بلنسية
(١) جغرافيتها
وهو شعر مطابق للواقع؛ لأن المسافر لا يرى بلنسية حتى يصير في وسطها، وذلك من كثرة جنانها التي تغطيها، ومع هذا فالنظر يسرح منها إلى مسافة عشرين كيلومترًا في الجبال التي إلى غربيها، ويرى قلعة مربيطر في شماليها وجبل القنت في الجنوب الشرقي منها، ولقبابها المرصعة بالزليج الأزرق والأبيض والمذهب منظر شائق تحت أشعة الشمس الحادة.
وكان الأقدمون يقولون: إن بلنسية قطعة سقطت من السماء. ونقل بديكر أن العرب كانوا يسمونها مدينة أبي طرب، وأنهم عندما فارقوها أكثروا من النواح عليها ورثوها بالقصائد، وأنشد شعرًا بالإسبانيولي قال: إنه ترجمة نشيد عربي قاله العرب في بلنسية عندما فارقوها، ومعناه أنه كلما ظهرت محاسنها ازدادت الحسرة عليها. وسنأتي في هذا الكتاب على بعض ما قيل في بلنسية من المراثي.
قال الشريف الإدريسي: بلنسية قاعدة من قواعد الأندلس، وهي في مستوٍ من الأرض غامرة القطر كثيرة التجار والعمار، وبها أسواق وتجارات وحط وإقلاع، وبينها وبين البحر ثلاثة أميال مع النهر … إلى آخر ما قال مما تقدم نقله.
وكان الروم قد ملكوها سنة ٤٨٧، واستردها الملثَّمون الذين كانوا ملوكًا بالغرب قبل بني عبد المؤمن، وذلك سنة خمس وتسعين، وأهلها خير أهل الأندلس يسمَّون عرب الأندلس، بينها وبين البحر فرسخ، وقال الأديب أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني الأندلسي:
ثم ذكر ياقوت من أبيات الشعر التي قيلت في بلنسية ما تقدم نقله عن نفح الطيب، فلا حاجة إلى تكراره، ولكننا ننقل منه هنا ما ينسب إلى خلف بن فرج الألبيري المعروف بابن السمسير:
قال: وذلك لأن كنفهم ظاهرة من وجه الأرض لا يحفرون لها تحت التراب وهو عندهم عزيز لأجل البساتين. وروايته هذه تشبه ما رواه عن البصرة، وهو أن للحشوش فيها أثمانًا وافرة، وأن لها تجارًا يجمعونها فإذا كثرت اجتمع عليها أصحاب البساتين ووقفوا تحت الريح ليختبروا نتنها، فما كان منها أنتن كان ثمنها أكثر إلى آخر ما قال، وأنشد في ذلك شعرًا لمحمد بن حازم الباهلي من جملته:
ولها عدة منازه: منها الرصافة ومنية ابن عامر، وحيث خرجت منها لا تلقى إلَّا منازه. قال ابن سعيد: ويقال: إن ضوء مدينة بلنسية يزيد على ضوء بلاد الأندلس، وجوها صقيل أبدًا لا يرى فيه ما يكدره، ولها مضافات منها مدينة شاطبة … إلى آخر ما قال. وفي بعض نسخ صبح الأعشى مذكورة هذه الجملة: وقد صارت الآن من مضافات برشلونة في جملة أعمال صاحبها من ملوك النصارى.
(٢) تاريخ بلنسية
قلنا: في أيام القلقشندي — صاحب صبح الأعشى — كان مضى على خروج العرب من بلنسية ١٨٥ سنة؛ لأن بلنسية سقطت سنة ٦٣٦؛ ولأن أبا العباس أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي — مؤلف صبح الأعشى — توفي ليلة السبت عاشر جمادى الآخرة سنة ٨٢١.
وهكذا استمرت بلنسية طيلة عهد الإسلام من أعظم مراكز العربية في جزيرة الأندلس، على أنه كان يوجد في جبالها بعض قرى بربرية. وكانت بلنسية في زمن بني أمية مركز مقاطعة أو كورة، كما قال المقدسي والرازي وياقوت الحموي، وكان يقيم بها الوالي من قبل الخليفة الذي في قرطبة، ولم تبدأ بأن تكون مركز حكومة مستقلة إلَّا بعد سقوط الخلافة الأموية، فصارت من ذلك الوقت من أهم أهداف استرداد الإسبانيول للأندلس، وصار لها ذكر عظيم في التواريخ الإسبانية والعربية التي وصلت إلى أيدينا.
ولما تولى الخلافة في قرطبة القاسم بن حمود بادر عبد العزيز هذا إلى مبايعته، فلقَّبه بالمؤتمن ذي السابقتين، وكانت صلاته حسنة مع ملوك المسيحيين. وعند وفاته خلفه ابنه الملقب بالمظفر، وكان يافعًا؛ فكفله الوزير ابن عبد العزيز، ولم يطل الأمر حتى زحف فرديناند ملك قشتالة وليون على بلنسية، وكاد يدخلها، وخرج البلنسيون لقتاله خارج البلدة، فهزمهم؛ فاستصرخ المظفر عبد الملك المأمون بن ذي النون؛ فسار هذا إلى بلنسية وخلع أميرها الشاب، واستولى عليها، وجعل وكيلًا عنه فيها الوزير أبا بكر بن عبد العزيز، وذلك سنة ٤٥٧، وبقيت هذه الحال إلى سنة ٤٦٧ إذ مات المأمون بن ذي النون وخلفه ابنه يحيى القادر الذي اشتهر بسوء تدبيره؛ فنقضت بلنسية بيعة القادر هذا؛ ولأجل أن يقدر عليها وهو عاجز عنها لجأ إلى الفونش السادس — ملك قشتالة — واستمده لأخذ بلنسية؛ فانتهى الأمر بأن نزل له عن عاصمته طليطلة سنة ٤٧٨ وفق ١٠٨٥.
وأما بقية الحوادث والدور الذي لعبه السيد لذريق دياز آل بيفار، سواء ما كان منه حقيقة أو خرافة، فقد استوفيناه عند ذكر السيد في حرف السين من المعلمة الإسلامية.
فلما رجع من مهمته لدى المعتمد بن عباد اتهمه الفونش السادس بأنه غلَّ في بعض ما حمله من الهدايا باسم الفونش، وانتهز أول فرصة للانتقام منه وهي أنه غزا بلاد طليطلة بدون إذنه، فأخرجه الملك من مملكته، ومن ذلك الوقت بدأت معيشة لذريق المترددة تارة يقاتل المسلمين وطورًا يقاتل بني ملته بحسب ما يعن له. وكان قد أحب الاتصال بقمط برشلونة فلم يكن له حظ بقربه، فلوى عنانه نحو أحمد بن سليمان بن هود الملقب بالمقتدر صاحب سرقسطة، فضمَّه هذا إلى جيشه مع أصحابه من المرتزقة، ثم مات المقتدر فخلفه ابنه يوسف المؤتمن أميرًا على سرقسطة، بينما أخوه المنذر يتولَّى دانية وطرطوشة ولاردة، فلم تلبث الحرب أن وقعت بين الأخوين، فكان لذريق بيفار خادمًا للمؤتمن، وكان المنذر معتمدًا على شانجه راميره ملك أراغون ورامون بيرانجه الثاني قمط برجلونة. والتقى الجمعان بقرب حصن المنار إلى الشمال الغربي من لاردة، فانهزمت الفئة الأخرى بفضل شجاعة لذريق، وأخذ قمط برشلونة أسيرًا فعفَّ عنه وأطلقه، ودخل سرقسطة في فرح عظيم، وأنعم عليه ابن هود وغمره بالصلات والهدايا.
وما زال يضيق عليها حتى عضها الجوع بأنيابه؛ فاضطر القاضي رئيس الجمهورية البلنسية إلى تسليمها، ودخلها السيد في ١٥ يونيو سنة ١٠٩٤، ولكنه لم يأت الأهالي بأذى، وكان يعاملهم بالرعاية، وكانوا هم طائعين له، إلا أنه أمر بإحراق القاضي ابن جحاف حيًّا انتقامًا منه.
ثم فكر السيد في فتح شاطبة التي كانت لا تزال بأيدي المرابطين، فانهزم جيشه في واقعة شاطبة، واستشاط غضبًا والتاع حزنًا؛ فمات سنة ١٠٩٩، وقامت مقامه زوجته شيمانة، فهاجمها المرابطون مدة سنتين، ثم تقدم القائد المزدلي اللمتوني فحصر بلنسية في أواخر سنة ١١٠١، وضيق عليها، واستمر الحصار سبعة أشهر في أثنائها حاول الفونش السادس الدفاع عنها فلم يفز بطائل، فنصح لشيمانة بترك بلنسية؛ فخرجت منها ولكن بعد أن أحرقتها، فلما دخلتها جيوش المرابطين وجدتها رمادًا. ولما خرجت شيمانة من بلنسية احتملت جسد زوجها معها ودفنته بقرب برعش في دير «سان بدروه كردينيه»، وماتت شيمانة في سنة ١١٠٤ ودفنت عند زوجها. انتهى كلام لاوي بروفنسال عن السيد في الأنسيكلوبيدية الإسلامية.
وقد كنا حررنا ترجمة السيد هذا في خلاصة تاريخ الأندلس الذي ذيلنا به ترجمتنا لرواية ابن سراج، فقلنا: أما مملكة قشتالة أجلُّ ممالك النصرانية في الأندلس، فإن رافع منارها فرديناند الأول الملقب بالكبير الذي انتزع كثيرًا من أملاك المسلمين، وكان معاصرًا لابن عباد، وقسم ممالكه بين أولاده الثلاثة؛ فأعطى شانجه مملكة قشتالة، والفونش أو أذفنش مملكة ليون، وغارسيا الصغير مملكة غاليسيا أو جليقية، إلَّا أن الفونش تمكن في الآخر من ضم الجميع إلى ملكه وصار خلفًا لأبيه، وهو الذي استولى على طليطلة قلب إسبانيا وجعلها مقر سلطانه، وفي أيامه ظهر السيد بطل الإسبانيين الذي تنسب إلى ذريته عروس رواية شاتوبريان التي ذيلنا عليها هذا التاريخ المختصر، ولما كان التناسب الذي هو شرط الحسن يقتضي الإفادة عن آل بيفار أجداد أدماء بمثل ما أفدنا عن آل سراج أجداد ابن حامد، رأينا أن نلمح إلى شيء من أخبار السيد حسبما ذكر المحققون.
فنقول: هو السيد لذريق بن دياغو بن لاين نوتاز بن لاين كالفو، من كبار قضاة قشتالة، تزوج السيد بشيمانة، وولد دياغو لذريق الذي مات في حياة والده وابنتين إحداهما تزوجت بابن ملك نافار والأخرى بابن ملك أراغون.
وشيمانة هذه هي ابنة الكونت لوزانو دوغورماز من فحول قواد الملك فرديناند؛ وسبب اقتران السيد بها أن والدها كان قد صفع دياغو والد السيد وهو بالغ من الكبر عتيًّا فلم يمكنه أخذ ثأره بيده، لكن ولده لذريق أخذ السيف ودعا غورماز إلى البراز فقتله، ولما لم يكن في قتل البراز جناح جاءت ابنته شيمانة تشكو إلى الملك فرديناند كون لذريق يأتي كل يوم وبازه على يده، فيطلقه في بيت حمامها فيفتك بالحمام ويذيق فراخها كئوس الحمام، وقد بعثت تقول له في ذلك، فجاوبها بالوعد قائلًا: إن الملك الذي يسمح بقهر اليتيم ولا يقتص ممن اعتدى عليه لا يليق أن يسمى ملكًا.
فتحير فرديناند في أمره؛ لأن لذريق كان أقوى عضد له في مواقفه مع المسلمين، والإسبانيون يزعمون أن السيد أسر خمسة من ملوك الإسلام، وبعد أن قادهم بخزائم الاستكانة منَّ عليهم بإطلاق سبيلهم ودعوه سيدهم، فلم يجد فرديناند مخرجًا من الأمر إلا بتزويج السيد بشيمانة.
وأما نسبة السيد إلى بيفار فولادته في ذلك القصر، وهي كما لا يخفى عادة الإفرنج في ألقاب الشرف. ومن شهير أفعال السيد أنه لما اصطلت الحرب بين قشتالة وأراغون لعهد فرديناند وقع الاتفاق بين هذا الملك وبين أخيه على تحكيم السيف وإبراز قرنين بالنيابة عنهما من أبطالهما، وإعطاء الحق لمن منهما حقت له الغلبة، فكان السيد نائبًا عن ملك قشتالة، وكان مارتين غوماز نائبًا عن صاحب أراغون أخيه، فعند اللقاء فتك السيد بخصمه وبرد الحق لفرديناند دون أخيه.
وفي هاتيك الأيام كان هنري الثاني إمبراطورًا لألمانية، فسمت نفسه إلى إدخال إسبانية في طاعته؛ لكونها من ولايات سلطنة الغرب، ويقال: إن البابا فيكتور الثاني مالأه على مقصده، فلما أبلغ ذلك الإمبراطور والبابا إلى فرديناند مال إلى الخضوع خوفًا منهما، لكن السيد عارض في الأمر وجمع عسكرًا وزحف به إلى طلوزة قاصدًا لقاء العدو، فلما علم البابا به خاف العواقب وصرف إمبراطور ألمانية عن دعواه.
ولما مات فرديناند لم يكن لشانجه ولده ساعد أشد من السيد، وهو الذي نصره في وقعة «غولبيجاره»، وكان بجانبه عندما قتل في زامورة. وفي مدة الفونس أخيه انصرف السيد إلى مرابطة المغاربة، ووالى عليهم الهزائم حتى لقب بالكمبيادور، ومعناه بلغتهم قائد المعسكر. إلَّا أن ما حازه من الشهرة أثار عليه حسد الأقران وضغائن الأنظار؛ فانقبض بنفسه عن الحضرة، وسكن البادية، وبلغه أثناء ذلك أن مسلمي سرقسطة والثغر الأعلى اجتاحوا أراضي قشتالة، وأثخنوا في الإسبانيول؛ فنهد إليهم وساق منهم سبعة آلاف أسير، واكتسح بسائط طليطلة، وكانت في يد المأمون صاحبها، فشكا إلى الأذفونش خرق الصلح بدون موجب، فاستشار الملك خاصته وأجمعوا على نفي السيد، وضربوا له أمدًا تسعة أيام لأجل الخروج، فأطاع، ولكنه لم يكن يملك من المال ما يكفي لميرة الثلاثمائة فارس التي هي في صحبته؛ فأعمل في الحيلة وأرسل صندوقين مفعَمين رملًا إلى بعض اليهود مؤكدًا أنهما مملوءان حليًّا، وأخذ عليهما مبلغًا من الذهب، ثم وفى دينه بعد ذلك بما حازه من الغنائم أثناء غزواته في بلاد الإسلام.
وبقي مدة بعيدًا عن الحضرة إلى أن رضي عنه الملك وأعاده وأذن له في الغزو وحده، فابتنى لنفسه قصرًا بقرب أراغون لم يزل معروفًا باسم صخرة السيد إلى الآن، وجعلها لنفسه وكرًا يأوي إليه وينطلق منه للغزو. وكان أكثر ما يغزو مملكة ابن عباد؛ لكونه هو الذي دعا يوسف بن تاشفين إلى الأندلس، على أنه لما أراد ابن تاشفين استخلاص ملك إشبيلية من يد ابن عباد، واستنجد الطاغية، أرسل إليه عشرين ألفًا، قيل: إنه عقد عليهم للسيد، لكن لم ينالوا له وطرًا؛ إذ كان في المرابطين سادات بدل السيد.
ثم زحف السيد بعساكره نحو بلنسية وضيَّق عليها الحصار، وكان فيها القاضي أحمد بن جعفر المعافري بحسب رواية بعض مؤرخي الإفرنج ومنهم لافاله. والذي في كتب العرب أن الذي كان فيها هو القاضي أبو أحمد بن جحاف، واتفقت روايات العرب والإفرنج أن لذريق دخلها صلحًا وعاهد القاضي، لكنه لم ينشب أن أحرقه بالنار بعد الاستيلاء؛ قيل: لكون السيد طلب إليه أن يدله على ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون فأقسم أنها ليست عنده؛ فأحرقه وعاث في بلنسية. وفي ذلك يقول ابن خفاجة الشاعر المشهور:
وورد في نفح الطيب ما نصه بالحرف «وكان استيلاء القنبطور» (تحريف القمبدور أو الكمبدور لقب السيد) سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة، وقيل في التي قبلها، وبه جزم ابن الأبار قائلًا: فتم حصار القنبطور إياها عشرين شهرًا، وذكر أنه دخلها صلحًا. وقال غيره: إنه دخلها وحرقها وعاث فيها، وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر بن البتاء الشاعر المشهور — رحمه الله تعالى وعفا عنه — فوجه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي، ففتحها الله على يديه سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وتوالى عليها أمراء الملثَّمين. انتهى.
وفي حرق قاضي بلنسية قد أتى «لافاله» بجميع أصناف المعاذير؛ تغطية لعمل القنبطور، واتهم القاضي بالخيانة. وأنكر أن يكون السيد فعل ذلك بسبب الذخيرة، بل لمكيدة لا بد أن يكون اطلع عليها، ورمى مؤرخي العرب بتشنيع سيرة السيد تعصبًا منهم وكراهية لاسمه لما كان عليه من الغيرة على النصرانية.
إن من الغلط البيِّن والخطأ المتعين أن يظن أن مقاتلة قشتالة وليون كانوا على ما يرام تخييله من الشهامة والشرف وآداب الفروسية، وأن يتصور أنهم على شيء من دماثة الأخلاق والتهذيب. والصحيح أن مسيحيي الجهة الشمالية كانوا على نقيض ما كان عليه أقرانهم المغاربة؛ فإن العرب الأجلاف لأول نزولهم بإسبانية قد تهذبوا وتمدنوا بالأندلس فيما بعد، وباستعدادهم الفطري مالوا إلى التأنق والرفاهية والتحقق بالحضارة العالية، وعكفوا على طلب العلم وقرض الشعر وحفظ الأدب، فكانت أذواقهم في أسمى مكانات السلامة وإحساساتهم في أقصى مظانِّ الرقة كما هو شأن من تحقق بالمدنية وذاق حسن المعيشة وغلب عليهم التأمل والشعر، فكانوا يؤدون من الجوائز على منظومة واحدة ما يكفي لميرة كتيبة كاملة، ولم يكن الأمير الظالم منهم والملك الغاشم السفاح يأنف من الآداب والمعارف، فالفصاحة والموسيقى وسائر فروع العلم والأدب من الأمور الطبيعية عند هذه الأمة، وقد أوتوا ملكة الانتقاد والتمييز ولطف الذوق في نقد أجزاء الكلام وتفاصيل القول مما نعرفه في زماننا لأمة الفرنسيس.
وأما نصارى الشمال فعلى خلاف ذلك كله؛ فإنهم وإن كانوا سلائل أمة قديمة، فحالتهم كانت حالة أمة حادثة أجلاف جفاة أجانب عن العلم منقطعي السبب في العرفان. نعم كان عند بعض أمرائهم مسكة من التربية، لكنهم في هذا الأمر مساكين في جانب أمراء العرب. وإنما كان المسيحيون هناك أنجاد حرب وأحلاس نزال يحبُّون الهيجاء مثل أقرانهم المسلمين، لكنهم أقوم منهم عليها وأصبر على تحمل مشاقها. ولم يكن عندهم ما تصوره لنا هذه الخيالات الشعرية من أخلاق الفروسية، بل كانوا ضرَّابي سيف. انتهى.
وقد يحملهم فقرهم على المحاربة بالأجرة وتقديم من يزيد لهم على غيره في الخدمة، وقد رأينا كيف أن الوزير المنصور استخدم جمًّا منهم في حرب ليون وفتح صانتياغو، وتاريخ شمالي إسبانية مملوء بشواهد ذلك من استخدام أمراء المسلمين لفرسان النصارى في الجيش.
ومما يؤيد قول هذا المؤرخ الإنكليزي ما ورد في تاريخ المنصور بن أبي عامر من أنه في انكفائه عن باب شنت ياقب بتلك الغزوة التي لم يبلغ مثلها أحد وقع في عمل القواميس المعاهدين الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها، ومرَّ مجتازًا حتى خرج على حصن بيليقية من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم. انتهى.
ويظهر أنهم لم يقتصروا في الخدمة على ملوك الأندلس، بل ربما أجازوا إلى المغرب أجنادًا عند ملوكه. وابن خلدون يروي أنه كان يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان قد استخدم طائفة منهم مستكثرًا بمكانهم مباهيًا بهم في المواقف والمشاهد.
قال ستانلي لانبول: «ونحن في عصر انتقاد مضطرون إلى طرح المفرح من أقاصيص مؤرخينا التي تليق بالأحداث، والسيد لم يستثنَ من الانتقاد، بل إن أحد المستشرقين الراسخين ألف عنه كتابًا مستقلًّا قرر فيه أن السيد لم يكن ذلك البطل الذي ظن أنه كان، بل رجلًا غدَّارًا سفَّاكًا نهَّابًا فتَّاكًا ناكث العهد ناقض الذمام. كذلك الأستاذ دوزي — مؤرخ إسبانية الجليل — ذهب إلى أن قصة السِّيد هذه اختراعية، وكتب عن السيد الحقيقي نقيض ما ورد في تلك الأقاصيص، إلى أن قال: وغير صحيح أنه كان حامي الدين؛ فإنه قاتل في مصاف المسلمين كما قاتل في مصافِّ النصارى، وذكر أنه استولى على بلنسية بسبب التحريك والفرقة بإعانة ملك سرقسطة ودخلها صلحًا.» وهذا طبق ما ذكر مؤرخو العرب من أن الذي أنهضه هو يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة.
وأما «لافاله» فيقول في شأنه: إنه هو بطل الإسبانيول المقدم حبيب الشعب الذي يحلونه بجميع فضائل الأبطال، ويتغنون بوقائعه في الأشعار والأزجال، فإذا شاء المؤرخ معرفة الحقيقة من الوهم أشكل عليه الأمر بما يعرض له من الاختلاط، فقد يقع أن المؤرخ لأجل الخروج من حيرته ينتهي إلى إنكار وجود المؤرَّخ عنه أصلًا، كما أنكر «ماسدو» وجود السِّيد قمبدور، ولم يبلغ الشك من غيره درجة إنكار وجوده، بل أنكروا عليه المأثور من الفضائل، وتخيلوه زعيمَ أشقياء ورئيس عصابة شر، بعد أن جعلته القصص مثالًا تامًّا للفضل والشهامة والنبل.
فأنت تجد أن السيد ككثير من الرجال الذين ولعت بذكرهم العامة منهم من جعله سيدًا غطريفًا (بالتشديد)، ومنهم من جعله سيدًا عملسًا (بالتخفيف). ومات السيد سنة ١٠٩٩، وهي التي فتح الصليبيون فيها بيت المقدس. وبعد موته عادت بلنسية إلى الإسلام، وبقيت زمانًا حتى استولى عليها جقوم كما ذكرنا سابقًا، وحملت جثة السيد محنطة على جواده المشهور وبيده أحد سيفيه المسمَّى تيزونه، وقدم نعشه في الجمع كما كان هو مقدمًا في الحروب، ودفن في كنيسة ماربطرس دوكردنه، وماتت شيمانة امرأته بعده بسنتين، وبقيت رايته وسيوفه في ذلك الدير يحملها ملوك قشتالة في حروبهم تيمنًا بالنصر، ورواية كورنيل المسماة بالسيد أشهر من «قفا نبك». انتهى.
وهذه القطعة من سيرة السيد واقعة في فصل يدور على ابن طاهر أمير مرسية المخلوع، الذي بعد أن فقد إمارته على مرسية جاء فتوطَّن بلنسية. وسأجتهد في ترجمة هذا المبحث كله برغم ما تخلله من العبارات الشعرية التي تصعب ترجمتها بلغة عصرية، وسأبلغ في ذلك الجهد ما أمكن؛ لأني واقع بين المحافظة على النص الأصلي بالعربي من جهة وبين المحافظة على أساليب اللغة الإفرنسية من جهة أخرى. انتهى.
«وله من رقعة إلى ابن جحاف أيام ثورة ابن عمه ببلنسية»: قد ألبستني — أعزك الله — من برِّك ما لا أخلعه وحمَّلتني من شكرك ما لا أضيعه، فأنا أستريح إليك استراحة المستنيم، وأصرف الذنب على الزمن المُليم، وإن ابن عمك — مد الله بسطته — لما ثار ثورته التي ظن أنه قد بلغ بها السماك، وبذَّ معها الأفلاك، نظر إليَّ متخازرًا متشاوسًا، وتخيَّلني حاسدًا أو منافسًا، ولعن الله من حسده جمالها:
ثم تورَّم عليَّ أنف عزَّته، فرماني بضروب محنته، وفي كل ذلك أتجرَّعه على مضضه، وأتغافل لغرضه، وأطويه على بلله، وما انتصر بشيء سوى عمله، إلى أن رأى اليوم بسوء رأيه أن يزيد في تعسُّفه وبغيه، فاستقبلتُ من الأمر غريبًا ما كنتُ أحسبه ولا بان إليَّ سببه، ولما جاءه رسولي مستفهمًا عبس وبسر، وأدبر واستكبر، فأمسكت محافظةً للجانب وعملًا على الواجب، لا أن هيبة أبي أحمد قبضتني ولا أن مبرَّته عندي اعترضتني، وأقسم بالله حِلْفَة بِرٍّ لو الأيام قذفت بكم إليَّ وأنا بمكاني لأوردتكم العذب من مناهلي، وحملت جميعكم على عاتقي وكاهلي، ولكن الله يعمر بكم أوطانكم، ويحمي من النوب مكانكم، ويحوط هذه السيادة الطالعة فيكم البانية لمعاليكم … إلخ.
(٣) ما قاله ابن بسام في وقائع السيد في بلنسية
قال أبو الحسن (أي ابن بسام): وإذ قد انتهى بنا القول إلى ذكر بلنسية فلا بد من الإعلان بمحنتها والإتيان بنبذ من أخبار فتنتها التي غرَّب شأوها في الإسلام، وتجاوز عفوها جهد الكروب العظام، وذكر الأسباب التي جرت جرائرها، وأدارت على المسلمين دوائرها، والإشارة باسم من سلك في طريقها ونهج، ودخل من أبواب عقوقها وحرج.
(٣-١) ذكر الخبر عن تغلب العدو عليها وعودة المسلمين إليها
وفي ذلك القول يقول أبو الحسين بن الجد، وأراه عرَّض بصاحب ميورقة بعد خلع بني عباد:
فلم ينشب لذريق أن ظهر على الذخيرة المذكورة لديه؛ لما كان حُمَّ من إجراء محنته على يديه، ولعلها كانت منه حيلة أدارها وداهية من دواهيه سدَّاها وأنارها، فأنحى على أمواله بالنهاب، وعليه وعلى أهله بأنواع العذاب، حتى بلغ جهده ويئس مما عنده، فأضرم له نارًا أتلفت ذماءه وحرقت أشلاءه.
وهمَّ يومئذ الطاغية — لعنه الله — بتحريق زوجته وبناته، فكلمه فيهن بعض طغاته، فبعد لأيٍ ما لَفَتَه عن رأيه، وتخلصن من يدي نكدائه، وأضرم هذا المصاب الجليل أقطار الجزيرة يومئذ نارًا، وجلَّل سائر طبقاتها حزنًا وعارًا، وغلظ أمر ذلك الطاغية حتى فَدَحَ التهائم والنجود وأخاف القريب والبعيد.
إلى آخر الأبيات وقد تقدمت.
وتجرد أمير المسلمين — رحمه الله — لما بلغه هذا النبأ العظيم واتصل به هذا الرزء الشنيع، وكان قذى أجفانه وجماع شأنه وشغل يده ولسانه يسرِّب إليها الرجال وينصب عليها الحبائل والحبال، والحرب هنالك سجال، والحال بين العدو وبين عساكر أمير المسلمين إدبار وإقبال، حتى رحض عارها وغسل شنارها، وكان آخر أمراء أجناده المجهَّزين إليها في جماهر إعداده الأمير أبو محمد مزدلي ظُبَة حسامه، وسلك نظامه؛ ففتحها الله عليه، وأذن في تخلصها على يديه في شهر رمضان سنة ٩٥، كتب الله منزله في عليين، وجزاه عن جده وجهاده أفضل جزاء المحسنين.
وفي ذلك التاريخ كتب أبو عبد الرحمن بن طاهر إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز رقعةً يقول فيها: كتبت منتصف الشهر المباع، وقد وافى بدخول بلنسية جبرها الله بالفتح بعدما خامرها القبح فأضرم أكثرها نارًا، وتركها آية للسائلين واعتبارًا، وتغشَّاها سوادًا كما لبست به حدادًا، فهي تنظر من طرف خفي وتتنفَّس عن قلب يتقلب على جمر ذكي، غير أنه بقي لها جسمها الأنعم وتربها الأكوم الذي هو كالمسك الأذفر والذهب الأحمر، وحدائقها الغُلب ونهرها العذب، وبسعد أمير المسلمين وإقباله عليها ينجلي ظلامها ويعود عليها حليها ونظامها، وتروح في الحلل، وتبرز كالشمس في بيت الحمل، فالحمد لله مالك الملك مطهرها من الشرك، وفي عودتها إلى الإسلام عز وعزاء عما نفذ به قدر وقضاء. انتهى.
(٣-٢) تتمة خبر أمير المسلمين ووقائع بلنسية
ودخل ابن عائشة دانية فوافاه بها ابن جحاف — قاضي بلنسية — وسأله النهوض إليها معه، فلم يمكنه أن يفارق موضعه؛ فأنفذ معه عسكرًا، وقدَّم عليه قائده أبا ناصر؛ فوصلا إليها وقصدا القادر وقتلاه، وذلك سنة ٤٨٥.
وفي سنة ٤٩٤ جاز الأمير مزدلي في جيش عرمرم وقصد بلنسية منازلًا ومحاصرًا لها، فأقام عليها سبعة أشهر، فلما رأى الفنش ما حل برجاله من ألم الحصار وأهواله وصل بمحلته الذميمة إليها، وأخرج جميع من كان من الروم لديها، وأضرمها نارًا وتركها آية واعتبارًا. ا.ﻫ.
قد أطلنا في ذكر هذه الوقائع التاريخية التي من حقها أن توضع في القسم التاريخي من هذا الكتاب؛ وذلك نظرًا لكثرة ورود ذكر القنبيطور في الكلام على بلنسية التي نحن في صددها، وبديهي أن ما جاء في القسم الجغرافي من كتابنا هذا من الأخبار لا يعاد في القسم التاريخي منه، وإن أعيد منه شيء فيكون على وجه التلخيص. أما القنبيطور فلم نستوف هنا كل الكلام عليه، وسيكون له دور ثانٍ عند الوصول إلى التاريخ.
(٤) ذكر من نبغ في بلنسية من أهل العلم
منهم محمد بن أبي الأسود البلنسي، فقيه محدِّث، سمع من فضل بن سلمة، ذكره أبو الوليد الفرضي، نقل ذلك ابن عميرة في بغية الملتمس. ومحمد بن جعفر بن أحمد بن حميد أبو عبد الله قاضي بلنسية مقرئ، نحوي، أديب، متقدم، فاضل، أقرأ القرآن والعربية بمرسية مدة. روى عن جماعة منهم أبو الحسن شريح بن محمد بن شريح، وأبو بكر بن مسعود بن أبي عتبة. وروى عنه بعضهم أيام كونه ببلنسية أنه قال له: لوددت أن أمير المؤمنين كلفني شرح كتاب سيبويه؛ حتى أخلف في تفسيره شرحًا يقطع أوراق الأستاذين ولا يحتاج معه إلى معلم. فقيل له: ولم لا تفعل أنت ذلك؟ فقال: لا يمكنني ذلك بسبب الشغل، ولا يمكنني أن أجرِّد لذلك وقتًا، ولو دخلت تحت الأمر كنت أعذر في تجرُّدي وانفرادي.
توفي — رحمه الله — سنة ٥٨٦ بمرسية، ودفن بإزاء صاحبه القاضي أبي القاسم ببقيع مسجد الجرف: نقل ذلك ابن عميرة وقال: وهو أول من قرأت عليه وسني دون العشر. ومحمد بن جعفر بن شرويَّة أبو عامر الخطيب ببلنسية، فقيه فاضل محدث، ذكره ابن عميرة أيضًا، وكانت وفاته سنة ٥٤١.
وعبد الرحمن بن طاهر الذي كان أمير مرسية، ثم فقد إمارته على مرسية وتحول إلى بلنسية. قال ابن بسَّام في كتابه «الذخيرة»: ومدَّ لأبي عبد الرحمن بن طاهر هذا في البقاء حتى تجاوز مصارع جماعة الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يدي الطاغية الكنبيطور — قصمه الله — وجعل بذلك الثغر في قبضة الأسر سنة ٤٨٨، وتوفي أبو عبد الرحمن المذكور ببلنسية، وصلِّيَ عليه بقبلة المسجد الجامع منها إثر صلاة العصر من يوم الرابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ٥٠٨، ثم سير به إلى مرسية ودفن بها قد نيَّف على الثمانين، وعلى مكانه من البراعة والبلاغة في الرسائل فلم أقف له على شعر سوى قوله في مقتل القاتل يحيى بن إسماعيل بن المأمون يحيى بن ذي النون على يدي أبي أحمد جعفر بن عبد الله بن جحاف المعافري عند انتزائه ببلنسية وانتقاله من خطة القضاء إلى الرئاسة، وكان أخيف:
(الأبيات).
