مربيطر
تأمل في الحروب الكارلوسية التي نشبت فيما بينهم، وفي الحرب التي وقعت بين الفرنسيس والإسبانيين عندما زحف بونابرت على إسبانية. وتأمل أيضًا في الحرب الأهلية الواقعة بينهم اليوم بينما نحن نكتب هذه السطور سنة ١٩٣٨م، كم استبسل فيها الفريقان: الحزب المحافظ من جهة، والحزب الاشتراكي والشيوعي من جهة أخرى، وكم احتقر الموت كل منهما. إنك إذا تأملت تقضي العجب من صلابة رءوس هذه الأمة واستخفافها بالمنايا في جانب حقدها وإحنتها، حتى إن الفريق المغلوب منها يؤثر الموت على الاستسلام وإن لم تبق في يده حيلة آثر أن يموت صبرًا بيد عدوه على أن ينقاد إليه ويقبل حكمه. وهذا قد حيَّر جميع الواقفين على وقائع هذه الحرب التي بدأت بين الإسبانيين؛ أي منذ عامين، وتفجرت فيها دماؤهم كالأنهار، وظهرت فيها من الفريقين قسوة في استئصال بعضهم بعضًا لم يكن الناس يظنونها باقية فيهم إلى هذا العصر الذي رقَّت فيه الطباع، وتغيرت الأوضاع.
وكل هذا في الحقيقة يزيد في عظمة شأن العرب الذين غزوا هذه الأمة الشديدة الصليبة في عقر دارها، واكتسحوا بسائطها، وسخروا شُمَّ جبالها ورجالها، وأرغموا معاطس أجنادها وأبطالها، وضربوا عليهم الذلة والمسكنة من جبل طارق إلى جبال البرانس وإلى خليج غشقونية، ولبثوا عدة قرون وهم سادة هذه الأرض لا ينازعهم فيها منازع إلا كبوه على أم رأسه وعدة قرون أخرى وهم في جلاد شديد مستمر مع هذه الأمة الإسبانيولية، التي لا تعرف للموت معنى كما هو ظاهر من ماجريات الحرب التي نحن شاهدوها الآن، فلا جرم أن هذه الحرب أتت بشاهد جديد على فضل العرب إلى مدى لم يكن الناس يتصورونه من قبل، وأثبتت أن الأمة التي تأتي من وراء البحر وتتغلب على أمة صلبة العود كهذه الأمة، وتقارعها مدة ثمانمائة سنة في وسط دارها لهي أمة خارقة العادة في البأس وقوة الإرادة.
ثم نعود إلى حصار القرطاجنيين لمربيطر، فنقول: إنهم توصلوا إلى خرق خط الحصار، ودخلوا من ثلمة في أسوار البلدة؛ فردهم الإسبانيون إلى الوراء بمساعدة الرومانيين، فكر القِرطاجنيون كرات تشيب لها النواصي، وهدموا السور الأول، فشيَّد الإسبانيون أسوارًا ثلاثة الواحد وراء الآخر، وكاد القرطاجنيون يقطعون الأمل من أخذ البلدة، وإذا بالرومانيين قد تخلوا عن الإسبان وتركوا ساحة الحرب، فبعد حصار استمر ثمانية أشهر دخل أنيبال قلعة مربيطر عنوة وقتل أكثر رجال هذه البلدة بذباب السيف؛ لأنهم على عادتهم في حروبهم يفضلون الموت على استسلامهم للعدو، وقد ورد وصف هذا الحصار في كتب باقية من عهد أنيبال أو حن بعل.
وقد استرجع الرومان مربيطر سنة ٢١٤، ولكن لم تعد إلى أهميتها الأولى، ولا نريد أن نقول: إن مربيطر كانت في زمن الرومان كمية مهملة، وكيف يمكن أن يقال ذلك وفيها ذاك المرزح الروماني الشهير للتمثيل، وفيها ملعب الخيل المدهش؟ وكانت مربيطر لعهد الرومان تضرب فيها السكة، وكانت بها معامل خزف هي مضرب الأمثال في نوعها.
