خاتمة الجزء الثالث
قد توخَّينا في هذا الجزء إشباع الكلام على شرق الأندلس بما لا تبقى معه حاجة في نفس يعقوب، وجعلنا بداية الإقليم الذي وصفناه ثغر طرطوشة الذي كانت فيه دار الصناعة البحرية، وبقي مدةً طويلة هو الفاصل بين مملكتي المسلمين والنصارى، وكان يقيم فيه ناظر خاصٌّ للمسافرين الذين يطرءُون من بلاد النصارى إلى بلاد المسلمين، وقد تولَّى هذا المنصب في جملة من تولوه القاضي منذر بن سعيد البلوطي الذي صار قاضي الجماعة في قرطبة.
فقد بدأنا جغرافية شرقي الأندلس ببلدة طرطوشة، وتقدمنا منها إلى الجنوب والجنوب الغربي مارِّين ببنشكلة وعقبة أبيشة إلى مربيطر فبلنسية مع توابعها الغربية والجنوبية والشرقية التي منها شارقة والجوفية بحسب قولهم، ومنها البونت. ومن هناك جئنا إلى شاطبة فدانية فمرسية مع توابعها، ومن هذه إلى البسيط وشنجالة من جهة الجوف، وانتهينا بلورقة، ولم نتقدم إلى المريَّة ووادي آش وبسطة مع أنها صارت مصاقبةً لعمل مرسية. والسبب في ذلك هو أن حجم هذا الجزء قد زاد على الكفاية، ثم إن هذه المدن كانت هي الحدود الشرقية والجوفية لمملكة غرناطة بقية ممالك الإسلام في الأندلس، وبقيت نحوًا من مائتين إلى ثلاثمائة سنة هي الحد الفاصل بين الإسلام والنصرانية بعد أن سقط حكم الإسلام عن بلنسية ومرسية في أواسط القرن السابع للهجرة والثالث عشر للمسيح.
فهذه المدن ستدخل معنا إن فسح الله في الأجل بالجزء الذي سيختص بمملكة ابن الأحمر؛ أي مملكة غرناطة، وكذلك لم نُدخل في هذا الجزء جيَّان وعملها؛ لأن إقليم جيَّان هو في الوسط لا يعدُّ شرقيًّا كمرسية وبلنسية ولا غربيًّا كإشبيلية وبطليوس، بل هو في وسط الجزيرة الأندلسية مثل قرطبة؛ ولذلك سندخله إن شاء الله مع إقليم قرطبة في جزءٍ خاص بهما. وليعلم القارئ اللبيب أن هذا الجزء الثالث هو الجزء المودِّع للإسلام في شرقي الأندلس؛ فجميع ما فيه من ذكر ملوك وأمراء وعلماء مسلمين ومساجد وحصون إسلامية قد انتهى في هذا الجزء الذي يتكلم على الإسلام وآثاره وأشخاصه وأشيائه في شرقي الأندلس إلى حد سنة ٦٦٠ بالكثير؛ إذ بعدها خرج الحكم في تلك البقاع من يد الإسلام، وأخذ المسلمون الذين فيها بالمهاجرة إلى مملكة ابن الأحمر؛ أي غرناطة وتوابعها. ومنهم من هاجر إلى إفريقية رأسًا كتونس والجزائر وتلمسان وفاس والرباط وتطوان وغيرها، وبقية منهم بقيت هناك، كانوا يلقَّبُون بالمدجَّنين، ويقول لهم الإفرنج «الموريسك»، فقد كانوا يعملون في المزارع التي استولى عليها الإسبانيون، وكانت الزراعة زاهرة على أيديهم، فكان الإسبانيون لا يستغنون عنهم بحال؛ فبقيت بقاياهم تحت الدجن؛ أي حكم الإسبانيول، من أواسط القرن السابع للهجرة إلى القرن العاشر للهجرة؛ إذ أُخرجوا عند ذلك بأسرهم، ولم يبقَ منهم إلَّا من تنصَّر وتفرنج واندمج اندماجًا تامًّا في أمم النصرانية.