ومنهم أحمد بن عبد الولي البتي أبو جعفر، ينسب إلى بتة — قرية من قرى بلنسية — كاتب شاعر لبيب، أحرقه القنبيطور — لعنه الله — حين غلب على بلنسية، وذلك سنة ٤٨٨، ذكره الرشاطي في كتابه. نقل ذلك ابن عميرة في «بغية الملتمس»، ونقله عنه دوزي في كتابه «مباحث عن تاريخ إسبانية وآدابها في القرون الوسطى»، ونقل دوزي أيضًا عن السيوطي في تراجم النحاة ذكر أحمد بن عبد الولي البلنسي هذا فقال: إنه كان قائمًا على الآداب وكتب النحو واللغة والأشعار كاتبًا شاعرًا، كتب عن بعض الوزراء وأحرقه القنبيطور — لعنه الله — لما تغلب على بلنسية سنة ٨٨.
ومنهم محمد بن الخلف بن الحسن بن إسماعيل الصدفي، بلنسي، أبو عبد الله بن علقمة، صحب أبا محمد بن حيان الأروشي وأمثاله، روى عنه ابنه عبد الله، وكان ينتحل الكتابة وقرض الشعر على تقصيره فيهما، وله تاريخ في تغلب الروم على بلنسية قبل خمسمائة سماه «بالبيان الواضح في المُلِمِّ الفادح» ليس بذاك. وله تأليف غيره، مولده سنة ٤٢٨، وتوفي يوم الأحد لخمس بقين من شوال سنة ٥٠٩. نقل ذلك ابن عبد الملك المراكشي في كتابه «الذيل والتكملة على الموصول والصلة»، وهو كتاب تسعة مجلدات جعله ابن عبد الملك هذا تكملة لكتابين أحدهما «تاريخ علماء الأندلس» لابن الفرضي والثاني «الصلة» لابن بشكوال.
ومن المعلوم أن كتاب «الصلة» ألفه ابن بشكوال تكملة لكتاب ابن الفرضي؛ فلهذا قال ابن عبد الملك المراكشي في اسم كتابه «الذيل والتكملة على الموصول والصلة»، وقد أشار إلى هذا الكتاب ابن الخطيب والسيوطي والمقري، ولكنه لم يرد ذكره في كشف الظنون. قال دوزي: «وفي أوروبة من هذا الكتاب مجلدان: أحدهما في مكتبة دير الأسكوريال في إسبانية، والآخر في مكتبة باريس ومؤلفه يقال له قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الأنصاري، ثم الأوسي المراكشي.»
ومنهم محمد بن سعيد أبو عامر التاكرني الكاتب، قال ابن عميرة في بغية الملتمس: كان من أهل الأدب والبلاغة والشعر، ذكره أبو عامر بن شهيد، سكن بلنسية، وخَدَم صاحبها عبد العزيز بن الناصر بعد الأربعمائة.
ومنهم أحمد بن محمد بن عبد الله الأنصاري البلنسي، عرف بابن اليتيم، سكن مالقة، وحدَّث بها عن ابن ورد، وابن أبي أحد عشر، وابن وضاح أبي عبد الله وغيرهم.
ومنهم جعفر بن عبد الله بن جعفر بن جحاف بن يُمن، قال ابن عميرة: هو قاضي بلنسية ورئيسها، وآخر القضاة من بني جحاف بها أحرقه القنبيطور — لعنه الله — سنة ٤٨٨. وهو أبو أحمد المارُّ ذكره والمشهور أمره.
ومنهم جحاف بن يمن قاضي بلنسية؛ قال ابن عميرة: ولَّاه أمير المؤمنين الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد القضاء بها، محدث، استشهد بالأندلس في غزو الروم في غزوة الخندق سنة ٣٢٨، وله هناك عقب يتداولون القضاء، ومنهم من رأس بها وغلب عليها إلى أن كان آخرهم القاضي أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جعفر بن جحاف بن يُمن المتقدم الذكر، الذي أحرقه القنبيطور — لعنه الله — حسبما قدمنا ذكره.
ومنهم عبد الله بن حيان الأروشي نزيل بلنسية، قال ابن عميرة في البغية: فقيه محدِّث عارف، توفي سنة ٤٨٧، ومولده في عام ٤٠٩، روى عن أبي عمر بن عبد البر وأبي عمر وعثمان بن أبي بكر السفاقسي، وأبي القاسم بن الإفليلي، وأبي هارون جعفر بن أحمد بن عبد الملك، وأبي الفضل محمد بن محمد بن عبد الواحد التميمي البغدادي، وكانت له همة عالية في اقتناء الكتب وجمعها، ذكر ابن علقمة في تاريخه أن ابن ذي النون — صاحب بلنسية — أخذ كتب الأروشي من داره وسيقت إلى قصره، وذلك مائة عِدْل وثلاثة وأربعون عدلًا من أعدال الحمَّالين، يقدر كل عدل منها بعشرة أرباع، وقيل: إنه كان قد أخفى منها نحو الثلث.
ومنهم وهب بن نذير أبو العطاء — قاضي بلنسية — يروي عن أبي الوليد الدباغ، وأبي الحسن بن النعمة، توفي في بلنسية في نواحي التسعين بعد الخمسمائة.
ومنهم أبو الحسن البرقي، بلنسي، أديب شاعر بليغ، ذكره ابن عميرة في «بغية الملتمس». وأحمد بن محمد بن حزب الله، يكنى أبا الحسن، من أهل بلنسية، كان مفتيًا في بلده عالمًا بالشروط، توفي سنة ٤٥٩، ذكره ابن مدير، وترجمه ابن بشكوال في «الصلة»، وخليص بن عبد الله بن أحمد بن عبد الله الأنصاري من أهل بلنسية، يكنى أبا الحسن، روى عن عمر بن عبد البر فيما زعم. قال ابن بشكوال في «الصلة»: قرأت بخطه أنه روى أيضًا عن أبي الوليد الباجي، وأبي العباس العذري، وأبي الوليد الوقشي، وأبي المطرف بن جيمان، ولم يكن بالضابط لما كتب، وسمعت بعضهم يضعفه وينسبه إلى الكذب، توفي — رحمه الله — سنة ٥١٣. انتهى.
ومنهم سليمان بن أبي القاسم نجاح، مولى أمير المؤمنين هشام المؤيَّد بالله، سكن دانية وبلنسية، يكنى أبا داود؛ قال ابن بشكوال: روى عن أبي عمرو عثمان بن سعيد المقري وأكثر عنه، وهو أثبت الناس به، وروى عن أبي عمر بن عبد البر، وأبي العباس العذري، وأبي عبد الله بن سعدون القروي، وأبي شاكر الخطيب، وأبي وليد الباجي وغيرهم، وكان من جلة المقرئين وعلمائهم وفضلائهم وخيارهم، عالمًا بالقراءات ورواياتها وطرقها، حسن الضبط لها، وكان ديِّنًا فاضلًا ثقةً، وله تواليف كثيرة في معاني القرآن العظيم وغيره.
وكان حسن الخط، جيد الضبط، روى الناس عنه كثيرًا، وأخبرنا عنه جماعة من شيوخنا ووصفوه بالعلم والفضل والدين. قال: توفي أبو داود سليمان بن نجاح يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر، ودفن يوم الخميس لصلاة العصر بمدينة بلنسية، واحتفل الناس بجنازته وتزاحموا على نعشه، وذلك في رمضان لست عشرة ليلة خلت منه سنة ٤٩٦، وكان مولده سنة ٤١٣، وعبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري — قاضي بلنسية — يكنى أبا عبد الرحمن، ويلقب بحيدرة، روى بقرطبة عن أبي عيسى الليثي، وأبي بكر بن السليم، وأبي بكر بن القوطية، وغيرهم، وكان من العلماء الجلة، ثقة فاضلًا، ذكره ابن خزرج، وقال: بلغني أنه توفي ببلنسية قاضيًا سنة ٤١٧، وله بضع وثمانون سنة. قال ابن بشكوال: وقرأت بخط بعض الشيوخ أنه توفي في شهر رمضان سنة ٤١٨، وحدث عنه أبو محمد بن حزم وقال: هو من أفضل قاضٍ رأيته دينًا وعقلًا وتصاونًا مع حظه الوافر من العلم.
وعبد الله بن يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، ولد الحافظ أبي عمر بن عبد البر، سكن مع أبيه بلنسية وغيرها، يكنَّى أبا محمد، وأصله من قرطبة، روى عن أبيه، وعن أبي سعيد الجعفري، وأبي العباس المهدي، وغيرهم، ذكره الحميدي وقال: كان من أهل الأدب البارع والبلاغة الذائعة والتقدم في العلم والذكاء، مات بعد الخمسين وأربعمائة. قال ابن بشكوال في الصلة: وأنشدني له بعض أهل بلادنا:
قال: قال لي بعض أصحابنا: توفي سنة ٤٥٨، وصلى عليه القطيني الزاهد. وعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري، من أهل بلنسية وقاضيها، يكنى أبا المطرف، روى عن أبي القاسم خلف بن هاني الطرطوشي وغيره، قال ابن بشكوال: وسمع منه أبو بحر الأسدي شيخنا، وحدث عنه ببغداد أبو الفتوح وأبو الليث السمرقندي، وتوفي في سنة ٤٨٢ وقد نيف على الثمانين، ومولده سنة ٣٨٤، قرأت مولده ووفاته بخط النميري وعبد العزيز بن محمد بن سعد، من أهل بلنسية، يعرف بابن القدرة، يكنى أبا بكر، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان فقيهًا مشاورًا في بلده؛ قال ابن بشكوال: حدث عنه شيخنا أبو عمر الأسدي، وأبو علي بن سكَّرة وغيرهما، وتوفي سنة ٤٨٤.
وعمر بن محمد بن واجب من أهل بلنسية، يكنى أبا حفص، روى عن أبي عمر الطلمنكي المقرئ، وسمع من أبي عبد الله بن الحذا صحيح مسلم وغيره، وكان صاحب أحكام بلنسية ومن أهل الفضل والجلالة، قال ابن بشكوال: أخبرنا عنه حفيده أبو الحسن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القاضي، توفي قريبًا من السبعين والأربعمائة وسنه نحو الستين، وكان قد حج، ذكر ذلك ابن مدير، وقد أخذ عنه أيضًا أبو علي بن سكَّرة، وذكر غيره أنه توفي في شعبان سنة ٤٧٦.
وأبو عبد الله محمد بن ربيعة كان من ساكني بلنسية، وأصله من جزيرة شقر من عملها، وكان مفتي أهل بلنسية في زمانه، مقدمًا في الشورى، حافظًا للفقه، وتوفي يوم السبت لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ٤٨٧، قال ابن بشكوال: كتب لي وفاته شيخنا أبو الحسن عبد الجليل المقرئ.
ومحمد بن باسَّه بن أحمد بن أرذمان الزهري المقرئ من أهل أنده، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى القراءات عن أبي القاسم خلف بن إبراهيم المقرئ الطليطلي وغيره، وكان مقرئًا فاضلًا ديِّنًا، وتوفي بإشبيلية في شهر رمضان سنة ٥١٥، وقد نيَّف على السبعين، قاله ابن بشكوال.
ومحمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي من أهل بلنسية وقاضيها، يكنى أبا الحسن، روى عن أبي العباس العذري، وعن أبي الفتح، وأبي الليث السمرقندي، وأبي الوليد الباجي وغيرهم، قال ابن بشكوال: كتب إلينا بإجازة ما رواه بخطه، وكان محببًا إلى أهل بلده، رفيعًا فيهم، جامد اليد عن أموالهم، من بيت فضل وجلالة ونباهة وصيانة، وتوفي — رحمه الله — في صدر ذي الحجة سنة ٥١٩، ومولده في شوال سنة ٤٤٦.
ومحمد بن سليمان بن مروان بن يحيى القيسي، يعرف بالبوني، سكن بلنسية وغيرها، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي داود المقري وأبي عبد الله محمد بن فرج، وأبي علي الغساني، وأبي الحسن بن الروش، وأبي علي الصدفي، وأبي محمد بن عتاب، وكانت له عناية كثيرة بالعلم والرواية وأخبار الشيوخ وأزمانهم ومبلغ أعمارهم، وجمع من ذلك كثيرًا؛ قال ابن بشكوال: ووصفه أصحابنا بالثقة والدين والفضل، وتوفي بالمرية ليلة الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر من سنة ٥٣٦.
وموصل بن أحمد بن موصل من ناحية بلنسية، سمع من أبي عبد الله بن الفخار، وأبي القاسم البريلي، وأبي عمر بن عبد البر، وتوفي قريبًا من الثمانين؛ قال ابن بشكوال: ذكره ابن مدير، وحدث عنه أبو جعفر بن مطاهر.
وسليمان بن عبد الملك بن روبيل بن إبراهيم بن عبد الله العبدري من أهل بلنسية، يكنَّى أبا الوليد، سمع من قاضيها أبي الحسن بن واجب، ومن أبي عبد الله محمد بن باسَّه، وأبي محمد بن السيد، وسمع من جماعة آخرين بشرقي الأندلس؛ قال ابن بشكوال: وسمع بقرطبة من شيخنا أبي محمد بن عتاب وغيره، وعني بالقراءات، وكتب بخطه كثيرًا، وتولى الأحكام بغير موضع، وتوفي بإشبيلية صدر شعبان من سنة ٤٣٠، وكان مولده فيما أخبرني به سنة ٤٩٦.
والحسن بن محمد بن بهلول القيسي من أهل بلنسية، يكنى أبا علي، روى عن أبي عبد الله محمد بن الحسن البُلَغي، ذكره ابن الأبار القضاعي في كتاب «التكملة» لكتاب «الصلة». والحسن بن علي بن عبد الله بن سعيد من ناحية بلنسية، يكنى أبا علي، أخذ عن أبي زكريا يحيى بن محمد بن أبي إسحاق، وعن أبي عمرو عثمان بن يوسف البلجيطي، وله رحلة حج فيها كان حيًّا في سنة ٥٩٠، ذكره ابن الأبار في «التكملة».
وحسن بن أحمد بن محمد بن موسى بن سعيد بن سعود الأنصاري، من أهل بلنسية، يكنى أبا علي، ويعرف بابن الوزير، وشُهِرَ بنسبته إلى بطرنة قرية بشرقي بلنسية، صحب القاضي أبا العطاء بن نذير وسمع منه وتفقه به؛ قال ابن الأبار في التكملة: وأخذ القراءات عن شيخنا أبي علي بن زلال، وعني بعقد الشروط، وكان ذا بصر بها، وولي قضاء بعض الجهات، وأمَّ بالمسجد المنسوب إلى ابن حزب الله في صلاة الفريضة نحوًا من أربعين سنة، وصلى التراويح بالولاة قديمًا وحديثًا، وكان من أهل التجويد والتحقيق بالإقراء؛ قال ابن الأبار: لازمته طويلًا لمجاورة ومصاهرة أوجبتا ذلك، وسمعت منه، وأذِن لي في الرواية عنه، وتوفي بين العشاءين ليلة السبت التاسع والعشرين لذي الحجة سنة ٦٢٤، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
والحسن بن محمد بن الحسن بن فاتح من أهل بلنسية، يكنَّى أبا علي، ويعرف بالشعَّار، وجدُّه فاتح مولى بن فلفل من أهل قرطبة، لقي أبا الحسن بن النعمة وأخذ عنه القراءات السبع وأجاز له، وأخذها أيضًا عن أبي محمد بن أيوب بن غالب المكتب، وسمع من أبي العطاء بن نذير صحيح البخاري، ومن أبي عبد الله بن نوح كتاب السيرة لابن إسحاق، ورحل حاجًّا فأدى الفريضة وانصرف فاحترف بالتجارة، وقعد لإقراء القرآن بآخرة من عمره. قال ابن الأبار في كتابه «التكملة»: وسمعت أنا منه في منتصف رمضان سنة ٦٣٥ أثر منازلة الروم بلنسية بعشرة أيام حكايات وأشعارًا، وأجاز لي بلفظه ما رواه، وتوفي يوم السبت عيد الأضحى من السنة المذكورة، ودفن بداخل المدينة، وأخبرني أن مولده أول سنة ٥٥٢.
وحزب الله بن خلف بن سعيد بن هذيل من أهل بلنسية، يعرف بالتبرالبي، ويكنى أبا محمد، رحل حاجًّا، وسمع بالإسكندرية من السلفي وغيره في سنة ٥٣٩، وكان من أهل المعرفة بالفرائض والحساب. وحمدون بن محمد من أهل بلنسية يعرف بابن المعلم، ويكنى أبا بكر، سمع من أبي العباس العذري وأبي الوليد الوقشي، ولازمه وأكثر عنه، وكان من أهل العلم والأدب، يضرب في قرض الشعر بسهم، وتولى الصلاة والخطبة بمسجد رحبة القاضي من بلنسية بعد تغلب الروم عليها واحتيازهم المسجد الجامع بها، وذلك سنة ٤٨٩، ثم خرج منها مع جماعة من أهلها فرارًا بدينه في شهر ربيع الآخر سنة ٤٩٠ بعضه من تاريخ ابن علقمة، قاله ابن الأبار في «التكملة».
وحيان بن عبد الله بن محمد بن هشام بن عبد الله بن حيان بن فرحون بن علم بن عبد الله بن موسى بن ملك بن حمدون بن حيان الأنصاري الأوسي من أهل بلنسية، وأصل سلفه من أروش عمل قرطبة، يكنى أبا البقاء، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن النعمة، وروى عن أبي محمد بن عبيد الله، لقيه بسبتة، وعن أبي الحسن نجبة بن يحيى، وناظر عليه بمراكش في كتاب سيبويه، وتأدب بأبي الحسن بن سعد الخير؛ قال ابن الأبار: وكان نحويًّا لغويًّا أديبًا شاعرًا، يشارك في الكتابة، ويستعمل العويص، حسن الخط جيد الضبط، وقد أقرأ وقتًا بجامع بلنسية، نصبه لذلك القاضي أبو عبد الله بن حميد، لقيته وسمعت مذاكراته، وتوفي سنة ٦٠٩.
وخلف بن عمر من أهل جزيرة شقر، سكن بلنسية، يكنى أبا القاسم ويعرف بالأخفش، كان يعلم العربية والآداب، وكان حسن التفهيم والتلقين مع المعرفة بالعروض ورَّاقًا محسنًا ضابطًا يتنافس فيما يكتب، ذكره ابن عزيز وأخذ عنه، وحكى أنه كان بملازمته النسخ والوراقة ربما أشكل عليه ضبط الألفاظ، فقرأ العربية كبيرًا وبرع فيها، قال: وتوفي بعد الستين والأربعمائة. نقل ذلك ابن الأبار.
وخليفة بن عيسى بن رافع بن أحمد بن خليفة بن سعيد بن رافع بن حليس الأموي، من أهل بلنسية، يكنى أبا بكر، روى عن أبي داود المُقْرِي، ذكر ذلك ابن عيَّاد ونقله ابن الأبار.
وداود بن محمد بن خليل بن يوسف بن نضير الأنصاري، يكنى أبا الحسن، أصله من سرقسطة، وسكن بلنسية، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي عبد الله بن ريان وغيرهما، ذكره محمد بن عياد، ونقله ابن الأبار.
وزكريا بن علي بن يوسف بن علي الأنصاري، من أهل بلنسية، يعرف بالجعيدي، ويكنى أبا يحيى، كان مقرئًا فاضلًا، وهو والد أبي زكريا الجعيدي، توفي آخر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة أو أول سنة ٥٧٤، قاله ابن الأبار.
وطارق بن موسى بن يعيش بن الحسين بن علي بن هشام المخزومي من أهل بلنسية، يعرف بالمنصفي، من قرية في غربيِّها، يكنى بأبي محمد وبأبي الحسن أيضًا، رحل قبل العشرين وخمسمائة، فأدى الفريضة، وجاور بمكة، وسمع بها من أبي عبد الله الحسين بن علي الطبري، ومن الشريف أبي محمد عبد الباقي الزهري المعروف بشقران، أخذ عنه كتاب الإحياء لأبي حامد الغزالي عن مؤلفه، وسمع بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي، وأبي الحسن بن مشرف، وأبي عبد الله الرازي، وأبي طاهر السلفي وغيرهم، ثم قفل إلى بلده، فحدث وأخذ الناس عنه، وكان شيخًا صالحًا عالي الرواية ثقة، قال ابن عياد: لم ألق أفضل منه. وحدث عنه بالسماع والإجازة جلة منهم أبو الحسن بن هذيل، وأبو محمد القُلُنِّي، وأبو مروان بن الصيقل، وأبو العباس الإقليشي، وأبو بكر بن خير، وأبو عبد الله بن حميد، وأبو الحسن بن سعد الخير، وأبو محمد عبد الحق الإشبيلي، وأبو بكر عتيق بن أحمد بن الخصم، وأبو جعفر طارق بن موسى، وأبو عبد الملك بن عبد العزيز، وأبو بكر بن جوزيه، وغيرهم، ثم رحل ثانية إلى المشرق مع صهره أبي العباس الإقليشي، وأبي الوليد بن خيرة الحافظ، وذلك سنة ٥٤٢ وقد نيف على السبعين، فأقام بمكة مجاورًا إلى أن توفي بها سنة ٥٤٩. روى ذلك ابن الأبار وقال أكثر خبره عن ابن عياد.
وطارق بن موسى بن طارق المعافري المقرئ من أهل بلنسية، ومن ولد يمن بن سعيد المعافري والد جحاف بن يمن، يكنى أبا جعفر، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وعن أبي الأصبغ بن المرابط، ورحل إلى أبي الحسن شريح بن محمد فأخذ عنه بإشبيلية، ولقي بمالقة أبا علي منصور بن الخير، وأبا عبد الله ابن أخت غانم، وأبا الحسين بن الطراوة، فأخذ عنهم، وسمع أيضًا من أبي بكر بن العربي في تردده على بلنسية، ومن أبي بكر بن أسد، وطارق بن يعيش، وأبي محمد القُلُنِّي، وأبي بكر بن بَرُنجال، وغيرهم، وتصدر للإقراء ببلنسية، وكان من أهل التجويد والإتقان في القراءة، قاله ابن الأبار، وكان يقرئ بالمسجد الجامع ويصلي فيه التراويح، وتولى الحسبة والمواريث، وقتل عند بكوره إلى صلاة الصبح في جمادى الأولى سنة ٥٦٦.
ومحمد بن عبيد الله بن عبد البر بن ربيعة من أهل بلنسية، أصله من جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، سمع من أبي عمر بن عبد البر، وأبي المطرف بن جحاف، وأبي عبد الله بن حزب الله وغيرهم، وكان فقيهًا حافظًا مفتيًا، توفي في حصار الروم ببلنسية سنة ٤٨٧، ذكر ذلك ابن علقمة، قال ابن الأبار: إنه قد ذكره ابن بشكوال، ولكن لم ينسبه ولا سمى شيوخه. قلنا: قد تقدم ذكر هذا الفاضل نقلًا عن ابن بشكوال، ولم يذكر من أسمائه سوى محمد بن ربيعة، قال: كان من ساكني بلنسية، وأصله من جزيرة شقر من عملها.
ومحمد بن يوسف بن سعيد بن عيسى الكناني من أهل طليطلة، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي بكر أحمد بن يوسف بن حماد، سمع منه مختصر الطليطلي في الفقه، وروى عنه أبو الحسن بن هذيل، وكان فقيهًا أديبًا أصوليًّا متكلمًا، وامتحن بأبي أحمد بن جحاف الأخيف في أيام رئاسته، فخرج إلى المريَّة وبها توفي قبل الخمسمائة، ذكر ذلك ابن الأبار في التكملة نقلًا عن ابن عياد.
ومحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن سهل الأنصاري الأوسي، من أهل سرقسطة، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الخرَّاز، روى عن أبي عبد الله بن أوس الحجاري، وأبي العباس العذري، وأبي الوليد الوقشي، واختص به وسمع منه روايته، وهو كان القارئ لما يؤخذ عنه، وكان أديبًا شاعرًا راوية مكثرًا حسن الخط، وكان أبوه أبو جعفر شاعرًا أيضًا، وهو الذي خاطبه أبو عامر بن غرسية بالرسالة المشهورة، حدَّث عنه أبو محمد القلنِّي، وأبو عبد الله بن إدريس المخزومي، وأبو طاهر التميمي، قال ابن الأبار في التكملة ذلك، ونقل بعضه عن ابن حبيش، ونقل عن ابن الدباغ أنه أقرأ القرآن بالثغر وكان عنده أدب صالح.
ومحمد بن أحمد بن عبد الله بن حصن الأنصاري، من ولد سعيد بن سعد بن عبادة، كان من أهل بلنسية، وسكن عقبة مربيطر، وأصله من شارقة، يكنَّى أبا عبد الله، سمع من أبي وليد الوقشي، وكان يلازمه، وأخذ عنه الموطأ وغيره، وكان حسن الخط ذا عناية بالعلم نبيه البيت، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة عن التكملة لابن الأبار.
ومحمد بن عبد الله بن سيف الجذامي من أهل بلنسية، وسكن شاطبة، يكنَّى أبا عبد الله، أخذ القراءات عن أبي داود وابن الدوشن، وسمع من أبي بكر بن مفوَّز، وتعلم العربية بدانية على أبي بكر يحيى بن الفرضي، وتصدر للإقراء، وكان مقرئًا ضابطًا وأديبًا شاعرًا، روى عنه أبو محمد عبد الغني بن مكي، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة، روى أكثره ابن عياد، قاله ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن خُلَصة بن فتح بن قاسم بن سليمان بن سويد اللخمي النحوي، من أهل بلنسية، أصله من شُرَيُّون من أعمالها، يكنَّى أبا عبد الله، سمع أبا علي الصدفي، وأبا بكر بن العربي، قال ابن الأبار: وكان أستاذًا في علم اللسان، مقدَّمًا في صناعة العربية والأدب، ولا أدري عمن أخذها، فصيحًا مفوهًا، ذا سمْت حسن وذكاء معروف، حافظًا للغات العرب قائمًا عليها، ونثره فوق نظمه ورسالته التي رد فيها على ابن السيد من أجود الرسائل، وقد حملت عنه، وكان ابن العربي يجلُّه ويثني عليه بعلمه، وربما زاره في منزله، أقرأ بدانية وبلنسية، ثم انتقل عنها بآخرة من عمره إلى المريَّة، وأقرأ بها، وأخذ عنه أبو بكر بن رزق، وحضر إقراءه لكتاب سيبويه، ولم يزل مقيمًا بالمريَّة إلى أن توفي بها منتصف ليلة السبت في عشر المحرم سنة ٥٢١، ودفن لصلاة العصر منه بمقبرة الحوض، وصلى عليه الخطيب أبو الأصبغ بن الحطان. قال ابن الأبار: قرأت ذلك بخط ابن رزق، ووافقه ابن حبيش على سنة إحدى وعشرين وهو الصحيح.
وقال ابن عياد: سمعت أبا بكر بن نمارة يقول: توفي أبو عبد الله بن خلصة بالمريَّة سنة ٥٢٠ أو نحوها، وهو أحد من حدَّث عن ابن العربي، ومات قبله بمدة. وتوفي ببلنسية ابن زرياب وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الله بن سعيد من أهل دورقة، وقد مر ذكرها في الجزء الثاني من «الحلل السندسية» كتابنا هذا، وذلك في صدر الفصل الذي عنوانه «من نبغ من أهل العلم من مدينة دروقة»، وكانت وفاته ببلنسية ليلة الخميس منتصف رمضان سنة ٥٢٨، وهو ممن أخذ عن أبي بكر بن العربي، وكان من أهل العلم والفقه مع الزهد، روى ابن الأبار خبره عن أيوب بن نوح وعن ابن سالم.
ومحمد بن عمر بن عبد الله بن محمد العقيلي، من أهل بلنسية، يعرف بابن القباب، ويكنى أبا بكر، روى عن أبي الوليد الوقشي، وخليص بن عبد الله، وابن السيد وغيره، ولقي بقرطبة أبا محمد بن عتاب، وابن طريف، وأبا بحر الأسدي، فسمع منهم في سنة ٥١٣، وبعدها، وله أيضًا سماع من أبي بكر بن أسود، وكتب عنه عامة أهل الأندلس كأبي علي الغساني، وابن أبي تليد، وابن سكَّره، وابن العربي، وأبي عبد الله الموروري، وهو من بيت نباهة وأصالة، وكان ذا عناية بالرواية، حسن الخط، جيد الضبط، توفي بعد سنة ٥٣٠، عن أبي عياد وابن سالم، ذكره ابن الأبَّار.
ومحمد بن خليل بن يوسف الأنصاري من أهل سرقسطة، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، أخذ عن أبي المطرف بن الوراق، وأبي محمد عبد الله بن يوسف بن سمحون، وكان سماعه من ابن سمحون في سنتي ثلاثين وإحدى وثلاثين وخمسمائة.
ومحمد بن سعادة بن عمر الأنصاري من أهل بلنسية، يكنَّى أبا عبد الله، ويعرف بابن قديم، تفقه بأبي الوليد الوقَّشي، وتعلم العربية عند أبي العباس الكفيف، وتوفي في نحو سنة ٥٣١ عن ابن عياد، ذكره ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عثمان من أهل بلنسية، ولد ببريانة من أعمالها وإليها ينسب، يكنَّى أبا عامر، كان من جلة الأدباء ومشاهير الشعراء وعمَّر وأسنَّ، وكان يصحب أبا محمد القلني، وقد أخذ عنه أبو عبد الله بن نابل، قال ابن الأبار: أنشدني أبو الربيع بن سالم قال: أنشدني أبو عامر البرياني لنفسه في الصنم الذي بشاطبة:
إلى آخر الأبيات.
وقد تقدم خبر هذا الرجل، وذكر هذه الأبيات عند ذكر مدينة «بريانة» من أعمال بلنسية، التي هي بين قرية بني قاسم ومدينة مرباطر، فلا لزوم لإعادة الأبيات ثانية.
قال ابن الأبار: إن أبا عامر هذا توفي سنة ٥٣٣، وقد بلغ ستًّا وثمانين سنة، قال: وفيها مات أبو إسحاق الخفاجي، وكان من أترابه وأصحابه.
ومحمد بن علي بن عطية من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشواش، كان أديبًا يشارك في الكتابة وقرض الشعر، وانفرد في وقته بحسن الخط، وكان بديع الوراقة أنيقها يتنافس فيما كتب إلى اليوم، قال ابن الأبار: ولم أقف على أسماء شيوخه ولا على تاريخ وفاته، وأحسبها في نحو الأربعين وخمسمائة.
ومحمد بن أحمد بن خلف بن بيبش العبدري من أهل أنده، سكن بلنسية، يكنى أبا عبد الله، له رواية عن أبي عبد الله الخولاني، وكان فقيهًا عارفًا بالشروط، روى عنه ابنه أبو بكر بيبش بن محمد، قال ابن الأبار: وقرأت بخطه أن أباه توفي ببلنسية عصر يوم الثلاثاء الرابع من صفر سنة ٥٤١.
ومحمد بن مروان بن يونس من أهل لِرْية، وسكن بلنسية، يعرف بابن الأديب، ويكنى أبا عبد الله، سمع من أبي بكر بن العربي، وطارق بن يعيش وغيرهما، وكان حسن الوراقة، معروفًا بذلك، وكتب بخطه علمًا كثيرًا، وولاه القاضي مروان بن عبد العزيز خطة السوق، أخذ عنه ابن عياد، وكتب من فوائده عقيدة أبي بكر المرادي، وأشعارًا لابن العربي، وغير ذلك، وقال: توفي ببلنسية سنة إحدى أو اثنتين وأربعين وخمسمائة وقد نيف على الستين. قاله ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي الحسن بن هذيل، أخذ عنه القراءات وعن طارق بن يعيش، سمع منه السنن لأبي داود بقراءته في سنة ٥٣٦، وله أيضًا سماع عن ابن الدباغ وابن النعمة، وتفقه بأبي بكر بن أسود وأبي محمد بن عاشر، وولي قضاء بلده مرتين؛ إحداهما عند تأمُّر ابن عمه مروان بن عبد الله، والثانية في إمارة ابن سعد، وكان وقورًا حليمًا حسن السيرة صلبًا في الحق شديد العارضة. وقتله أبو مروان عبد الملك بن شلبان في ثورته ببلنسية سنة ٥٤٧، ومولده سنة ٥٠٧، ذكر ذلك ابن عياد، وقال ابن سفين: قبل سنة ست وأربعين، وهو وهم. عن ابن الأبار.
