لقنت
ومرسى القنت في غاية الجمال، وله رصيف طويل، ووراء هذا الرصيف ساحة فسيحة عليها صفَّان من النخل. وفي القنت ساحة عمومية بديعة. وعلو الحصن المسمى سانتا بربارة نحو من ١٦٠ مترًا، وله منظر من أبدع ما يتصور العقل، تسرح منه العيون في غياض القنت وسواحلها المريعة إلى حد طرف الناظور من جهة وفي البحر من جهة أخرى. وللقنت ربض يسمى ربض «سان أنطون».
هذا وقد انتسب إلى القنت أناس من أهل العلم، ترجم منهم ابن الأبار محمد بن أحمد بن محمد بن سفيان السلمي، يكنى أبا بكر، نزل مدينة تلمسان، روى عن أبي محمد بن أبي جعفر، وأبي القاسم بن الجنَّان، وكان متقدمًا في عقد الشروط، له بعض النفوذ في الشعر والكتابة، أجاز لأبي عبد الله بن عبد الحق التلمساني سنة ٧٥٧.
وأبو زيد عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سليمان التجيبي، من أهل القنت، سكن أوريولة من عمل مرسية، يعرف بابن الأديب، حج سنة ٥٢٩، ورجع إلى الأندلس فتولى الصلاة والخطبة بجامع أوريولة مدة طويلة، ودُعي إلى القضاء قلم يقبل، وحُمل عليه في ذلك فاشتغل به نحو شهرين ثم استعفى منه فأُعفي، وكان من أهل العلم والفضل والورع، حافظًا لكتاب الله حسن الصوت به، إذا سمعت صوته عرفت أنه يخشى الله، متقللًا من الدنيا، له بضاعة يتعيَّش من فضلها، فصيح الخطابة غزير الدمع، يبكي ويُبكي إذا خطب، أخذ عن أبي محمد بن أبي جعفر في مرسية هو وبلديُّه أحمد بن محمد بن سفيان السلمي، ولما حج كان معه ابن عمه أبو أحمد محمد بن معطي التجيبي، وكانت حجته سنة ٥٢٩، وكانت وفاته بأوريولة بعد سنة ٥٤٠.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سليمان التجيبي، نزيل تلمسان، من أهل القنت، سكن أبوه أُريولة، أخذ القراءات بمرسية عن نسيبه أبي أحمد بن معطي، وأبي الحجاج النفزي، وأبي عبد الله بن الفرس، ورحل إلى المشرق فأدَّى الفريضة وأطال الإقامة هناك، وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين من أعيان المشارقة، منهم أبو طاهر السلفي المشهور الذي اختص به، وحُكي أنه لما ودَّعه قافلًا إلى المغرب سأله عما كتب عنه، فأخبره أنه كتب كثيرًا من الأسفار ومئين من الأجزاء؛ فسُرَّ بذلك وقال له: تكون محدِّث المغرب إن شاء الله، قد حصلت خيرًا كثيرًا.
قال المترجم: ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه. وممن أخذ عنهم أيضًا أبو محمد العثماني، وأخوه أبو الطاهر، وأبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي، وأخوه أبو الفضل، وأبو القاسم بن جارة، وأبو الثناء الحرَّاني، وأبو الحفص الميانشي، وغيرهم، ومن الأندلسيين أبو محمد عبد الحق الإشبيلي، وأبو جعفر بن مضاء، وأبو عبد الله بن الفخَّار، وأبو محمد اليسع بن حزم وغيرهم. وله في شيوخه تأليف مفيد جَمَعَ فيه أسماءهم على حروف المعجم، ذكر ابن الأبَّار أنه وقع إليه بخطه في سنة ٦٤٠ وهو بتونس، وأنه نقل عنه في التكملة ما نسبه إليه، وقال إنه انتهى إلى تلمسان واتخذها وطنًا له.