وإليك الآن وصف مختصر لما كانت عليه مملكة المسلمين قبل استصفاء الإسبانيول لها في شرقي الأندلس بقليل، ننقله عن «المعجب في تلخيص أخبار المغرب»، تأليف عبد الواحد المراكشي، فهو يقول في آخر كتابه: وأنا ذاكر بعد هذا ما بقي بأيدي المسلمين من البلاد، وعدد المراحل التي بينها، وقُربها من البحر وبُعدها؛ حتى يتبيَّن ذلك إن شاء الله تعالى. فأول شيء يملكه المسلمون بجزيرة الأندلس اليوم حصن صغير على شاطئ البحر الرومي يسمى «بنشكلة» بينه وبين مدينة بلنسية ثلاث مراحل، وهذا الحصن مما يلي بلاد الروم، بينه وبين طرطوشة مرحلتان أو أكثر قليلًا. ثم مدينة بلنسية، وهي مدينة في غاية الخصب واعتدال الهواء، كان أهل الأندلس يدعونها في ما سلف من الزمان مطيَّب الأندلس، والمطيَّب عندهم حزمة يعملونها من أنواع الرياحين، ويجعلون فيها النرجس والآس وغير ذلك من أنواع المشمومات؛ سموا بلنسية بهذا الاسم لكثرة أشجارها وطيب ريحانها.
وبين بلنسية هذه وبين البحر الرومي قريب من أربعة أميال، ثم بعدها مدينة تدعى شاطبة بينها وبينها مرحلتان. وبينهما مدينة صغيرة تدعى جزيرة الشقر، وسميت جزيرة لأنها في وسط نهرٍ عظيم قد حفَّ بها من جميع جهاتها، فلا طريق إليها إلَّا على القنطرة. ومن شاطبة هذه إلى مدينة دانية التي على ساحل البحر الرومي يوم تامٌّ. ومن شاطبة إلى مدينة مرسية ثلاثة أيام. ومن مرسية إلى البحر الرومي عشرة فراسخ. ومن مدينة مرسية إلى مدينة غرناطة سبع مراحل، وبين ذلك بلاد صغار أولها مما يلي مرسية حصن لُرقة، ثم حصن آخر يدعى بلس، ثم حصن آخر يدعى قلية، ثم بليدة صغيرة تسمى بسطة، ثم بليدة أخرى على مسيرة من غرناطة تسمى وادي آش، ويقال لها أيضًا: وادي الأشي، هكذا سمعت الشعراء ينطقون بها في أشعارهم؛ فهذه هي البليدات التي بين غرناطة ومرسية. انتهى.
قلت: هذا ما ذكره عبد الواحد المراكشي صاحب كتاب المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الذي انتهى من تأليفه لست بَقِينَ من جمادى الآخرة من سنة ٦٢١؛ أي قبل سقوط شرق الأندلس في أيدي الإسبان ببضع عشرة سنة، نقلنا منه أسماء البلاد المشهورة في شرق الأندلس الذي هو موضوع هذا الجزء.
ثم إننا نحبُّ أن نذكر مَنْ سكن من بطون العرب وأفخاذها في شرق الأندلس، فمن هؤلاء بنو قاسم الأمراء الفضلاء، مرجعهم إلى فهر من قريش الظواهر، وكانوا في مدينة البونت عمل بلنسية. ومنهم أناس من بني كنانة، الذين منهم ابن جبير صاحب الرحلة، كانوا في شرقي الأندلس أيضًا. وكان في أوريولة من بني هذيل ابن مدركة بن إلياس بن مُضر، وبجوفي بلنسية من ينتسب إلى هوازن، وكل هؤلاء من العرب العدنانية. وكان في بلنسية كثير من المضرية.
وفي شرقي الأندلس كثير من الأزد؛ فإن كثيرًا من العلماء والأعيان يأتي في نسبته «الأنصاري»، وإذا قرأ القارئ تراجم علماء بلنسية ومرسية وشاطبة ودانية وغيرها من مدن شرقي الأندلس، تجلَّى له وشيج عروق العربية في ذلك الصقع بشكلٍ عجيب، فضلًا عما يتجلى له من كثرة عدد العلماء، والأدباء، والشعراء، وحفَّاظ كتاب الله والقرَّاء، وفحول اللغة، مما قد زال كله تدريجًا بتقلُّص ظل الإسلام عن الأندلس، ورجوعه من حيث أتى، وانحطاطه من حيث علا، بما كَسَبَتْ أيدي أبنائه واستولى عليهم من التنازع والتخاذل، كما سيأتي تفصيله في باب التاريخ؛ فقضوا على أنفسهم بأنفسهم إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ.
مراثي الأندلس
والآن نختم هذا الفصل الذي هو خاتمة هذا الجزء بذكر مراثي الأندلس، بادئين بمراثي بلنسية، التي أشهرها سينية صاحب التكملة ابن الأبَّار القضاعي، وهي التي أنشدها السلطانَ أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص صاحب تونس، موفدًا من قبل البلنسيين إلى الملك الحفصي بالصريخ؛ فاهتزَّ لها وأرسل أسطوله إلى بحر بلنسية، إلا أنه لم يَفُزْ بطائل، واستولى العدو على تلك البلد وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا.