ومحمد بن جعفر بن خيرة مولى لابن فُطَيْس القرطبي من أهل بلنسية، وصاحب الصلاة والخطبة بجامعها، يعرف بابن شرويَّة، ويكنى أبا عامر، سمع من أبي الوليد الوقشي، ولازمه، وأجاز له، وكان صهره، وقد تكلم في روايته عنه لصغره، ومن أبي بكر عبد الباقي بن بُرَّال وأبي داود المقري، وسمع من طاهر بن مفوز الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وأجاز له أبو القاسم حاتم بن محمد وأبو عبد الله بن السقاط القاضي، وكان شيخًا فاضلًا نزيهًا جميل الشاردة ذا جهارة في خطبته ونباهة في بلده، واقتنى من الدواوين والدفاتر كثيرًا، وأسن وعمر طويلًا، وثقل حتى كان لا يرقى المنبر للخطبة إلى بمعين، حدث عنه ابن بشكوال وأغفله، وابن حميد، وابن عياد، وعبد المنعم بن الفرس، وابن أبي جمرة شيخنا وغيرهم، وتوفي سحر ليلة الاثنين سادس ذي القعدة سنة ٥٤٧، ودفن خارج باب بيطاله، وما زال قبره هنالك معروفًا يتبرك به إلى أن استولى الروم ثانية على بلنسية في أواخر صفر سنة ٦٣٦، فطمسوه وسائر قبور المسلمين، وصلى عليه أبو الحسن بن النعمة وقد قارب المائة في سنه، وكان أضن الناس بالإعلام بمولده، ذكره القنطري وابن عياد وابن سفين وغيرهم، قال ابن حبيش في وفاته: سنة ست وأربعين، وهو وهم منه. عن ابن الأبار.
ومحمد بن عبد الله بن البرا من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي حفص بن واجب، وأبي الحسن بن النعمة، وتفقه بأبي محمد بن عاشر، وأبي بكر بن أسد، ورحل إلى المرية، فلقي أبا القاسم بن ورد وسمع منه، وكان فقيهًا حافظًا متصرفًا في وجوه الفتيا من أهل الدين والفضل، وولي خطة الشورى ببلده للقاضي أبي محمد بن جحاف، وتوفي في رجب سنة ٥٤٨، عن ابن عياد وابن سفين. عن ابن الأبار أيضًا.
ومحمد بن سليمان بن سيدراي الكلابي الوراق من أهل قلعة أيوب، سكن بلنسية، وبالقَلْعي كان يعرف. وقد تقدمت ترجمته في صفحة ٩٦ من الجزء الثاني من هذا الكتاب، وذلك بين علماء قلعة أيوب فليراجع في مكانه.
وأبو بكر محمد بن الحسن بن محمد العبدري من أهل بلنسية، يعرف بابن سُرُنْباق، قال ابن الأبار: وإلى سلفه ينسب المسجد الذي بربض ابن عطوش من داخل بلنسية، ويقال له مسجد الغرفة، سمع خليص بن عبد الله، وأبا علي الصدفي، وأبا عامر بن حبيب، وبقرطبة ابن عتاب، وابن مغيث، وأبا بحر الأسدي، وأخذ بإشبيلية عن أبي الحسن بن الأخضر، وكان من أهل العلم والرواية والرحلة في سماع العلم. قال: بعضه عن ابن سالم؛ أي بعضه نقله هذا.
وأبو عبد الله محمد بن يونس بن سلمة الأنصاري، وولد ببلنسية سنة ٥٠٩، ونزل بالمرية، وأصله من طرطوشة؛ ولهذا كان يقال له الطرطوشي، كتب عنه ابن عياد، وذكر أنه صحب أبا العباس بن العريف. عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن بيطش الكناني من أهل بلنسية، يعرف بابن الألشي، روى عن أبي بكر بن أسد، وأبي محمد بن عاشر، وتفقه بهما، وحمل عن أبيه كثيرًا من علم الرأي، وولي خطة الشورى ببلده. قال ابن الأبار: وكان فاضلًا نزيهًا صموتًا، وتوفي سنة ٥٥٠ أو نحوها، ذكره ابن سفيان، وكان صاحب ثروة ويسار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري من أهل بلنسية، يعرف بابن مَوْجُوال، روى عن أبي الحسن بن هذيل وأخذ عنه القراءات، وعن أبي محمد البطليوسي، وسمع من أبي علي الصدفي قبل موته بأيام. قال ابن الأبار: نزل هو أخوه أبو محمد عبد الله إشبيلية، فلقيا مشايخها، وسمعا بها من أبي محمد بن أيوب الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وعني محمد هذا بالقراءات عناية أخيه بالفقه وقد أخذ عنه.
وأبو عبد الله محمد بن رافع بن أحمد بن خليفة بن سعيد بن رافع بن حَلْبَس الأموي من أهل بلنسية، أقرأ العربية، وكان من أهل المعرفة. قال ابن الأبار: وله، ولأخويه عيسى المقرئ وعلي، نباهة ورواية، ولخليفة بن عيسى أيضًا، ذكرهم جميعًا ابن عياد.
ومحمد بن عبد الوهاب بن عبد الملك بن غالب بن عبد الرءوف بن غالب بن نفيس العبدري الوراق من أهل بلنسية، وأصله من طرطوشة، يكنى أبا عامر وأبا عبد الله، سمع من أبي محمد البطليوسي ومن أبي محمد بن عطية القاضي، وكان ضابطًا حسن الوراقة، عن ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عمران بن عبد الرحمن بن محمد بن عمران بن نمارة الحَجَري، بفتح الجيم، من أهل بلنسية، يُكَنَّى أبا بكر، وهو من ولد أوس بن حَجَر التميمي شاعر تميم في الجاهلية، وقد نشأ محمد هذا في المرية؛ وذلك لأن أباه أحمد نقله إلى المرية سنة ٤٨٧ بعد تغلب الروم على بلنسية، فنشأ بالمرية، وقرأ القرآن بها على أبي الحسن البرجي، وسمع الحديث من أبي علي الصدفي، وعياد بن سرحان، وأبي القاسم بن العربي، وعبد القادر بن الحناط، وأبي عبد الله البلغي. وصحب أبا العباس بن العريف، ولقي أبا عبد الله بن الفراء، ورحل إلى قرطبة سنة ٥٠٦، فأخذ بها القراءات عن أبي القاسم بن النخاس، وعليه اعتمد لعلو روايته التي ساوى بها في بعض الطرق أبا عمرو المقرئ، وسمع منه ومن أبي بحر الأسدي، وأجاز له كثيرون كأبي محمد بن عتاب، وأبي عبد الله الخولاني، وأبي الحسن شريح، وأبي بكر بن عطية، وأبي بكر بن الفصيح، وعاد إلى بلنسية وطنه سنة ٥٠٨، فأخذ العربية والآداب عن أبي محمد البطليوسي، وتفقه بأبي القاسم بن الأنقر السرقسطي، وسمع منهما وأجازا له، وكذلك لقي في مرسية أبا محمد بن أبي جعفر، فروى عنه وتصدر للإقراء بآخرة من عمره، ووصفه ابن الأبار بالنزاهة والتواضع مع النباهة والوجاهة في بلده، قال: وكان أبو الحسن بن هذيل يثني عليه ويصفه بالانقباض عن خدمة السلطان على كثرة ماله وسعة حاله. وامتحن بالسجن في سنة ثلاث وثلاثين، وهنالك كتب بخطه شرح مقدمة ابن باب شاذ. قال ابن الأبار: حدثنا عنه غير واحد من شيوخنا، وتوفي يوم الاثنين الرابع والعشرين — وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر — من شعبان سنة ٥٦٣، ودفن غدوة الثلاثاء، وصلى عليه أبو الحسن بن النعمة، وكانت جنازته مشهودة، ومولده ببلنسية يوم الأربعاء عاشر المحرم سنة ٤٨٤. أكثره عن ابن عياد وابن سفيان.
وأبو عبد الله محمد بن موفق المكتَّب مولى ابن علي بن أم الحور من أهل بلنسية يعرف بالخراط، أخذ القراءات عن أبي محمد بن سعدون الضرير وأبي الأصبغ بن المرابط، ولقي أبا زيد بن الوراق عند خروجه من سرقسطة، وسمع أبا الحسن بن هذيل، وكان صناع اليد عارفًا بمرسوم الخط في المصاحف، معروفًا بالضبط وحسن الوراقة، يغالَى فيما يكتب، أخذ عنه ابن عياد وابنه محمد، قال ابن الأبار: توفي بلرية مستهل ذي الحجة سنة ٥٦٣، ومولده سنة ٤٨٨، وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن أبي الفتح بن حصن بن لربيق بن عفيون بن غفايش بن رزق بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي من أهل بلنسية، سكن مربيطر، وأصله من شارقة، سمع من صهره أبي علي بن بسيل وغيره، وولي قضاء مربيطر مضافًا إلى الصلاة والخطبة، وكان سريًّا نزيهًا، قال ابن الأبار: وهو خال شيخنا أبي الخطاب بن واجب، سماه ابن سفيان في معجم شيوخه، وتوفي سنة ٥٦٧.
وأبو بكر محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن حاضر الأزدي من أهل بلنسية، أخذ القراءة عن أبي الحسن بن هذيل، وسمع من أبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن النعمة، وأقرأ بجامع بلنسية مدة ثم توجه إلى ميورقة، وبها توفي حول سنة ٥٥٥، ومولده حول سنة ٥١٠، ذكره ابن عياد، ونقله ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عتيق بن عطاف الأنصاري من أهل لاردة، سكن بلنسية، يعرف بابن المؤذن، أخذ عن أبي محمد القُلنِّي، وناظر عليه في المدوَّنة، ورحل إلى قرطبة فناظر على أبي عبد الله بن الحاج، وقدم للشورى والفتيا ببلنسية، وكان عارفًا بالفقه حافظًا للرأي، قال ابن عياد: مولده حول التسعين وأربعمائة، وقال ابنه محمد بن عياد: مولده حول سنة خمس وتسعين، وتوفي في شعبان سنة ٥٧٨. عن ابن الأبار.
وأبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي من أهل بلنسية، سمع أباه أبا حفص وتفقه به، وأبا الحسن بن النعمة، وأخذ القراءات عن أبي محمد بن سعدون الضرير، وولِّي القضاء بعدة كُور من بلده، وقدم للشورى والخطبة بالمسجد الجامع مناوبًا لشيخه ابن النعمة، وتقلد النيابة في الأحكام مدة قضاء أبي تميم ميمون بن جبارة، وكان دَريًّا بها مقدمًا فيها، معروفًا بالنزاهة والفضل ورجاحة العقل، حسن السمت، رائق الشارة غرَّةً في أهل بيته. قال ابن الأبار: توفي ضحى يوم الاثنين مستهل ربيع الأول سنة ٥٨٣، ومولده ضحى يوم الأربعاء سادس جمادى الآخرة سنة ٥١٧، بعضه عن ابن سالم، وكان يرفع به جدًّا ويقول: لم يكن في بني واجب على نباهتهم أنبه منه.
وأبو عبد الله محمد بن مقاتل بن حيدرة بن مسعود بن خلف بن سعيد الزُّهري من أهل بلنسية، صحب أبا جعفر بن جبير وغيره، وكان فقيهًا أديبًا، ولِّي القضاء بلرية وغيرها من الكور، سماه ابن عياد وابن سالم في معجمي شيوخهما. وتوفي في صدر المحرَّم سنة ٥٨٦ ومولده سنة ٥١٥.
وأبو عبد الله محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد بن مأمون الأموي من أهل بلنسية، أصله من قرية بغربها تعرف بأسِيلة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، ثم رحل إلى غرناطة فأخذ القراءات بها عن أبي الحسن بن ثابت، وأبي عبد الله بن أبي سمرة، ورحل إلى إشبيلية فأخذ القراءات عن أبي الحسن شريح سنة ٥٣٥، وقصد جيَّان للقاء الأستاذ أبي بكر بن مسعود، فاختلف إليه ثلاثين شهرًا يأخذ عنه العربية والآداب واللغة، وسمع هنالك من أبي الأصبغ بن عبادة الرعيني، ولقي أيضًا أبا القاسم بن الأبرش فأخذ عنه العربية، وقيَّد كثيرًا من فوائده، ودخل المرية سنة تسع وثلاثين، فسمع فيها من أبي محمد بن عطية القاضي، ومن أبي الحجاج القضاعي، وأجاز له كثيرون منهم أبو الحسن بن مغيث، وأبو بكر بن فندلة، وأبو مروان الباجي، وأبو بكر بن مدير، وأبو الحسن بن موهب، وأبو بكر بن العربي، وأبو عبد الله بن معمَّر، وأبو عامر بن شروية، وأبو الحكم بن غشليان، وقفل إلى بلدة بعلمٍ جم ورواية عالية، فأقرأ وحدث وعلم العربية، وأخذ عنه الناس، وولي قضاء بلنسية في العاشر من جمادى الآخرة سنة إحدى وثمانين، وأقام على ذلك أعوامًا حميد السيرة، مرضيَّ الطريقة، عدلًا في أحكامه، جزلًا في رأيه، صليبًا في الحق، إمامًا يعتمد عليه في القراءة والعربية؛ لتقدمه في معرفتهما مع الحظ الوافر من البلاغة، والتصرف البديع في الكتابة، وحسن الإمتاع بما يورده ويحكيه، وأوطن مرسية بآخرة من عمره، وناوب في الصلاة بها والخطبة أبا القاسم بن حبيش، وتوفي بها عند صدره عن قرطبة في النصف الثاني من جمادى الأولى سنة ٥٨٦، قيل: في السابع عشر منه، ودفن بظاهر مرسية عند مسجد الجُرف خارج باب ابن أحمد، إلى جانب صاحبه أبي القاسم بن حبيش — رحمهما الله — ومولده ببلنسية سنة ٥١٣. قال ابن الأبار بعد أن روى كل هذا: بعض خبره عن أبي زكريا الجعيدي.
ومحمد بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي المقرئ من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، روى عن أبيه، وأبي العباس بن الحلَّال، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة، وقرأ أيضًا على أبي جعفر طارق بن موسى بقراءة نافع، ولقي أبا علي بن عريب، وأبا عبد الله بن الفرس، وأخذ عنهما، وكتب إليه أبو القاسم بن حبيش، وأبو عبيد الله بن حميد وغيرهما، وكان يقرئ القرآن بمسجد ابن حزب الله من داخل بلنسية، ويؤم الناس في صلاة الفريضة، وكان موصوفًا بالإتقان والضبط والذكاء، مع الصلاح والخير، وكان صنع اليد بارع الخط صاحب تذهيب. قال ابن الأبار: روى لنا عنه أبو الحسن بن عبد الودود المربيطري، وتوفي سنة ٥٨٦، ومولده سنة ٥٣٧ بعضه عن ابن سالم.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل من أهل بلنسية، ويكنى أبا بكر أيضًا، روى عن أبيه وأبي عامر بن شرويه، وأبي الحسن طارق بن يعيش، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي الحسن بن النعمة وغيرهم، ورحل حاجًّا فلقي بالإسكندرية أبا طاهر السلفي سنة ٥٣٩، وحج سنة أربعين بعدها، فسمع بمكة من أبي علي بن العرجاء، وأجاز له أبو المظفر الشيباني، وقفل إلى الأندلس سنة ست وأربعين. قال ابن الأبار: وأخذ عنه أبو عمر بن عياد، وابناه محمد وأحمد، ومن شيوخنا أبو الربيع بن سالم، وأبو زيد بن حِماس، وأبو بكر بن محرز، وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر، له حظ من علم العبارة، ومشاركة يسيرة في اللغة، وكتب بخطه على ضعفه كثيرًا، ولد سنة ٥١٩، وقال ابن محرز: إنه ولد في حدود سنة ٥٢٠، وتوفي سنة ٥٨٨.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي زاهر الخطيب من أهل بلنسية، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل، وسمع أبا الحسن بن النعمة، وكان من أهل الدين والصلاح والفضل والورع، سمع منه ابنه أبو حامد محمد بن محمد المكتَّب وغيره، وأقرأ القرآن طوال عمره، وأسمع كتب الرقائق والمواعظ، وكان خطيبًا ببعض نواحي بلنسية، توفي بها مستهل ربيع الأول سنة ٥٩٠ وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت جنازته مشهودة لم يتخلف عنها أحد. عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد المكتَّب من أهل بلنسية، يعرف بابن عذارى، سماه أبو الربيع بن سالم في شيوخه، وقد كان معلمه في الكتاب، عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سلمان بن عثمان بن هاجد الأنصاري من أهل بلنسية، أخذ القراءات عن أبي بكر بن نمارة، وأبي زكريا يحيى بن أحمد بن أبي إسحاق، ورحل حاجًّا سنة ٥٧١، فأدى الفريضة في سنة اثنتين بعدها، وحج بعد ذلك حجتين، وجاور بمكة عامين، وسمع بها من أبي الحسن علي بن حميد بن عمار الطرابلسي صحيح البخاري، وكان قد سمعه من أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر الهروي، وسمع أيضًا من أبي محمد المبارك بن الطباخ، وسمع بالإسكندرية من أبي طاهر السلفي، وعاد إلى بلنسية بعد سنة ٥٧٦، وأخذ عنه أبو الحسن بن خيرة، وأبو عبد الله بن أبي البقاء وغيرهما. قال ابن الأبار: كان من أهل الصلاح والفضل والورع، متحققًا بأعمال البر من الصدقات ومفاداة الأسرى، محترفًا بالتجارة، مولده بعد الثلاثين وخمسمائة، توفي بمرسية ليلة الأربعاء الثاني أو الثالث من المحرم سنة ٥٩٨، وصُلِّي عليه صلاة العصر من اليوم المذكور، ودفن خارجها بالمصلى الجديد.
وأبو عبد الله بن خلف بن مرزوق بن أبي الأحوص الزناتي من أهل بلنسية، أصله من أندة من أعمالها، ينسب إلى زناته من نواحيها، يعرف بابن نِسع (بالنون)، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل ولازمه وأصهر إليه، وأخذ عن أبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة وأجازوا له. قال ابن الأبار: وسمع من أبي الحسن طارق بن يعيش كتاب السيرة لابن إسحاق، ولكن لم يُجِزْ له، وأخذ عن أبي بكر عتيق بن الخصم مختصر العين للزبيدي، وأجاز له أبو القاسم بن حبيش ما رواه وألفه، وكان مقرئًا صالحًا زاهدًا ورعًا، أخذ عنه الناس، وكثيرًا ما كان يسمع كتاب السيرة لعلوِّ إسناده فيه، وكذلك الاستيعاب، حتى كاد يحفظهما. قال ابن الأبار: حدثني بذلك والدي عبد الله بن أبي بكر، وسمع منه هو وجماعة منهم أبو الحسن بن خيرة، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله بن أبي البقاء، وأبو بكر بن محرز، وأبو جعفر بن الدلال، وأبو محمد بن مطروح، وغيرهم، ولد سنة ٥٠٩، وتوفي صبح السبت الثاني عشر من شعبان سنة ٥٩٩، وهو ابن تسعين سنة، ودفن لصلاة العصر من اليوم المذكور بمقبرة باب بَيْطالة، وصلى عليه أبو الحسن بن خيرة، وكانت جنازته مشهودة.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن خلف بن يحيى بن خلف بن شلبون الأنصاري النحوي من أهل بلنسية، سمع من أبي بكر بن جزيه، وأبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن نسع، وأبي الحجاج بن أيوب، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي جعفر الحصار، وابن كوثر، وابن عروس، وابن حميد. قال ابن الأبار: وكان من أهل الرواية والدراية مع الضبط والإتقان وحسن الخط، وعني بالعربية والآداب فبرع فيها، وقعد للتعليم بها قال: ووصف لي بالتحقيق، وقد وقفت له على نظم ضعيف، وتوفي معتبطًا سنة ٥٩٩.
ومحمد بن يحيى بن خزعل بن سيف الطلحي الشريف، من ولد طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق — رضي الله عنه — من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، سمع أبا عبد الله بن حميد وأخذ عنه العربية، وأجاز له أبو محمد بن عبيد الله وأبو القاسم السهيلي وغيرهما. وكان أديبًا نحويًّا بارعًا فاضلًا، توفي بمراكش سنة ٦٠٤، عن ابن سالم، قاله ابن الأبار.
ومحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان بن محمد الزهري من أهل بلنسية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن القح، سمع من صهره أبي الحسن بن هذيل، ومن أبي الحسن بن النعمة، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن طارق بن يعيش، ومن أبي بكر بن خبر، سمع منه بإشبيلية سنة ٥٧١، وأخذ عن أبي القاسم بن حبيش، وأبي الحسن بن سعد الخير، وكان له حظ من الفقه والقراءات، أخذ عنه ابنه أبو بكر محمد، وأبو عبد الله بن أبي البقاء وغيرهما. قال ابن الأبار: ورأيته وأنا صغير، وتوفي سحر ليلة الجمعة الثاني لجمادى الآخرة سنة ٦٠٥، ومولده سنة سبع وعشرين وخمسمائة.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن يحيى بن محمد بن عمر الأنصاري من أهل بلنسية، يعرف بابن غيرة. قال ابن الأبار: أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن نوح، وأبي جعفر الحصار من شيوخنا، وسمع من أبي عبد الله بن نسع، وأبي بكر بن علي القاضي، وسمع بلرية عن أبي زكريا يحيى بن محمد بن أبي إسحاق، وأبي عبد الله بن عياد، وأبي عبد الله بن فريع، وأخذ بمرسية عن أبي بكر بن أبي جمرة، وأخذ بإشبيلية القراءات عن أبي الحسن نجبة بن يحيى، وأبي إسحاق إبراهيم الطرياني، وأبي جعفر بن مضاء وغيرهم، وعني بالرواية أتم العناية، قال: ولا أعلمه حدث هذا، ولم يذكر ابن الأبار سنة مولده ولا سنة وفاته.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن محمد بن مطروح التجيبي من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، سمع من أبي الحسن بن النعمة، وأجاز له أبو بكر بن أبي جمرة، وكان وراقًا يبيع الكتب، إخباريًّا، أديبًا، حلو النادرة، فكيهًا، وجمع شعر أبي بكر يحيى بن محمد الجزار السرقسطي، وسماه «روضة المحاسن وعمدة المُحَاسن» قال ابن الأبار. روى عنه أبو عبد الله بن أبي البقاء وابنه أبو محمد عبد الله شيخنا، وقال لي: توفي سنة ٦٠٦، ومولده بعد الأربعين وخمسمائة.
وأبو عبد الله محمد بن أيوب بن محمد بن وهب بن محمد بن وهب بن نوح الغافقي من أهل بلنسية، ودار سلفه النبيه سرقسطة، سمع من أبيه أبي محمد أيوب، ومن أبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الحسن بن النعمة، وأبي القاسم بن حبيش، وتفقه بأبي بكر يحيى بن محمد بن عقال، واستظهر المدونة عليه، وأخذ العربية والآداب عن ابن النعمة، وأجاز له أبو مروان بن قزمان، وأبو بكر بن محرز البطليوسي، وأبو مروان بن سلمة الوشقي، وأبو القاسم بن بشكوال وغيرهم. وكتب إليه من الإسكندرية أبو طاهر السلفي، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية، مع وفور حظه منها وميله فيها إلى الأعلام المشاهير دون اعتبار لعلوِّ الأسانيد، وولي خطة الشورى في حياة شيوخه، وزاحم كبارهم في الحفظ والتحصيل، ولم يكن في وقته بشرقي الأندلس له نظير. كان رأسًا في العلماء الراسخين، وصدرًا في الفقهاء المشاورين، تقدم في الفتيا، واطلع على الآداب، واضطلع بالغريب، وشارك في التفسير، وتحقق بالقراءات، وأما عقد الشروط فإليه انتهت الرئاسة فيه، وبه اقتدى من بعده، لم يسبقه أحد من أهل زمانه إلى ما تميز به في ذلك مع حسن الخط وبراعة الضبط والبصر بالحديث والحفظ للأنساب والأخبار، وله تنابيه في فنون شتى، ولو عني بالتأليف لأربى على من سلف، وكان كريم الخلق عظيم القدر سمحًا جوادًا، ووُلِّي قضاء بعض الكور النبيهة، وخطب بجامع بلنسية وقتًا.
قال ابن الأبار: ولم يحظ بعلومه حظوة غيره، وامتحن بالولاة والقضاة، وكانوا يجدون السبيل إليه بفضل دعابة كانت فيه مع غلبة السلامة عليه في إعلانه وإسراره، واستغراق آناء ليله في تلاوة القرآن وأطراف نهاره، وكان على سعة علمه مزجى البضاعة في نظمه، وكان نثره أصلح منه، وأنشدني ابنه أبو الحسن محمد غير مرة قال: أنشدني أبي لنفسه:
وهكذا كان ينشدنا غير مرتاب، ولم أزل في ذلك معوِّلًا على ضبطه حتى أفادني بعض أصحابنا في تونس — في أول سنة ٦٤٥ أو قبلها بيسير — قطعة نسبها إلى ابن المعتز، وأولها:
ويشبه أن يكون أبو الحسن سمع أباه — رحمه الله — يتمثَّل بهذين البيتين فحسبهما من قوله ونسبهما إليه. وبالجملة فلم يكن لشيخنا في باب المنثور والمنظوم ما يناسب براعته في أفانين العلوم، أقرأ القرآن، وأسمع الحديث، ودرس الفقه، وعلم بالعربية والآداب، وأخذ الناس عنه ورحلوا إليه، وسمع منه جلة من شيوخنا وأصحابنا، وطال عمره حتى أخذ عنه الآباء والأبناء. تلوت عليه القرآن بالسبع، وأجاز لي، وسمعت منه بعد والدي — رحمه الله — ومعه، وهو أغزر من لقيت علمًا وأبعدهم صيتًا، ولد أول وقت الظهر من يوم السبت الثاني من جمادى الآخرة سنة ٥٣٠، قرأت ذلك بخط أبيه أيوب — رحمه الله — وتوفي في أول وقت الظهر أيضًا من يوم الاثنين لستٍّ مضين من شوال سنة ٦٠٨، ودفن يوم الثلاثاء بعده لصلاة العصر بمقبرة باب الخنش وهو ابن ثمان وسبعين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام، وصلى عليه أبو الحسن بن خيرة، وهو تولى غسله في جماعة من أصحابه الجلة، وشهدت الخاصة والعامة جنازته وأتبعوه ثناءً حسنًا، ورثي بمراثٍ كثيرة — رحمه الله — عن ابن الأبار بتصرُّف. وأبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري النحوي من أهل بلنسية، وأصله من سرقسطة، يعرف بالنسبة إلى ابن أبي البقاء خاله، سمع من أبي العطاء بن نذير، وأبي بكر بن أبي جمرة، وأبي عبد الله بن نسع، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب وغيرهم، وأجاز له أبو محمد بن الفرس، وأبو ذر الخشني، وأبو الحسين بن جبير وغيرهم، وكتب إليه من أعيان أهل المشرق أبو محمد بن يونس بن يحيى الهاشمي، وأبو عبد الله بن أبي الصيف، وأبو شجاع زاهر بن رستم، وأبو الحسن بن المفضل وغيرهم، وكان يحدث عن أبي مروان بن قزمان، وعن أبي طاهر الخشوعي بإجازته لأهل الأندلس، وفي شيوخه كثرة، وكان شديد العناية بالسماع والرواية مع الحظ الوافر من المعرفة والدراية، يتحقق بعلم اللسان، ويتقدم في العربية، بصيرًا بصناعة الحديث، معانيًا للتقييد مع حسن الخط وجودة الضبط، وكتب بخطه علمًا جمًّا، وربما تعيَّش من الوراقة لإقلاله.
قال ابن الأبار: نقلت من خطه ما نسبته إليه في هذا الكتاب، وأجاز لي بلفظه، وسمعت منه بعض نظمه، وكان شاعرًا مجوِّدًا حسن التصرف، وتوفي في شهر ربيع الأول سنة ٦١٠، ودفن بمقبرة باب بَيطَالَة، ومولده في صفر سنة ٥٦٣. انتهى بتصرف.
ومحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن مفرج بن سهل الأنصاري من أهل بلنسية، يعرف بابن غطُّوس، ويكنى أبا عبد الله، كان يكتب المصاحف وينقطها، وانفرد في وقته بالإمامة في ذلك، ويقال: إنه كتب ألف نسخة من كتاب الله — عز وجل — ولم يزل الملوك فمن دونهم يتنافسون فيها إلى اليوم، وكان قد آلى على نفسه أن لا يخطَّ حرفًا من غيره ولا يخلط به سواه تقربًا إلى الله وتنزيهًا لتنزيله، فما حنث فيما أعلم، وأقام على ذلك حياته كلها خالفًا أباه وأخاه في هذه الصناعة التي اشتهروا بها، وكان فيها آية من آيات خالقه مع الخير والصلاح والانقباض عن الناس والعزوف عنهم، قال ابن الأبار: رأيته على هذه الصفة، واستفدت منه بعضًا من مرسوم الخط، لقيته عند معلمي أبي حامد، وتغلب عليه الغفلة، وتوفي حول سنة ٦١٠.
وأبو عبد الله محمد بن وهب بن لب بن عبد الملك بن أحمد بن محمد بن نذير الفهري من أهل بلنسية، وأصل سلفه من شنت مرية الشرق، سمع أباه، وأبا الحسن بن هذيل، وأبا القاسم بن حبيش وغيرهم، وأجاز له أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي، وكتب إليه السلفي وإلى أخيه أبي عامر بن نذير وأبيهما أبي العطاء القاضي، وخطب بجامع بلنسية مناوبًا أباه، واستقضي ببعض الكور. قال ابن الأبار: أخذت عنه جملة من أول الملخص للقابسي، وكان قد سمعه علي بن حبيش، وعاقني عن إكماله بالقراءة مرضه الذي توفي منه ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين لشوال سنة ٦١٣، ودفن لصلاة العصر منه بمقبرة باب الخنش، وصلى عليه أبو الحسن بن خيرة، ومولده سنة ٥٥١ أو نحوها. انتهى بتصرُّف.
وأبو قاسم محمد بن محمد بن أيوب بن محمد بن نوح الغافقي من أهل بلنسية، سمع من أبيه ومن أبي القاسم بن حبيش وغيرهما، وأجاز له أبو مروان بن قزمان، وأبو بكر بن محرز البطليوسي وغيرهما، وكان مشاركًا في الفقه ماهرًا في عقد الشروط، متقدمًا في الآداب شاعرًا مكثرًا، وقد كان تولى قضاء جزيرة شقر، وكان جده أيوب بن محمد وجد أبيه محمد بن وهب تولَّيَا هذا القضاء من قبل، ثم ولي بعد مدة قضاء المرية، ومنها نقل إلى قضاء بلنسية سنة ٦١١. قال ابن الأبار في التكملة: ولم تحمد سيرته، وصرف عن قضاء بلنسية مستدعًى إلى مراكش بعد انبعاث من أهل بلده لمطالبته، قال: وشيعته حينئذ فيمن شيعه وفاتني السماع منه، فأخذت بعض منظومه عن أخيه، وعاجلته منيته بعد صرفه عن القضاء؛ فتوفي بمراكش إثر صلاة الظهر من يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة ٦١٤، وهو ابن ستين سنة أو نحوها.
وأبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني من أهل بلنسية، نزل أبوه شاطبة، وانتقل هو إلى غرناطة، روى عن ابن الحاج وأخذ العربية عن ابن يسعون، وسمع بشاطبة من أبيه أبي جعفر، وأبي عبد الله الأصيل، وأبي الحسن بن أبي العيش، وأجاز له أبو الوليد بن الدباغ، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى التميمي السبتي، وعني بالآداب فبلغ منها الغاية، وتقدم في صياغة القريض وصناعة الكتابة، ونال بها دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها وتحرك لنيته الحجازية في شوال سنة ٥٧٨ صحبة أبي جعفر بن حسان، فأدى الفريضة، وسمع بمكة من أبي حفص الميانشي، ولقي بدمشق أبا الطاهر الخشوعي؛ فأخذ عنه مقامات الحريري بين قراءة وسماع في جمادى الأولى سنة ٥٨٠، وحدث بها عنه إجازة، وأجاز له أبو محمد عبد اللطيف الخجندي، وأبو أحمد عبد الوهاب بن علي الصوفي، وأبو محمد بن عساكر، وأبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم التونسي المجاور بمكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي، نزيل دمشق وغيرهم، وقفل إلى الأندلس، وسمع منه بها، وحمل عنه شعره، وهو كثير مدوَّن.
قال ابن الأبار: حدثنا عنه به أبو تمام بن إسماعيل بلفظه بين سماع ومناولة وغيره من شيوخنا وأصحابنا، ثم رحل ثانيةً إلى المشرق تاسع شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين، وعاد إلى المغرب، ثم رحل ثالثة سنة ٦٠١، وجاور بمكة وبالقدس، وحدث هنالك وأخذ عنه، وتوفي بالإسكندرية ليلة يوم الأربعاء التاسع والعشرين لشعبان سنة ٦١٤، وهو ابن خمس وسبعين سنة. مولده ببلنسية سنة ٥٣٩، وقيل بشاطبة سنة أربعين. قاله ابن الأبار. وقال المقَّري في نفح الطيب عند ذكر أعلام الأندلس الذين لهم رحلة إلى الشرق: ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني صاحب الرحلة، وهو من ولد حمزة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أندلسي شاطبي بلنسي، مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية، وقيل في مولده غير ذلك، وسمع من أبيه بشاطبة، ومن أبي عبد الله الأصيلي، وأبي الحسن بن أبي العيش، وأخذ عنه القراءات، وعني بالأدب، فبلغ الغاية فيه، وتقدم في صناعة القريض والكتابة، ومن شعره قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنًا نضيرًا من أحد بساتينها فذوى في يده:
وقال — رحمه الله — يخاطب الصدر الخجندي:
فأجابه الصدر الخجندي:
قال صاحب النفح: ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي، وأصله من أندة من عمل بلنسية، رحل معه فأدَّيَا الفريضة وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي، وأجاز لهما أبو محمد بن أبي عصرون، وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما، ودخلا بغداد وتجوَّلا مدة، ثم قفلا جميعًا إلى المغرب، فسمع من كل منهما بعض ما كان عنده، وكان أبو جعفر هذا متحققًا بعلم الطب، وله فيه تقييد مفيد مع المشاركة الكاملة في فنون العلم.