فأما ملهى التمثيل الروماني الذي سارت بذكره الركبان، فموقعه على نصف المسافة بين أرض المدينة والقمة التي عليها القلعة، وقد لعبت بهذا الملهى أيدي العامة، فكانوا يبنون من حجارته، ولم تصدر أوامر الحكومة بالمحافظة عليه إلا في أواخر القرن التاسع عشر، فمحل التمثيل لم يبق منه تقريبًا شيء، وإنما بقي أقباء رائعة عند المدخل وأجنحة من مقاعد المتفرجين، وهي مساحة تستوعب ثمانية آلاف مقعد على عدة صفوف تبلغ عشرة لكل صف منها درجات، وهي منفصلة بعضها عن بعض بثلاثة مماشٍ كل ممشى أوسع من الآخر، والصفوف هي أوسع من العليا، وكانوا يصعدون إلى الطبقات العليا بأروقة رحبة ممتدة تحت درجات المقاعد بارتفاعات مختلفة، ولها مخارج نافذة إلى السلالم والمماشي الواسعة. وإن مسارح اللمحات التي تحيط بهذا الملهى من بدائع الطبيعة لتزيد في جماله.
أما ملعب الخيل فإنه يمتد على ضفة وادي بلنسية طوله ٢٨٥ مترًا وعرضه ٧٢ مترًا، ولكن قد تحيفت منه البساتين، وفي القسم العالي منه نهير عليه جسر روماني.
وقد جاء ذكر مربيطر في معجم البلدان فقال: مربيطر — بالضم ثم السكون وباء موحدة مفتوحة وياء مثناة من تحت ساكنة وطاء مفتوحة وراء — مدينة بالأندلس بينها وبين بلنسية أربعة فراسخ، وفيها الملعب، وهو إن صح ما ذكروه من أعجب العجائب؛ وذلك أن الإنسان إذا صعد فيه نزل وإذا نزل فيه صعد.
ينسب إليها قاضيها ابن خيرون المربيطري، وسفيان بن العاصي بن أحمد بن عباس بن سفيان بن عيسى بن عبد الكبير بن سعيد الأسدي المربيطري، سكن قرطبة، يكنى أبا بحر، روى عن أبي عمر بن عبد البر الحافظ، وأبي العباس العذري وأكثر عنه، وعن أبي الليث نصر بن الحسن السمرقندي، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، وكان من جلة العلماء وكبار الأدباء، سمع الناس منه كثيرًا، ولقيه ابن بشكوال وحدث عنه، ومات لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ٥٢٠، ومولده سنة ٤٤٠، انتهى كلام ياقوت الحموي.
قلت: وممن ينسب إلى مربيطر من أهل العلم لب بن أحمد بن عبد الودود بن غالب بن زنون، من أهل مربيطر، ترجمه ابن الأبار في التكملة، وكنيته أبو عيسى. روى عن القاضي أبي عبد الله بن سعادة وغيره، ومال إلى الأدب، وعُنِي بصناعة النظم فبرح وأبدع، قال ابن الأبار: سمعت أبا الربيع بن سالم يُثني عليه، وأنشدني من شعره، ولم يذكر تاريخ وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن حصن الأنصاري، من ولد سعيد بن سعد بن عبادة — رضي الله عنهما — أصله من شارقة من مملكة بلنسية، وسكن عقبُهُ مربيطر، سمع من أبي الوليد الوقشي، ولازمه من سنة إحدى وثمانين إلى سنة أربع وثمانين بعد الأربعمائة، وأخذ عنه الموطأ، وكان حسن الخط ذا عناية بالعلم نبيه البيت معروفًا بالسرو، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة، قاله ابن الأبار في التكملة.
والإمام الذي ذكره ياقوت في معجم البلدان هو سفيان بن العاصي بن أحمد بن العاصي بن سفيان بن عيسى بن عبد الكبير بن سعيد الأسدي، سكن قرطبة، وأصله من مربيطر، وكنيته أبو بحر. قال ابن بشكوال في الصلة: أخذ عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي العباس العذري، وأبي الليث السمرقندي، وأبي الوليد الباجي، وطاهر بن مفوَّز، واختص بالقاضي أبي الوليد بن أحمد الكناني، وكذلك إنه أخذ عن أبي عبد الله بن سعدون القروي، وأبي إسحاق الكلاعي، وأبي داود المقري، وأجاز له عيسى بن أبي ذر الهروي، وكان من جلة العلماء وكبار الأدباء ضابطًا لكتبه صدوقًا في روايته حسن الخط جيد التقييد، من أهل الرواية والدراية، سمع الناس منه كثيرًا.
