب الرزق والإنفاق عليه. وإنها لمسألة تعرفها أنت خيرًا من معرفتي، فحسبي ما ذكرت عنها الآن ولا أزيد عليه إلا ملاحظة مقتبسة من تاريخ مجمع العلوم تثني على ملاجئ اللقطاء.
يسير مصرف فلادلفيا سيرًا حسنًا على ما سمعت، وما تدعوه معهد سنسناتي ليس بمعهد من معاهد حكومتنا، بل جماعة خاصة ألفها الضباط في الجيش السابق وتكرهها جمهرة الشعب من أجل ذلك حتى يغلب على الظن أنها ستنحل، وكان المظنون أنها محاولة لإنشاء طبقة وراثية كطبقة النبلاء، وأوافقك على أنها خطأ، ثم أزيد على ذلك أن كل «التشريفات» الموروثة خطأ وسخافة، فإنما الشرف شرف الأعمال الفاضلة لمن يقوم بتلك الأعمال، وليس من طبيعته أن ينقل من إنسان إلى إنسان، وإذا صح أن ينقل من وارث إلى وريث، وجب أن يقسم بين جميع الوارثين، وقل نصيب كل وارث تبعًا لتقادم العهد وازدياد العدد، ودع عنك ما يحدث من الاقتضاب والانقطاع أثناء الطريق.
وظهر أن دستورنا — أو مواد اتحادنا — غير مفهومة لديك، فلو كان المؤتمر — الكنجرس — هيئة دائمة، لكان من الخطر ودواعي الحذر تخويلها السلطان، غير أن أعضاءها ينتخبون كل سنة، ولا ينتخبون ثلاث سنوات على التوالي ولا ثلاث سنوات في خلال سبع سنوات، ويجوز على كل منهم أن يستعاد إذا كانت دائرته الانتخابية غير راضية عن مسلكه، وكلهم من الشعب، ويعودون أخيرًا إلى الشعب بغير صفة دائمة تميزهم، إلا كما تمتاز حبات الرمل في الساعة الرملية، ومثل هذه الجماعة لا يسهل أن تكون خطرًا على الحرية العامة، وأعضاؤها خدام الشعب يجتمعون معًا لخدمة الشعب ورعاية مصالحه، فلا يتيسر لهم أداء واجباتهم ما لم تكن لهم القوة الكافية لحسن أدائها، وليست لهم رواتب مجزية غير الأجور اليومية التي قلما تساوي نفقاتهم، وهم لقلة حظوظهم من المناصب، والرواتب، والمعاشات التي تعطى في بعض البلاد لا يدعو الأمر معهم إلى الدس أو الرشوة أثناء الانتخاب.
وإنني لأتمنى لإنجلترا — العجوز — توفيقًا كهذا التوفيق في نظام الحكومة ولا أراه. فإن قومك يحسبون دستورهم أفضل الدساتير في العالم، ويظهرون الازدراء بدستورنا، ولعله من أسباب الرضا أن يحسن الإنسان ظنًّا بنفسه، وبكل ما ينتسب إليه، وأن نعتقد أن ديانتنا ومليكنا وربة بيتنا خير الديانات والملوك وربات البيوت، ومما أذكره أن ثلاثة من جرينلاند ساحوا نحو سنتين في أوروبا برعاية المرسلين المورافيين فزاروا ألمانيا، والدنمرك، وهولندا، وإنجلترا، وسألتهم في فلادلفيا وهم قافلون إلى بلادهم الأمريكية عما إذا كانوا بعد ما شاهدوه من معيشة الرجل الأبيض بصنع يديه يؤثرون البقاء بيننا؟ فكان جوابهم أنهم مسرورون بما شهدوه من المناظر الكثيرة، ولكنهم يؤثرون المعيشة بين قومهم، وفي ديارهم، وهي لعمرك أرض صخرية لم يجد المورافيون بدًّا عن زيارتها من نقل الطين في سفينتهم من نيويورك لزرع الكرنب فيها.
أشك فيما بلغ مستر دونالد عن تركيب النظارة التي اخترعتها لقوله أنها تصلح لأناس دون آخرين. ويخيل إليَّ أن القول بأن التحديب الذي يصلح للقراءة لا يصلح للنظر البعيد صواب، ولهذا كان لي من قبل نظارتان أبدل بينهما في السياحة؛ لأنني أقرأ حينًا وأحب التطلع إلى المناظر حينًا آخر، ووجدت هذا التبديل متعبًا لا يسعفني في كل وقت، فقطعت الزجاج، ووضعت نصفًا من كل نوع في الحلقة الواحدة، واستطعت بهذه الوسيلة أن أدير بصري علوًّا أو سفلًا مذ كنت أستمر على وضع النظارة فوق عيني، ووافقني ذلك على الخصوص في مقامي بفرنسا حيث وجدت أن النظارة التي تريني صحاف الطعام أمامي لا تريني وجوه الجالسين على الجانب الآخر من المائدة وهم يتحدثون إليًّ. ولا يخفى أن الأذن إذا لم تكن قد تعودت على تمييز لهجة الكلام في لغة من اللغات، فنظرة العين إلى ملامح المتكلم تساعد على الإيضاح، وهكذا أصبحت أفهم الفرنسية بمساعدة النظارات.
إني أرشح لترجمة رسالتك الشخص الوحيد الذي أعرف أنه يفهم الموضوع كما يفهم كلتا اللغتين، وهذا عندي هو شرط المترجم، وإلا تعذر عليه إتقان الترجمة، وهو الآن مشغول بعمل لا يمكنه من الاشتغال بترجمة الرسالة، وسيفرغ منه قريبًا.
أشكر لك تعليقاتك وأود لو أحصل على غيرها من الكراسات المطبوعة.