توفي أبو جعفر هذا بمراكش سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة، ولم يبلغ الخمسين في سنه. رجع إلى ابن جبير، قال لسان الدين بن الخطيب في حقه: إنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب، وله الرحلة المشهورة، واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب له قصيدتان؛ إحداهما أولها:
ومنها:
والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز:
قلت: حيث ذكر المقري في النفح شيئًا عن ابن جبير نقلًا عن لسان الدين بن الخطيب، فقد رأيت الأولى أن أنقل كلامه عنه من كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة»، قال: محمد بن أحمد بن جبير بن سعيد بن جبير بن محمد بن عبد السلام الكناني الواصل إلى الأندلس، دخل جده عبد السلام الأندلس في طالعة بلج بن بشر بن عياض القشيري في محرَّم سنة ثلاث وعشرين ومائة، وهو من ولد حمزة بن كنانة بن بكر بن عبد بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بلنسي الأصل، ثم غرناطي الاستئصال، شرق وغرب وعاد إلى غرناطة، كان أديبًا شاعرًا مجيدًا، سنيًّا فاضلًا، نزيه الهمة سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة، كتب بسبتة عن أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته، وله فيهم أمداح كثيرة، ثم نزع عن ذلك وتوجه إلى المشرق، وجرت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته، ونظمه فائق ونثره بديع، وكلامه المرسل سهل حسن، وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها طارت كل مطار، رحمه الله.
قال من عني بخبره: رحل ثلاثًا من الأندلس إلى الشرق، وحج في كل واحدة منها، فَصَل عن غرناطة أول ساعة من يوم الخميس لثمانٍ خلون من شوال، سنة ثمان وسبعين وخمسمائة صحبة أبي جعفر بن حسان، ثم عاد إلى وطنه غرناطة لثمانٍ بقين من محرم عام أحد وثمانين، ولقي أقوامًا يأتي التعريف بهم في مشيخته، وصنف الرحلة المشهورة، وذكر ما نقله فيها وما شاهده من عجائب البلدان وغرائب المشاهد وبدائع الصنائع، وهو كتاب مؤنس ممتع مثير سواكن الأنفس إلى تلك المعالم.
ولما شاع الخبر المبهج بفتح المقدس على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي قوي عزمه على إعمال الرحلة الثانية، فتحرك إليها من غرناطة يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ثم آب إلى غرناطة يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من شعبان سنة سبع وثمانين، وسكن بغرناطة، ثم بمالقة، ثم بسبتة، ثم بفاس، منقطعًا إلى إسماع الحديث والتصوف وتروية ما عنده، وفضله بديع وورعه يحقق أعماله الصالحة. ثم رحل الثالثة من سبتة بعد موت زوجه عاتكة أم المجد بنت الوزير أبي جعفر الوقشي، وكان كلفه بها جمًّا فعظم وجده عليها، فوصل مكة وجاور بها طويلًا ثم ببيت المقدس، ثم تحول لمصر والإسكندرية، فأقام يحدِّث ويؤخذ عنه إلى أن لحق بربه.
قال ابن الخطيب عن ابن جبير: روى بالأندلس عن أبيه وأبي الحسن بن محمد بن أبي العيش، وأبي عبد الله بن أحمد بن عروس، وابن الأصيلي، وأخذ العربية عن الحجاج بن يسعون، وبسبتة عن أبي عبد الله بن عيسى التميمي السبتي، وأجاز له أبو إبراهيم بن إسحاق بن عبد الله بن عيسى التميمي السبتي التونسي، وأبو حفص عمر بن عبد المجيد عم القرشي الميانجي نزيل مكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي الفتكي، وأبو الحجاج يوسف بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البغدادي، وصدر الدين أبو محمد عبد اللطيف الخجندي — رئيس الشافعية بأصبهان، وببغداد العالم الحافظ أبو الفرج، وكنَّاه أبو الفضل بن الجوزي، وحضر مجالسه الوعظية فشاهد رجلًا ليس بعمرو ولا زيد وكل الصيد في جوف الفرا. وبدمشق أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السلمي الحواري، وأبو سعيد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وأبو الطاهر الخشوعي، وسمع عليه، وعماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصبهاني من أئمة الكتَّاب، وأخذ عنه بعض كلامه، وأبو القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الأحصر بن علي بن عساكر، وسمع عليه، وأبو الوليد إسماعيل بن علي بن إبراهيم. ا.ﻫ.
قلنا: أما أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن عبد الله بن عباس السلمي، فقد ورد في شذرات الذهب ذكر عبد الكريم بن حمزة أبي محمد السلمي الدمشقي مسند الشام، روى عن أبي القاسم الحتاني، والخطيب، وأبي الحسين بن مكي، وكان ثقة، توفي في ذي القعدة سنة ست وعشرين وخمسمائة.
قال ابن خلكان: كان له سماعات عالية وإجازات تفرَّد بها، وألحق الأصاغر بالأكابر، وانفرد بالإجازة من أبي محمد القاسم الحريري البصري صاحب المقامات، وهو من بيت الحديث؛ حدَّث هو وأبوه وجده، وسُئل أبوه: لم سُمُّوا الخشوعيين؟ فقال: كان جدنا الأعلى يؤم بالناس فتوفي في المحراب فسمي الخشوعي نسبة إلى الخشوع.
وكان مولد أبي الطاهر المذكور بدمشق في رجب سنة عشر وخمسمائة، وتوفي ليلة السابع والعشرين من صفر سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائة، ودفن من الغد بباب الفراديس على والده، رحمهما الله تعالى.
وأما عماد الدين أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن حامد الأصبهاني، فيذكر الذهبي وفاته في سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وهو العماد الأصبهاني الكاتب الشهير كاتب السلطان صلاح الدين. قال ابن خلكان في الوفيات: أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن نفيس الدين أبي الرجاء حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله الملقب عماد الدين الكاتب الأصبهاني، المعروف بابن أخي العزيز، كان العماد المذكور فقيهًا شافعيَّ المذهب، تفقَّه بالمدرسة النظامية زمانًا، وأتقن الخلاف وفنون الأدب، وله من الشعر والرسائل ما يغني عن الإطالة في شرحه، وذكر منشأه بأصبهان وقدومه لطلب العلم في بغداد، وأنه اتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، فلما مات الوزير المذكور نكب أتباعه، فهاجر العماد الأصبهاني إلى دمشق فوصلها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن أتابك زنكي، وقاضيها كمال الدين بن الشهرزوري، فتعرف به وعرفه أيضًا الأمير الكبير نجم الدين والد السلطان صلاح الدين. وفي تلك المدة تعرف بصلاح الدين أيضًا.
ولما توفي نور الدين زنكي نظمه صلاح الدين في سلك جماعته واستكتبه واعتمد عليه؛ فصار من الصدور المعدودين، وكان ملازمًا لصلاح الدين وله التآليف الكثيرة.
ولما مات السلطان صلاح الدين اختلت أحوال العماد الأصبهاني؛ فلزم بيته وأقبل على التأليف، وكانت ولادته سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان، وتوفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، وذكره صاحب شذرات الذهب في الصفحة ٣٣٢ من الجزء الرابع، وترجمته في الشذرات لا تخرج عن مآل ترجمته في الوفيات، وذكر أنه تلاقى مع القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني وزير صلاح الدين فقال له العماد: سرْ فلا كبا بك الفرس. وهي جملة تقرأ طردًا وعكسًا. وكذلك ذكره الذهبي في تاريخه في من مات سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ا.ﻫ.
وقد نقلنا تراجم هؤلاء الأعيان من المشارقة الذين أخذ عنهم ابن جبير الأندلسي؛ نظرًا لشهرتهم ولإجازاتهم لعلماء الأندلس. ونعود إلى نقل ما قاله لسان الدين بن الخطيب عن ابن جبير، وهو ما يأتي:
(٤-١) من أخذ عنه
قال ابن عبد الملك: أخذ عنه أبو إسحاق بن مهيب، وابن الواعظ، وأبو تمام بن إسماعيل، وأبو الحسن بن نصر بن فاتح بن عبد الله البجائي، وأبو الحسن علي الشادي، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا، وأبو بكر بن محمد يحيى بن أبي الغمر، وأبو عبد الله بن حسن بن مجير، وأبو العباس بن عبد المؤمن البناني، وأبو محمد بن الحسن اللواتي، وأبو محمد بن سالم، وعثمان بن سفيان بن أشقر التميمي التونسي.
وممن أخذ عنه بالإسكندرية رشيد الدين أبو محمد عبد الكريم بن عطاء الله، وبمصر رشيد الدين بن العطار، وفخر القضاة بن الجياب، وابنه جمال القضاة.
(٤-٢) تصانيفه
منها نظمه؛ قال ابن عبد الملك: وقفت منه على مجلد على قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس. وجزء سماه «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح» في مراثي زوجه أم المجد. وجزء سماه «نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان»، وله ترسل بديع وحكم مستجادة وكتاب رحلته. وكان أبو الحسن الشادي يقول: إنها ليست من تصانيفه وإنما قيد معاني ما تضمنته فتولى ترتيبها وتنضيد معانيها بعض الآخذين عنه على ما تلقاه، والله أعلم. قلت: هذا غير صحيح؛ لأن نسجه معروف وأسلوبه العالي واحد لا تختلف فيه جملة عن جملة، وديباجة كلام ابن جبير لا تخفى على أحد.
(٤-٣) شعره
من ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها وقد شارف المدينة المكرمة طيبة، على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وفي غبطة من من الله عليه بحج بيته وزيارة قبر نبيه ﷺ يقول:
وفي مثل ذلك يقول:
وقال في تفضيل المشرق:
وقال في الوصايا:
وقال:
(٤-٤) نثره
من حكمه قوله: إن شرف الإنسان فبشرف وإحسان، وإن فاق فبفضل وإرفاق. ينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه كما يحفظ الجفن إنسانه؛ فرب كلمة تقال تحدث عثرة لا تقال. كم كست فلتات الألسنة الحداد من ورائها ملابس حداد! نحن في زمان لا يحصل فيه نَفاق إلا من عامل بالنفاق. شغل الناس عن الطريق بزخارف الأعراض؛ فنسوا الصدود عنها والإعراض … آثروا دنيا هي أضغاث أحلام، وكم هفت في حبها من أحلام. وأطالوا فيها آمالهم وقصروا أعمالهم! ما بالهم لم يتفرغوا لغيرها؟! ما لهم في غير ميدانها استباق ولا لسوى هواها اشتياق. تالله لو كشفت الأسرار لما كان هذا الإصرار، ولسهرت العيون وتفجر من شئونها الجفون. لو أن عين البصيرة من سنتها هابَّة لرأت ما في الدنيا ريحًا هابة. ولكن استولى العمى على البصائر ولا يعلم الإنسان ما إليه صائر، وأسأل الله هداية سبيله ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله؛ إنه الحنان المنان لا رب سواه.
فلتات الهبات أشبه شيء بفلتات الشهوات. منها نافع لا يعقب ندمًا، ومنها ضار يبقي في النفس ألمًا. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد لحقها أداءً وربما أثرت عنده اعتداءً. وضرر الشهوات أن لا توافق ابتداءً فتصير لتبعها داءً. مثلها كمثل المسكر يلتذ صاحبه بحلاوة جناه فإذا صحا عرف ما قد جناه. وعكس هذه القضية هي الحالة المرضية.
(٤-٥) مولده
ببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. وقيل بشاطبة في هذا التاريخ.
(٤-٦) وفاته
توفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان سنة أربع عشرة وستمائة، وكان أبو الحسين بن جبير المترجم به قد نال بالأدب دنيا عريضة، ثم رفضها وزهد فيها، «وقال صاحب الملتمس» في حقه: الفقيه الكاتب أبو الحسين بن جبير ممن لقيته وجالسته كثيرًا ورويت عنه، وأصله من شاطبة، وكان أبو جعفر من كتابها ورؤسائها، ذكره ابن اليسع في تاريخه، ونشأ أبو الحسين على طريقة أبيه، وتولع بغرناطة فسكن بها. قال: ومما أنشدنيه قوله يخاطب أبا عمران الزاهد بإشبيلية:
قال: وكان من أهل المروءات، عاشقًا في قضاء الحوائج، والسعي في حقوق الإخوان، والمبادرة لإيناس الغرباء، وفي ذلك يقول:
قال: ومن أبدع ما أنشده — رحمه الله — أول رحلته:
وعاد — رحمه الله — إلى الأندلس بعد رحلته الأولى التي حل فيها دمشق والموصل وبغداد، وركب إلى المغرب من عكا مع الإفرنج، فعطب في خليج صقلية الضيق وقاسى شدائد إلى أن وصل الأندلس سنة ٥٨١، ثم أعاد المسير إلى المشرق بعد مدة إلى أن مات بالإسكندرية كما تقدم، ومن شعره أيضًا:
وحدث — رحمه الله — بكتاب الشفاء عن أبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي عن القاضي عياض. ولما قدم مصر سمع منه الحافظان أبو محمد المنذري وأبو الحسين يحيى بن علي القرشي. وتوفي ابن جبير بالإسكندرية يوم الأربعاء السابع والعشرين من شعبان سنة ٦١٤، والدعاء عند قبره مستجاب، قاله ابن الرقيق — رحمه الله — وقال «أبو الربيع بن سالم»: أنشدني أبو محمد عبد الله بن التميمي البجائي، ويعرف بابن الخطيب، لأبي الحسين بن جبير، وقال: وهو مما كتب إليَّ به من الديار المصرية في رحلته الأخيرة لما بلغه ولايتي قضاء سبتة، وكان أبو الحسين سكنها قبل ذلك، وتوفيت هنالك زوجته بنت أبي جعفر الوقشي، فدفنها بها:
وأنشد ابن جبير — رحمه الله — لنفسه عند صدوره عن الرحلة الأولى إلى غرناطة أو في طريقها قوله:
إلى آخرها.
وقال — رحمه الله:
وقال — رحمه الله:
وقال:
وقال:
وقال:
انتهى بتصرف. ولابن جبير — رحمه الله تعالى:
وهو نحو قول قائل:
وقال وقد شهد العيد بطندة من قرى مصر:
وقال ابن جبير:
وقال:
ولما وصل ابن جبير — رحمه الله — مكة ١٣ ربيع الآخر سنة ٥٧٩ أنشد قصيدته التي أولها:
وهي طويلة وسيأتي بعضها. وقال — رحمه الله — عند تحركه للرحلة الحجازية:
ولنختم ترجمته بقوله:
وقوله في آخر الميمية:
ومنها:
وقال المقري — رحمة الله عليه — في الباب السابع من كتابه ما نصه: ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب الملتمس في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين بن جبير صاحب الرحلة، وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب، وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقًا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان، وأنشدنا هنالك قوله: «يحسب الناس بأني متعب … إلخ»، وقد ذكر ذلك كله صاحب الملتمس ثم قال (أعني صاحب الملتمس): ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس؛ فجعلته يعني أبا جبير الواسطة حتى تيسَّر ذلك، فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة، فجئته وشكوت له ذلك، فقال: أنا ما كان القصد بي في اجتماعكما، ولكن سعيت جهدي في غرضك، وها أنا أسعى أيضًا في افتراقكما إذ هو من غرضك، وخرج في الحين ففصل القضية. ولم أر في وجهه أولًا ولا أخيرًا عنوانًا لامتنان.
ثم إنه طرق بابي ففتحت له، ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية، فقال: يا ابن أخي، اعلم أني كنت السبب في هذه القضية، ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك، فبالله ألا ما سررتني بقبوله، فقلت له: أنا ما أستحي منك في هذا الأمر، والله إن أخذت هذا المال لأتلفنَّه فيما أتلفت فيه مال والدي من أمور الشباب، ولا يحل لك أن تمكنني به بعد أن شرحت لك أمري، فتبسم وقال: لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة، وانصرف بماله. انتهى.
ثم قال صاحب الملتمس: وتذاكرنا يومًا معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي فقال: صحبته مدة فما رأيت مثله، وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت، فالأول قوله:
والثاني قوله:
قال: فقلت له: أراك لم تعمل بوصيتك في الوساطة، فقال: ما ساعدتني رقة وجهي. انتهى.
وفي كتاب رحلة العبدري ما صورته قال: وأنشدني «شيخنا أبو زيد» أيضًا قال: أنشدني أبو عمرو بن الشقر: قال: أنشدني الفقيه الزاهد المنقطع إلى الله بمهجته أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني بالإسكندرية لنفسه:
وبنحوه له:
وأنشدني أيضًا بمثله:
وقال العبدري أيضًا بعد وصفه الإسكندرية وعجائبها: ومن الأمر المستغرب والحال الذي أفصح عن قلة دينهم أنهم يعترضون الحجاج ويجرعونهم من بحر الإهانة الملح الأجاج، ويأخذون على وفدهم الطرق والفجاج يبحثون عما بأيديهم من مال، ويأمرون بتفتيش النساء والرجال، وقد رأيت من ذلك يوم ورودنا عليهم ما اشتد له عجبي، وجعل الانفصال عنهم غاية أربي، وذلك لما وصل إليها الركب جاءت شرذمة من الحرس — لا حرس الله مهجهم الخسيسة ولا أعدم منهم لأسد الآفات فريسة — فمدوا في الحجاج أيديهم، وفتشوا الرجال والنساء، وألزموهم أنواعًا من المظالم، وأذاقوهم ألوانًا من الهون، ثم استحلفوهم وراء ذلك كله، وما رأيت هذه العادة الذميمة والشيمة اللئيمة في بلدةٍ من البلاد، ولا رأيت في الناس أقسى قلوبًا ولا أقل حياءً ومروءة، ولا أكثر إعراضًا عن الله سبحانه وجفاءً لأهل دينه من أهل هذا البلد، نعوذ بالله من الخذلان، فلو شاء لاعتدل المائل وانتبه الوسنان، وكنت إذ رأيت فعل المذكورين ظننت أن ذلك أمر أحدثوه، حتى حدثني نور الدين أبو عبد الله بن زين الدين أبي الحسن يحيى بن الشيخ وجيه الدين أبي علي منصور بن عبد العزيز بن حباسة الإسكندري بمدرسة جده المذكور حكاية اقتضت أن لهم في هذه الفضائح سلفًا غير صالح، وذلك أنه حدثني إملاءً من كتابه قال: حدثني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن عمر بن محمد السبتي الحميري بثغر الإسكندرية سنة ٦٦٢ قال: حدثني الشيخ الإمام المحدث أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي سنة ٦١١ أنه ورد إلى الإسكندرية في ركب عظيم من المغاربة برسم الحج، فأمر الناظر على البلاد بمد اليد فيهم للتفتيش والبحث عما بأيديهم؛ ففتش الرجال والنساء، وهتكت حرمة الحرم، ولم يكن فيهم إبقاء على أحد. قال: فلما جاءتني النوبة وكانت معي حرم ذكرتهم بالله ووعظتهم، فلم يعرجوا على قولي ولا التفتوا إلى كلامي، وفتشوني كما فتشوا غيري؛ فاستخرت الله تعالى، ونظمت هذه القصيدة ناصحًا لأمير المسلمين صلاح الدين يوسف بن أيوب، ومذكِّرًا بالله في حقوق المسلمين ومادحًا له، فقلت:
ومنها عن من يظلم الحجاج:
قلت: هكذا حدثني أبو عبد الله بهذه الحكاية، وقد وقعت في كتابه مشهورة لم يذكر فيها إلا ما أثبته، وبالله التوفيق.
وأنشدني أبو عبد الله أيضًا عن أبي العباس المذكور عن ابن جبير قصيدة، نظمها ارتجالًا حين تراءت له مدينة رسول الله ﷺ وهي هذه الأبيات:
الأبيات.
وقال علي بن ظافر في «بدائع البدائه»: أنبأني المسكين نزلت من القرافة لوداع الأجل أبي الحسين بن جبير، فقال: كنت على المجيء إليك، فقلت: وهمة سيدي هي التي أتت به. فسألني عن القرافة، فقلت: هي موضع يصلح للخير والشر، من طلب شيئًا وجده، فقال: خذ هذه الحكاية: كنت متفرجًا في مكان وبت به، ثم أقبلت بكرة، فلقيني تلميذ لي فقال:
فأجبته مسرعًا:
(٥) رحلة ابن جبير
ولقد أطلنا في أخبار ابن جبير الأندلسي زيادةً على كل أندلسي؛ وذلك لزيادة شهرته، لا سيما في المشرق الذي طال ترداده إليه واختلاطه بأهله واجتماعه بعلمائه. ولما كانت شهرته في نثره لا في نظمه، وهذه رحلته المتداولة بين جميع الأيدي أعظم شاهد على ملكه أعنة البيان، وكونه في النثر الفذ المشار إليه بالبنان، نقلنا هنا أمثلة من هذه الرحلة السَّريَّة وعباراتها العبقرية، وحلَّينا بنقلها جيد هذا التاريخ ليكون له حظ من الأدب، فضلًا عن تمثيل حالة الشرق في ذلك العصر، وإظهار ما بين الشرق وصنوه الغرب من المناسبات والعلاقات، ولا سيما لما في هذه الرحلة من وصف البيت الحرام، وذكر المشاعر العظام، وزيارة مرقد الرسول عليه الصلاة والسلام:
(٥-١) شهر رمضان المعظم عرفنا الله بركته
استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر، عرفنا الله فضله وحقه، ورزقنا القبول فيه، وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك، ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور؛ لموافقته مذهبه ومذهب شيعته العلويين ومن إليهم؛ لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضًا حسبما يذكر، والله أعلم بذلك. ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك، وحُق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات، حتى تلألأ الحرم نورًا وسطع ضياءً، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقًا، فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إمامًا لها في ناحية من نواحي المسجد، والحنبلية كذلك، والحنفية كذلك، والزيدية. وأما المالكية فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العام أحفل جمعًا وأكثر شمعًا؛ لأن قومًا من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعًا كثيرًا من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيهما قنطار، وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار؛ فجاءت جهة المالكية تروق حسنًا، وترتمي الأبصار نورًا، وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأًى ومستمعًا تنخلع له النفوس خشيةً ورقةً، ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر، ولم يحضر التراويح، ورأى أن ذلك أفضل ما يغتنم وأشرف عمل يلتزم، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم.
والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهادًا؛ وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات، ويدخل الطواف مع الجماعة؛ فإذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة «يسمعها» المسجد لعلو صوتها، كأنها إيذان بالعود إلى الصلاة، فإذا فرغوا من تسليمتين عادوا لطواف أسبوع، فإذا أكملوا ضربت الفرقعة وعادوا لصلاة تسليمتين، ثم عادوا للطواف هكذا إلى أن يفرغوا من عشر تسليمات، فيكمل لهم عشرون ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئًا، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة: أولهم إمام الفريضة، وأوسطهم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن «علي» الفنكي القرطبي، وقراءته ترق الجمادات خشوعًا، وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك؛ وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المغرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء. وهي لا محالة من جملة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم — قدسه الله — والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من المسجد؛ بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعيًا ومذكرًا ومحرضًا على السحور، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع، وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير، فإذا قرب تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة، وبدأ بالأذان، وثوَّب المؤذنون من كل ناحية بالأذان، وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه عن المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما علم أن الوقت قد انقطع.
وفي يوم الجمعة وصل الأمير سيف الإسلام للصلاة أول الوقت، وفتح البيت المكرم فدخله مع الأمير مكثر، وأقام به مدة طويلة، ثم خرجا، وتزاحم الغز للدخول تزاحمًا أبهَتَ الناظرين حتى أزيل الكرسي الذي يصعد عليه، فلم يغن عن ذلك شيئًا، وأقاموا على الازدحام في الصعود بإشالة بعضهم على بعض، وداموا على هذه الحالة إلى أن وصل الخطيب فخرجوا لاستماع الخطبة، وأغلق الباب، وصلى الأمير سيف الإسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية، فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب إلى مضرب أبنيته.
وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده إلى اليمن، والله يعرف أهلها من المسلمين في مقدمه خيرًا بمنه. وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه، وكل وتر من الليالي العشر الأواخر يختم فيها القرآن، فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ، فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبًا ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى منزله إلى طعام وحلو قد أعدهما، واحتفل فيهما، ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلامًا لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالًا بديعًا؛ وذلك أنه أعد له ثريَّا مصنوعة من الشمع مغصَّنة قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد إليها شمعًا كثيرًا، ووضع في وسط الحزم مما يلي باب بني شيبة المحراب المربع من أعواد مشرجبة قد أقيم على قوائم أربع، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل، وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل، وسُمِّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع فاستدار بالمحراب كله، وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله، ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان، وحضر الإمام الطفل فصلى التراويح وختم، وقد احتشد أهل المسجد الحرام إليه رجال ونساء وهو في محرابه لا يكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به، ثم برز من محرابه رافلًا في أفخر ثيابه بهيبةٍ إمامية وسكينة غلامية مكحل العينين مخضوب الكفين إلى الزندين، فلم يستطع الخلوص إلى منبره من كثرة الزحام، فأخذه أحد سدنة تلك الناحية في ذراعه حتى ألقاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسمًا وأشار إلى الحاضرين مسلمًا.
وقعد بين يديه قراء فابتدروا القراءة على لسان واحد، فلما أكملوا عشرًا من القرآن قام الخطيب فصدع بخطبته يحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أنوار الشمع في أيديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب يا رب عند كل فصل من فصول الخطبة، يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك، فيسكت الخطيب إلى أن يفرغوا ثم يعود لخطبته، وتمادى فيها متصرفًا في فنون من التذكير، وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق — كرمه الله — فحسر عن ذراعيه مشيرًا إليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام؛ فأشار إليهما بكلتا أصبعيه، ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفض ذلك الجمع العظيم.
وقد استطرف ذلك الخطيب واستنبل، وإن لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمَّل، والتذكرة إذا خرجت من اللسان لم تتعدَّ مسافة الآذان. ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع كالقاضي وسواه خُصُّوا بطعام حفيل وحلواء على عادتهم في مثل هذا المجتمع، وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ما ذكر، ثم كانت ليلة خمس وعشرين؛ فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد ابنًا له لذلك سنه نحو من سن الخطيب الأول المذكور، فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيمًا؛ أحضر فيه من ثريات الشمع أربعًا مختلفات الصنعة، منها مشجرة مغصَّنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصَّنة، فصففت أمام حطيمه وتوِّج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه، وجلل ذلك كله سُرُجًا ومشاعيل وشمعًا، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور، وأحضر الشمع في أنوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب، فجلل دائره الأعلى كله شمعًا، وأحدق الشمع في الأطوار به فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللًا أيضًا بالكسوة الملونة، واحتفال الناس لمشاهدة هذا المنظر النيِّر أعظم من الاحتفال الأول.
فختم الصبي المذكور، ثم برز من محرابه إلى منبره يسحب أذيال الخفر في أثواب رائقة المنظر فتسور منبره، وأشار بالسلام على الحاضرين، وابتدأ خطبته بسكينة ولين، ولسان عن حالة الحياة مبين، فكأن الحال على طفولتها كانت أوقر من الأولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع، وحضر القراء بين يديه على الرسم الأول، وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة، فيسكت خلال إكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن، ثم يعود إلى خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون أنوار الشمع بأيديهم، ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى، فعندما يصل إلى فصل من تذكير أو تخشيع رفعوا أصواتهم بيا رب يا رب يكررونها ثلاثًا أو أربعًا، وربما جاراهم في النطق بعض الحاضرين إلى أن فرغ من خطبته ونزل، وجرى الإمام أثره على الرسم من الإطعام لمن حضر من أعيان المكان، إما باستدعائهم إلى منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك إلى منازلهم.
وأوقد جميع ما ذكر وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة، وقد وضعت بيد كل واحد منهم كرة من الخرق المشبعة سليطًا فوضعوها متقدة في رءوس الشرفات، وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربع، فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة إيقادها؛ فيخيل للناظر أن النار تثب من شرفة إلى شرفة؛ لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار، وفي أثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب يا رب على لسان واحد؛ فيرتج الحرم لأصواتهم، فلما كمل إيقاد الجميع بما ذكر كاد يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار، فلا تقع لمحة طرف إلا على نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر، فيتوهَّم المتوهم لهول ما يعانيه من ذلك أن تلك الليلة المباركة تنزَّهت لشرفها عن لباس الظلماء، فزينت بمصابيح السماء.
وتقدم القاضي فصلى فريضة العشاء الآخرة، ثم قام وابتدأ بسورة القدر، وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها، وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح تعظيمًا لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها، وقد كان «المقام» المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق، حسبما تقدم الذكر أولًا له فيما سلف من هذا التقييد، ووضع في محله الكريم المتخذ مصلًّى مستورًا بقبته التي يصلي الناس خلفها، فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيبًا مستقبل المقام والبيت العتيق، فلم يُتمكَّن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام، فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعًا، وأعينهم قد سالت دموعًا، والأنفس قد أشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاءً مبشرًا بمنِّ الله تعالى بالقبول، ومشعرًا أنها أو لعلها ليلة القدر المشرف ذكرها في التنزيل، والله — عز وجل — لا يخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها؛ إنه كريم منان لا إله سواه.
ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولًا بعد هذه الليلة المذكورة بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور، تتضمَّن التذكير والتحذير والتبشير، بحسب اختيار كل واحد منهم، ورسم طوافهم إثر كل تسليمتين باقٍ على حاله، والله ولي القبول من الجميع. ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح، ملتزمين رسم الخطبة إثر الختمة والمشار إليه منهم المالكي، فتقدم بإعداد أعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض دون القامة، يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط، فأدير بالشمع أعلاها، وأحدق أسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند ذكر أول الشهر المبارك، وأحدق أيضًا داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط، فكان منظرًا مختصرًا ومشهدًا عن احتفال المباهاة منزهًا موفورًا؛ رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب، نصبت للشمع فيه عوضًا من الأنوار أثافي من الأحجار، فجاءت الحال غريبة في الاختصار، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار، داخلة مدخل التواضع والاستصغار، واحتفل جميع المالكية للختمة؛ فتناوبها أئمة التراويح، فقضوا صلاتهم سراعًا عجالًا كاد يلتقي طرفاها خفوفًا واستعجالًا، ثم تقدم أحدهم فعقد حُبوته بين تلك الأثافي، وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي، فأرسلها معادة إلى الأسماع، ثقيلًا لحنُها على الطباع.
ثم انفض الجمع وقد جمد في شئونه الدمع، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع، وأطلقت عليه أيدي الانتهاب، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أو يهاب، وعند الله تعالى في ذلك الجزاء والثواب، إنه سبحانه الكريم الوهاب.
وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنيفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمدًا بحق هذه النعمة وشكرًا، وجعلها للمعاد لنا ذخرًا، ووفَّانا عليها ثوابًا من لديه، وأجرًا يرجى بفضله وكرمه؛ إنه لا يضيع لديه أيام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطرًا؛ إنه الحنان المنان لا رب سواه.
وإليك هذا المثال الآخر من أمثلة بيان ابن جبير الساحر، الذي كله طبقة واحدة، وإنما نختار منه كيفما اتفق. قال:
وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخراسانيين ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين؛ واحدتهن خاتون، ومن السيدات بنات الأمراء كثير، ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك — رضي الله عنه — يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكَّن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب.
ومن السرو اليَمَنيِّين من نفر قبل ذلك، فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه، ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعًا ارتجَّت له الأرض ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه وأرجى في النفوس عقباه، جعلنا الله ممن خصه فيه برضاه وتغمده بنعماه؛ إنه منعم كريم حنان منان.
وكانت محلة هذا الأمير العراقي جميلة المنظر بهية العدة رائعة المضارب والأبنية، عجيبة القباب والأروقة، على هيئات لم يُرَ أبدع منها منظرًا، فأعظمها مرأًى مضرب الأمير؛ وذلك أنه أحدق به سرادق كالسور من كتان كأنه حديقة بستان أو زخرفة بنيان، وفي داخله القباب المضروبة، وهي كلها سواد في بياض مرقشة ملونة، كأنها أزاهير الرياض.
ولسائر الأمراء الواصلين صحبة هذا الأمير مضارب دون ذلك، لكنها على تلك الصفة، وقباب بديعة المنظر عجيبة الشكل قد قامت كأنها التيجان المنصوبة إلى ما يطول وصفه ويتسع القول فيه من عظيم احتفال هذه المحلة في الآلات والعدة وغير ذلك؛ مما يدل على سعة الأحوال وعظيم الاحتراف في المكاسب والأموال، ولهم أيضًا في مراكبهم على الإبل قباب تظلُّهم بديعة المنظر عجيبة الشكل قد نصبت على محامل من الأعواد يسمونها القشاوات، وهي كالتوابيت المجوفة، هي لركابها من الرجال والنساء كالأمهدة للأطفال؛ تملأ بالفرش الوثيرة، ويقعد الراكب فيها مستريحًا كأنه في مهاد ليِّن فسيح، وبإزائه مُعادله أو مُعادلتُه في مثل ذلك من الشقة الأخرى والقبة مضروبة عليهما، فيسار بهما وهما نائمان لا يشعران أو كيف ما أحبا، فعندما يصلان إلى المرحلة التي يحطان بها ضرب سرادقهما للحين إن كانا من أهل الترفُّه والتنعم، فيدخل بهما إلى السرادق وهما راكبان، وينصب لهما كرسي ينزلان عليه؛ فينتقلان من ظل قبة المحمل إلى قبة المنزل دون واسطة هواء يلحقهما ولا خطفة شمس تصيبهما، وناهيك من هذا الترفيه؛ فهؤلاء لا يلقون لسفرهم، وإن بعدت شقته، نصبًا ولا يجدون على طول الحل والترحال تعبًا.