قال ابن بشكوال: وحدث عنه جماعة من شيخونا، واختلفت إليه، وقرأت عليه، وسمعت كثيرًا من روايته، وأجاز لي بخطه سائرها غير مرة. قال: وتوفي شيخنا أبو بحر — رحمه الله — ليلة الأربعاء أول الليل لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ٥٢٠، ودفن يوم الأربعاء بعد العصر بالربض، وصلى عليه أبو القاسم بن تقي، وكان مولده سنة ٤٤٠.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي الفتح بن حصن بن لربيق بن عفيون بن عفايش بن رزق بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي، أصله من شارقة، سكن مربيطر، سمع من صهره أبي علي بن بسيل، وولي قضاء مربيطر مضافًا إلى الصلاة والخطبة بها، وكان سريًّا نزيهًا. قال ابن الأبار في التكملة: وهو خال شيخنا أبي الخطاب بن واجب سماه ابن سفيان في معجم شيوخه، وتوفي سنة ٥٦٧.
وأبو عبد الله محمد بن هشام بن عبد الله البتي المربيطري أدرك أبا محمد البطليوسي، وسمع من ابن الدباغ، تولى الصلاة والخطبة والأحكام بمربيطر، سماه ابن سالم في معجم شيوخه، ونقل ابن الأبار عن ابن سالم أنه توفي سنة ٥٨١.
وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن يونس القضاعي من أهل أُندة دار القضاعيين بالأندلس، ومن قرية بجهتها، لكنه سكن مربيطر، وكان يعرف بابن خيرون، سمع الأئمة الكبار مثل أبي عمر بن عبد البر، وأبي الوليد الباجي، وأبي الوليد الوقشي، وأبي العباس العذري، وأبي المطرف بن جحَّاف، وأبي الفتح السمرقندي؛ قال ابن الأبار: كان راوية جليلًا، فقيهًا حافظًا أديبًا، له حظ من قرض الشعر، وكان صهرًا لأبي بحر الأسدي، وبقراءته الموطأ على أبي عمر بن عبد البر، سمعه أبو بحر، وذلك بشاطبة سنة ٤٥٦، وتولى قضاء مربيطر من قبل أبي الحسن بن واجب، وأخذ عنه جماعة منهم صهره أبو علي بن بسيل، وأبو محمد بن علقمة، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن يعيش، وأبو العرب عبد الوهاب بن محمد التجيبي، وتوفي بمربيطر وهو قاضيها حوالي سنة ٥١٠.
قال ابن الأبار في التكملة: قرأت بخط أبي العباس أحمد بن حسن بن سليمان أن ابن خيرون هذا حدثه قال: حدثني الفقيه الإمام الحافظ أبو عمر — يعني ابن عبد البر — عن أشياخه — رضي الله عنهم — أن أصحاب رسول الله ﷺ اجتمعوا فأتوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إنا نسمع منك حديثًا فإذا جئنا لنحدث به ذهب عنا اللفظ، فقال رسول الله ﷺ: إذا حدثتم عني بالمعنى فحسبكم.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن الزبير بن أحمد بن خلف بن أحمد بن عبد العزيز بن الزبير القضاعي من أهل مربيطر، أصله من أُندة عمل بلنسية، سمع من أبي الحسن بن النعمة وأجاز له، وسمع من أبي العباس بن هذيل الأبيشي، وأخذ قراءة نافع عن أبي جعفر طارق بن موسى بن طارق، وأجاز له من إشبيلية أبو عبد الله بن زرقون سنة ٥٨٥، وأجاز له من الإسكندرية سنة ٥٧٢ أبو طاهر السلفي، ثم أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله الحضرمي، وأبو القاسم بن جاره، وأبو الثناء الحرَّاني، وتولى الصلاة والخطبة ببلده مربيطر، وتقدم للأحكام بها، وكان له بصر بالأحكام وبعقد الشروط ومشاركة في علم الفرائض والحساب. قال ابن الأبار في التكملة: لقيته مرارًا ببلده ثم ببلنسية، وحدثني بحكايات، وأجاز لي بلفظه ما رواه، وتوفي مغرَّبًا عن وطنه بسحر ليلة الخميس السادس عشر من جمادى الآخرة سنة ٦٢٧ (أي قبل سقوط بلنسية في أيدي الإسبانيول بتسع سنوات)، ودفن بقبلي المصلى من ظاهر بلنسية. قال: ومولده بين صلاتي الظهر والعصر من يوم الأربعاء للنصف من جمادى الأولى سنة ٥٤٤.