وإننا على الدوام مرحبون بالأطفال في أي وقت تشاء أن ترسلهم إلينا، وكل ما ألاحظه أن لندن تستوعب عددًا كبيرًا من أبناء الريف، فمن الحق أن يتسع الريف لمن يعرضهم من أولئك الأطفال، وهذا مع كثرة الذين ينزلون عن حريتهم الإنسانية ليعملوا حينًا عمل الخدم أو يعملوا طوال العمر عمل الجند — برهان في نظري على ازدحام جزيرتكم، ومع هذا نراها تخاف من المهاجرة.
وداعًا أيها الصديق العزيز، وإنني على الدوام صديقك المخلص.
الأعداء في الوطن
باسي في الثاني من شهر يونيو سنة ١٧٧٩
إنني مستريح البال من ناحية تلك المساعي التي يقوم بها «ل» و«ر» للإضرار بي في العدوة الأخرى من المحيط، ومطمئن إلى عدالة المؤتمر — الكنجرس — وأنه لن يصغى إلى تهمة توجه إليَّ دون أن أعلم بها قبل ذلك ويتسع لي الوقت للإجابة عنها، وإنني لأعلم أن ذينك السيدين ينطويان لي على أسوأ النيات، وإن لم أسئ إلى أحد منهما أو أمسه بما يسوغ له أن يشعر بالمساءة، غير أن السمعة الكبيرة التي تحيط بي والمحبة التي ألقاها من القوم هنا، والتوقير الذي يقابلونني به، بل التحيات التي يخصونني بها تحزن ذينك السيدين التعسين؛ التعسين حقًّا بما اشتملت عليه طواياهما من الظلام، والحقد، والغيرة، والشبهة، والحسد، والضغينة. وإن النفس الطيبة ليكفيها ما تجده من الحزن لمصائب الآخرين. أما الذين يزعجهم كل حظ طيب يتملاه غيرهم، فلن يسعدوا قط، ولن يستريح لهم بال، وليس بي من حاجة إلى الانتقام من أمثال هؤلاء الأعداء غير أن أتركهم حيث أوقعتهم طبائعهم الناقمة مجتهدًا أن أحافظ على الخصال التي تجعلني أهلًا للرعاية والتقدير، وكلما دامت لي السمعة التي يحيطني بها الناس، أدمتهم في تلك اللعنة التي يتمرغون بها، ولا يخطر لي أن أغير من خصالي كي أخفف عنهم بعض ما يعانون.
ويدهشني أن أسمع أن وجود حفيدي تمبل فرنكلين معي يستوجب النقمة مني والسعي في إقصائه عني، وأحسب بحق أنني أحسنت بحمايتي هذا الفتى أن يصبح من زمرة المحافظين الإنجليز وإبقائه إلى جانبي في زمرة خدام الجمهورية الأحرار، وأرى من مبادئه الحرة واستقامة خلقه، ودأبه على العمل، وفطنته المبكرة، وكفايته النادرة أنه وشيك أن يكون عظيم النفع لوطنه، وكفى أنني فقدت ولدي، فهل يريدون فوق ذلك أن أفقد حفيدي؟ إنني شيخ في السبعين عمدت إلى رحلة شتوية بإذن الكنجرس، وليس معي من يتولى العناية بي سواه، ولا أزال هنا في بلد أجنبي يكلؤني برعايته البنوية إذا مرضت، ويغمض عيني ويحرس ما عندي من بقية تراث إذا حم الأجل.
إن أدبه في معاملتي ونشاطه ودأبه في عمله يرضيني ويفيدني، وسلوكه في عمل الأمانة على السر — السكرتيرية — لا غبار عليه، وإنني لواثق أن الكنجرس لا يفكر في الفصل بينه وبيني.
والحمد لله أنني ماض على صحة ورضا، وإنني أكبر وأشيخ، ولكنني فيما أظن لم يصبني تغيير كبير في السنوات العشر الأخيرة، ويعاودني النقرس من حين إلى حين، ولكنهم يقولون: إنه إلى العلاج أقرب منه إلى انحراف المزاج، والله يبارككم ويتولاكم.
جواب على تحذير
شكرًا لك على تحذيرك، غير أنني قاربت النهاية من عمر طويل، ولست أبالي كثيرًا بما بقي منها، وإنما هي عندي كالفضلة من الثوب يقول البائع للشاري الذي يلح في المساومة عليها: خذها كما تريد أو بالثمن الذي تريده ولا خلاف بيني وبينك عليها، فما هي إلا بقية، وربما كان أنفع شيء يصنع بالشيخ الذي بلغ هذه المرحلة من العمر أن يحشر في زمرة الشهداء.
بيان عن خدمات وطنية
فلادلفيا في التاسع والعشرين من نوفمبر سنة ١٧٨٨
صديقي العزيز القديم
أرسل مع هذا خطابًا إلى رئيس الكنجرس في الوقت الحاضر أرجو أن تراجعه وتبلغني ما تراه إذا عنَّ لك فيه ما يدعو إلى الملاحظة أو التنقيح، وإنني أعتمد كثيرًا على نصيحتك الأخوية؛ لأنك تعلم ما لست أعلمه عن الأشخاص والأحوال، وأظن أن في الوقت متسعًا قبل تأليف الكنجرس الجديد للتنقيح الذي تشير به، على أن يكون تقديم الخطاب — إذا قدم — إلى الرئيس القديم.