ودون هؤلاء في الراحة راكبو المحارات، وهي شبيهة بالشقادف التي تقدم وصفها في ذكر صحراء عيذاب، لكن الشقادف أبسط وأوسع وهذا أضم وأضيق، وعليها أيضًا ظلائل تقي حر الشمس، ومن قصرت حاله عنها في هذه الأسفار، فقد حصل على نصب السفر الذي هو قطعة من العذاب.
(٥-٢) وله في ذكر مدينة السلام بغداد حرسها الله تعالى
يتبايعون بينهم بالذهب قرضًا، وما منهم ما يحسن لله قرضًا، فلا نفقة فيها إلا من دينار تقرضه وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا يبالون في ذلك بعيب كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب؛ فالغريب فيهم معدوم الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق؛ فسوء معاشرة أبنائها يغلب على طبع هوائها ومائها، ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها، أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين ووعاظهم المذكورين.
لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير ومداومة التنبيه والتبصير والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيَّامَهُ كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة، فأول من شهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضي الدين القزويني، رئيس الشافعية وفقيه المدرسة النظامية والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية، حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوَّقوا وشوَّقوا وأتوا بتلاحين معجبة ونغمات محزنة مطربة، ثم اندفع الإمام الشيخ المذكور فخطب خطبة سكون ووقار، وتصرف في أفانين من العلوم من تفسير كتاب الله — عز وجل — وإيراد حديث رسوله ﷺ والتكلم على معانيه، ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر.
ودفعت إليه عدة رقاع فيها فجمعها جملة في يده، وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء فنزل وافترق الجمع، فكان مجلسه مجلس علم ووعظ وقورًا هينًا لينًا ظهرت فيه البركة والسكينة، ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سيما آخر مجلسه فإنه سرت حُميا وعظه إلى النفوس حتى أطارتها خشوعًا وفجرتها دموعًا، وبادر التائبون إليه سقوطًا على يده وقوعًا، فكم ناصية جز، وكم مفصل من مفاصيل التائبين طبق بالموعظة وحز.
فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة وتتغمد الجناة وتستدام العصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه برحمته وكرمه، إنه المنعم لا رب سواه ولا معبود إلا إياه، وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم مجلسه سيد العلماء الخراسانية ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهزٍّ عظيم وتطريف آماق تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملًا به، فأتى بأفانين من العلوم على حسب مجلسه المتقدم الذكر في هذا التقييد المشهَّر المآثر والمكارم المقدم بين الأكابر والأعاظم.
ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي، وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمَّة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدر؛ فأما نظمه فرضي الطباع مهياري الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان، ومن أبهر آياته وأكبر معجزاته أنه يصعد المنبر ويبتدئ القراء بالقرآن، وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات لا يكاد المتقد الخاطر يحصيها عددًا أو يسميها نسقًا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلًا مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته، فقرأ وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبدع من في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ من القرآن آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلًا ويورد الخطبة الغرا بها عجلًا أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.
فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخبر عنه كالخبر، ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على الصباح كلٌّ يلقي ناصيته بيده فيجزها ويمسح على رأسه داعيًا له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع إليه؛ فشهدنا هولًا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر ونعتسف مفازات القفر إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن منَّ بلقاء من يشهد الجمادات بفضله ويضيق الوجود عن مثله.
وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل، وتطير إليه الرقاع؛ فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا إله سواه.
ثم شهدنا مجلسًا ثانيًا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في مساحة قصور الخليفة ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور، وهو من حرم الخليفة وخص بالوصول إليه والتكلم فيه، ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته، ومن حضر من الحرم، ويفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع وقد بسط بالحصر، وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد المنبر وأرخى طيلسانه عن رأسه تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطَّر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاءوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة — وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات — صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية: اللهُ الذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، فتمادى على هذا السين، وحسَّن أي تحسين، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته وكنى عنها بالستر الأشرف والجناب الأرأف، ثم سلك سبيله في الوعظ كل ذلك بديهة لا رويَّة، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى، فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شوقها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين بالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلًا، ولا تميز معقولًا ولا تجد للصبر سبيلًا. ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب، مبرحة التشويق بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجدًا، ويعود موضوعها النسيبي زهدًا، وكان آخر ما أنشده من ذلك وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام:
ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه إلى أن خاف الإفحام، فابتدر القيام ونزل عن المنبر دهشًا عجلًا وقد أطار القلوب وجلًا، وترك الناس على أحر من الجمر يشيعونه بالمدامع الحمر فمن معلن بالانتحاب ومن متعفر في التراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه وما أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته بمنه وفضله. وفي أول مجلسه أنشد قصيدًا نير القبس: عراقي النفس، في الخليفة أوله:
يقول فيه عند ذكر الخليفة:
ففرغ من إنشاده وقد هز المجلس طربًا، ثم أخذ في شأنه وتمادى في إيراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلمًا في الدنيا يعطى من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أُعطِي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكلام من يشاء من عباده لا إله غيره، وشهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وعاظ بغداد ممن يستغرب شأنه بالإضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة — شرفهما الله — مجالس مَنْ قد ذكرناه في هذا التقييد، فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الفذ في نفوسنا قدرًا، ولم نستطب لها ذكرًا، وأين تقعان مما أريد، وشتان بين اليزيدين، وهيهات الفتيان كثير والمثل بمالك يسير، ونزلنا بعدُ بمجلس يطيب سماعه ويروق استطلاعه، وحضرنا له مجلسًا ثالثًا يوم السبت الثالث عشر لصفر بالموضوع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي، فأخذت معجزاته البيانية مأخَذَها، فشاهدنا من أمره عجبًا، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبًا، وأسال من دمعهم وابلًا سكبًا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتًا من النسيب شوقًا زهديًّا وطربًا، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والهًا مكتئبًا، وغادر الكل متندمًا على نفسه منتجعًا لهفان ينادي يا حسرتا وا حربا، والنادبون يدورون بنحيبهم دَوْرَ الرحا، وكل منهم بعدُ من سكرته ما صحا.
فسبحان من خَلَقه عبرة لأولي الألباب، وجعله لتوبة عباده أقوى الأسباب، لا إله سواه (ثم نرجع إلى ذكر بغداد)، هي كما ذكرناه جانبان شرقي وغربي ودجلة بينهما، فأما الجانب الغربي فقد عمَّه الخراب واستولى عليه، وكان المعمور أولًا، وعمارة الجانب الشرقي محدثة، لكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة كل محلة منها مدينة مستقلة، وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثماني منها بجوامع يصلى فيها الجمعة، فأكبرها القرية، وهي التي نزلنا فيها بربض منها يعرف بالمربعة على شط دجلة بمقربة من الجسر، فحلمته دجلة بمدها السيلي، فعاد الناس يعبرون بالزوارق والزوارق فيها لا تحصى كثرة، فالناس ليلًا ونهارًا من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالًا ونساءً، والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دور الخليفة، والآخر فوقه؛ لكثرة الناس، والعبور في الزوارق لا ينقطع منها، ثم الكرخ وهي مدينة مسوَّرة، ثم محلة باب البصرة وهي أيضًا مدينة، ولها جامع المنصور — رحمه الله — وهو جامع كبير عتيق البنيان حفيله، ثم الشارع وهي أيضًا مدينة، فهذه الأربع أكبر المحلات.
وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، وتتفقده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قومة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية والماء يدخل إليه من دجلة، وأسماء سائر المحلات يطول ذكرها كالوسيطة، وهي بين دجلة ونهر يتفرع من الفرات وينصب في دجلة، يجيء فيه جميع المرافق التي في الجهات التي يسقيها الفرات ويشق على باب البصرة الذي ذكرنا محلته نهر آخر منه وينصب أيضًا في دجلة.
ومن أسماء المحلات العتابية، وبها تصنع الثياب العتابية، وهي حرير وقطن مختلفات الألوان. ومنها الحربية وهي أعلاها، وليس وراءها إلا القرى الخارجة عن بغداد إلى أسماء يطول ذكرها، وبإحدى هذه المحلات قبر معروف الكرخي؛ وهو رجل من الصالحين مشهور في الأولياء. وفي الطريق إلى باب البصرة مشهد حفيل البنيان داخله قبر متسع السنام عليه مكتوب: هذا قبر عون ومعين من أولاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — وفي الجانب الغربي أيضًا قبر موسى بن جعفر — رضي الله عنهما — إلى مشاهد كثيرة مما لم تحضرنا تسميته من الأولياء والصالحين والسلف الكريم — رضي الله عن جميعهم.
وبأعلى الشرقية خارج البلد محلة كبيرة بإزاء محلة الرصافة. وبالرصافة كان الطاق المشهور على الشط، وفي تلك المحلة مشهد حفيل البنيان، له قبة بيضاء سامية في الهواء، فيه قبر الإمام أبي حنيفة — رضي الله عنه — وبه تعرف المحلة. وبالقرب من تلك المحلة قبر الإمام أحمد بن حنبل — رضي الله عنه — وفي تلك الجهات أيضًا قبر أبي بكر الشبلي — رحمه الله — وقبر الحسين بن منصور الحلاج، وببغداد من قبور الصالحين كثير — رضي الله عنهم.
وبالغربية هي البساتين والحدائق، ومنها تجلب الفواكه إلى الشرقية، وأما الشرقية فهي اليوم دار الخلافة، وكفاها بذلك شرفًا واحتفالًا ودور الخليفة مع آخرها، وهي تقع منها في نحو الربع أو أزيد؛ لأن جميع العباسيين في تلك الديار معتقلون اعتقالًا جميلًا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة بهم، وللخليفة من تلك الديار جزء كبير قد اتخذ فيها المناظر المشرفة والقصور الرائعة والبساتين الأنيقة، وليس له اليوم وزير، إنما له خديم يعرف بنائب الوزارة، يحضر الديوان المحتوي على أموال الخلافة، وبين يديه الكتب، فينفذ الأمور، وله قيم على جميع الديار العباسية، وأمين على كافة الحرم الباقيات من عهد جده وأبيه وعلى جميع من تضمه الحرمة الخلافية، يعرف بالصاحب مجد الدين أستاذ الدار، هذا لقبه، ويدعى له إثر الدعاء للخليفة، وهو قلَّما يظهر للعامة اشتغالًا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار وحراستها والتكفل بمغالقها وتفقدها ليلًا ونهارًا.
وأما المساجد بالشرقية والغربية فلا يأخذها التقدير، فضلًا عن الإحصاء، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلا وهي يقصر القصر البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية، وهي التي ابتناها نظام الملك، وجددت سنة أربع وخمسمائة، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة وعقارات محبسة تتصير إلى الفقهاء والمدرسين بها، ويجرون بها على الطلبة ما يقوم بهم، ولهذه البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرف عظيم وفخر مخلد، فرحم الله واضعها الأول، ورحم من تبع ذلك السنن الصالح.
وللشرقية أربعة أبواب؛ فأولها — وهو في أعلى الشط — باب السلطان، ثم باب الظفرية، ثم يليه باب الحلبة، ثم باب البصلية، هذه الأبواب التي هي في السور المحيط بها من أعلى الشط إلى أسفله، هو ينعطف عليها كنصف دائرة مستطيلة، وداخلها في الأسواق أبواب كثيرة، وبالجملة فشأن هذه البلدة أعظم من أن يوصف، وأين هي مما كانت عليه؟! هي اليوم داخلة تحت قول حبيب:
ولهما أجناد برسمهما، وزادهما الخليفة جندًا يشيعونهما مخافة العرب الخفاجيين المضرين بمدينة بغداد. وفي تلك العشية التي رحلنا فيها فجاءتنا خاتون المسعودية المترفة شبابًا وملكًا، وهي قد استقلَّت في هودج موضوع على خشبتين معترضتين بين مطيتين: الواحدة أمام الأخرى، وعليهما الجلال المذهبة، وهما يسيران بها سير النسيم سرعة ولينًا، وقد فتح لها أمام الهودج وخلفه بابان، وهي ظاهرة في وسطه متنقبة وعصابة ذهب على رأسها وأمامها رعيل من فتيانها وجندها، وعن يمينها جنائب المطايا والهماليج العتاق، ووراءها ركب من جواريها قد ركبن المطايا والهماليج على السروج المذهبة، وعصبن رءوسهن بالعصائب الذهبيات والنسيم يتلاعب بعذباتهن، وهن يسرن خلف سيدتهن سير السحاب، ولها الرايات والطبول والبوقات تضرب عند ركوبها وعند نزولها.
وأبصرنا من نخوة الملك النسائي واحتفاله رتبة تهزُّ الأرض هزًّا، وتسحب أذيال الدنيا عزًّا، ويحق أن يخدمها العز ويكون لها هذا الهز. فإن مسافة مملكة أبيها نحو الأربعة الأشهر، وصاحب القسطنطينية يؤدي إليه الجزية، وهو من العدل في رعيته على سيرة عجيبة، ومن موالاة الجهاد على سنة مرضية، وأعلمنا أحد الحجاج من أهل بلدنا أن في هذا العام الذي هو عام تسعة وسبعين الخالي عنا استفتح من بلاد الروم نحو الخمسة والعشرين بلدًا، ولقبوه عز الدين، واسم أبيه مسعود، وهذا الاسم غلب عليه، وهو عريق في المملكة عن جد فجد.
وعلى قبالة هذا الموضع في الشط الشرقي مدينة «سُرَّ من رأى»، وهي اليوم عبرة من رأى، أين معتصمها وواثقها ومتوكلها؟! مدينة كبيرة قد استولى الخراب عليها إلا بعض الجهات منها هي اليوم معمورة. وقد أطنب المسعودي — رحمه الله — في وصفها ووصف طيب هوائها وورائق حسنها، وهي كما وصف وإن لم يبق إلا الأثر من محاسنها، والله وارث الأرض ومن عليها، لا إله غيره، فأقمنا بهذا الموضع طول يومنا مستريحين وبيننا وبين مدينة تكريت مرحلة، ثم رحلنا منه وأسرينا الليل كله؛ فصبحنا تكريت مع الفجر من يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر، وهو أول يوم من يونيه، فنزلنا ظاهرها مستريحين ذلك اليوم.
ولما كنا قد ذكرنا طرفًا مما قال ابن جبير عن بغداد، اقتضى العدل أن نذكر طرفًا مما قاله عن دمشق؛ حتى نشخص انطباعات بلاد الشرق في ذهن هذا السائح الكبير القادم إليها من الغرب.
(٥-٣) ذكر مدينة دمشق حرسها الله تعالى
جنة المشرق ومطلع حسنه المؤنق المشرق، وهي خاتمة بلاد الإسلام التي استقريناها، وعروس المدن التي اجتليناها، قد تحلَّت بأزاهير الرياحين، وتجلت في حلل سندسية من البساتين، وحلت من موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت في منصتها أجمل تزيين، وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه — صلى الله عليهما — منها إلى ربوة ذات قرار ومعين، ظل ظليل، وماء سلسبيل، تنساب مذائبه انسياب الأراقم بكل سبيل، ورياض يُحيِي النفوس نسيمها العليل، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل، وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل، قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت إلى الظمأ، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب»، قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر، فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نضرته اليانعة قيد النظر، ولله صدق القائلين عنها: إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت في السماء فهي بحيث تساميها وتحاذيها.
ذكر جامعها المكرم شرفه الله تعالى
هو من أشهر جوامع الإسلام حسنًا، وإتقانَ بناء، وغرابة صنعة، واحتفال تنميق وتزيين، وشهرته المتعارفة في ذلك تُغنِي عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب شأنه أنه لا ينسج به العنكبوت، ولا تدخله، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاب. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك — رحمه الله — ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفًا من الصناع من بلاده، وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه، فامتثل أمره مذعنًا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التواريخ، فشرع في بنائه، وبلغت الغاية في التأنق فيه، وأنزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجارًا، وفرعت أغصانًا منظومة بالفصوص ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة، وصف كل واصف، فجاء يغشي العيون وميضًا وبصيصًا، وكان مبلغ النفقة فيه حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وضعه في ذكر بنائه مائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومائتا ألف دينار، فكان مبلغ الجميع أحد عشر ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، والوليد هذا (هو) الذي أخذ نصف الكنيسة الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه؛ لأنه كان قسمين: قسمًا للمسلمين وهو الشرقي، وقسمًا للنصارى وهو الغربي؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح — رضي الله عنه — دخل البلد من الجهة الغربية، فانتهى إلى نصف الكنيسة، وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى، ودخل خالد بن الوليد — رضي الله عنه — عنوةً من الجانب الشرقي، وانتهى إلى النصف الثاني وهو الشرقي؛ فاجتازه المسلمون، وصيروه مسجدًا، وبقي النصف المصارع عليه — وهو الغربي — كنيسة بأيدي النصارى إلى أن عوَّضهم منه الوليد، فأبوا ذلك؛ فانتزعه منهم قهرًا وطلع لهدمه بنفسه، وكانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم يجن، فبادر الوليد وقال: أنا أول من يجن في الله، وبدأ الهدم بيده؛ فبادر المسلمون وأكملوا هدمه.
واستعدى النصارى عمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه — أيام خلافته، وأخرجوا العهد الذي بأيديهم من الصحابة — رضي الله عنهم — في إبقائه عليهم، فهمَّ بصرفه إليهم؛ فأشفق المسلمون من ذلك، ثم عوضهم منه بمالٍ عظيم أرضاهم به فقبلوه.
ويقال: إن أول من وضع جداره القبلي هو النبي — عليه الصلاة والسلام — وكذلك ذكر ابن المعلى في تاريخه، والله أعلم بذلك، لا إله سواه. وقرأنا في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أنه قال: إن الصلاة فيه بثلاثين ألف صلاة، وفي الحديث عن النبي ﷺ: أنه يعبد الله — عز وجل — فيه بعد خراب الدنيا أربعين سنة.
ذكر تذريعه ومساحته وعدد أبوابه وشمسياته
ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته؛ الشرقية والغربية والشمالية، سعته عشر خُطًا، وعدد قوائمه سبع وأربعون، منها أربع عشرة رجلًا من الجص، وسائرها سوارٍ، فيكون سعة الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع، وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص.
وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه سامية في الهواء عظيمة الاستدارة، قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن، وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما، والقبة الرصاصية قد أغصت الهواء وسطه، فإذا استقبلتها أبصرت منظرًا رائعًا ومرأًى هائلًا يشبهه الناس بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه، ونصف جدار البلاط عن يمين ونصف الثاني عن شمال جناحاه. وسعة هذا الغارب من جهة الصحن ثلاثون خطوة، فهم يعرفون الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه.
ومن أي جهة استقبلتَ البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة في الجو. والجامع المكرم مائل إلى الجهة الشمالية من البلد، وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون، منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر، وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما يليها من الجدار أربعة عشر شمسية، وفي طول الجدار عن يمين المحراب ويساره أربع وأربعون، وفي القبة المتصلة بجدار الصحن ست، وفي ظهر الجدار إلى الصحن سبع وأربعون شمسية.
وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية، يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون، وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجبة كأنها مقصورة صغيرة. وبالجانب الشرقي زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة كان وضعها للصلاة فيها أحد أمراء الدولة التركية، وهي لاصقة بالجدار الشرقي.
وبالجامع المكرم عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس، وهي من جملة مرافق الطلبة، وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون بابًا متصلة بطول الجدار قد علتْها قِسِيٌّ جصِّية مخرَّمة كلها على هيئة الشمسيات، فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه، والبلاط المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة، وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلُّها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله. ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو متفرجهم ومتنزههم، كل عشية تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد، فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ، لا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون. ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي، فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم؛ لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم، لا يزالون على ذلك كل يوم، وأهل البطالة من الناس يسمونهم الحراثين.
وفي الصحن ثلاث قباب: إحداها في الجانب الغربي منه، وهي أكبرها، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام، مستطيلة كالبرج، مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة، كأنها الروضة حسنًا، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال إنها كانت مخزنًا لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف على ما ذكر لنا على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة، وهي خمسة عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها. وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمَّنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق، قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام، وتحتها شباك حديد مستدير، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء إلى علو، فيرتفع وينثني كأنه قضيب لجين يشره الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافًا واستحسانًا، ويسمُّونه قفص الماء، والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها.
ولها بالليل تدبير آخر، وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة، وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة، مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة، وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة، فإذا انقضت عمَّ الزجاجة ضوء المصباح، وفاض على الدائرة أمامها شعاعها، فلاحت للأبصار دائرة محمرة، ثم انتقل إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها. وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها، وهي التي يسميها الناس المنجانة.
ودهليز الباب الغربي فيه حوانيت البقالين والعطارين، وفيه سماط لبيع الفواكه، وفي أعلاه باب عظيم يصعد إليه على أدراج وله أعمدة سامية في الهواء، وتحت الأدراج سقايتان مستديرتان: سقاية يمينًا وسقاية يسارًا، لكل سقاية خمسة أنابيب ترمي الماء في حوض رخام مستطيل، ودهليز الباب الشمالي فيه زوايا على مصاطب محدقة بالأعواد المشرجبة هي محاضر لمعلمي الصبيان، وعن يمين الخارج في الدهليز خانقاه مبنية للصوفية في وسطها صهريج، ويقال إنها كانت دار عمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه — ولها خبر سيأتي ذكره بعد هذا. والصهريج الذي في وسطها يجري الماء فيه، ولها مطاهر يجري الماء في بيوتها. وعن يمين الخارج أيضًا من باب البريد مدرسة للشافعية في وسطها صهريج يجري الماء فيه، ولها مطاهر على الصفة المذكورة. وفي الصحن بين القباب المذكورة عمودان متباعدان يسيرًا لهما رأسان من الصفر مستطيلان مشرجبان قد خُرِّما أحسن تخريم، يسرجن ليلة النصف من شعبان؛ فيلوحان كأنهما ثرييان مشتعلتان. واحتفال أهل هذه البلدة لهذه الليلة المذكورة أكثر من احتفالهم ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم.
وفي هذا الجامع المبارك مجتمع عظيم كل يوم إثر صلاة الصبح لقراءة سبع من القرآن دائمًا، ومثله إثر صلاة العصر لقراءة تسمى الكوثرية يقرءون فيها من سورة الكوثر إلى الخاتمة، ويحضر في هذا المجتمع الكوثري كل من لا يجيد حفظ القرآن. وللمجتمعين على ذلك إجراء كل يوم يعيش منه أزيد من خمسمائة إنسان. وهذا من مفاخر هذا الجامع المكرم، فلا تخلو القراءة منه صباحًا ولا مساءً؛ وفيه حلقات للتدريس للطلبة، وللمدرسين فيها إجراء واسع، وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم، ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة، وأغرب ما يحدث به أن سارية من سواريه هي بين المقصورتين القديمة والحديثة، ولها وقف معلوم يأخذه المستند إليها للمذاكرة والتدريس أبصرنا بها فقيهًا من أهل إشبيلية يعرف بالمرادي.
وعند فراغ المجتمع السبعي من القراءة صباحًا يستند كل إنسان منهم إلى سارية، ويجلس أمامه صبي يلقنه القرآن، وللصبيان أيضًا على قراءتهم جراية معلومة؛ فأهل الجِدَة من آبائهم ينزهون أبناءهم عن أخذها وسائرهم يأخذونها، وهذا من المفاخر الإسلامية. وللأيتام من الصبيان محضرة كبيرة بالبلد لها وقف كبير يأخذ منه المعلم لهم ما يقوم به وينفق منه على الصبيان ما يقوم بهم وبكسوتهم، وهذا أيضًا من أغرب ما يحدث به من مفاخر البلاد.
وتعليم الصبيان للقرآن بهذه البلاد المشرقية كلها إنما هو تلقين، ويتعلمون الخط في الأشعار وغيرها تنزيهًا لكتاب الله — عز وجل — عن ابتذال الصبيان له بالإثبات والمحو، وقد يكون في أكثر البلاد الملقن على حدة والمكتَّب على حدة، فينفصل من التلقين إلى التكتيب، لهم في ذلك سيرة حسنة؛ ولذلك يأتي لهم حسن الخط؛ لأن المعلم له لا يشتغل بغيره؛ فهو يستفرغ جهده في التعليم والصبي في التعلم كذلك، ويسهل عليه لأنه بتصويره يحذو حذوه. ويستدير بهذا الجامع المكرم أربع سقايات في كل جانب سقاية كل واحدة منها كالدار الكبيرة محدقة بالبيوت الخلائية، والماء يجري في كل بيت منها، وبطول صحنها حوض من الحجر مستطيل تصب فيه عدة أنابيب منظمة بطوله، وإحدى هذه السقايات في دهليز باب جيرون وهي أكبرها، وفيها من البيوت ما ينيف على الثلاثين، وفيها زائدًا على السقاية المستطيلة مع جدارها حوضان كبيران مستديران يكادان يُمسكان لسعتهما عرض الدار المحتوية على هذه السقاية، والواحد بعيد من الآخر، ودور كل واحد منهما نحو الأربعين شبرًا، والماء نابع فيهما. والثانية في دهليز باب الناطفيين بإزاء المعلمين، والثالثة عن يسار الخارج من باب البريد، والرابعة عن يمين الخارج من باب الزيادة، وهذه أيضًا من المرافق العظيمة للغرباء وسواهم، والبلد كله سقايات قلَّ ما تخلو سكة من سككه أو سوق من أسواقه من سقاية. والمرافق به أكثر من أن توصف، والله يبقيه دار إسلام بقدرته.
ومن أمثلة بيان ابن جبير قوله عن الشام
وكل من وفَّقه الله بهذه الجهات من الغرباء للانفراد يلتزم — إن أحب — ضيعة من الضياع، فيكون فيها طيب العيش، ناعم البال، وينهال الخبز عليه من أهل الضيعة، ويلتزم الإمامة أو التعليم أو ما شاء، ومتى سئم المقام خرج إلى ضيعة أخرى، أو يصعد على جبل لبنان، أو إلى جبل الجودي، فيلقى بها المريدين المنقطعين إلى الله — عز وجل — فيقيم معهم ما شاء، وينصرف إلى حيث شاء.
وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية، والله يبقيها دار إسلام بمنه. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظامًا وأبدعها وصفًا، ولا سيما قيسارياتها، وهي مرتفعات كأنها الفنادق مسقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور، وكل قيسارية منفردة بصبغتها وأغلاقها الحديدية، ولها أيضًا سوق يعرف بالسوق الكبير، يتصل من باب الجابية إلى باب شرقي
ولأهل دمشق وغيرها من هذه البلاد في جنائزهم رتبة عجيبة؛ وذلك أنهم يمشون أمام الجنازة بقرَّاء يقرءون القرآن بأصوات شجية، وتلاحين مبكية تكاد تنخلع لها النفوس شجوًا وحنانًا، يرفعون أصواتهم بها فتتلاقى الآذان بأدمع الأجفان، وجنائزهم يصلى عليها في الجامع قبالة المقصورة، فلا بد لكل جنازة من الجامع، فإذا انتهوا إلى بابه قطعوا القراءة، ودخلوا إلى موضع الصلاة عليها إلَّا أن يكون الميت من أئمة الجامع أو من سدنته؛ فإن الحالة المميزة له في ذلك أن يُدخلوه بالقراءة إلى موضع الصلاة عليه، وربما اجتمعوا للعزاء بالبلاط الغربي من الصحن بإزاء باب البريد، فيصلون أفرادًا أفرادًا، ويجلسون وأمامهم ربعات من القرآن يقرءنها، ونقباء الجنائز يرفعون أصواتهم بالنداء لكل واصل للعزاء من محتشمي البلدة وأعيانهم، ويُحلونهم بخططهم الهائلة التي قد وضعوها لكل واحد منهم، بالإضافة إلى الدين، فتسمع ما شئت من صدر الدين، أو شمسه، أو بدره، أو نجمه، أو زينه، أو بهائه، أو جماله، أو مجده، أو فخره، أو شرفه، أو معينه، أو مُحييه، أو زكيه، أو نجيبه، إلى ما لا غاية له من هذه الألفاظ الموضوعة وتتبعها، ولا سيما في الفقهاء بما شئت أيضًا من سيد العلماء، وجمال الأئمة، وحجة الإسلام، وفخر الشريعة، وشرف الملة، ومفتي الفريقين، إلى ما لا نهاية له من هذه الألفاظ المحالية، فيصعد كل واحد منهم إلى الشُّرْفة ساحبًا أذياله من الكبر ثانيًا عطفه وقذاله، فإذا استكملوا وفرغوا من القراءة وانتهى المجلس بهم منتهاه، قام وعاظهم واحدًا واحدًا بحسب رتبهم في المعرفة، فوعظ وذكر ونبَّه على خدع الدنيا، وحذر وأنشد في المعنى ما حضر من الأشعار، ثم ختم بتعزية صاحب المصاب والدعاء له وللمتوفى، ثم قعد وتلاه آخر على مثل طريقته إلى أن يتفرغوا ويتفرقوا، فربما كان مجلسًا نافعًا لمن يحضره من الذكرى. ومخاطبة أهل هذه الجهات قاطبة بعضهم لبعض بالتخويل والتسويد وبامتثال الخدمة وتعظيم الحضرة، وإذا لقي أحدًا منهم آخر مسلمًا يقول: جاء المملوك أو الخادم برسم الخدمة؛ كناية عن السلام، فيتعاطون المحال تعاطيًا، والجد عندهم عنقاء مغرب، وصفة سلامهم إيماء للركوع أو السجود، فترى الأعناق تتلاعب بين رفع وخفض وبسط وقبض، وربما طالت بهم الحالة في ذلك، فواحد ينحطُّ وآخر يقوم، وعمائمهم تهوي بينهم هويًّا. ا.ﻫ.
وقد يستغرب القارئ كيف ترجمنا إلى الآن مئات من علماء الأندلس، واكتفينا من تراجمهم بعدة أسطار لكل واحد منهم، عاملين بالمثل القائل: يكفي من القلادة ما أحاط بالجيد. ولكننا خرقنا هذه العادة في ترجمة ابن جبير السائح الأندلسي، فنقلنا من ترجمة حياته ومن عيون فصوله وغُرَر كلماته ما لم ننقله لغيره من علماء الأندلس. والجواب عن هذا السؤال هو شهرة رحلته التي شرَّقت وغرَّبت، وذكر فيها عن الشرق وأهله حوادث خالدة ومباحث طريفة وقصصًا لطيفة لم نجد مثلها لكتَّاب الغرب وسيَّاحهم، فتمثل لنا شرقنا من خلال وصف ابن جبير في تلك الحقبة التي استرجع فيها المسلمون بيت المقدس بشكل نكاد نرى فيه الوقائع بالعيان، ونراه المثل الأعلى من سحر البيان.
(٥-٤) العلماء والأدباء الذين انتسبوا إلى بلنسية
ثم نعود إلى استقصاء ذكر العلماء والأدباء الذين انتسبوا إلى بلنسية فنقول: وممن يُنسَب إلى بلنسية من أهل العلم أبو بكر حمدون بن محمد المعروف بابن المعلم، لازَمَ أبا الوليد الوقشي، وسمع من أبي العباس العذري، وتولى الصلاة والخطبة بمسجد رحبة القاضي من بلنسية بعد تغلُّب الروم عليها أول مرة واستيلائهم على المسجد الجامع، وذلك سنة ٤٨٩، ثم خرج منها مع جماعة من أهلها فرارًا بدينهم سنة ٤٩٠، نقله ابن الأبَّار عن ابن علقمة.
وتولى أبو سليمان هذا قضاء الجزيرة الخضراء، ثم قضاء بلنسية سنة ٦٠٨ بعد أبي عبد الله بن أصبغ، ثم تولى قضاء مالقة، وتوفي وهو على قضائها السادس من ربيع الآخر سنة ٦٢١، ومولده بأندة سنة ٥٥٢، قال: والغالب على أحواله التواضع ولين الجانب مع النزاهة والعدل والاعتدال.
وممن يناسب ذكره في أعيان بلنسية محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قاسم بن علي بن قاسم بن يوسف، أمير الأندلس، بن عبد الرحمن الفهري، يكنى أبا عبد الله، ويلقب بيمن الدولة، كان رئيسًا بقلعة البونت من أعمال بلنسية مقر آبائه الرؤساء، وبها أخذ عن أبي الحسن علي بن إبراهيم التبريزي وغيره، وله صَنَع أبو محمد بن حزم رسالته في فضل أهل الأندلس، وأطال الثناء عليه وعلى سلفه — رحمهم الله — ذكر ذلك ابن الأبَّار في التكملة.