مرثية مجهولة القائل
وهذه المرثية التي لم يذكر في نفح الطيب قائلها:
وفي فاجعة بربشتر يقول الفقيه الزاهد ابن العسَّال من قصيدة:
نثر ابن الأبار فى التأسف على سقوط بلنسية
طارحني حديث مورد جفَّ وقطين خفَّ، فيا لله لأترابٍ درجوا وأصحابٍ عن الأوطان خرجوا، قُصَّت الأجنحة، وقيل: طيروا. وإنما هو القتل أو الأمر أو تسيروا. فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملء الوهاد والرُّبا؛ ففي كل جانبٍ عويل وزَفْرَه، وبكل صدرٍ غليل وحَسْرَه، ولكل عينٍ عِبْرَة لا تُرقأُ من أجلها عَبْرَه. داءٌ خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجَّى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها. وأنذر بها في القوم بُحرانُ أنيجَهْ، يوم أثاروا أسدها المهيجَه. فكانت تلك الحطمةُ طلَّ الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب. أثكلتنا إخوانًا أبكانا نعيُّهم، فلله أحوذيُّهم وألمعيُّهم. ذاك أبو ربيعنا، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءُه في أهله وقومه.
وبعد ذلك أخذ من الأمِّ بالمخنَّق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق. وما لبث أن خرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان؛ فبَرَح الخفاء، وقيل على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردةً ومركبَّةً كما تعطف الفاء. وأودت الخِفَّة والحصافَه. وذهب الجسر والرُّصافه، ومُزِّقت الحُلَّة والسَّهْلَه، وأوحشت الحرْف والرَّملَه، ونزلت بالحارة وقعة الحرَّه، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظباءها على طول الحَسْرَه. فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرَجُهَا، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلِّها، والأصائل وشحوب معتلها؟ دارٌ ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطَّلِّ في أعينها ترددها وحيرتها.
ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطَتْ بجزيرة شقُرِها؛ فآهًا لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كَلْمُه! وبالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق نعتها، وإنما كانت داره التي فيها دبَّ، وعلى أوصاف محاسنها ألَبَّ، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم يعد بعد مُحبِّين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه.
ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمة المتون، وقاضية المنون، ومضمرة نار السجون، ومذرية ماء الشئون. وهو الحادث في بلنسية دار النحر، وحاضرة البر والبحر، ومطمح أهل السياده، ومطرح شعاع البهجة والنضاده. أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها. ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب. وعلَّم سهام الأحزان أن تصيب، ودموع الأجفان أن تصوب، فيا ثكل الإسلام! ويا شجو الصلاة والصيام! يوم الثلاثاء، وما يوم الثلاثاء؟ يا ويح الداهية الدهياء، وتأخير الأقدام عن موقف العزاء! أين الصبر وفؤادي أُنسِيَه، لم يبق لقومي على الرمي سِيَه، هيهات تجد لما مضى من تَنْسِيَه، من بعد مصابٍ حلَّ في بلنسية.
يا طول هذه الحسره! ألا جابر لهذه الكسره؟ أكل أوقاتنا ساعة العُسره؟ أخي! أين أيامنا الخوالي؟ وليالينا على التوالي؟ ولأية عيش نعم بها الوالي؟ ومسندات أنس يعدها الرواة من الغوالي؟ بعدًا لك يا يوم الثلاثاء من صفر، ما ذنبك عندي بشيءٍ يُغتفر، قد أشمَتَّ بالإسلام حزب من كفر، من أين لنا المفرَّ؟ كلا لا مفَر.
كل رزءٍ في هذا الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى تنفرج. كيف انتفاعنا بالضحى والأصائل؟ إذا لم يعد ذلك النسيم الأرج، ليس لنا إلا التسليم، والرضا بما قضاه الخلَّاق العليم.
وما الذي نبغيه، وأي أملٍ لا نطرحه ونلغيه، بعد الحادثة الكبرى، والمصيبة التي كل كبدٍ لها حرَّى، وكل عينٍ من أجلها عبرى؟! لكن هو القضاء لا يُردُّ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومما قاله في ذلك من المنظوم قوله:
ومما صدر عن الكاتب أبي عبد الله محمد بن الأبَّار في ذلك من رسالة:
وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبَّب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداعَ الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لُبَد أسلمها الإسلام وانتظمها الانتثار والاصطلام حين وقعت أنُسُرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزَن، وذهب مع المسْكَن السَّكَن.