وستجد في خطابي إلى مستر باركلي إشارة إلى «أعمال هامة لم أثبتها في حساب الكنجرس، وأرجو من إنصافه أن يكون لها اعتبار في التقدير». ولكي تكون على علم بهذه الأعمال أبعث إليك مع هذا الخطاب ببيان مجمل عن الخدمات التي قمت بها للولايات المتحدة، ومنها أعمال نافلة لا تتصل بوظيفة السفارة، كعمل القضاء في البحرية، وعمل القنصلية قبل وصول مستر باركلي، وعمل الصرف لمراجعة قوائم المصارفة وسفاتجها، وعمل السكرتيرية عدة سنوات، وسائر هذه الأعمال التي لم أتناول شيئًا عنها، وكانت لها مكافآت ترسل إلى السفراء الآخرين.
أما في أمري أنا بعد عودتي فما أبعد الاختلاف!
رجعت من إنجلترا سنة ١٧٧٥ فتفضل الكنجرس عليَّ بوظيفة مدير مصلحة البريد مشكورًا على فضله، وهي وظيفة أحسب أن لي بعض الحق فيها منذ توليتها تحت التاج، فأصلحت نظامها وضاعفت مواردها، وتركتها لصهري بعد سفري إلى فرنسا يقوم فيها بوظيفة الوكيل، ولم يمضِ غير قليل بعد سفري حتى حولت هذه الوظيفة إلى مستر هازارد. وقد عنَّ للإدارة الإنجليزية قبل ذلك أن تحرمني هذه الوظيفة، فحفظت لي الحق في إعفاء رسائلي الصادرة والواردة من الأجر كما جرى العرف في معاملة المديرين الذين يعتزلون الوظيفة لسبب لا يمس كرامتهم. أما في أمريكا، فإن هذا الأجر قد طلب مني وبلغ نحو خمسين جنيهًا، لكثرة الرسائل التي ترد إليَّ على اعتباري مديرًا سابقًا لمصلحة البريد.
ولما أخذت معي حفيدي تمبل إلى فرنسا رأيت — بعد تعليمه الفرنسية — أن أخرجه في دراسة القانون والاشتغال بعمله، ثم استبقيته لعمل السكرتيرية بعد أن وعدت بهذه الوظيفة، وتكررت تجربتي للسكرتيرين، وتكررت خيبة الأمل فيهم، ولم تزل تتكرر بعد عودتي إلى أمريكا، حتى فات الوقت الذي يشتغل فيه بالدراسة المطلوبة، وانتظمت حياته على غير نظامها، فلما رأيت أنه — لطول مرانته في الأعمال الدبلوماسية — جدير بوظائفها، وهو رأي يشاركني فيه ثلاثة من الزملاء، ندبوه بغير طلب مني للعمل معهم خلال المفاوضات في شئون المعاهدات، رشحته في خطاب الكنجرس لوظيفة السكرتيرية، فكان الرد الوحيد الذي تلقيته على هذا الرجاء الوحيد الذي تقدمت به أمرًا بوقف التعيين وانتداب الكولنل همفري سكرتيرًا في مكانه، وهو سيد قد يكون له العلم بالشئون الحربية كما هو الواقع، ولكنه لم يختبر العمل في الشئون السياسية ولا يعرف الفرنسية، ولا عهد له بالمسلك اللازم في هذه المهمة.
وإنني أفضي بهذا كله إليك — شخصيًّا — إفضاء صديق إلى صديق؛ لأنني لم أتعود الشكاية العامة، ولا أريد أن ألجأ إليها بعد الآن.
وإنني لو استطعت أن أعلم — مقدمًا — أن الكنجرس سيعاملني هذه المعاملة التي لا مجاملة فيها ويستكثر عليَّ توجيه الشكر إليَّ — لم يكن من شأن هذا أن يوهن من عزمي، أو من غيرتي في خدمته وتأييده، وقد أعرف بعض الشيء عن أطوار هذه الهيئات التي تتغير حينًا بعد حين، ويأتي فيها خلف لا يعلم ما قد علمه السلف من خدمات أسديت إلى الهيئة، ولا يشعر بواجب الجزاء عليها، مع بعد القائمين بالخدمة في بلاد أجنبية، وإمعان واحد أو اثنين من الحاقدين وذوي النية السيئة في الدس والتأثير على عقول الأعضاء الآخرين، وإن كانوا من أهل الإخلاص، والإنصاف، والمروءة. ولهذا أوثر أن أطوي هذه الخواطر في أطواء النسيان والكتمان.
وإني لألتمس المعذرة منك — يا صديقي — لما جشمتك من متاعب هذا الخطاب، وإذا حاق بك يومًا ما يقال عن نسيان بعض الجمهوريات للعاملين في خدمتها؛ فاذكر على الدوام أن لك صديقًا قديمًا تكشف له عن ذات صدرك في شخص الخادم المطيع المتواضع.
-
في إنجلترا قاوم قانون الدمغة وكتابته في الصحف ومناقشاته في البرلمان من الأسباب التي يظن أنها انتهت بإلغاء ذلك القانون.
-
عارض قانون المكوس، ولم يتمكن من وقف تنفيذه، ولكنه أقنع مستر تونزند بحذف مواد كثيرة منه، ومنها الملح بصفة خاصة.
-
وكتب فيما بعد ذلك رسائل شتى يفند بها دعوى البرلمان أنه يملك حق تقرير الضرائب في المستعمرات.
-
عارض جميع القوانين الجائرة.
-
قام بمفاوضتين سريتين مع الوزراء لإلغاء تلك القوانين، وشرح ذلك في محضر مكتوب، وقدم في سياق واقترح — على تبعته ومع المخاطرة بالنتيجة — عوضًا عن الشاي الذي تلف في حالة نفاذ الإلغاء.