وممن يناسب ذكره محمد بن عبد الرحمن بن أبي العاصي بن يوسف بن فاخر بن عتاهية بن أبي أيوب بن حيُّون بن عبد الواحد بن عفيف بن عبد الله بن رواحة بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، قال ابن الأبَّار في التكملة: قرأت نسَبَه بخطه، ونقلته منه، وهو من أهل شارقة؛ قلعة الأشراف، عمل بلنسية، صحب أبا الوليد الوقشي، وله رواية عن أبي محمد بن السيد، روى عنه ابنه أبو العاصي الحكم بن محمد، وتوفي في نحو العشرين وخمسمائة.
ومحمد بن عبد العزيز بن سعيد بن عقال الفهري، من أهل البونت عمل بلنسية، وكانت مركزًا للفهريين، وقد تولى محمد المذكور قضاء بلده للحاجب نظام الدولة، ثم لولاة المرابطين، قال ابن الأبَّار: وهو من أهل المعرفة والنباهة، وتوفي قبل العشرين وخمسمائة.
وأبو عبد الله محمد بن فرج بن مسلم بن حديدة بن خلدون من ثغر البونت عمل بلنسية، روى عن أبي محمد القلَّني وغيره، وشارك في اللغة، وكان حسن الخط، وولِّي قضاء بلده من قبل أبي عبد الله بن عبد العزيز، وذلك في سنة ٥٤٠.
ومحمد بن إدريس بن عبد الله بن يحيى المخزومي، من أهل بلنسية، سكن جزيرة شقر، لقي أبا الوليد الوقشي ولازمه، وصحب أبا محمد الركلي، وأبا عبد الله بن الجزَّار، وأبا محمد بن السيد، وأبا عبد الله بن خُلَصَة، قال ابن الأبَّار: كان من أهل الآداب واللغة، متحققًا بذلك، له حظ من النظم ومشاركة في الحديث، وميز رجاله والكلام على معانيه، توفي ببلنسية في ذي القعدة سنة ٥٤٦.
وأبو عبد الله محمد بن يحيى بن محمد بن أبي إسحاق بن عمرو بن العاصي الأنصاري، من أهل لرية عمل بلنسية، أخذ عن مشيخة بلده، ثم خرج منه في الفتنة سنة ٤٨٨ بعد تغلُّب الروم على بلنسية، فاستوطن جيَّان نحوًا من سبعة أعوام، وأخذ بها الأدب عن أبي الحجاج الكفيف، ولما عادت بلنسية إلى الإسلام في رجب سنة ٤٩٥ عاد إليها، فأخذ بها القراءات عن أبي بكر بن الصنَّاع المعروف بالهدهد، وكان قد قصد أبا داود المقرئ ليأخذ عنه فألفاه مريضًا مرضَه الذي توفي منه سنة ٥٩٦، وسمع من أبي محمد البطليوسي، وأبي بكر بن العربي، وأجاز له في سنة ٥٢٢، وتصدَّر ببلده لرية فأحيا رسم القراءة هناك، ثم أقرأ ببلنسية، قال ابن الأبار: وبها أخذ عنه شيخنا أبو عبد الله بن نوح، وله في التمييز بين ألف الوصل وألف القطع مجموع قد حمل عنه، وتوفي بلرية صبيحة يوم الأحد السادس من شوال سنة ٥٤٧، وصلى عليه أخوه أبو محمد، ودفن بمقبرة بني زنُّون منها وقد قارب الثمانين، وكان مولده سنة ٤٧٠.
وأبو الحسن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن واجب القيسي، روى عن شريح، وابن العربي، وأبي القاسم بن رضا، وتفقه بعمه أبي حفص بن واجب، وحضر عند أبي بكر بن أسد، وأبي محمد بن عاشر المناظرة في كتب الرأي، وله رواية عن ابن النعمة، وأبي الوليد بن خيرة، وأبي الحسن بن هذيل، وولي القضاء بقسطنطانية وغيرها ومن الجهات الشرقية، حدَّث عنه ابنه أبو عبد الله، وكذلك ابن سفيان، ووصفه بالأدب والنباهة وكف اليد والاعتدال في أموره، توفي ببيران سنة ٥٥٣.
وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يعيش اللخمي، روى عن أبي محمد بن خيرون، ورحل حاجًّا في سنة ٥٠٦، ثم في السنة التي بعدها، ولقي بمكة رزين بن معاوية، ولكن لم يحمل عنه شيئًا، وانصرف إلى مصر فسكنها نحوًا من عشرين سنة، ولقي هناك أبا بكر عبد الله بن طلحة اليابري، فسمع منه بعض تواليفه وتواليف شيخه أبي الوليد الباجي، وسمع في طريقه بالإسكندرية من أبي بكر الطرطوشي، وأبي طاهر السلفي، وأبي عبد الله بن منصور بن الحضرمي، ثم قفل إلى بلده سنة ست وعشرين وخمسمائة؛ قال ابن الأبَّار: ولم يكن له كبير معرفة بالحديث، وتوفي بشاطبة إمامًا في الفريضة بقصبتها سنة ٥٥٦، وكان مولده سنة ٤٨٢.
وأبو عبد الله محمد بن خلف بن يونس، من أهل لرية عمل بلنسية، أخذ بشاطبة عن أبي عمران بن أبي تليد، وتلقى علم الشروط عن أبي الأصبغ عيسى بن موسى المنزلي، والأدب عن أبي الحسن بن زاهر، ترك وطنه في الفتنة، وكان على الصلاة والخطبة بجامع بلده، وكان معدلًا، ذكره ابن الأبَّار، وقال نقلًا عن ابن عيَّاد: إنه توفي بشاطبة في رجب سنة ٥٥٧.
وأبو عبد الله محمد بن مخلوف بن جابر اللواتي النحوي، صحب أبا محمد البطليوسي، وسمع منه ومن القاضيين أبي بكر بن العربي وأبي بكر بن أسود، وأخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وكان من أهل المعرفة بالعربية والآداب، معلمًا بها له حظ من قرض الشعر، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن غالب الرفاء الرصافي، رصافة بلنسية، سكن مالقة. قال ابن الأبار في التكملة: كان شاعر وقته المعترف له بالإجادة، مع العفاف، والانقباض، وعلو الهمة، والتعيُّش من صناعة الرفو التي كان يعالجها بيده، لم يبتذل نفسه في خدمة، ولا تصدى لانتجاع بقافية، حملت عنه في ذلك أخبار عجيبة، وقد سكن غرناطة وقتًا، وامتدح واليها حينئذ، ثم رفض تلك العلق، ورضي بالقناعة مالًا، وهو مع ذلك مرغوب فيه، ينظم البديع، ويبدع المنظوم، وكان من الرقة، وسلاسة الطبع، وتنقيح القريض وتجويده، على طريقة متحدة، وسمعت شيخنا أبا الحسن بن حريق يعيبه بالإقلال، وليس كذلك، وخرج صغيرًا من وطنه رصافة بلنسية، فكان يكثر الحنين إليه، ويقصر أكثر منظومه عليه، وشعره مدوَّن بأيدي الناس، متنافس فيه، ومحاسنه كثيرة، قال: وتوفي صرورة لم يتزوج قط، وذلك في يوم الثلاثاء التاسع عشر من رمضان سنة ٥٧٢، وقبره بمالقة.
وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن غزلون بن مطرف بن طاهر بن هارون بن عبد الرحمن بن هاجر بن الحسين بن حرب بن أبي شاكر الأنصاري، من أهل شون عمل بلنسية، رحل حاجًّا سنة ٥٦٣، وأدى الفريضة سنة ٥٦٤، وحج ثلاث حجات متواليات، ولقي بالإسكندرية أبا طاهر السلفي سنة ٤٦٦، وسمع منه الأربعين حديثًا من جمعِه، وقفل إلى بلده شون فسمعها منه أبو الخطاب بن واجب وأبو عمر بن عياد. قال ابن الأبار: وبخطه قرأت نسبه، وعلى الصواب ثبت هنا، كان مولده سنة ٥١٠، وتوفي بمربيطر يوم الخميس السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة ٥٧٤، وسيق إلى بلنسية فدفن بها، وصلَّى عليه القاضي أبو تميم ميمون بن جبارة.
ومحمد بن علي بن محمد المكتَّب، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عذارى، سماه أبو الربيع بن سالم في شيوخه، وهو كان معلمه في الكتَّاب، وحكي أنه كتب عن أبي عبد الله — مولى الزبيدي — بعض ما رواه عن ابن شرف من شعره، ولم يسمِّ شيوخه ولا ذكر وفاته، ذكره ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن بكر الفهري، قال ابن الأبار: سمع من شيوخنا أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر بن عات، وغيرهم، وكتب بخطه علمًا كثيرًا، وكان متحققًا بعلم الحساب، مشاركًا في الطب، حافظًا للحديث والتواريخ، من بيت كتابة ونباهة، صحبته وعارضت معه كتاب المصابيح لأبي محمد بن مسعود، وسمعت منه أخبارًا وأشعارًا، وتوفي سنة ٦١٨.
وأبو الحسن محمد بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن سلمون، روى عن أبي الحسن بن هذيل، وأخذ عنه قراءة ورش، وسمع منه الموطأ وصحيح البخاري، وكان عدلًا مرضيًّا، قال ابن الأبار: له دكان بالعطارين يقعد فيه أحيانًا، سمعت منه أخبارًا، وناولني، وأجاز لي، ولم يكن له علم بالحديث ولا بغيره، وقد أخذ عنه بعض أصحابنا، وتوفي ليلة الأحد الثاني والعشرين لربيع الآخر سنة ٦٢٤، ودفن لصلاة العصر من اليوم المذكور بمقبرة باب بيتالة، ومولده في النصف من سنة ٥٤٧، قلت: رحم الله ابن الأبار؛ فإن لم يكن لهذا المترجم أي علم لا بالحديث ولا بغيره فلماذا هذا الاعتناء بترجمته، وهذا التدقيق في تاريخ وفاته ومكان دفنه وتاريخ مولده؟!
وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن يحيى الغافقي من بلنسية، أصله من الشارَّة؛ إحدى قراها. أخذ الفقه عن أبي محمد بن عاثر، وسمع عليه كثيرًا من كتابه الذي سمَّاه «الجامع البسيط وبغية الطالب النشيط» في شرح المدوَّنة، وأخذ القراءات عن أبي نصر فتح بن يوسف المعروف بابن أبي كبَّة، من أصحاب أبي داود المقرئ، وانتقل إلى سبتة في الفتنة سنة ٥٦٢، حدَّث عنه ابنه أبو الحسن، قرأ عليه الموطأ، وجامع الترمذي، وكتب عنه الحديث والفقه والأدب والتاريخ، وحكي أنه زجره عن كتب الجاحظ وقد رآه ينظر في بعضها، وأنشده في ذلك:
ونقل ابن الأبار عن ابنه أنه توفي سنة ٦٢٤ عن سن عالية تقارب التسعين.
وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن مسلم البكري، قال ابن الأبار: سمع من شيخنا أبي عبد الله بن نوح قديمًا، وأخذ عنه العربية والآداب، وأقرأ بها، وكان مقدمًا حسن التعليم بها، وهو أحد من أخذتها عنه، قرأت عليه جملة من أول الإيضاح لأبي علي الفارسي، وكان من أهل الديانة والنزاهة والانقباض، وتوفي سنة ٦٢٨، ودفن بمقبرة باب الحَنَش.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عيسى بن نعمان البكري، أخذ القراءات عن أبي بكر بن جُزَيٍّ، وعلم الفرائض والحساب عن أبي بكر بن سعد الخير، وكان مقدمًا في ذلك مع الصلاح والعدالة، قال ابن الأبار: سمعت منه أبيات أبي الحسن بن سعد الخير في وصف الدولاب، وأصيب بفالج طاوله على أن توفي صدر سنة ٦٣٢، ومولده سنة ٥٥١.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن يوسف الأنصاري من أهل بلنسية، انتقل سلفه من شلب إلى شبرب من أعمالها، يروي عن أبي بكر بن نمارة، قال ابن الأبار: صحبته بحانوت أبي عبد الله البطرني، وكان كثيرًا ما يقعد معنا هنالك، واستجزته حينئذ، ولا أعلم له رواية عن غير ابن نمارة، وكان فقيهًا، وتوفي في الحادي والعشرين لربيع الأول سنة ٦٣٢، ومولده في رجب سنة ٥٤٢.
ومحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي زاهر، سبقت ترجمة والده، أخذ القراءات عن أبيه، وسمع من أبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن نسع وغيرهما، وأدَّب بالقرآن، قال ابن الأبار: وهو كان معلمي، وعنه أخذت قراءة نافع، وانتفعت به في صغري، وأجاز لي، وسمع مني كتاب «معدن اللجين في مرائي الحسين» من تأليفي، وكان امرأَ صدقٍ، ناشئًا في الصلاح، محافظًا على الخير، متواضعًا، يجمع إلى جودة الضبط براعة الخط، ونحا في ما كتب من المصاحف منحى أبي عبد الله بن غطُّوس فأجاد، وصلى بالناس الفريضة في مسجد رحبة القاضي من داخل بلنسية دهرًا طويلًا، وكان من العدالة والنزاهة بمكان، ورحل حاجًّا سنة ٦٣٢، فمرض بالإسكندرية، وتوفي بعيذاب، قاصدًا بيت الله الحرام في آخر سنة ٦٣٣.
وأبو عبد الله محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن موسى بن سعيد بن سعود الأنصاري المعروف بابن الوزير، ولكن غلبت عليه الشهرة بابن البطرني، أخذ القراءات عن أبيه أبي علي، وسمع من أبي العطاء بن نذير، ومن أبي الحجاج يوسف بن محمد المعافري الشاطبي وغيرهما، وأجاز له أبو محمد بن عبيد الله، وأبو جعفر بن حكم، وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس، وأبو بكر بن أبي جمرة، وأبو جعفر بن عميرة الضبي، وعُني بعقد الشروط، وكان له فيها نفوذ وبها معرفة مع براعة الخط وحسن الوراقة، وولي قضاء بعض الكور. قال ابن الأبار في التكملة: سمعت منه المعجم في مشيخة أبي علي الصدفي للقاضي أبي الفضل بن عياض، قرأ جميعه عليَّ بلفظه، وكان صهري، وانتقل معي إلى مدينة تونس، وبها توفي — رحمه الله — بين صلاتي الظهر والعصر من يوم الأربعاء الرابع لشهر ربيع الآخر سنة ٦٣٧، ودفن لصلاة الغداة من يوم الخميس بعده بمقربة من المصلى بظاهرها، ومولده ببلنسية سنة ٥٧٣. ا.ﻫ.
قلت: سنة ٦٣٦ يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر تغلَّب العدو على بلنسية، واضطر أهلها إلى التسليم، ولكنهم لم يسلموها إلى سنة ٦٣٧، فيظهر أن المترجم كان من جملة من جلوا عنها في تلك السنة إلى تونس، ذهب مع نسيبه الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي بكر القضاعي البلنسي المعروف بابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن خلف بن علي بن قاسم الأنصاري، من أهل بلنسية، ويقال إنه من بيت أبي محمد بن قاسم — قاضي قلعة أيوب — وكان هو يقول: أصلي من قلعة أيوب، وكان جدي بها قاضيًا، سمع من أبي العطاء بن نذير ومن أبي الخطاب بن واجب، ولكن أكثر أخذه كان عن أبي عبد الله بن نوح، وعني بعقد الشروط في أول طلبه، ثم رغب عن ذلك، وزهد في الدنيا، واعتزل الناس، وأقبل على النظر في العلم، وكان له تحقق بالتفسير، وقعد لذلك بجامع بلنسية وقتًا، إلا أن طريقة التصوف كانت أغلب عليه، وألَّف كتاب «نسيم الصبا» في الوعظ على طريقة الجوزي. قال ابن الأبار: قرأ عليَّ بلفظه مواضع منه، وكتاب «بغية النفوس الزكية في الخطب الوعظية» من إنشائه، كتبته عنه، وسمعت منه غير ذلك، وأجاز لي، وصحبته طويلًا، وكان يحدثني باصطحابه مع أبي — رحمه الله — في السماع من أبي عبد الله بن نوح، ويرعى ذلك لي، وقد سمع بقراءتي بجامع بلنسية بين العشاءين لضوء السراج كثيرًا مما أخذت عن أبي الخطاب بن واجب، كجامع الترمذي وغيره، ودُعِي إلى الخطبة بعد وقوع الفتنة، وعرف بالحاجة الماسة إليه في ذلك فأجاب، ثم استعفى فأُعفي، وأقام بشاطبة حال حصار بلنسية؛ لأنه كان وُجِّه إلى مرسية لاستمداد أهلها، وتوفي بأوريولة عصر الخميس الثاني والعشرين لرجب سنة ٦٤٠، ودفن لصلاة الجمعة، وحضر جنازته الخاصة والعامة، وازدحموا على نعشه حتى كسروه به، قال: وفي ظهر يوم الخميس العاشر من شوال بعده قدم أحمد بن محمد بن هود — والي مرسية — بجماعة من وجوه النصارى، فملكهم مرسية صلحًا. ا.ﻫ.
قلت: رحم الله أبا البقاء صالح بن شريف الرندي القائل في مرثيته الشهيرة للأندلس:
نعم لم يتأخر سقوط مرسية عن سقوط بلنسية إلا ثلاث سنوات؛ لأنهما على خط واحد، وكل منهما أشبه بدمشق في كثرة الجنان والتفاف الأشجار وتدفق الأنهار وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ.
وأبو بكر محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن سليمان الزهري، يعرف بابن محرز، وكان بيتهم قديمًا يعرف بابن القح، سمع من أبيه أبي عبد الله، ومن خاليه أبي بكر، وأبي عامر ابني أبي الحسن بن هذيل، ومن أبي محمد بن عبيد الله الحجري، ومن أبي عبد الله بن الغازي، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي عبد الله المناصف، وغيرهم. وأجاز له أبو بكر بن خير، وأبو محمد بن فليح، وأبو الحسن بن النقرات، وأبو العباس بن مضاء، وغيرهم من أهل الأندلس، ومن أهل المشرق أجاز له أبو الحسن بن المفضَّل، وأبو عبد الله الكركنتي، وأبو الفضل الغزنوي، وأبو القاسم هبة الله بن سعود البوسيري، قال ابن الأبار: وكان أحد رجال الكمال علمًا وإدراكًا وفصاحةً، مع الحفظ بالفقه والتفنن بالعلوم والمتانة بالآداب والغريب، وله شعر رائق بديع سمعت منه كثيرًا، وأجاز لي، وتوفي ببجاية (بلاد الجزائر) في الثامن عشر لشوال سنة ٦٥٥ عن سنٍّ عالية، ومولده ببلنسية سنة ٥٦٩.
ومعاوية بن محمد، ولي قضاء بلنسية سنة ٢٣٩، ذكره ابن حارث، ولم يزد ابن الأبَّار في ترجمته على هذا السطر الواحد.
ومروان بن محمد بن عبد العزيز التجيبي من أهل بلنسية، وأصل سلفه من قرطبة، وفي انتسابهم إلى تجيب خلاف. يكنى أبا عبد الملك، وكنَّاه طاهر بن مفوز بأبي المطرف في إجازة أبي عمر بن عبد البر له ولابنيه محمد وأحمد، سمع من أبي المطرف بن جحاف، وأبي الوليد الوقَّشي، وأبي عبد الله بن سعدون القروي، وأبي داود المقرئ، وأبي بكر بن القدرة، وغيرهم. وأجاز له ابن عبد البر، وأبو مروان بن سراج، ولابنيه أحمد وعبد الله في جمادى الآخرة سنة ٤٨٨، وكان معتنيًا بسماع الحديث وروايته وانتساخ دواوينه مع جلالة القدر ونباهة البيت، وإلى أخيه الوزير أبي بكر أحمد بن محمد كان تدبير بلنسية في الفتنة، ولم يدخل مروان في شيء من ذلك، ومن ولده بنو عبد العزيز الباقون ببلنسية إلى أن تغلب الروم عليها ثانية في آخر صفر سنة ٦٣٦. قال ابن الأبار الذي نقلنا عنه هذه الترجمة: وتوفي بعد التسعين وأربعمائة.
ومن هذه العائلة ترجم ابن الأبار رجلًا آخر، وهو مروان بن أحمد بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز، كان يكنى أبا عبد الملك، وكان من أهل النباهة، عريق البيت في الرئاسة والعلم، قال: وقد تقدم ذكر أبيه وأخيه محمد، ولا أعرف لمروان هذا رواية، وتوفي في السابع عشر من جمادى الأولى سنة ٥٥٨، ومولده سنة ٥٠٩، عن ابن عيَّاد.
وترجم ابن الأبار شخصًا آخر من هذه الشجرة، وهو مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز، من أهل بلنسية، وقاضيها ورئيسها، ويكنى أبا عبد الملك، سمع من أبي الحسن بن هذيل، وأبي محمد البطليوسي، وأبي الحسن طارق بن يعيش، وأبي بكر بن أسود، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي عبد الله بن سعيد الداني، وأجاز له أبو عمران بن أبي تليد، وأبو علي بن سكَّرة، وأبو عبد الله بن الفرَّاء — قاضي المرية — وأبو الحسن بن موهب، وغيرهم. وولي قضاء بلنسية في ذي الحجة سنة ٥٣٨، وقيل في السنة التي بعدها، ثم صار أميرًا على بلنسية عند انقراض دولة المرابطين، وبويع له بذلك سنة ٥٤٠، وأقام بالإمارة يسيرًا وخُلع، واعتقله اللمتونيون في أخريات أيامهم في أحد معاقل ميُّورقة، فبقي هناك نحوًا من اثنتي عشرة سنة، ثم تخلَّص وسار إلى مراكش في قصة طويلة، وأخذ عنه هناك جلَّة من العلماء، وتوفي بمراكش سنة ٥٧٨، ومولده ببلنسية سنة ٥٠٤، وكان لدة أبي القاسم بن حبيش، كل هذا عن ابن الأبَّار.
وأبو مروان بن السمَّاد المقرئ من أهل بلنسية، وصاحب الصلاة والخطبة بها بعد تغلب الروم عليها أول مرة بغارة القنبيطور الملقب عند الإسبانيين بالسِّيد، سمع أبو مروان هذا من أبي الوليد الباجي صحيح البخاري، وكان موصوفًا بالفضل والصلاح، وحكى القاضي أبو الحسن محمد بن واجب أنه سمع أكثر صحيح البخاري بقراءة ابن السماد هذا على أبي الوليد الباجي بمسجد رحبة القاضي من بلنسية، رواه ابن الأبار في التكملة.
وأبو الخيار مسعود بن محمد بن مسعود الأنصاري، من أهل بلنسية، وأصله من ثغرها، يعرف بابن النابغة، كان من أهل الثقة والعدالة والمشاركة في الأدب وحفظ اللغة، وله حظ من القريض، ولِّي الأحكام بلرية من كور بلنسية، وخطب بموضع سكناه من غربيها، توفي بعد الأربعين وخمسمائة.
وعبد الله بن محمد بن حزب الله، يروي عن وهب بن مسرَّة الحجاري، حدَّث عنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الوثايقي الفقيه، قال ابن الأبار: وبنو حزب الله أهل العلم والنباهة، وإليهم ينسب المسجد بداخل بلنسية.
وأبو محمد عبد الله بن سيف الجذامي أخذ عن أبي نصر هارون بن موسى النحوي، وكان نحويًّا أديبًا متفننًا ضابطًا، أخذ عنه جماعة، وتوفي حول الثلاثين وأربعمائة، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عزير وغيره.
وأبو محمد عبد الله بن أبي دُليم سكن بلنسية، وسمع بطرطوشة من أبي القاسم خلف بن هاني العمري في سنة ٤٠٥، وكان ابن هاني إذ ذاك ابن تسعة وسبعين عامًا، روى عن ابن أبي دُليم المذكور أبو داود المقرئ، سمع منه أحاديث خراش بن عبد الله في سنة ٤٣٦، وكان إذ ذاك ابن ثمانين عامًا، قال ابن الأبَّار: قرأت ذلك بخط أبي داود.
وأبو محمد عبد الله بن خميس بن مروان الأنصاري، وُلِّي القضاء بدانية وأعمالها لإقبال الدولة علي بن مجاهد صاحبها، وذلك في شوال سنة اثنتين وأربعمائة، قال ابن الأبَّار: وقفت على نسخة عهده بذلك من إنشاء أبي محمد بن عبد البر، ثم إن علي بن مجاهد — أمير دانية — صرف ابن خميس المذكور بسعاية محمد بن مبارك، وولَّى مكانه أبا عمر بن الحذَّاء، هذا ولما احتضر أبو عمرو المقرئ أوصى ابنه أبا العباس بأن عبد الله بن خميس يصلي عليه؛ فأنفذ وصيته، وكان ذلك في النصف من شوال سنة ٤٤٤، قال ابن الأبَّار: وكان من أهل العلم والفضل، ورأيت خطه في رسم مؤرخ سنة ٤٧٦.
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري من أهل بلنسية، وصاحب خطة الرد والمظالم بها، روى عن أبيه القاضي أبي المطرف وغيره، وكان فقيهًا حافظًا من بيت علم ونباهة، سمع منه ابنه عبد الرحمن، وحمل عنه المدونة المستخرجة، وقدَّمه ابن عمه أبو أحمد الأخيف للقضاء مكانه، وأدركته فتنة القنبيطور المتغلِّب على بلنسية وهو يتولَّى خطة الرد والمظالم، وكان ذلك في سنة ٤٨٥، ودخل القنبيطور المدينة صلحًا يوم الخميس منسلخ جمادى الأولى سنة ٤٨٧، فتم حصاره إياها عشرين شهرًا، عن ابن الأبار.
وأبو العباس عبد الله بن أحمد بن سعدون، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان صاحبًا لأبي بحر الأسدي معينًا له في مقابلة كتبه، حدَّث عنه أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن النماري الحجري، ذكره ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن خلف بن سعيد بن حاتم العبدري، يعرف بالزواوي، صحب أبا دواد المقرئ، وسمع منه، ذكره ابن الأبار، وقال إنه حدَّث عن أبي داود المقرئ بالتلخيص لأبي عمرو المقرئ عن مؤلفه، وأنه رأى خطه بذلك في المحرم سنة ٥١٦.
وأبو الحسن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز، من أهل بلنسية وقاضيها، سمع من أبي علي الصدفي، واستجاز له ولأخيه أحمد أبوهما مروان بن محمد أبا الوليد الوقَّشي في رجب سنة ٤٧٧، وتولى أبو الحسن عبد الله القضاء ببلنسية سنة ٥٢٠ بعد وفاة أبي الحسن بن واجب، وأقام في القضاء نحوًا من عشر سنين، وكان حميد السيرة، قويم الطريقة، صليبًا في الحق، بصيرًا بالأحكام، صادق الفراسة والزكن، له في ذلك أخبار محفوظة، وهو من بيت نباهة ورئاسة، توفي مصروفًا عن القضاء في رجب سنة ٥٣٥، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن حبيش وعن ابن عيَّاد.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن الخلف بن الحسن بن إسماعيل الصدفي، يعرف بابن علقمة، روى عن أبيه أبي عبد الله صاحب التاريخ، وعن أبي محمد البطليوسي، وسمع من أبي محمد بن خيرون موطَّأَ مالك، وكان أديبًا شاعرًا فاضلًا ورعًا مشاركًا في الفقه، حسن الخط، وكتب للقاضي أبي الحسن بن عبد العزيز، وله خطب حِسان من إنشائه، توفي في حدود الأربعين وخمسمائة، نقل أكثر ذلك ابن الأبار عن ابن عياد.
وأبو محمد عبد الله بن سعيد، يعرف بالطرَّاز، صحب أبا بكر بن عقال الفقيه في رحلته إلى قرطبة، وكان سماعهما من ابن العربي واحدًا، وكان عظيم الحفظ دءوبًا على الدرس، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن عياد، ولم يذكر سنة وفاته.
وأبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن (ثلاث مرات) بن جحاف المعافري، لقي أبا الحسن عاصم بن القدرة وغيره، وكان فقيهًا أديبًا شاعرًا، وولي قضاء بعض الكور، ونقل عنه ابن عياد أبو عمر هذه الأبيات:
وقال ابن عياد: إنه توفي في صفر سنة ٥٥١.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن مقاتل التجيبي، من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، صحب القاضي أبا بكر بن أسد وتفقَّه به، وحضر مجلس أبي محمد بن عاشر، وكان فقيهًا عارفًا بعقد الشروط، وكتب للقضاة ببلده، قال أبو محمد بن نوح: توفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من صفر سنة ٥٩٢.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن علي بن مفرِّج بن سهل الأنصاري، روى عن ابن هذيل هو وأخوه، وشهر بالإتقان لضبط المصاحف، مع براعة الخط، كان الناس يتنافسون في ما يكتب هو وابنه محمد، وقد تقدم ذكر محمد هذا.
وأبو محمد عبد الله بن أبي بكر بن عبد الأعلى بن محمد بن أيوب المعافري، يعرف بالشبارتي؛ لأن أصله من «شبارت»، كان من أهل بلنسية، وسكن شاطبة، أخذ القراءات عن أبي الحسن بن هذيل وغيره، وأخذ عن أبي عبد الله بن سعادة وأبي الحسن بن النعمة، وتصدَّر بشاطبة للإقراء، وأخذ عنه الناس، وكان ماهرًا مجوِّدًا صالحًا خيِّرًا، قال ابن سفيان: إنه توفي سنة ٥٦٠، وقال ابن عيَّاد: إنه توفي سنة ٥٦١، عن ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد بن عبد الرحمن العبدري، يعرف بابن موجوال، أخذ القراءات عن ابن باسُّه، وروى عن أبي علي الصدفي، ولازم أبا محمد البطليوسي، وأخذ عن أبي الحسن بن واجب، وأبي عبد الله بن أبي الخير الموروري وغيرهما، ورحل إلى إشبيلية فأوطنها، وسمع بها من القاضي أبي مروان الباجي، وأبي الحسن شُريح بن محمد، وأبي بكر بن العربي، وكان هذا يُثني عليه، وكانت له رواية أيضًا عن أبي الفضل بن عياض، وأبي الطاهر السلفي، ولقي بإشبيلية أبا محمد عبد الله بن محمد بن أيوب فأخذ عنه الحديث المسلسل في الأخذ باليد، وكان فقيهًا بصيرًا صالحًا زاهدًا، وله كتاب في شرح صحيح مسلم بن الحجاج مات قبل إتمامه، قال ابن الأبار في التكملة: إن الحافظ أبا بكر بن الجد كان يغصُّ به ويغضُّ منه، وقال إنه أجاز لأبي الخطاب بن واجب، وأبي عبد الله الأندرشي من شيوخنا، وتوفي بإشبيلية سنة ٥٦٦.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سَمَاعَة، أخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وقرأ بمرسية على أبي محمد بن أبي جعفر، وكان من أهل النباهة، قال ابن الأبَّار: قرأت وفاته بخط أبي عمر بن عيَّاد.
وأبو محمد عبد الله بن موسى بن محمد بن موسى بن صامت الأنصاري، سكن بلنسية، وأصله من بعض نواحيها، روى عن أبيه، وعن أبي محمد البطليوسي، وأخذ عنه أبو عمر بن عيَّاد، وهو من أصحابه، وكان أصمَّ، ورووا عنه بيتين قال: إن أبا محمد البطليوسي أنشدهما لنفسه وكتبهما له بخطه، وذلك في حَبِّ الملوك، وهو هذه الفاكهة المعروفة:
قال ابن الأبار: ثم رأيت بعد أنهما لأبي العرب الصقلي. توفي عبد الله بن موسى المذكور بعد السبعين وخمسمائة.
وأبو الحسن عبد الله بن مروان بن أحمد بن مروان بن محمد بن مروان بن عبد العزيز التجيبي، روى عن أبي الحسن بن النعمة، وعني بعقد الشروط، وأُكره على القضاء بكورة شبرب من كور بلنسية، فتوجَّه إليها عن غير اختيار منه، وحُكي أنه باع بعض ثيابه لينفق على نفسه مدة إقامته هناك، ثم استعفى فأُعفي، وكان من أهل الفضل والصلاح والعدالة الكاملة، مع نباهة البيت وجلالة السلف، مولده سنة ٥٣٥، ووفاته يوم الأحد خامس عشر شوال سنة ٥٩٣، ودفن ثاني يوم بمقبرة باب الحنش من بلنسية، ذكره ابن الأبَّار نقلًا عن ابن أبي العافية وابن عيَّاد.
وأبو محمد عبد الله بن يوسف بن علي الأنصاري، يعرف بابن عطية، كان من أهل النباهة، سماه أبو الربيع بن سالم في من صحبه، وأخذ عنه، ولم يذكر أحدًا من شيوخه، وقد ذكره ابن الأبار دون أن يذكر سنة وفاته.
وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن سالم المكتَّب الزاهد، يعرف بالصبطير، روى عن أبي الحسن بن النعمة، وقال ابن الأبار: أخذ القراءات قديمًا عن أبي جعفر بن عون الله الحصَّار شيخنا، وأدَّب بالقرآن، وكان من أهل الصلاح والزهادة والاجتهاد في العبادة، كثير التلاوة لكتاب الله تعالى، وكان لوالدي به اختصاص، ولم يزل يصحبه إلى أن توفي بعد عيد الفطر من سنة ٦٠١، ودفن خارج باب بيطالة، وكانت جنازته مشهودة والجمع فيها عظيمًا.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن يوسف بن سعدون الأزدي، روى عن الأستاذ أبي محمد المعروف بعبدون، وأخذ عنه العربية والآداب، وحضر عند القاضي أبي تميم ميمون بن جبارة، وكان ماهرًا في العربية واللغة، بديع الخط، أنيق الوراقة، استكتبه بعض الرؤساء فبرع نظمه ونثره. قال ابن الأبار: أجاز لي، وسمعت منه حروفًا من اللغة يفسِّرها، وتوفي في آخر سنة ٦٢٢.
وأبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن محمد بن مطروح التجيبي من أهل بلنسية، أصله من سرقسطة، سمع أباه، وأبا العطاء بن نذير، وأبا عبد الله بن نسع، وأبا الحجاج بن أيوب، وأخذ القراءات والعربية عن أبي عبد الله بن نوح، ولقي شيوخًا لا يكاد يُحصَى عددهم، وأجاز له أبو بكر بن الجد وأبو عبد الله بن زرقون وغيرهما من علماء الأندلس، ومن علماء المشرق أبو الطاهر بن عوف، وأبو عبد الله بن الحضرمي وغيرهما، ووُلِّي القضاء بعدة كور من كور بلنسية، وولِّي بآخرة من عمره قضاء دانية. قال ابن الأبار الذي ترجمه: ثم صُرف بي عندما قلِّدت ذلك في رمضان سنة ٦٣٣، ثم أعيد إليها لما استعفيت من قضاء دانية، وكان فقيهًا عارفًا بالأحكام، عاكفًا على عقد الشروط، من أهل الشورى والفتيا، أديبًا شاعرًا مقدمًا فكهًا صدوقًا في روايته، قال: وتوفِّي ببلنسية مصروفًا عن القضاء عند المغرب من ليلة الجمعة التاسع لذي القعدة سنة ٦٣٥ والروم محاصرون بلنسية، ودفن بمقبرة باب الحنش لصلاة ظهر الجمعة قبل امتناع الدفن بخارج بلنسية، ومولده سنة ٥٧٤.
وأبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الأعلى بن فرغلوش. قال ابن الأبار عنه: صاحبنا روى معنا عن شيوخنا أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي الحسن بن خيرة، وأبي الربيع بن سالم وغيرهم، وأخذ القراءات عن أبي زكريا الجعيدي، وابن سعادة، والحصَّار، وابنه زلال، إلى أن قال: وولِّي صلاة الفريضة والخطبة بجامع بلنسية مدة إلى أن تملَّكها الروم صلحًا في آخر صفر سنة ٦٣٦؛ فانتقل إلى دانية، وولِّي أيضًا الخطبة بجامعها، ثم انتقل منها إلى مرسية، وتردد بينها وبين أوريولة، وخطب بأوريولة إلى أن توفي بها سنة ٦٣٨، وسيق إلى مرسية فدفن بها.
وعبيد الله بن عبد البر بن ملحان، كان من أهل العلم بالفقه، وألَّف بمدينة بلنسية مجموعًا في ذلك لبعض بني عبد العزيز، وأصل بني ملحان من بُرجانة بغرب الأنلدس، وذكر ابن بشكوال عبيد الله بن يوسف بن ملحان، قاله ابن الأبار.
وعبد الله بن جحاف بن يمن بن سعيد المعافري، من أهل بلنسية، وقاضيها للحكم المستنصر بالله، كان بقرطبة في سنة ٣٥١ إذ قدم الطاغية ملك الجلالقة، فحضر هو وأيوب بن حسين — قاضي وادي الحجارة — إلى منية خطيب بقرطبة، ووجههما الحكم المستنصر إلى ملك الجلالقة — ابن عم الأول — يؤكِّدون عهده ويقبضون بيعته، عن ابن الأبار.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن غلبون، من أهل قرطبة، سكن بلنسية، وَرَدَ عليها من قلعة أيوب، وكان كاتبًا لصاحبها، وكان من أهل العلم بالعربية واللغة، أقرأ كتاب سيبويه طول إقامته ببلنسية، وأخذ عنه جماعة. وكان لهم خادم سوداء أقرأت بعد موته النوادر والعروض، توفي ببلنسية سنة ٤٤٣، عن ابن الأبار.
وعبد الرحمن بن عبد الله بن سيد الكلبي، يكنى أبا زيد، كان عالمًا بالعدد والحساب مقدمًا في ذلك، ولم يكن أحد من أهل زمانه يعدله في علم الهندسة، انفرد بذلك، ذكره صاعد الطليطلي، وسمع من أبي عمر بن عبد البر في ذي القعدة سنة ٤٥٦.
وأبو المطرف عبد الرحمن بن أحمد بن مثنَّى الكاتب، من أهل قرطبة، سكن بلنسية، ويعرف بابن صبغون، كان من جلَّة الكتاب والأدباء، مشاركًا في علم الحديث، وكان أبوه أحمد من أكابر أبناء الفقهاء بقرطبة، سار إلى المأمون يحيى بن إسماعيل بن ذي النون — صاحب طليطلة — عند انفصاله عن المنصور أبي الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي عامر؛ صاحب بلنسية، فحظي عنده، واستوزره، وانتفع الناس به؛ لدينه، وسكون طائره، وسلامة باطنه وظاهره، وتوفي ببلنسية لليلتين خلَتَا من صفر سنة ٤٥٨، ودفن يوم الثلاثاء بعده، ذكره ابن حيَّان، وأثنى عليه فأطال وأطاب. قاله ابن الأبار في التكملة.
وأبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن جحاف المعافري، سمع من أبيه عبد الرحمن — صاحب الرد والمظالم — سنة ٤٧٤، وسمع أيضًا من جده القاضي أبي المطرف، وروى عنه أبو الحسن بن النعمة، وأبو عمر زياد بن الصفار، وابن موجوال، عن ابن الأبار.
وأبو مروان عبد الملك بن عمر بن عبد الرحمن الحجري، له سماع كثير من أبي داود المقرئ في سنة ٤٧٤.
وأبو مروان عبد الملك بن علي بن سَلَمَة المددي الغافقي، يعرف بابن الجلَّاد، أخذ عن أبي الطاهر مقاماته اللزومية، وروى عن أبي العرب عبد الوهاب بن محمد التجيبي، سمع منه ببلنسية مع أبي الحسن بن سعد الخير سنة ٥٥١، وكان مشاركًا في علم الطب محترفًا به، وتوفي سنة ٥٧٤ أو ٥٧٥، نقل ذلك ابن الأبار عن ابن سالم.
وعبد العزيز بن محمد بن عبد العزيز بن سعدون الأزدي الطبيب، عني بالطب؛ فبرع فيه، وسمع من أبي الحسن بن هذيل، ولقي ابن جبير الرحَّالة الشهير، وروى من شعره، وتوفي في رمضان سنة ٦٠٥، عن ابن الأبار.
وأبو محمد عبد الجبار بن يوسف بن محرز، روى عن أبي داود المقرئ، وكان من أهل العدالة والضبط، والمعرفة بعقد الشروط، وكتب للقضاة ببلده، وتوفي في نحو الثلاثين وخمسمائة، عن ابن الأبار عن ابن سالم.
وأبو حفص عمر بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب القيسي صاحب الأحكام ببلنسية، سمع من أبيه محمد بن واجب، ومن أبي محمد بن خيرون، وأبي بحر الأسدي، وأبي بكر بن العربي، وأبي محمد البطليوسي، وكان فقيهًا حافظًا للمسائل بصيرًا بالأحكام، مفتيًا مشاورًا، درَّس في حياة أبيه، ولم يعتنِ بالحديث كثيرًا، وكان متواضعًا حسن الهدي، متعففًا قانعًا، منقبضًا عن السلطان، وُلِّي قضاء دانية، قال ابن الأبار: حدَّث عنه حفيده شيخنا أبو الخطاب أحمد بن محمد، وأبو عمر بن عيَّاد، وأبو عبد الله بن سعادة، وأبو محمد بن سفيان، وتوفي في سلخ رمضان سنة ٥٥٧ عن إحدى وثمانين سنة، وهو آخر حفاظ المسائل بشرق الأندلس.
وأبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن علي بن عُديس القضاعي البلنسي اللغوي، صحب أبا محمد البطليوسي، واختُصَّ به، ورحل إلى باجه، فأخذ عن أبي العباس بن خاطب، وقرأ عليه الكامل، وألَّف كتابًا في المثلث حافلًا في عشرة أجزاء ضخام، دل على تبحُّره وسعة حفظه للُّغة، وشرح الفصيح شرحًا مفيدًا، وسكن تونس، وبها توفي في حدود السبعين وخمسمائة.
وأبو الحسن علي بن عطية بن مطرِّف بن سلمة اللخمي، يعرف بابن الزقَّاق، أخذ عن أبي محمد البطليوسي، وبرع بالآداب، وتقدم في صناعة الشعر، وامتدح الكبار فأجاد، توفي في حدود الثلاثن وخمسمائة، وقيل سنة ثمانٍ وعشرين، لم يبلغ أربعين سنة، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحسن علي بن محمد بن علي بن هذيل، لازم أبا داود المقرئ نحوًا من عشرين سنة بدانية وبلنسية، ونشأ في حجره، وكان زوج أمه، وسمع منه الكثير، وهو أثبت الناس فيه، وصارت إليه أصوله العتيقة في فنون العلم، وسمع من أبي محمد الركلي صحيح البخاري، ومن أبي عبد الله بن عيسى مختصر الطليطلي في الفقه، ومن أبي الحسن طارق بن يعيش صحيح مسلم، وأجاز له أبو علي بن سكَّرة، وكان منقطع القرين في الفضل والدين والورع والزهد مع العدالة والتواضع، صوَّامًا كثير الصدقات، كانت له ضيعة، فيخرج لتفقدها تصحبه الطلبة، فمن قارئ ومن سامع، وهو منشرح طويل الاحتمال مع ملازمتهم إياه ليلًا ونهارًا، وأسنَّ وانتهت إليه الرئاسة في صناعة الإقراء؛ لعلوِّ روايته وإمامته في التجويد، وحدَّث نحو ستين سنة، ولد سنة ٤٧٠، وقيل ٤٧١، وتوفي يوم الخميس سابع عشر رجب سنة ٥٦٤، ودفن يوم الجمعة، وصلَّى عليه أبو الحسن بن النعمة، وحضره السلطان أبو الحجاج يوسف بن سعد، وتزاحم الناس على نعشه يجتهدون أن يمسوه بأيديهم ثم يمسحون بها على وجوههم، كان يتصدق على الأرامل واليتامى، فقالت له زوجته: إنك لتسعى بهذا في فقر أولادك! فقال لها: لا والله، بل أنا شيخ طمَّاع أسعى في غناهم.
وأبو الحسن علي بن عبد الله بن خلف بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الملك الأنصاري، ولد بالمريَّة، وسكن بلنسية، وكان يقال له: أبو الحسن بن النعمة، أخذ في صغره عن أبي الحسن بن شفيع، وانتقل به أبوه إلى بلنسية سنة ٥٠٦، فقرأ بها القرآن على أبي عمران موسى بن خميس الضرير، وأبي عبد الله بن باسُّه، وأخذ العربية عن أبي محمد البطليوسي، واختص به، وروى عن أبي بحر الأسدي وغيره، ودخل قرطبة سنة ٥١٣؛ فتفقَّه بأبي الوليد بن رشد، وأبي عبد الله بن الحاج، وسمع من أبي علي الصدفي، وأبي الحسن بن مغيث، وغيرهما، وكان عالمًا متقنًا حافظًا للفقه ومعاني الآثار والسير، متقدمًا في علم اللسان، فصيحًا مفوَّهًا فاضلًا، معظمًا عند الخاصة والعامة، محبوبًا بدماثة خُلقه، ولين جانبه، وولي خطة الشورى والخطابة ببلنسية دهرًا، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء والفتوى، وصنَّف كتاب «رِيُّ الظمآن في تفسير القرآن»، وهو عدة مجلدات، وكتاب «الإمعان في شرح مصنَّف أبي عبد الرحمن» النسائي، وكثر الراحلون إليه. قال ابن الأبار: وهو خاتمة العلماء بشرق الأندلس، توفي في رمضان سنة ٥٦٧ عن بضع وسبعين سنة.
وأبو الحسن علي بن إبراهيم بن محمد بن عيسى بن سعد الخير الأنصاري، سمع من أبي محمد القُلُنِّي، وأبي الوليد بن الدبَّاغ، ولازم أبا الحسن بن النعمة، وتأدَّب به، وأقرأ العربية حياته كلها، فكان فيها إمامًا، وكان بارع الخط كاتبًا بليغًا شاعرًا مجيدًا، وكانت فيه غفلة معروفة، وله كتاب على كامل المبرد، توفي بإشبيلية في ربيع الآخر سنة ٥٧١.
وأبو الحسن علي بن حسين النجار الزاهد، يعرف بابن سعدون من جزيرة شقر، سكن بلنسية، كان من أهل الزهد والصلاح التام والعلم، وتؤثر عنه الكرامات، وكان يخبر بأشياء خفية لا تتوانى أن تظهر جليَّة، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعظ في المساجد، وكانت العامة حزبه، توفي سنة ٥٧٨، وازدحم الخلق على نعشه، ذكره ابن الأبار.
وأبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن شلُّوط البلنسي الشبارتي، حج وسمع بمكة من علي بن حميد بن عمَّار، وسكن تلمسان، واحترف بالطب. قال ابن الأبار: أخذت عنه بعض صحيح البخاري، وأجاز لي، وتوفي في نحو سنة ٦١٠.
وأبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن حريق المخزومي. قال ابن الأبار: إنه شاعر بلنسية الفحل المستبحر في الآداب، أخذ عن أبي عبد الله بن حميد، وكان حافظًا لأيام العرب وأشعارها، شاعرًا مفلقًا ذا بديهة، اعترف له بالسبق بلغاء وقته، ودوَّن شعره في مجلدتين. قال: وصحبته مدة، وأخذ عنه أصحابنا، ولد سنة ٥٥١، وتوفي في ثامن عشر شعبان سنة ٦٢٢.
وأبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علي البلوي، سمع أبا بكر بن خير، وأبا عمر بن عطية وغيرهما، ولقي بإشبيلية ابن بشكوال، والسهيلي، وسمع منهما، وكان فارضًا متقدمًا فقيهًا حافظًا، توفي في ربيع الآخر سنة ٦٢٣.
وأبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة، خطيب بلنسية، أخذ عن أبي جعفر طارق بن موسى قراءة ورش، وأخذ القراءات عن أبي جعفر بن عون الله، وسمع من أبي العطاء بن نذير وغيره، وحج سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة، وسمع من أبي عبد الله بن الحضرمي، وحمَّاد الحرَّاني، ولقي عبد الحق بن عبد الرحمن الإشبيلي الحافظ ببجاية، وأبا حفص الميانشي، وانصرف إلى بلده بلنسية، وأقام على حاله من الانقباض وحسن السمت، إلى أن تقلَّد الصلاة ببلنسية، فتولاها أربعين سنة، وكان راجح العقل. قال ابن الأبَّار: تلوت عليه بالقراءات السبع، وسمعت منه جلَّ ما عنده، واختلط قبل موته بأزيد من عام، وأُخِّر عن الصلاة لاختلال ظهر في كلامه. ولد سنة خمسين أو إحدى وخمسين وخمسمائة، وتوفي في أواخر رجب سنة ٦٣٤، ونزل في قبره أبو الربيع بن سالم، وكانت جنازته مشهودة حضرها السلطان.
وعيسى بن محمد بن فتوح بن فرج الهاشمي، يكنى أبا الأصبغ، ويعرف بابن المرابط، أخذ القراءات عن أبي زيد الورَّاق، وأبي بكر بن الصنَّاع المعروف بالهدهد، وسمع من أبي علي الصدفي، وكان أحد الرؤساء في القراءة، قال ابن الأبَّار: أخذ عنه أبو عمر بن عيَّاد، وابنه محمد، وشيخنا أبو عبد الله بن سعادة، توفي في رجب سنة ٥٥٢ وقد جاوز السبعين.
وعتيق بن عبد الجبار أبو بكر الجذامي البلنسي، سمع من أبي داود المقرئ، وأبي محمد البطليوسي، وكان بارعًا بالشروط، كتب للقضاة ببلنسية نحوًا من أربعين سنة، توفي سنة ٥٣٩.
وعتيق بن أحمد بن محمد بن خالد المخزومي أبو بكر، أخذ القراءات عن ابن هذيل، وسمع من أبي الوليد بن الدبَّاغ، ودرَّس الفقه والعربية والأصول، وبرع في علوم عديدة، وتوفي سنة ٥٤٨.
وعتيق بن أحمد بن سلمون أبي بكر البلنسي، أخذ القراءات عن ابن هذيل، والنحو عن أبي محمد عبدون، واستشهد في كائنة غربالة سنة ٥٨٠.
وعتيق بن علي بن سعيد بن عبد الملك بن رزين أبو بكر العبدري، يعرف بابن العقَّار، من طرطوشة، ونشأ بميورقة، واستوطن بلنسية، وقرأ على ابن هذيل، وابن النعمة، وابن نمارة، وأجاز له السلفي وغيره، وكان من أهل التقدم في الإقراء مع الفقه والبصر بالشروط، ولي قضاء بلنسية وخطابتها وقتًا، وكانت في أحكامه شدة، وتوفي في ذي الحجة سنة ستمائة، وكانت ولادته سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة. وجميع هؤلاء العتقاء الأربعة ترجمهم ابن الأبار في التكملة. ومنهم ابن العقَّار، تقدمت ترجمته في علماء طرطوشة؛ لأن أصله منها.
والفتح بن خلف أبو نصر البلنسي المقرئ، أخذ عن داود المقرئ وطبقته، ولم يذكر ابن الأبار عنه أكثر من هذا.
وفتح بن يوسف أبو نصر البلنسي، يعرف بابن أبي كبَّة، أخذ أيضًا عن أبي داود، وأخذ عنه أبو عبد الله الشارِّي، ولم يذكر ابن الأبار عنه غير هذا، ولكنه قال: إن أبا عبد الله الشارِّي توفي سنة ٦٢٤.
وأبو الوليد سليمان بن عبد الملك بن روبيل العبدري، سمع من أبي محمد بن عتَّاب وغيره، توفي سنة ٥٣٠ شابًّا (ذكر في فصل بلنسية).
وكان فردًا في إنشاء الرسائل، مجيدًا في النظم، خطيبًا مفوهًا مدركًا مع الشارة الأنيقة والزي الحسن، وقد كان يتكلم عن الملوك في مجالسهم ويعبِّر عما يريدونه، فيخطب في ذلك على المنابر، ولِّي خطابة بلنسية. وله تصانيف مفيدة منها كتاب «الاكتفاء في مغازي الرسول — عليه السلام — والثلاثة الخلفاء» في أربعة مجلدات، وكتاب حافل في معرفة الصحابة والتابعين لم يكمله، وكتاب في ترجمة البخاري، وإليه كانت الرحلة في عصره للأخذ عنه. قال ابن الأبار: أخذت عنه كثيرًا، وانتفعت به في الحديث كلَّ الانتفاع، وحضَّني على هذا التاريخ، وأمدني من تقييداته وطرفه بما شحنته، مولده في رمضان سنة ٥٦٥، واستشهد بكائنة أبيشة على ثلاثة فراسخ من بلنسية مقبلًا غير مدبر في العشرين من ذي الحجة سنة ٦٣٤، قال: وكان أبدًا يحدثنا أن السبعين منتهى عمره لرؤيا رآها، قلت: لكنه بحسب هذه الأرقام كما قرأناها في التكملة يكون بلغ تسعًا وسبعين سنة.
وأبو محمد واجب بن أبي الخطاب بن محمد بن عمر بن محمد بن واجب بن عمر بن واجب بن عمر بن واجب القيسي، سمع ابن هذيل، وأبا عبد الله بن سعادة وغيرهما، وأجاز له أبو مروان بن قزمان والسلفي، وتولى قضاء أندة من عمل بلنسية، وشُكرت سيرته، وكان كاتبًا بليغًا شاعرًا خطيبًا مِصقعًا، من بيت جلالة، صحب السلطان، وتوفي بمراكش سنة ٥٨٢.
وأبو محمد واجب بن محمد بن عمر بن محمد بن واجب بن عمر، سمع ابن هذيل، وابن سعادة، وابن النعمة، وتولى القضاء بأماكن، قال ابن الأبار: سمعت منه، وأجاز لي، وتوفي سنة ٦١٠.
ويحيى بن محمد بن عبد العزيز بن عقال الفهري، سمع من أبي الوليد بن الدبَّاغ، وأبي بكر بن برنجال، وتفقه بأبي محمد بن عاشر، وأبي بكر بن أسد، ولقي بقرطبة أبا جعفر البطرجي، وسمع بغرناطة من القاضي عياض، وتولى قضاء أندة من كور بلنسية، وقضاء ألش من كور مرسية، فحمدت سيرته. قال ابن الأبَّار: أخذ عنه شيخنا أبو عبد الله بن نوح وتفقه به، توفي في صفر سنة ٥٦٧، وتوفي في المحرم قبله أخوه محمد، وعاش يحيى ثلاثًا وستين سنة.
وأبو زكريا يحيى بن زكريا بن علي بن يوسف الأنصاري، يعرف بالجعيدي، أخذ القراءات عن أبي عبد الله بن حميد، وأبي عبد الله بن نوح، وسمع من أبي عبد الله بن نسع وجماعة، وتصدر للإقراء في حياة الشيوخ، وكان أحد العلماء مع الصلاح التام والورع المحض. قال ابن الأبار: أخذ عنه الكافي لأبي عبد الله بن شريح، وتوفي في جمادى الأولى سنة ٦١٩، وله ثمانٍ وأربعون سنة، وكان صاحب والدي.
وأبو الحجاج يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أيوب الفهري الداني، سكن بلنسية، وسمع أباه، وأبا بكر بن برنجال، وأخذ القراءات عن أبي عبد الله بن سعيد الداني، وأبي عبد الله المكناسي، والعربية عن أبي العباس بن عامر، وتفقَّه بأبي محمد بن بقيٍّ، وكان متقدمًا في الآداب، إمامًا في معرفة الشروط، كاتبًا بليغًا شاعرًا، كتب للقضاة، وناب في الأحكام، توفي في شعبان سنة ٥٩٢، وكانت ولادته سنة ٥١٦.
وأبو الحجاج يوسف بن سليمان بن يوسف بن عبد الرحمن بن حمزة، أخذ القراءات عن أبي عبد الله الداني سنة ٥٣٧، وعن أبي الأصبغ بن فتوح الهاشمي، وكان ثقة فاضلًا، وتوفي قبل الستمائة.
وأبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي الفتح، يعرف بابن المرينة. قال ابن الأبار: سمع معنا من أبي عبد الله بن نوح، وأبي عبد الله بن سعادة، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي عبد الله بن زلال، وأبي سليمان بن حوط الله، وانفرد بلقاء جماعة منهم أبو القاسم الطرسوني، وأبو الحسن بن يبقى، ومهر في علم العربية، وقعد لإقرائها نحو عشرين سنة، وكان مشاركًا في الفقه مع الصلاح والزكاء، وولِّي قضاء بلنسية سنة ٦٣٣، وتوفي بشاطبة في جمادى الآخرة سنة ٦٣٦، وولد سنة ٥٨٩.
وإشراق السويداء العروضية، مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون القرطبي الكاتب، سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، وفاقته في كثير مما أخذته عنه، وأتقنت العروض. قال أبو داود سليمان بن نجاح: أخذت عنها العروض، وقرأت عليها النوادر لأبي علي، والكامل للمبرد، وكانت تحفظ الكتابين وتتكلم عليهما، وتوفيت بدانية بعد وفاة سيدها، وكانت وفاته سنة ٤٤٣.
وزينب بنت محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الزهري البلنسية، وتدعى عزيزة بنت محرز، سمعت جدها لأمها أبا الحسن بن هذيل، وأخذت عنه التقصي لابن عبد البر، وكانت صالحة، وكان خطها ضعيفًا، وتوفيت سنة ٦٣٥ وقد بلغت الثمانين.
وأم العز بنت أحمد بن علي بن هذيل، وأخذت قراءة نافع عن أم معفِّر، حرم الأمير محمد بن سعد، وبرعت في حفظ الأشعار، وتوفيت بشاطبة إثر خروجها من حصار بلنسية في أحد الربيعين سنة ٦٣٦.
وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن يعقوب بن أحمد بن عمر الأنصاري البلنسي، قال الضبِّي صاحب بغية الملتمس: صاحبنا محدِّث ثقة ثبت، روى ببلنسية عن أبي الحسن بن النعمة وغيره، ثم رحل إلى المشرق، فأقام بالإسكندرية في مدرسة الحافظ السلفي نحوًا من عشرين سنة، وكتب عنه ما لم يكتب أحد، وكان عالمًا بالرجال متقللًا من الدنيا، لم يغيِّر من هيئته التي كان بها بالأندلس، سكنت معه بالمدرسة مدة فحمدت حاله وزهده وورعه وانقباضه عن الناس، قال: لما صار الحافظ السلفي — رحمه الله — في عشر المائة أنشدنا:
ولما قارب المائة أنشدنا:
ولما جاوز المائة أنشدنا:
قال الضبي: سمع بقراءتي بالإسكندرية كثيرًا، وحدَّث بها أخيرًا، وروى عن كافة أهلها وعن الواردين عليها، واستجاز جميع محدثي العراق والشام فأجازوه. قال: وتوفي إبراهيم بن عبد الله في حدود التسعين وخمسمائة.
وإبراهيم بن عبد الصمد يكنى أبا عبد الصمد البلنسي، سكن بلنسية، قال الضبي: وأظنه من أهلها، شاعر مشهور. فمن شعره يصف قومًا:
وأبو القاسم خلف بن أحمد بن بطَّال البكري، روى عن أبي عبد الله بن الفخَّار، والقاضي أبي عبد الرحمن بن جحَّاف وغيرهما. قال ابن بشكوال في الصلة: حدَّث عنه أبو داود المقري، وشيخنا أبو بحر الأسدي، وذكره أيضًا أبو محمد بن خزرج وقال: لقيته بإشبيلية سنة ٤٥٤، وكان فقيهًا أصوليًّا من أهل النظر والاحتجاج لمذهب مالك، واستقضي بعض نواحي بلنسية، ومولده حدود سنة ٣٩٨، ودخل إفريقية سنة ٤٢٣، وتردد بالمشرق نحو أربعة أعوام طالبًا للعلم، وحج سنة ٤٥٢، وله مؤلفات حسان. انتهى بتصرف.
وأبو القاسم خلف مولى يوسف بن بهلول، يعرف بالبريلي، سكن بلنسية، كان فقيهًا حافظًا للمسائل، وله مختصر في المدونة حسن جمع فيه أقوال أصحاب مالك، وهو كثير الفائدة. وكان أبو الوليد هشام بن أحمد الفقيه يقول: من أراد أن يكون فقيهًا من ليلته فعليه بكتاب البريلي، وكان مقدمًا في علم الوثائق، وتوفي سنة ٤٤٣ وقد نيَّف على السبعين، ذكره ابن بشكوال في الصلة، قال: قرأت وفاته في كتاب ابن حُدير، وقرأت بخط بعض أصحابنا أنه توفي ليلة الأربعاء، ودفن يوم الأربعاء لخمسٍ بقين من ربيع الآخر عام ٤٤٣.
وأبو بكر عبد العزيز بن محمد بن سعد، يعرف بابن القدرة، روى عن أبي عمر بن عبد البر وغيره، وكان فقيهًا مشاورًا ببلده بلنسية، قال ابن بشكوال في الصلة: حدث عنه شيخنا أبو بحر الأسدي، وأبو علي بن سكَّرة وغيرهما، وتوفي سنة ٤٨٤.
وأبو شاكر عبد الواحد بن محمد بن موهب التجيبي القبري؛ نسبة إلى «قَبْرة» من عمل قرطبة، سكن بلنسية، سمع من أبي محمد الأصيلي، وأبي حفص بن نابل، وكان من أهل النبل والذكاء، سريًّا متواضعًا، تقلَّد الصلاة والخطبة والأحكام ببلنسية، وذكره الحميدي وقال فيه: فقيه محدِّث أديب خطيب شاعر، أنشدني له أبو الحسن علي العائذي:
ولد يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة سنة ٣٧٧، وتوفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة ٤٥٦ بمدينة شاطبة، وحمل إلى بلنسية فدفن بها، وصلى عليه القاضي أبو المطرف بن جحاف، قال ابن بشكوال في الصلة: قرأت بخط ابن مدير: كان أبو شاكر رَبْعَةً من الرجال؛ ليس بالطويل ولا بالقصير، وسيمًا جميلًا، حسن الهيئة والخلق، حسن السمت والهدي، وكان أشبه الناس بالسلف الصالح — رضي الله عنهم.
وأبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن المغلس القيسي، ترجمه صاحب نفح الطيب فقال: إنه كان مشارًا إليه في العربية، رَحَل من الأندلس، وسكن بمصر، وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي؛ صاحب الفصوص، وعلى أبي يعقوب يوسف بن خرقان، ودخل بغداد، وله شعر حسن؛ فمن ذلك قوله:
ومن شعره قوله في حمَّام:
توفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة ٤٢٧، وقيل: ٤٢٩، وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير. ومُغَلِّس بضم الميم وفتح الغين وتشديد اللام المكسورة وبعدها سين مهملة.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن زكريا المعافري المقرئ الفرضي الأديب، ترجمه المقري في النفح، وقال: إنه ولد سنة ٥٩١، ونشأ ببلنسية، وأقام بالإسكندرية، وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل، ونظم قصيدة في القراءات أكثر أبياتًا من الشاطبية، وكانت له يد في الفرائض والعروض. ولم يذكر عنه أكثر من هذا، ولم ترد له ترجمة في تكملة ابن الأبار، يظهر أن السبب في ذلك كونه متأخرًا لم يبلغ في زمن ابن الأبار شهرةً يُترجمه من أجلها، وقد أقام بالإسكندرية بعيدًا عن ابن الأبار.
وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل العبدري، ولد سنة ٥١٩، وسمع من أبيه وجماعة، ورَحَل حاجًّا، فسمع من السلفي، وابن عوف، والحضرمي، والتنوخي، والعثماني، وغيرهم، ورجع بعد الحج إلى الأندلس وبلده بلنسية، فحدَّث فيها، وكان غاية في الصلاح والورع، ترجمه صاحب النفح.
وأبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف الأنصاري، الشاطبي الأصل، البلنسي المولد، ولد سنة إحدى وستمائة، وتوفي بالقاهرة في جمادى الأولى سنة ٦٨٤، ترجمه صاحب النفح وقال: إن المشارقة كانوا يلقبونه برضيِّ الدين، وقرأ المترجم ببلده بلنسية على ابن صاحب الصلاة آخر أصحاب ابن هذيل، وسمع منه كتاب التلخيص للواني، وسمع بمصر من ابن المغيِّر وجماعة، وروى عنه الحافظ المزني، واليونيني، والظاهري، وآخرون. ويكفيه أن الشيخ أبا حيَّان الأندلسي — إمام عصره في اللُّغة — كان من تلاميذه، وأثنى عليه، وقرأ عليه كتاب التيسير، ولما توفي أنشد أبو حيَّان ارتجالًا:
ولرضي الدين نظم حسن منه ما قاله وهو يحتضر:
ومن نظمه أيضًا:
وله أيضًا:
وروى أبو حيان الأندلسي في البحر عنه أبياتًا لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعيني في حب آل البيت، وهذا من غريب الروايات قالت:
وقال المقري في النفح: رأيت بخطه كتبًا كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللغة وعلى دواوين العرب — رحمه الله تعالى.
واليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي. قال المقري في النفح: من أهل بلنسية، وأصله من جيان، وسكن المرية ثم مالقة، يكنى أبا يحيى، كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس. وله تأليف سماه «المغرب في أخبار محاسن أهل المغرب»، جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عندما رحل من الأندلس إلى الديار المصرية سنة ستين وخمسمائة، وكانت وفاته بمصر يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة ٥٧٥.
وأبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سَيد بونه الخزاعي، قرأ وتفقَّه ببلنسية، وأخذ عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي الحسن بن هذيل، وحج ولقي في رحلته جلة أكبرهم الولي الكبير سيدي أبو مدين شعيب، وانتفع به ورجع من عنده بعجائب دينية ورفيع أحوال إيمانية، كما قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة، ترجمه أبو العباس المقري في نفح الطيب، وقال عنه: إنه العارف الكبير، الولي الصالح الشهير، كان كثير الأتباع بعيد الصيت، شهر بالعبادة وتبرك الناس به، وتوفي — رحمه الله تعالى — في شوال سنة ٦٢٤، وعاش نيفًا وثمانين سنة. وقال لسان الدين بن الخطيب: لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن الحسين بن سيد بونه حين ورد غرناطة، فكان يحدث عنه بعجائب وقال: إنه انتقل الكثير من أهله وأذياله عند تغلب العدو على الشرق إلى هذه الحضرة، فسكنوا منها ربض البيَّازين على دين وانقباض، وبالحضرة اليوم منهم بقية؛ أي إنه لما غلب العدو على شرق الأندلس هاجروا إلى غرناطة، وذكر لسان الدين أن موضع وفاة الشيخ المذكور مكان يقال له زناتة.