وأبو محمد عبد الله إبراهيم بن الحسن بن منتيال الورَّاق المربيطري، سكن بلنسية، سمع من أبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن هذيل الأبيشي، وأجاز له أبو بكر بن أبي جمرة، وأبو الحجاج بن أيوب، وغيرهما، ومن الإسكندرية أبو طاهر السلفي، وأبو الطاهر بن عوف، وأبو القاسم بن جاره، ورحل حاجًّا فسمع في طريقه من أبي محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي نزيل بجاية، وسمع بالإسكندرية من أبي عبد الله الحضرمي. قال ابن الأبار في التكملة: وكتب بخطه علمًا كثيرًا على رداءته، وقفل إلى بلنسية، وكان له دكان بالقيسارية يقعد فيه للتجارة ويبيع الكتب، لقيته مررًا عند شيخنا أبي الخطاب بن واجب وعند والدي — رحمهما الله — وهو استجازه لي فأذن لي في الرواية عنه لفظًا، وتوفي ببلنسية في ذي القعدة سنة ٦١١، ومولده قبل الخسمين وخمسمائة.
وعيق بن علي بن خلف بن أحمد الأموي المرواني أبو بكر، يقال له: ابن قنترال، من مربيطر، سكن مالقة، أخذ القراءات والعربية عن أبي الحسن بن النعمة، وسمع من عبد الله بن سعادة، ولقي بمرسية أبا القاسم بن حبيش وبإشبيلية أبا بكر بن الجد وابن زرقون، وأخذ عنهم، وأخذ بمالقة عن أبي محمد بن دحمان، وحج سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فسمع بالإسكندرية من السلفي، وبمكة من علي بن عبد الله المكناسي، ثم رجع إلى الأندلس، وتصدر للإقراء بمالقة، ثم حدث ببلنسية، وكان مقرئًا صالحًا ورعًا، أخذ عنه جماعة من علمائها.
وعلي بن محمد بن عبد الودود من أهل مربيطر صاحب الصلاة والخطبة بها والأحكام أيضًا، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن واجب، وأجاز له أبو الطاهر بن عوف، وكان صالحًا. قال ابن الأبار في التكملة: أخذت عنه يسيرًا، توفي في ذي الحجة سنة ٦٣٣ (أي قبل سقوط بلنسية بثلاث سنين).
وأبو علي الحسين بن أحمد بن الحسين بن يسيل العبدري المربيطري، سمع من أبي محمد بن خيرون وغيره، وولي قضاء مربيطر من قبل أبي الحسن بن واجب، وكان نبيه البيت حسن الخط، حدث عنه صهره القاضي أبو عبد الله بن حصن، والأستاذ أبو الوليد يونس بن أيوب بن بسام وغيرهما، وتوفي بعد سنة ٥٣٧، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي المربيطري، سمع من أبي القاسم بن حبيش وأبي بكر بن بيبش، وأجاز له أبو الطاهر بن عوف، وكان واقفًا على كتاب سيبويه علم بذلك وقتًا، ثم عني بالطب حتى رأس فيه، وخدم به الأمراء، فنال دنيا عريضة، توفي بمراكش سنة ٦١٩، ذكره ابن الأبار.
هوامش
وقد ذكر ذلك الأخ الفاضل السيد أحمد توفيق المدني في كتابه «قرطاجنة»، وقال:
إن لفظة «عزر» بمعنى خادم لا تزال مستعملة في تونس، وهي بقية مما ورثه عرب تونس عن الفينيقيين الذين مهدوا الطريق للعربية في إفريقية، وبالإجمال فإن أسماء هؤلاء الفينيقيين هي عربية؛ لأن الفينيقي نفسه هو عربي، ولكن لم يكن معروفًا أصلها عندنا، فقد كان تلقِّينا هذه الأسماء عن اللاتينيين، وهم لا يقدرون على التلفظ بالحاء والعين، فجعلوا الهاء همزة والعين ألفًا، فتغيرت هذه الأسماء عن أصلها.
وقد كنت كتبت عن هذا الأمر طويلًا في الجزء الخامس من تقويم المنصور الذي تفضلتم — حفظكم الله — بكتابة مقال عنه نشرته جريدة الأمة الجزائرية، وفيه ذكر وثيقة حجرية وجدت بالبرازيل تثبت وصول الفينيقيين القرطاجنيين إلى أمريكا، وذلك قبل تحطيم رومة لقرطاجنة، وأن لغة القوم كانت عربية، وأنها أقرب شيء للغة العامية الحاضرة بتونس.