-
اشترك مع مستر بولان، ومستر لي في جميع الطلبات التي قدمت إلى الحكومة لهذا الغرض، وطبع عدة نشرات على نفقته ينتقد بها إجراءات الحكومة، واستهدف بذلك للسخط والنفور والاتهام أمام المجلس الخاص، وعزل من وظيفة يتقاضى منها ثلثمائة جنيه في السنة، وهي وظيفة مدير البريد، واضطر إلى الاستقالة من جميع أعمال التوكيلات ومكافآتها وهذا بيانها:
جنيه البلد ٥٠٠ من بنسلفانيا ٤٠٠ من مساشوست ١٠٠ من نيوجرسي ٢٠٠ من جورجيا وصدرت الأوامر إلى الولاة الملكيين أن يكفوا عن توقيع كل ترخيص بالصرف لحساب مرتباته من خزانة الدولة، ولم تكن الولايات قد عزلته من توكيلها، ولكنه — مع العلم بضغينة الحكومة الإنجليزية عليه — تعذر عليه أن يخدم الولايات وييسر مصالحها لدى تلك الحكومة، وأحس أن الواجب يقضي عليه باعتزال التوكيلات، فاعتزلها ليفسح مجال العمل فيها لمن هم أقرب إلى القبول عند الحكومة الإنجليزية، ويحمي نفسه أن يلجئها إلى عزله.
ولما قفل إلى أمريكا حض على الثورة، وعين رئيسًا لجماعة «سلامة الوطن» ونظم وسائل الاستيلاء على فيلادلفيا ومقر الكنجرس.
-
أرسله الكنجرس إلى مركز القيادة العام على مقربة من بوستون مع السيدين هاريسون، ولينش سنة ١٧٧٥ لتسوية بعض المسائل مع الحكومات الشمالية والجنرال واشنطون.
-
في سنة ١٧٧٦ أرسل إلى كندا مع السيدين شاس Chase وكارول عابرًا البحيرات قبل ذوبان الثلج، فعمل مع زميليه في كندا على إزالة بعض الشكايات مما كان له أثر في ضم الشعب إلى قضيتنا، وقدم هناك إلى الجنرال أرنولد وبعض خدام الكنجرس مبلغ ثلثمائة وثلاثة وخمسين جنيهًا ذهبًا من ماله على ذمة الكنجرس كانوا في أمس الحاجة إليها، وكان لها نفع كبير في تلك الآونة في الحصول على الأزواد لجيشنا.
وقد كان حين تكليفه بهذه المهمة يجاوز السبعين، فشقت عليه مصاعب الرحلة؛ إذ كان يتنقل بين الغابات في ذلك الفصل القاسي من فصول السنة، ولم يكد يبل من مرضه حتى أمره الكنجرس بالسفر إلى فرنسا، فسلمهم قبل سفره كل ما استطاع جمعه من المال بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف جنيه، وكان ذلك مشجعًا لغيره على إعارة أموالهم لخدمة القضية العامة.
ولم يساوم على المكافآت، ولكنه وعد — باقتراع الأصوات — بمبلغ خمسمائة جنيه مسانهة مع نفقاته ومبلغ ألف جنيه لوظيفة السكرتيرية ومصروفاتها.
ولما أرسلته الهيئة النيابية في بنسلفانيا إلى إنجلترا سنة ١٧٦٤ بمثل هذه المكافأة، سمحوا له بمكافأة سنة مقدمًا لتكاليف السفر وتعويض الخسائر التي لحقته من جراء الانقطاع فجأة عن مباشرة مرافقه الخاصة، ولم يمنحه الكنجرس مثل هذه المنحة بل أنزله في سفينة رثة لا تصلح للملاحة في البحار الشمالية، وحدث فعلًا أنها جنحت عند عودتها، مع سوء تدبير الطعام له على متنها حتى بلغ الشاطئ وهو يكاد لا يقوى على الوقوف على قدميه.
وإن خدماته للدولة وكيلًا ثم وزيرًا مفوضًا لمعروفة للكنجرس كما هي معروفة من رسائله، وربما كانت خدماته الإضافية مجهولة فلا داعية إلى ذكرها.
ثم مضى في عمله ولم يعين له السكرتير الموعود، وقام ببعض الأعمال قبل انفصال زملائه ثم قام بها جميعًا بعد انفراده بمعونة حفيده الذي سمح له أولًا بمقابل للكساء والسفر والسكن ثم بمرتب لم يزد قط على ثلثمائة جنيه في السنة (إلا حين عمل في السكرتيرية للجنة الصلح) وهو فرق في المرتب على مدى سنوات مقداره سبعمائة جنيه كل عام.
-
وعمل وحده بوظيفة القنصل عدة سنوات إلى حين وصول مستر باركلي وبعد وصوله فترات من الوقت لاضطرار ذلك السيد إلى التغيب في هولندا، وبلاد الفلاندر، وإنجلترا، وحدثت خلال ذلك محاولات متتابعة لاختلاس دفعة ثانية وثالثة بعد سداد الدفعة الأولى، وكانت قوائم الحساب عن هذه الدفعات ترد مع كل سفينة وكل بريد، وتستوجب الرقابة المتوالية. ولم يستطع مستر فرنكلين أن يسافر للرياضة والراحة كعادته قبل ذلك مما عرضه للإصابة بمرض قد لا زمه بقية حياته.
ونوجز البيان فنقول: إنه على دأبه وصبره طوال حياته لم ترهقه الأعمال، كما أرهقته خلال السنوات الثمانِ التي قضاها في فرنسا، ولم يعتزلها مع ذلك حتى شهد بشائر الصلح وتمت هذه البشائر بخير. ثم ألفى نفسه في الثمانين من عمره، وهي السن التي تخول من يبلغها بعض الحق في الراحة والاستقرار.