وذكر من جملة تآليفه برنامجه الأكبر، وبرنامجه الأصغر، ومعجم شيوخه، والفوائد الكبرى، والفوائد الصغرى كل منها جزء، ومناقب السبطين الحسن والحسين، والأربعون حديثًا في المواعظ، والأربعون في الفقر وفضله، وجزء في الحب في الله، وجزء في فضل الصلاة على النبي — عليه السلام — وكتاب الترغيب في الجهاد خمسون بابًا في مجلد، والمواعظ والرقائق سفران، وكتاب مشيخة السلفي، وروى عنه ابن الأبَّار نقلًا عن أبي طاهر السلفي المذكور قال: أنشدنا أبو المكارم الأبهري قال: أنشدنا أبو العلاء التنوخي بالمعرَّة لنفسه:
قال المترجَم: وسمعت شيخنا الحافظ أبا طاهر (أي السلفي) — رحمه الله — بالإسكندرية يقول: سمعت القاضي أبا محمد الموحد بن محمد بن عبد الواحد بتستُر يقول: سمعت محمد بن علي الكازروني المقرئ بالأهواز يقول: دخلنا على أبي العلاء المعري منصرَفَنا من مكة ونحن جماعة، فسألَنا عن أسمائنا وبلداننا وصنايعنا، فانتسب كل واحد منا، فلما سألني عن صناعتي قلت: أنا قارئ. قال: فاقرأ لي آية من كتاب الله تعالى، فقرأت يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ؛ فبكى المعرِّي بكاءً شديدًا (إلى أن قال): فسألناه أن ينشدنا شيئًا من الشعر فأنشدنا:
مولد المترجَم بلقنت الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة، وتوفي بتلمسان في جمادى الأولى سنة ٦١٠، قال ابن الأبَّار: كتب لي وفاته بخطه شيخنا أبو زكريا بن عصفور التلمساني منها. ا.ﻫ.
وقد ذكر ياقوت في معجم البلدان مدينة لقنت فقال: بفتح أوله وثانيه وسكون النون وتاء مثناه؛ حصنان من أعمال لاردة بالأندلس لقنت الكبرى ولقنت الصغرى، وكل واحدة تنظر إلى صاحبتها. ا.ﻫ.
قلت: ليست لقنت من عمل لاردة؛ لأن هذه هي في الثغر الأعلى من عمل سرقسطة، وهي الآن من عمل كتلونية لا من عمل أراغون التي حاضرتها سرقسطة، فالذي يظهر لنا أنه وقع خطأ في النسخ، فبدلًا من أن يكتب من عمل دانية كتب الناسخ: من عمل لاردة، وهذا وجه، وثمة وجه آخر، وهو أن يكون ياقوت كتب هذا بناءً على ما كان يعلم من أن ابن هود صاحب سرقسطة ولاردة والثغور العليا، استولى على دانية وملحقاتها، وأخرج علي بن مجاهد العامري عنها.
هوامش
وقد ذكر ليفي بروفنسال في مجموعة الكتابات العربية بإسبانية كتابة وُجدت في «غواردامار Guardamar» من عمل القنت، عثروا عليها سنة ١٨٩٧ في كثيب رمل، وهي محفوظة اليوم بدار التحف الأثرية بمدينة مرسية، وخطاه كوفي، وهي: بسملة … لا إله إلا الله محمد رسول الله، تم هذا المسجد في شهر المحرم سنة ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة. أمر ببنائه أحمد بن بهلول بن الواثق بالله المبتغي ثواب الله على يدي محمد بن أبي سلمة عمل بن محمد … البنَّا. انتهى.
وقد أورد بروفنسال ملاحظة أن هذا الأمير الذي أمر ببناء هذا الجامع لم يعرف عنه شيء، ولا يعلم هل جملة «الواثق بالله» هي لقب رسمي تشريفي له أم هي مذكورة بمعناها الحقيقي، وأن المستشرق قديرة ذهب إلى أن هذا الرجل كان من رجال الديوان في زمن عبد الرحمن الناصر، وأنه ورد ذكره مرتين في كلام ابن عذارى في «البيان»، وذلك في حوادث سنة ٣٠٢ وسنة ٣١٣، وأنه في إحدى المرتين مذكور اسمه «أحمد بن بهلول» وفي الأخرى «أحمد بن حبيب بن بهلول»، وليس ليفي بروفنسال على رأي قديرة من أن هذا الشخص هو ابن بهلول نفسه، ولكنه يقول: إن باني هذا الجامع لا بد أن يكون من ذوي المقامات العلية ومن الرؤساء.
وقد ذكر كتابة أخرى وجدت في «القوصر Alcocer» من بلانس Planes من عمل لقنت محفوظة الآن في بلدة الكُوي، وهي كتابة بالخط الكوفي على قبر رجل لم يعرف عنه شيء، وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا قبر عمر بن العاص — رحمه الله تعالى — توفي يوم الجمعة الرابع في شهر صفر …
ووجدت في بلدة طوربيجه Torrevidja، من عمل لقنت، كتابة على قبرٍ الباقي منها يقرأ:
بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد وعلى آله وسلَّم. الحمد لله الذي جعل الموت غاية المخلوقين، وسبيل الأولين والآخرين، وإليه مصير الخلق أجمعين … ولو كره المشركون، فريقٌ في الجنة وفريقٌ … …