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرقها وأغانيها؟ أين حُلي رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها؟ أين أفياؤها تندى غَضَاره، وركاؤها تبدو من خُضاره؟ أين جداولها الطفاحة وخمائلها؟ أين جنائبها النفاحة وشمائلها. شدَّ ما عَطَلَ من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان؟ وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان؟! ثم لم يلبث داء عُقرها أن دبَّ إلى جزيرة شقرها، فأمرَّ عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتُحمت دانية، فنُزحت قطوفها وهي دانية، وبالشاطبة وبطائحها، من حيف الأيام وإنحائها، وا لهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها، وجيَّان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها، كلها رُعيَ كلؤُها، ودُهيَ بالتفريق والتمزيق ملَؤُها، عضَّ الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها، وتلك ألبيرة بصدد البوار وريه، في مثل حَلْقة السُّوار لا مِرية في المريَّة وخفضها على الجوار إلى بُنيَّات لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول ناطقٍ بهات.
ما هذا النفخ بالمعمور؟ أهو النفخ في الصور، أم النفر عاريًا من الحج المبرور؟ ومالأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها، قوِّض عن صوامعها الأذان، وصُمَّت بالنواقيس فيها الآذان؟ أجَنَت ما لم تجنِ الأصقاع؟! أعقَّت الحق فحاق بها الإيقاع؟! كلا بل دانت للسنه، وكانت من البدع في أحسن جُنه. هذه المروانية مع اشتداد أركانها وامتداد سلطانها، ألقت حُبَّ آل النبوة في حبات القلوب، وألوت ما ظفرت من خلعة ولا قلعة بمطلوب، إلى المرابطة بأقاصي الثغور والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيعة، والروضة المريعة، فليت شعري بم استوثق تمحيصها، ولِمَ تعلق البلوى تخصيصها؟ اللهم غفرًا! طالما ضرَّ ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم تقدِّره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور، وربنا الحكيم العليم. فحسبنا التفويض له والتسليم. ويا عجبًا لبني الأصفر! أنسيت مرج الصُّفر ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر؟ دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سعيد.
نونية أبي البقاء الرندي
وهذه النونية التي فاقت في الشهرة قفا نبك، ولم يعهد الناس مرثية بلغت ما بلغته من إثارة الحفائظ، وإرهاف العواطف، فضلًا عن إبداع النظم وإحسان السبك، للعلامة خاتمة أدباء الأندلس صالح بن شريف الرندي المعروف بأبي البقاء الرندي:
مرثية أبي جعفر بن خاتمة
ومن مراثي الأندلس الجديرة بالحفظ هذه المرثية للأديب أبي جعفر بن خاتمة، تاريخ نظمها ٩٠٤ أو ٩٠٥ للهجرة؛ أي في أثناء سقوط غرناطة، وكانت رندة قد سقطت من قبل. وقد أصبتُ هذه القصيدة عند الأخ الفاضل السيد عز الدين علم الدين التنوخي ناموس المجمع العلمي العربي، وذلك عند حصولي بدمشق سنة ١٣٥٦.
قد وصف صاحب هذه القصيدة سقوط مملكة بني الأحمر مدينة بعد مدينة، وكانت صُبابة كأس الأندلس، فذكر رندة، ثم مالقة وبلش، ثم المنكَّب، ثم وادي آش، ثم بسطة، ثم المريَّة، وختم ابن خاتمة مناحَتَه بذكر غرناطة أم البلاد. ومن نسق نظمها يظهر أنه كان مشاهدًا تلك الحوادث القاصمة للظهور، وأن البيان كان عن عيان.
وبينما أنا أختم هذا الجزء وأهيِّئُه للطبع إذ اطلعت في جريدة الصفاء سنة ١٩٣٩ على قصيدة مؤثرة في رثاء الأندلس، وذكرى أيامها الخالية لأبي الفضل الوليد بن طعمة من أدباء إخواننا المسيحيين اللبنانيين، فأحببت تخليدها في هذا الكتاب لمكانها من النخوة الأدبية والنزعة العربية، وهي:
وكان الفراغ من طبع هذا الجزء الثالث من كتابنا «الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية» في رجب سنة ١٣٥٨ وفق أغسطس سنة ١٩٣٩، وذلك بمطبعة السادة عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر. ويليه الجزء الرابع الذي هو أهم أجزاء هذا التأليف؛ ففيه سيدور الكلام على قرطبة أم الأندلس وعلى أواسط الجزيرة الأندلسية كجيان وبياسة وبيانة وماردة وقلعة رباح، وغيرها من البلاد المتوسطة. وكما أحسن الله فيما مضى يحسن فيما بقي بكرمه تعالى ومَنِّه.