الطيران والحروب
ليس في المسألة سر، ولست أشك أنك إذا أرسلت رسولًا من قبلك أمكنه أن يشاهد مناطيد منتجلفير وشارل المختلفة، ويطلع على جميع التعليمات المطلوبة، وإذا أردت أنت أن تصنع منطادًا فمن الضروري ومن الأوفق في رأيى أن تبعث من عندك برسول ذكي لهذا الغرض، إذ يخشى ألا يلتفت إلى بعض الملاحظات أو يسهو عن العلم بها، فتحبط التجربة ويؤدي حبوطها في هذه المسألة التي يكثر حولها الترقب والاستطلاع إلى تعريضك للملامة الشديدة والمساس بسمعتك. فإنه لمن الضرر الوخيم تجميع الناس في المدن الكبيرة وضواحيها ثم مصادمتهم بالخيبة والغضب. وقد حدث في بوردو أخيرًا أن شخصًا زعم أنه صنع منطادًا يصعده في الهواء وأخذ نقودًا من أناس كثيرين ولم يستطع أن يرفع المنطاد، فهاجت عليه هائجة الناس وعمدوا إلى بيته فهدموه وهموا به ليقتلوه.
وظاهر — كما رأيت — أنه اختراع هام يوشك أن يتجه بالشئون الإنسانية وجهة جديدة، وقد يكون من آثاره أن يقنع ذوي السلطان بخطر الإقدام على الحروب لما في حماية بلادهم من المصاعب — بعد هذا الاختراع — على أقدرهم وأقواهم، ولعل خمسة آلاف منطاد يحمل كل منها جنديين لا تبلغ تكاليفها ثمن سفن خمس من سفن القتال، وأين هو الأمير الذي يتسنى له أن يملأ أرضه بالجند في كل مكان حتى يعجز عشرة آلاف جندي هابطين من السحاب عن إصابته بأخطر النكبات قبل أن يتمكن من حشد القوة اللازمة لصدهم والتغلب عليهم؟
ومما يحزن أن تحول العصبية القومية — كما بدا لك — دون قيام الإنجليز بالتجربة، فإنهم على براعتهم في فنون الصناعة قمناء أن يسبقوا غيرهم إلى إتقان هذا المخترع والانتفاع بكل ما يعود به من الفائدة.
ثمن الصفارة
أعجبني وصفك لجنة الفردوس وبرنامجك الذي درسته للمعيشة فيها. وأقرك كثيرًا على ما ختمت به الوصف حيث تقولين: إننا — في الوقت نفسه — ينبغي أن نستخلص في هذه الدنيا كل ما نستطيع من خير ونعمة. وأرى أننا جميعًا قادرون على أن نستخلص منها فوق ما ننال من خيرها ونعاني أقل مما نعانيه من شرها لو جعلنا بالنا إلى شيء واحد؛ وهو ألا نشتري الصفافير بأكثر من أثمانها.
وتسألينني ماذا أعني؟ وأنت تحبين الحكايات، فاسمحي لي أن أقص عليك إحدى حكاياتي حين كنت في السابعة من عمري، فقد حدث في بعض أيام الأعياد أن امتلأ جيبي بأنصاف البنسات من هبات أصدقائي، فذهبت توًّا إلى دكان اللعب واشتريت منه صفارة سمعت بعض الأطفال في الطريق يصفر بها، فأعجبتني وبذلت في ثمنها كل ما احتواه جيبي.
ورجعت إلى المنزل فطفقت بين جوانبه نافخًا في صفارتي راضيًا عن نفسي مزعجًا كل من فيه من إخواني وأخواتي وأبناء عمي، فلما سألوني عن هذه الصفقة وأخبرتهم بها قيل لي أنني بذلت في الصفارة أربعة أضعاف ثمنها، وذكروني بالطيبات التي كنت قمينًا أن أنعم بها لو لم أبذل فيها فوق ما تستحقه، وضحكوا من حماقتي وغفلتي وأكثروا من الضحك حتى بكيت غمًّا وأسفًا، وساءني من التفكير في الخسارة أضعاف ما سرني من الصفارة.
ونفعتني العبرة فلم تبرح ذاكرتي بعد ذلك، ولم أزل كلما أغريت بشراء شيء لا حاجة بي إليه أعود فأقول لنفسي: لا تبذل في الصفارة فوق ما تساويه، وادخرت نقودي.
ثم كبرت واختبرت الدنيا وراقبت أحوال الناس، فلقيت الكثيرين ممن يشترون الصفارة بأضعاف ثمنها، وأصبحت كلما رأيت إنسانًا يطمع في الحظوة لدى البلاط، فيبدد وقته في التردد على الحشم والحاشية، ويفقد راحته وحريته وفضائل نفسه، وربما فقد أصدقاءه في هذا السبيل — أعود فأقول: هذا الإنسان يغالي بقيمة الصفارة، ويبذل فيها أضعاف ما تساويه.
وكلما رأيت إنسانًا مشغوفًا بالشهرة يزج بنفسه في مشاكل السياسة، ويغفل عن مصالحه، فيجر على نفسه الخراب بهذه الغفلة، أعود كذلك فأقول: وهذا إنسان آخر يشتري الصفارة بأضعاف ثمنها.
وكلما عرفت بخيلًا يحرم نفسه أطايب العيش، وغبطة الإحسان إلى الناس، ومنزلة التقدير والرعاية بين قومه، ومتعة المودة والصداقة بينه وبين خاصته، أعود فأقول لنفسي: يا لك من مسكين! إنك أيضًا تشتري الصفارة بأضعاف ما تساويه.
وكلما التقيت بإنسان من طلاب الشهوات والمسرات يذهل عن تهذيب نفسه وعقله، أو عن تدبير ماله من أجل متعة جسدية تستغويه وتجور على جسده، أناديه في ضميري: أيها المخدوع، إنك تجني الألم من حيث تنشد اللذة، وتعطي الصفارة ثمنًا لا تستحقه.
وقد أرى إنسانًا مفتونًا بالمظهر والزينة، مأخوذًا بغواية البيت الأنيق، والأثاث الأنيق، والعتاد الأنيق مما لا يطيقه ولا تحتمله ثروته، وقد يوقعه في الدين، ويسوقه إلى السجن، فاقول: وا أسفًا؛ إنها الصفارة يشتريها أيضًا بهذا الثمن الثقيل.
وقد أرى الفتاة الحلوة الجميلة تتزوج من الرجل السيئ القبيح فأقول: يا لها من شقوة وخيبة، إنها تعطي الصفارة أضعاف ما تأخذ منها.
وجملة القول أن معظم الشقاء الذي يبتلى به بنو الإنسان، إنما يجنيه عليهم ذلك التقدير الباطل لقيم الأشياء، وذلك البذل المضاعف في ثمن الصفارة.
رسائل شخصية
فيلادلفيا في ١٢من فبراير سنة ١٧٥٦
أختي العزيزة
أشاطرك الحزن في مصابنا بموت أخينا العزيز، وليكن بيننا مزيد من الحب كلما أصبنا بنقص في العدد.
وقد عدت الآن من بعثتي العسكرية ووقتي مشغول بأعمال الهيئة النيابية، وكأنما العناية الإلهية تطالبني بصنوف شتى من الواجبات، فلا أعلم الآن ما سيأتي بعد، ولكني أجد أن شواغلي تزداد كلما بحثت عن الفراغ، وتطلعت إلى الاعتزال.
وإني أفهم أن «بيني» يميل إلى ترك «انتيجوا». وربما كان على حق، ولا مانع عندي.
محبتي للأخ وللأطفال، وإنني يا أختاه العزيزة.
فيلادلفيا في ١٠ من يوليو سنة ١٧٦٤
أختي
العزيزة
نحن جميعًا نشاطرك الحزن في موت كريمتك. وقد كنت أراها دائمًا على خلق عذب محبوب وشمائل طيبة تضاعف الحزن عليها في نفس الأخ ونفسك فوق ما تحتملان، وكل ما نملكه من العزاء في مثل هذا المصاب أن نؤمن بأن الله يعلم ما هو أصلح وأجدر ويقدر على صنع الخير مما يبدو لنا أنه شر. وإنها لسعيدة تلك السعادة التي لا يشعر بها أحد منا وهو بقيد الحياة.
لندن في ٢٧ من يوليو سنة ١٧٧١
وصل إليَّ خطابك الكريم المؤرخ في العاشر من شهر مايو، ويلوح لي أنك تحسين إحساسًا شديدًا بخطئك في التعجل باتهامي حتى ليحق لي أن أقول: إنه الآن دوري في الأسف لملاحظة ذلك الخطأ، فقد تعادلت الحسبة إذن، فلندعها ولا نعد إلى التفكير فيها.
ويخيل إليَّ أنني ذكرت ثمن الكتب في رسالة سابقة ونسيتها الآن، ولكنني أظن أن ثمنها ثلاثة شلنات لكل كتاب.
ولا ريب أن هناك اختلافًا في أمر وجودنا قبل هذا الوجود، وأحسب أن هذه الفكرة قد صدرت عن حسن نية، لتبرئة حكمة الله من تعاسة الخلق في هذه الدنيا بغير جريرة لحقت بهم في دنيا قبلها، وربما كان هذا من الفضول بغير داعٍ لتأييد قصة السفينة، وإذا كان الإله قد شاء أن يلقي عليها سترًا، فقد يكون الاجتراء على كشف ذلك الستر من قبيل التطفل واللجاجة، ولعل نجاحنا في هذه المحاولة لا يربى على نجاح أبوينا في محاولة المعرفة الممنوعة يوم أكلا من الشجرة.
ولست أعني بقولي: إن بني آدم بعضهم شياطين لبعض، إلا أنهم — لارتقائهم على غيرهم من الخلق — لا يعذبهم الخلق الآخرون كما يعذبون أنفسهم. ومن جانبي أنا أراني أتقبل الدنيا على علاتها، وأرى أن أشك في حكمتي كلما فكرت في وجوه صلاحها وإصلاحها، وإني لأبصر من الحكمة فيما أدرك من خلق الدنيا ونظام تدبيرها ما يلهمني أن هناك حكمة تعادلها فيما لست أدركه وأتقصاه. ومن ثم لا تكون الثقة التي عندي بالله دون الثقة التي عند سائر المسيحيين الأبرار.
ويسعدني أن التفاهم الحسن مستمر بينكم وبين آل فيلادلفيا، وقد كان أبونا حكيمًا جد حكيم، وكان من عادته أن يقول: إنه لا شيء أكثر من ظهور أسباب النفور بين المتحابين على البعد إذا اقتربت بهم الديار … ولهذا لم يكن ليستحسن زيارات الآل في الأماكن البعيدة، لأنها تطول ولا يمكن أن تقصر إلى الحد الذي يتركهم على المودة والوئام حين يفترقون. وقد لمست برهانًا على ذلك — العلاقة بين أبي وأخيه بنيامين، فقد كنت يومئذ طفلًا، ولكني كنت أحس الفرق بين عبارات المودة في رسائلهما قبل اللقاء، وبين المناقشات والمجادلات التي تنشب بينهما إذ يقيمان في مسكن واحد. غير أنك أنت أدنى إلى الصواب فيما تختارينه من التوفيق آنة بعد أخرى؛ لإسداء النصيحة من بعيد في شئون الآخرين ومرافقهم، وكله خير ما دام يفضي إلى خير.
وأذكر أنك أشرت في إحدى رسائلك إلى النظارات ورغبتك في إرسال بعضها إليك، وليس لديَّ هذه الرسالة الآن؛ فلهذا أبعث إليك بزوج من كل مقاس من الواحد إلى الثلاثة عشر، وستعرفين المقاس الذي يوافقك بامتحان زوج بعد زوج على كلتا عينيك في النظر إلى مطبوعة دقيقة، واعزلي ما لا يوافقك لكيلا تعودي إلى تجربته مرة أخرى، وإنك لتجدين النظارة التي توافقك بالتجربة والمقارنة على مهل، وهو الأمر الذي لا يتيسر في الدكاكين حيث يعجل الناس باختيار النظارات، فترهق أبصارهم وتضرهم، وأشير عليك بتجربة كل عين على حدة؛ إذ قلما يوجد بين الناس من تتساوى لديهم العينان، ويكاد كل ناظر يعتمد على إحدى عينيه في القراءة والعمل لضعف في عينه الأخرى، أو لأنها أصلح للنظر البعيد. ولهذا تفيد النظارة المتساوية تلك العين المهملة، ولا توافق العين المعول عليها، ومتى عرفت ما يوافقك من النظارات، فاحتفظي بالأقوى منها للمستقبل حين تحتاجين إليها مع الزمن، وقدمي ما تستغنين عنه هدية للأصدقاء.
سنحت لي الفرصة، أثناء انتظار السفينة أكثر من وقتها المعهود — أن أكتب إليك بعدما فاتني، على ما أظن، أن أفعل حين رجوت ابن عمنا وليامز أن ينوب عني في الاعتذار إليك.
وصل إليَّ خطابك الكريم المؤرخ في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر على يد السادة الفتيان الذين حببوا أنفسهم إليَّ وإلى كثير من معارفنا بمسلكهم الحميد. وقد حقق جوشيا أمنية قلبه بالتتلمذ على مستر ستانلي الذي استجاب رجائي بعد طول انقطاعه عن التدريس، فقبل أن يعلمه بعض الدروس، وسُرَّ من سرعة فهمه وتقدمه، ويبدو لي أن جوناثان فتى ذو قيمة، رصين، منتظم، يميل إلى العمل والتدبير، وهي مخايل النجاح في الأشغال، وإني في صحبتهم لجد سعيد.
ولقد سمعت عن عظيم من العظماء كان ديدنه في أمر الوظائف ألا يطلبها وألا يرفضها، وأضيف إليه كذلك ألا يستقيل منها، وقد قلت لأصدقائي: إنني ترقيت إلى تلك الوظيفة على درجات من الوظائف التي هي دونها، وكانت مواردها قبل ولايتي لا تأتي بمرتبها، فأصبح المرتب بعد ولايتي لا يعطى إلا إذا أتت به مواردها، وكانت في السنوات الأربع الأولى لا تقوم بتكاليفها حتى بلغ ديني ودين زملائي عليها تسعمائة وخمسين جنيهًا، فاجتهدت اجتهادي حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من الوفرة والفائدة، واعتقدت من ثم أنني صاحب نوع من الحق فيها، وقد قمت حتى الآن بالأمانة والصدق على أعمالها مما أرضى عني الرؤساء كل الرضا، وهو غاية ما كان يطلب مني في هذه الوظيفة. أما الكتب التي أنفذتها إلى فلادلفيا فقد كتبتها فعلًا قيامًا بواجب آخر، وهو واجبي نحو وطني، ولا شأن له بعملي في إدارة البريد، وإن مسلكي في هذه المسألة لشبيه بمسلكي في مسألة سابقة لها حين كان الرؤساء يهمون باحتضاني، واعتناقي لمساعدتي إياهم في إلغاء قانون خاص بالإيراد، ولا يزال شعوري اليوم كشعوري بالأمس في أمر هذه القوانين التي لا يجوز أن تصدر هنا لتطبيقها في أمريكا، وأنها إذا صدرت وجب السعي إلى إلغائها على الأثر، ولست أعتقد أنني مطالب بتبديل شعوري كلما خطر لصاحب الجلالة هنا أن يغير وزراءه ووكلاءه، وقد كانت هذه عبارتي التي فهت بها لهذه المناسبة، ثم سمعت أنهم — وإن حسبوني حقيقًا باللوم، وفهموا أن الموظف مطالب بمجاراة الوزير على رضًا منه أو على غير رضا — وقد عادوا فنظروا إلى مسلكي الطيب وخلقي الشخصي كما تفضلوا فوصفوه، وقرروا من ثم ألا تنتزع الوظيفة مني.
وجائز أنهم ينكصون عن رأيهم هذا ويعزلونني، ولكنني على ثقة أن شيئًا من هذا لن يبدل من خطتي السياسية، وخطتي التي اطمأننت إليها دائمًا هي ألا أحيد عن خطة في الشئون العامة رعاية لشأن من الشئون الخاصة، بل أمضي قدمًا في عمل الصواب الذي أعتقده، وأدع المصير بين يدي العناية الإلهية. وقد كان مما يسَّر لي أن أستقيم على النهج في صباي أنني كنت صاحب صناعة، وكنت أعلم أنني أقنع بالقليل في معيشتي، ولم يكن من همي يومئذ أن أجمع ثروة كبيرة، وأن أذهب مع الأطماع، قانعًا بما أكسبه من الكفاية من موارد عملي. والآن أخال أن الاحتفاظ بحريتي ونزاهتي أيسر عليَّ بعد أن بلغت النهاية من مراحل عمري، وقلَّت النفقة التي بقيت للبقية منها، وأن ما أملكه الآن ببركة الله وحسن القصد فيه ليكفيني، إلا إذا وقع من الكوارث العظمى ما ليس في حسابي، فلا حاجة بي إلى الزيادة عليه من موارد وظيفة أو إدارة.
أبعث إليك في هذه الفرصة الكتابين اللذين كتبت عنهما، وثمن كل منهما ثلاثة شلنات، وقد كنت في زيارتي السابقة للندن قبل خمس وأربعين سنة أعرف إنسانة تفكر تفكير مؤلفك اسمها «اليف» أرملة أحد الطباعين، وماتت على أثر سفري من إنجلترا، فكان من وصيتها لولدها أن يلقي علانية في قاعة صولتر خطابًا يؤكد فيه أن هذه الدنيا هي الجحيم الحق مقر العذاب والعقاب للأرواح التي أذنبت في حياة أفضل من الحياة، فنفيت إلى الأرض لتجزى على ذنوبها في أسلاخ الحيوان على اختلاف أنواعه، وانقضى زمن طويل منذ اطلعت على الخطاب المطبوع الذي كان يستشهد بالكثير من آيات الكتاب المقدس، ومرماه أننا سنتذكر بعد الموت ما كنا عليه قبل الولادة، وإن كنا ننساه أيام المقام في هذه الدنيا، وأننا نذكر كذلك ما لقيناه من العقاب لنعتبر به ويعتبر به سوانا ممن لم يذنبوا مثلنا، فلا يقعوا في الخطيئة اعتبارًا بما أصابنا.
والواقع أننا نرى هنا أن كل حيوان من الحيوانات الدنيا له عدوه الذي ركبت فيه الرغبات والغرائز والأسلحة التي تمكنه من تخويفه وجرحه والقضاء عليه. أما الإنسان — وهو أرفعها جميعًا — فبعضه لبعض شيطان، وتلك حال تستدعي فرضًا كفرض السيد اليف مع الإيمان بكرم الله وعدله في قضائه للتوفيق بين هذا الإيمان وكرامة العزة الإلهية. إلا أن عقولنا لا تذهب بنا بعيدًا حين نسومها أن تبحث عما كان قبل وجودنا، أو ما سيكون بعد هذا الوجود لقلة التواريخ والوقائع التي بين أيدينا، وإنما يعطينا الوحي معرفتنا الضرورية بهذا، ويقصد غاية القصد على الخصوص فيما أعطانا من المعرفة عما كان قبل وجودنا.
أرجو أن تتابعي الكتابة إلى أصدقائك بفلادلفيا، ومحبتي لأنجالك، وعلى العهد، أخوك المحب الودود.
لندن في ٢٨ من يولية سنة ١٧٧٤
إن الإشاعة التي أشرت إليها، وقيل فيها أنني اقترحت أن أتخلى عن توكيلاتي وأنقطع عن وطني إنما هي أكذوبة خبيثة كما قلت في خطابك، وليست بالإشاعة الكاذبة وحسب، بل هي سخيفة مضحكة؛ إذ هي تفترض على الأقل أنني لا أعرف من الحساب ما أفرق به بين ثلثمائة وألف، وإنهم ليعاودون الإشاعة هنا حينًا بعد حين زاعمين أنني ألتمس الوسائل للعودة إلى وظائف الحكومة، ولعلهم يتمنون ذلك وينتظرونه. فلينتظروا إذن إلى يوم الدين.
إن الله لأعلم بسريرتي، وإنني لآسف أن أتقبل أحسن الوظائف التي ينعم بها الملك هنا ما دامت تلك الأفاعيل الجائرة تسلط على وطني. وثقي أنني لن أصنع شيئًا يمسني في نظرك، أو ينقض المسلك الأمين الذي سلكته حتى الآن في الأعمال العامة، وقد احتفظت بوظيفتي السابقة حتى عزلت منها ولم أعتزلها؛ لأنني لم أكن قد تلقيتها مكافأة من الحكومة، بل ارتقيت إليها بحق الخدمة فيما دونها والأمانة في تلك الخدمة، فجاز لي أن أعتبر لي حقًّا فيها أو حقًّا عليها، ولم أشأ أن أيسر لهم الأمر بالاستقالة لكي يبوء منهم من أراد أن يبوء بمسبة حرماني منها، وقد شرفوني بإخراجي من تلك الوظيفة، فليكن حذري الآن ألا يحملوني المسبة بإعادتي إليها.
وكل هذا أكتبه إليك أنت. أما الدنيا، فربما خطر لها أن هذه التصريحات والتوكيدات أمر لا يقبل التصديق ومحض ادعاء يدعيه المرء لتفخيم شأن نفسه. فلا تطلعي أيتها الأخت العزيزة أحدًا على هذا، فإنما أكتبه إليك لمرضاتك وإراحة ضميرك مما عسى أن يساوره من القلق لسماع تلك الإشاعات.
فلادلفيا في ٤ من نوفمبر سنة ١٧٨٧
وصل إليَّ منك أخيرًا كتاب كريم سرني بما علمته من تمتعك بالصحة، وأنك اتخذت العدة للشتاء كما أنبأتك. ومطالبك مستجابة محترمة، وقد يتعذر عليَّ أحيانًا أن أعرف ما تحتاجين إليه، فأرجو ألا تحجمي أبدًا عن إخباري بكل ما في وسعي أن أعمله لإسعادك في حياتك.
لقد عزمت من قبل أن أعتزل العمل في الهيئة النيابية سنة أخرى؛ كي يتسع أمامي الوقت للسفر إلى بوستون في الربيع، إلا أنني أذعن للإجماع الذي انعقدت عليه آراء بني وطني، فأقروني مرة أخرى على كرسي الرياسة وتمَّ لي الآن أكثر من خمسين سنة في الخدمة العامة.