وأحمد بن عبد الله بن محمد بن الحسن بن عميرة المخزومي البلنسي، أصله من شقورة، يكنى أبا المطرف، قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: لم يكن من أهل بيت نباهة، ووقع لابن عبد الملك في ذلك نقل كان حقه التجافي عنه لو وفِّق، روى عن أبي الخطاب بن واجب، وأبي الربيع بن سلام، وأبي عبد الله بن فرج، وأبي علي الشلويين، وأبي عمر بن عات، وأبي محمد بن حوط الله، وأجازوا له، وروى عنه كثيرون، وصحب أبا عبد العزيز بن عبد الله بن خطاب قبل تولِّيه ما تولَّى من رئاسة بلده، وكتب عن الرئيس أبي جميل زيَّان بن سعد وغيره من شرق الأندلس. ثم انتقل إلى العدوة، واستكتبه الرشيد أبو محمد بن أبي الوليد بمراكش، ثم صرفه عن الكتابة وولَّاه قضاء مليانة من نظر مراكش الشرقي، فتولاه قليلًا ثم نقله إلى رباط الفتح، وتوفي الرشيد فأقره على ذلك الوالي بعده أبو الحسن المعتضد أخوه، ثم نقله إلى قضاء مكناسة الزيتون، ثم لما قتل المعتضد لحق بسبتة، وركب البحر منها إلى إفريقية، فقدم بجاية على الأمير أبي زكريا.
ثم توجه إلى تونس فنجحت بها وسائله، وولي قضاء مدينة الأريس، ثم انتقل إلى فاس، وبها طالت مدة ولايته؛ فاستدعاه المستنصر بالله محمد بن أبي زكريا، ولطف محله منه حتى كان يحضر مجالس أنسه، وداخَلَهُ بما قرفته الألسن بسببه. قال ابن عبد الملك: كان أول طلبه شديد العناية بشأن الرواية، فاستكثر من سماع الحديث، وأخذ عن مشايخ أهله، وتفنن في العلوم، ونظر في العقليات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب فبرع فيه براعة عُدَّ بها من كبار مجيدي النظم.
وأما الكتابة فهو علمها المشهور، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور، ولا سيما في مخاطبة الإخوان، هنالك استولى على أمد الإحسان، وله المنقولات المنتخبة، والقصار المقتضبة، وكان يعلم كلامه نظمًا ونثرًا بالإشارة إلى التاريخ، ويودعه إلماعات بالمسائل العلمية متنوعة المقصد. قال لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة: قلت: وعلى الجملة فذات أبي المطرف فيما ينزع إليه ليست من ذوات الأمثال؛ فقد كان نسيج وحده إدراكًا وتفننًا، بصيرًا بالعلوم، محدثًا مكثرًا، راوية ثبتًا، متبحرًا في التاريخ والأخبار، ريان، مضطلعًا بالأصلين، قائمًا على العربية واللغة، كلامه كثير الحلاوة والطلاوة، جم العيون، غزير المعاني والمحاسن، شفَّاف اللفظ، حر المعنى، ثاني بديع الزمان في شكوى الحرفة، وسوء الحظ، ورونق الكلام، ولطف المأخذ، وتبريز النثر على النظم، والقصور في السلطانيات، قال: كان يذكر أنه رأى النبي ﷺ فناوله أقلامًا، فكان يرى ويُرى له أن تأويل الرؤيا ما أدرك من التبريز في الكتابة، وارتفاع الذكر والله أعلم.
ومن بديع ما صدر عنه في ما كتب في غرض التورية قطعة من رسالة أجاب بها العباس بن أمية، وقد أعلمه باستيلاء الروم على بلنسية، فقال: بالله أي نحو تنحو أو مسطور تثبت أو تمحو، وقد حُذف الأصل والزائد، وذهبت الصلة والعائد، وباب التعجب طال، وحال اليأس لا تخشى الانتقال، وذهبت علامة الرفع، وفقدت نون الجمع، والمعتل أعدى الصحيح، والمثلث أردى الفصيح، وامتنعت الجموع من الصرف، وأمِنت زوائدها من الحذف، ومالت قواعد الملة، وصرنا جمع القلَّة، وظهرت علامة الخفض، وجاء بدل الكل من البعض؟!
وله تأليف في كائنة المرية وتغلُّب الروم عليها، نحا فيها نحو العماد الأصفهاني في الفتح القدسي، وكتابة في تعقُّبه على فخر الدين بن الخطيب الرازي في كتاب «المعالم» في أصول الفقه منه وردِّه على كمال الدين أبي محمد عبد الكريم السماكي في كتابه المسمى ﺑ «التبيان في علم البيان»، واختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة، وغير ذلك من التعاليق والمقالات، ودوَّن الأستاذ أبو عبد الله بن هاني السبتي كتابته، وما يتخللها من الشعر في سفرين بديعين، وسمى ذلك «بغية المستطرف وغنية المتظرِّف. من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرف»، مولده بجزيرة شقر، وقيل ببلنسية، في رمضان عام اثنين وثمانين وخمسمائة، ووفاته بتونس ليلة الجمعة الموفية عشرين ذي الحجة عام ستة وخمسين وستمائة.
وأبو عبد الله محمد بن أبي سفيان بن أبي إسحاق الواعظ، سمع من أبي المعالي إدريس بن يحيى الواعظ، وولي الحسبة بالسوق، وكان يعظ بمسجده المشتهر بمسجد الغَلَبَة، قال ابن الأبار: وفيه قرأت على شيخنا أبي عبد الله بن نوح هذا، وقد كتب أبو الحسن بن النعمة كثيرًا مما سمعه من المترجم مستفادًا عن أبي المعالي إدريس المذكور، وذلك في سنة ٥١٢، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البراء. روى عن أبي هذيل، وابن النعمة، وأبي حفص بن واجب، وتفقَّه بأبي محمد بن عاشر، وأبي بكر بن أسد، ورحل إلى المرية فلقي أبا القاسم بن ورد، وكان فقيهًا حافظًا من أهل الدين والفضل، وولي خطة الشورى ببلنسية للقاضي أبي محمد بن جحاف، وتوفي في رجب سنة ٥٤٨، عن ابن الأبار.
وأبو مروان عبيد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن عيشون المعافري، من أهل بلنسية، وأصله من لبرُقاط عمل أبيشة من ثغورها الشرقية، روى عن أبي الوليد بن الدبَّاغ، ورحل حاجًّا، فأدى الفريضة ولقي أبا علي بن العرجاء بمكة، وأبا طاهر السلفي بالإسكندرية، وأبا عبد الله المازري بالمهديَّة، قال ابن الأبار: وكان نهاية في الصلاح والفضل وأعمال البر والخير، وجيهًا متواضعًا، صرورة لم يتزوج قط، وكان إخباريًّا ممتعًا، واقتنى من الدواوين والدفاتر كثيرًا، وكان صاحب ثروة ويسار، وهو بنى المسجد المنسوب إليه على مقربة من باب القنطرة من داخل بلنسية، ووقف عليه دارًا لسكنى من يؤم به، وتوفي سنة ٥٧٣ أو ٥٧٤.
هوامش
وأقصى غايات الصداقة التي لا مزيد عليها من شاركك بنفسه وبماله لغير علة توجب ذلك، وآثرك على من سواك، ولولا أني شاهدت مظفرًا ومباركًا صاحبي بلنسية لقدَّرت أن هذا الخلق معدوم في زماننا، ولكني ما رأيت قط رجلين استوفيا جميع أسباب الصداقة مع تأتِّي الأحوال الموجبة للفرقة غيرهما. ا.ﻫ.
وعبد الله بن فتوح بن موسى بن أبي الفتح بن عبد الله الفهري البونتي أبو محمد كان من أهل العلم والمعرفة، وله كتاب في الوثائق والأحكام، توفي في جمادى الآخرة سنة ٤٦٢، وقال تحت لفظة «البُنْت» بدون واو بالضم ثم السكون وتاء مثناة: بلد بالأندلس من ناحية بلنسية ينسب إليها أبو عبد الله محمد البُنْتي البلنسي الشاعر الأديب. ا.ﻫ.
وأما مربيطر التي يقال لها اليوم «صاقنته»، فقد مرَّ ذكرها في هذا الجزء. وأما «إشكرب» فهي التي يقول لها الإسبانيون Segorbe، فالعرب قلبوا السين شينًا على عادتهم، ووضعوا في الأول ألفًا فرارًا من الابتداء بالساكن، وهي بلدة قال عنها ياقوت: بالكسر وراء ساكنة وباء موحدة مدينة في شرق الأندلس، ينسب إليها أبو العباس يوسف بن محمد بن فارو الإشكربي، ولد بإشكرب، ونشأ بجيان فانتسب إليها، وسافر إلى خراسان، وأقام ببلخ إلى أن مات سنة ٥٤٨. ا.ﻫ.
وقد فسر لاوي بروفنسالي Segorbe بشبرب، وهو خطأ؛ فإن لفظة «سقورب» هي أقرب أن تكون «إشكرب» من أن تكون «شبرب»، وشبرب أيضًا هي بلدة من عمل بلنسية، ذكرها فقال: بالضم وبعد الراء باء موحدة بلدة بالأندلس من عمل بلنسية ينسب إليها أبو طاهر بن سلفة أبا العباس أحمد بن طالوت البلنسي الشبربي، أحد الطلاب، وكان فاضلًا في الطب والأدب. ا.ﻫ.
وأما شارقه Jerica فقد ذكرها أيضًا ياقوت فقال: بعد الراء المهملة قاف حصن بالأندلس من أعمال بلنسية في شرقي الأندلس ينسب إليها رجل من أهل القرآن يقال له: الشارقي اسمه أبو محمد عبد الله بن موسى، روى عن أبي الوليد بن مغيث بن الصفا. ا.ﻫ. وأما المنارة فهي اسم عدة بلاد من الأندلس، ذكر منها ياقوت المنارة التي بقرب شذونة، والمنارة التي بقرب سرقسطة. والذي أعرفه أن القرية التي على مقربة من سرقسطة اسمها المنار لا المنارة، وهكذا جاء في تاج العروس.
فالمنارة هنا هي التي كانت تابعة لبلنسية. وقد قرأت في الجغرافية المصورة لإسبانية والبرتغال تأليف «جوسه P.Jousset» أن السيد كان قد ضرب جزى عظيمة على بعض المدن، فكان يأخذ من طرطوشة ٥٠ ألف دينار في السنة، وكان يأخذ من القادر بن ذي النون عن بلنسية ١٢٠ ألف دينار، وكان يأخذ من ابن رزين صاحب شنتمرية عشرة آلاف دينار، وكان له على البونت عشرة آلاف دينار أيضًا، وعلى كل من مربيطر وإشكرب ستة آلاف دينار، وكان يكتفي من المنارة بثلاثة آلاف في السنة.
وأراد السيد أن يفرض على أمير لاردة أيضًا إتاوة تبلغ ألفي دينار في السنة، فأبى هذا أن يؤديها، وبينما السيد يفكر في غزو لاردة إذ أشار عليه بعض أصحابه باسترضاء سيده الملك الفونش، وكانت الفرصة لائحة؛ لأن الألفونش كان يجهز جيوشه لغزو المسلمين، فسار السيد إلى مولاه وتلاقيا في مارتوس Mertos، فنصب السيد خيمته في طرف المعسكر إلى جهة السهل حتى إذا دلف العدو يكون هو صاحب الصدمة الأولى، فلم يعجب ذلك الفونش وعدها تطاولًا من السيد، ولما فشلت تلك الغزاة اتهمه الفونش بالخيانة؛ ففر السيد من وجهه فسار الألفونش إلى بلنسية ليأخذها، فسار السيد واجتاح ممالك الفونش واستولى على «لوكروني»؛ فاضطر الفونش أن يرفع الحصار عن بلنسية ويعود إلى بلاده، وكان المرابطون قد استولوا على غرناطة وإشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان وزحفوا لأخذ بلنسية.
وكان للسيد معتمد في بلنسية يسهر له على أميرها القادر بن ذي النون، وكان هذا المعتمد هو ابن الفرج، فحدث أن أصابته علة شغلته عن السياسة، فأرسل القاضي ابن حجاف إلى قائد المرابطين ابن عائشة يعرض عليه سرًّا تسليم البلد؛ فشعر ابن الفرج بالمكيدة، فأمر بالقبض على ابن جحاف إلا أن العامة حالت دون القبض عليه، وألقيت الحبال من عن الأسوار إلى المرابطين حتى يتسلقوا الأسوار بواسطتها، ويدخلوا إلى البلدة؛ ففي هيعة ذلك وجد القادر بن ذي النون فرصة للفرار مرتديًا ثياب امرأة، واختفى في بعض الأرباض، ونهبت العامة القصر؛ فأمر ابن جحاف بالبحث عن القادر في الربض فعثروا عليه، وبعد أن أخذوا منه الجواهر التي كان خبأها تحت ثيابه احتزوا رأسه، وأتوا به إلى ابن جحاف، وكان ذلك في نوفمبر سنة ١٠٩٢.
وبايع أهل بلنسية ابن جحاف كرئيس لحكومتهم الجمهورية، ولكنهم مقتوه في الآخر لشدة طمعه وسوء تدبيره، فلما بلغ السيد قتل حليفه القادر زحف إلى بلنسية، وقبل الوصول إليها امتنعت عليه بلدة سيبوله Cebolla، فكتب إلى ابن جحاف يتقاضاه إرسال الحنطة التي كانت للسيد في بلنسية، وأمر السيد رجاله بأن يأخذوا طعام الجيش من أهالي القرى بدون أن يؤذوا الأهالي، وكان ابن جحاف يتأهب للدفاع عن المدينة، إلا أن الخلف وقع بينه وبين أبي ناصر قائد المرابطين، فأراد السيد بمكره أن يستغلَّ هذه المناظرة فكتب إلى القاضي ابن جحاف يقول له: إنه حاضر للاعتراف بحكومته إذا كان يمالئه على طرد المرابطين؛ فأظهر ابن جحاف الارتياح إلى ما عرضه السيد، لكنه في الوقت نفسه أرسل كتابًا إلى السلطان يوسف بن تاشفين يلتمس منه إمداد بلنسية، فعلم السيد بأن القاضي كان يلعب على الحبلين كما يقال، وكان استولى على سيبوله في يوليو سنة ١٩٣، فزحف منها صوب بلنسية، واستولى على ربضين من أرباضها.
ومن دهائه أمر عساكره بأن لا يمسوا أحدًا من الأهالي بسوء ومن يفعل ذلك يقتل، ثم أعلن للمسلمين بأنهم يكونون آمنين على أملاكهم، ففت ذلك في عضد القاضي ابن جحاف الذي اضطر إلى الصلح على أن يبعث إلى السيد الحنطة التي كانت له في بلنسية، ويدفع عشرة آلاف دينار كل شهر، وهكذا رفع السيد الحصار عن بلنسية، إلا أن قائد المرابطين كان يريد الأخذ بالثأر بإخراج البلنسيين لعسكره منها، فوقع القاضي ابن جحاف في حيص بيص بين السيد والمرابطين واستعفى من رئاسة الجمهورية.
فقام مقامه ابن طاهر، وشاع إذ ذاك أن المرابطين قادمون بجيش؛ فاشتدت بذلك عزائم المسلمين إلا أن المرابطين أخلفوا الظن، وإذا بالنصارى هم الذين حصروا البلدة، فبدل المسلمون بفرحهم غمًّا، وشرع الجيش الإسبانيولي بالحصار، وأقاموا سوقًا بالكدية من بادية بلنسية، وكشَّرت المجاعة في بلنسية عن أنيابها، فخاف البلنسيون على أنفسهم وراجعوا ابن جحاف في قبول رئاسة الجمهورية، لعله بتدبيره يقنع السيد بالرجوع عن بلدتهم، فأجاب القاضي سؤلهم، وتقبَّض على بني طاهر حلفاء المرابطين، وسلمهم إلى السيد، ثم ذهب وقابل السيد وطلب إليه الصلح، فأظهر له السيد مزيد الاحتفاء، ولكنه اشترط عليه بأن تكون جميع جبايات بلنسية وأرباحها عائدة إليه، وتكون تحت نظر مشارف من قبله؛ فشق هذا الشرط على ابن جحاف، ولكنه أبدى الرضى به.
ولما كان السيد يعلم تلون ابن جحاف طلب إليه أن يجعل عنده ابنه رهينة لديه؛ فانصرف ابن جحاف ولم يعاود. فاستمر السيد يحاصر بلنسية إلى أن بلغت المجاعة الحد الذي لا يتصوره العقل، فأكلوا الحيوانات والفيران والعشاب والجلود، وقيل: إنهم أكلوا لحومًا بشرية، وكان ابن جحاف خوفًا على نفسه مصممًا على الدفاع، فأخذ يضيِّق على البلنسيين ويبحث في زوايا بيوتهم عن القوت، ويقال: إنه كان في ذلك الوقت يعيش عيش المترفين؛ فثار عليه بعض الأشداء وائتمروا به؛ فقبض عليهم وقتلهم، وبلغ الخبر السيد فهاجم البلدة؛ فارتد على عقبه، وكاد يؤخذ أسيرًا؛ فرجع عنها تاركًا أخذها لطول الحصار، فلما ازدادت اللأواء في البلدة جاء الناس إلى القاضي ابن جحاف وقالوا له: إنه لا مناص من تسليم المدينة؛ فلم يجد بدًّا من القبول.
فتوجه أحد الفقهاء إلى السيد، وصارت المقاولة على أن يرسل البلنسيُّون رسلًا إلى ملك سرقسطة ابن هود وإلى ابن عائشة قائد المرابطين في مرسية يلتمسون منهما النجدة، فإذا لم تردهم نجدة في مدة خمسة عشر يومًا يسلمون المدينة وبعد تسليمها يكون القاضي ابن جحاف هو صاحب الأحكام مثل ذي قبل، ولا يتغير شيء من الأحكام، ولا يقيم السيد بنفسه في البلدة، وتكون الحامية النصارى الذين يتولون حراسة البلدة من النصارى المستعربين الذين يألفهم المسلمون؛ فوافق السيد على جميع هذه الشروط إلا أنه اشترط أن الرسل الذاهبين إلى سرقسطة ومرسية لا يحمل الواحد منهم أكثر من خمسين دينارًا، فلما خرج الرسل من المدينة فتش جماعة السيد في ثيابهم فوجدوا معهم كثيرًا من الذهب والفضة والجواهر؛ فأخذوها كلها ما عدا الخمسين دينارًا التي تقررت لكل منهم.
وكان البلنسيون في هذه المهلة تمكنوا من استجلاب القوت إلا أن النجدات لم تصل، فطلب السيد تسليم البلدة، فطلب ابن جحاف مهلة أخرى؛ فاستشاط السيد غضبًا، وأعلن أنه ينقض شروط الصلح ويستبيح البلدة؛ ففتح ابن جحاف الأبواب ظهر يوم الخميس ١٥ يونيو سنة ١٠٩٤، فدخل السيد ظافرًا، وأمر جنوده بعدم الاعتداء على الأهالي، وقابل المسلمين بمزية الرعاية، وكانوا يظهرون له الطاعة ويقبلون يده، واستدعى أعيان المسلمين وقال لهم: إن الله أعطاه بلنسية فلا يريد أن يقابل هذا العطاء بالإثم والعدوان؛ حتى لا يخسر ما أفاءه الله عليه، وإن عليهم أن يعودوا إلى أشغالهم آمنين، وإن من كانت له منهم ظلامة فما عليه إلا أن يرفع له قصته، فقد عين يومين من الأسبوع الاثنين والخميس لسماع القصص، وسيكون هو القاضي وهو الوزير وهو الأب الشفيق عليهم. قال لهم وأنه ليس كأمرائهم الذين كانوا يقضون أوقاتهم بالطرب والشرب في داخل حريمهم.
وأبلغهم أن جنوده ستبقى في الأرباض مثل الكدية وغيرها، وأنه هو نفسه سيقيم عند جسر القنطرة، وأنه لن يرى أحد منهم سوءًا إلا الذين اعتدوا على الناس وبلصوهم من أموالهم. وكان ابن جحاف عرض على السيد هدية من الأموال التي عنده، فأبى قبولها منه؛ فعلم أنه مأخوذ لا محالة، فلما خاطب السيد أعيان المسلمين بهذا الكلام قال لهم: إنه لا يريد منهم إلا تسليم ابن جحاف إليه، فذهبوا وقبضوا على ابن جحاف وسلموه إليه. فأرسله السيد أولًا إلى «سيبوله»، ثم رده إلى بلنسية، وأمره بأن يقيد له في جدول جميع ما عنده من الحلي والمتاع والنفائس بدون أن يكتم شيئًا، وأنه إن كتم شيئًا فيكون اعترف بأن للسيد الحق في قتله.
فأقسم القاضي بأنه لن يخفي شيئًا، فجاء عبد وقرر أنه دفن في بعض زوايا بيته نفائس لم ذكرها في الورقة التي قيد بها أمواله، فوجدوا عنده مقدارًا من الذهب والحجارة الكريمة، فعند ذلك أجمع السيد قتله انتقامًا من هذا الغادر الذي قتل القادر بن ذي النون غيلة ولعب بين المرابطين من جهة والنصارى من جهة أخرى، يخون كلًّا من الفريقين بينما يستعديه على الآخر، وهو الذي سلب ما سلب من أموال أهل بلنسية وكنَزَها لنفسه وأقسم بأنه يخبر عنها وحنث بيمينه، وظهر أن عنده أمولًا مطمورة تحت الأرض؛ فهذا ما أوجب عند السيد قتل ابن جحاف.
ثم شعر السيد بأن أهل بلنسية يتأهبون للانتقاض عليه، فاستدعاهم وأخبرهم بأنه هو الآن مالك ناصية المدينة، وأنه يقدر أن يفعل بها ما يشاء، فمن شاء منهم الإقامة في داخلها فله الحق في حفظ منزله، وأن يكون له خادم وبغلة، ولكن على شرط أن يكون أعزل. وأما الذين لا يقبلون هذه الشروط فما عليهم إلا أن يخرجوا ويسكنوا في الكدية وفي غيرها من الأرباض، ولا يتعرض لهم أحد بسوء، بل تبقى لهم أملاكهم ومساجدهم وقضاتهم ويكون الحكم وضرب السكة للسيد.
فخرج كثيرون من أهل بلنسية من بلدتهم، وعند ذلك أمر السيد فألقى بابن جحاف في النار. وقيل: إنه حفرت له حفرة ألقي فيها وجعلوا النار من حوله، فكان يأخذ الحطب المشتعل بيده لتعجيل موته واختصار عذابه، فكان العقاب شديدًا، ورجع الناس فعدوه شهيدًا، ولكن لم يكن من هؤلاء أولئك الذين جار عليهم ابن جحاف وقتل ذويهم.
ثم إن السيد جعل مدينة بلنسية تحت حماية ملك قشتالة سيده. وقيل: إنه كان ينوي فتح جنوبي إسبانية، إلا أنه لم يكن لذلك العهد قبل للسيد بالاستقرار في بلاد مأهولة كلها بالمسلمين. وكان المرابطون قد انتشروا في جنوبي الأندلس، وقد جعلوا بلنسية نصب أعينهم؛ فخاف السيد عليها، وتعاهد مع «بتره» — ملك أراغون — وذهب يحشد جيوشه ويجمع ذخيرته في «بيناكتيل Benacatel» التي أراد جعلها مقرًّا عامًّا له، ووافاه ملك أراغون، وزحف الجميع إلى شاطبة، وكان فيها محمد بن عائشة — قائد المرابطين — فاستدرجهم إلى مكان اختاره هو للقتال؛ فنشبت المعركة بقرب «غاندية Gandia» في مكان يقال له: «بيرن Beiren» وقع فيه جيش النصارى بين جيش المرابطين والأسطول الإسلامي من جهة البحر، وكادت تكون هزيمتهم تامة لولا ثبات السيد وحسن تدبيره.
ثم ذهب السيد فحاصر مربيطر، فلما اشتد الأمر بأهلها طلبوا من السيد مهلة ثلاثين يومًا، حتى إذا لم تأتِهم في أثنائها نجدة سلموا إليه مدينتهم؛ فانقضت المهلة ولم تأتهم نجدة، فاستمهلوا اثني عشر يومًا أخرى، فأمهلهم قائلًا لهم: إنهم في نهاية هذا الأجل إن لم يفتحوا له أبواب المدينة قتلهم جميعًا أو يحرقهم بالنار.
فلما مضت هذه المدة أيضًا طلبوا مهلة ثالثة فأمهلهم إلى عيد القديس يوحنا، وأذن لهم في الخروج من البلدة بعائلاتهم وأموالهم؛ فخرج منهم طائفة، ودخل السيد في ٢٤ يونيو سنة ١٠٩٨، وأمر ببناء كنيسة على اسم القديس يوحنا. وما مضى إلا قليل حتى ضرب السيد مغارم على الذين لم يخرجوا من مربيطر؛ فعجزوا عن أدائها؛ فباعهم السيد أرقَّاء في سوق بلنسية.
وفي سنة ١٠٩٩ في شهر يوليو مات السيد، وكان هذه هي السنة التي استولى فيها الصليبيون على بيت المقدس. فلما علم المرابطون بموت السيد أقبلوا بجيش عظيم، فكانت شيمانة أرملة السيد تدافع عن بلنسية أشد الدفاع، وبقيت حافظة بلنسية مدة سنتين بعد موت زوجها، إلا أنه في أكتوبر سنة ١١٠١ زحف المزدلي — قائد المرابطين — بجحفل جرار، فأرسلت شيمانة بالصريخ إلى ملك قشتالة فوافى بجيشه فرأى حفظ بلنسية وهي يومئذ في عقر دار الإسلام متعذرًا فأشار بإخلائها.
ولم يكن غير السيد من يقدر أن يستولي على مركز إسلامي كهذا في ذلك الوقت، فقد سبق السيد التاريخ وأوغل في بلاد الإسلام التي بقيت تحتضر أربعة قرون بعد ذلك حتى خلت من أمة محمد. هذا ولما خرجت شيمانة من بلنسية، وذلك في ٥ مايو سنة ١١٠٢، ودخلها المزدلي بالمرابطين، خرج منها جميع عسكر السيد والنصارى الذين كانوا توطنوا فيها، ولم يحاول المرابطون أن يتعرضوا بسوء لجيش شيمانة، راضين منهم بالجلاء عن البلد؛ فمشت المقدمة بقيادة بيره برموده Pero Bermudez يحمل راية السيد ومعه أربعمائة فارس، وتلاهم أربعمائة فارس آخرون يحمون الدواب والأثقال، ثم جاء حصان السيد المسمى بابيكا Babéca وعليه جثة السيد وقد وضعوا ترسه في عنقه والسيف في يده.
وكان له سيفان؛ أحدهما يسمى «تيزونه Tisona»، والثاني «كولاده Colada»، وكان السيد محنطًا تحنيطًا جيدًا، وكان لحيته مرتبة كما لو كان حيًّا. وسار المطران جيروم من جهة و«ميلدياز» من جهة أخرى يخفران جثة السيد ومعهما مائة فارس، ثم في الساقة الأميرة شيمانة وسيدات القصر ومعهن ستمائة فارس، وسارت هذه القافلة بتؤدة حتى بلغت قشتالة، فلم يسارعوا بدفنه، بل عندما وصلوا إلى «سان بدرُه كاردينه» وضعوه على كرسي من العاج على يمين المذبح، وأسندوا رأسه على مخدة من المخمل وفي يده اليسرى سيفه «تيزونه».
ولم يطل حكم المرابطين في بلنسية؛ لأن الموحدين كانوا خلفوهم، إلا أنه كان قد ثار بالموحدين حزب أندلسي يمثله أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن مردنيش، فغلب على بلنسية ومرسية وما جاورهما، وهذا الرجل يرجح أنه من أصل إسبانيولي مسيحي، واسم مردنيش محرَّف عن مرتينش Martinez؛ أي ابن مارتين. ويقال: أن والد جده هو الذي أسلم، وكان ينزع به عرق الإسبانيولية؛ لأنه كان يتشبه بملوك النصارى في لباسه وسلاحه، وكان أكثر جنده من مرتزقة قشتالة ونبارة وكتلونية؛ ولذلك كان أعداؤه من المسلمين ينبزونه بكونه مرتدًّا. وكان على صلة دائمة بملوك النصارى يهاديهم بالتحف والألطاف، وربما بعث إليهم بالجمال إلى حد إنكلترة.
وكانت له قوة جسم عجيبة وبسالة نادرة ضُربت بهما الأمثال، وكذلك كان رفيقه ابن هيموشُه (ابن همشك الذي تقدم ذكره في الجزء الثاني) إلا أن ابن مردنيش وابن هيموشه انهزما في غرناطة؛ حيث تغلَّب عليهما الموحدون، وصارت كلمة الأندلس شاملة لجميع جنوبي إسبانية.
وفي ٢٨ سبتمبر سنة ١٢٣٨ استرجع الدون جايم ملك أراغون بلنسية، ولما جاءها كان جيشه خفيفًا، إلا أن نجدات المسيحيين توافت إليه من جبال أراغون وما خلفها، وأقبل مطران أربونة Narbonne ومعه نخبة من الشجعان؛ فقد كانت هذه الغزاة غزاة صليبية، وكان في بلنسية الأمير ابن زيَّان؛ فاستصرخ صاحب تونس؛ فأرسل أسطولًا مؤلفًا من ثماني عشرة سفينة، إلا أنهم لم يقدروا أن ينزلوا إلى البر؛ لأن الدون جايم كان واقفًا بجيشه سدًّا بين الأسطول الإسلامي وبلنسية.
ثم خرج أسطول الكَتَلان فاضطر أسطول تونس إلى التقهقر ولم يعاود. ودام الحصار أربعة أشهر إلى أن رضي البلنسيون بتسليم بلدهم على أن يخرجوا منها سالمين بأموالهم، وكانت هذه النوبة هي النوبة النهائية التي خرج بها المسلمون من بلنسية غير راجعين، وكان دخول الإسبانيول إلى بلنسية في عيد سان ميكائيل. وبرج «ميكاليت Miquelete» في بلنسية تذكار لذلك.
وكان جايم — فاتح بلنسية — قد فتح ميورقة سنة ١٢٣٢، ثم فتح مينورقة سنة ١٢٤٢، وكان من أقوى ملوك عصر. انتهى ملخصًا كلام جوسه Jousset، ولكن صاحب هذا الكتاب الذي نقلنا عنه وقائع السيد هذه يلتمس له جميع الأعذار لتخفيف شناعة موبقاته، ونحن تركنا رواياته على حالها حتى نقارنها بغيرها مما يخالفها، ويبقى الحكم للقارئ.
وقال أبو إسحاق الزجَّاج في قوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً: منصوب على الحال، وهو مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة، وهو في موضع قاتلوا المشركين محيطين. قال: فلا يجوز أن يثنَّى ولا يجمع. لا يقال: قاتلهم كافات ولا كافين، كما أنك إذا قلت: قاتلهم عامة لم تُثنِّ ولم تجمع، وكذلك خاصة.
على أن قول الجمهور لا يقال: جاءت الكافة، ردَّه الشهاب (الخفاجي) في شرح الدرة، وصحح أنه يقال: ونقله عن عمر وعلي — رضي الله عنهما — وأقرَّهما الصحابة، وناهيك بهم فصاحة، وهو مسبوق بذلك؛ فقد قال شارح اللباب: إنه استعمل مجرورًا، واستدل له بقول عمر بن الخطاب: على كافة بيت مال المسلمين. ونقله الشمني في حواشي المغني، وقال الكوراني: من قال من النحاة: إن كافة لا تخرج عن النصب، فحكمه ناشئ عن استقراء ناقص. ا.ﻫ. وختم الزبيدي كلامه بما يفيد أنه إن ثبت شيء مما ذكروه ثبوتًا لا مطعن فيه فالظاهر أنه قليل جدًّا.
وكذلك ديوان التفتيش كان إذا اطلع على أن أحد المسلمين أو اليهود المتنصِّرين لا يزال على دينه في الباطن يبادر إلى حرقه بالنار. وكان الناس الذين يقرءون هذه الأخبار يرتابون في صحتها أو يذهبون إلى أنها كانت من قبيل النادر، والحقيقة هي خلاف ذلك؛ فقد حرقوا بالنار ألوفًا، ولم يجدوا في ذلك حرجًا في صدورهم، ومن تأمل اليوم في الحرب الأهلية الإسبانية وما يفعله كل فريق من الفريقين المتقاتلين بعدوه من التقتيل والتعذيب، أيقن بأن تلك الوقائع الماضية لم يكن فيها مبالغة إلا قليلًا جدًّا؛ فهذه الأمة الإسبانيولية على ما فيها من شمم وأنَفَة وكرم وأَنَسَة وخِلال خيرٍ كثيرة، إذا غضبت أبعدت في النكاية، ولم تتنكَّب الذهاب بالقسوة إلى النهاية.
والصحيح أن الحفرة كانت إلى علو إزاره؛ ومما يؤيد ذلك قول أبي عبد الرحمن بن طاهر، وقد نقلنا ذلك من قبل، وهو: «وقد حفر له حفير إلى رفغَيْه وأضرمت النار حواليه وهو يضم ما بَعُدَ من الحطب بيديه؛ ليكون أسرع لذهابه وأقصر لمدة عذابه.» فالرفغ في اللغة أصل الفخذ، وهو مطابق للحجزة لا للحنجرة.
ونص شهادة أبي طاهر الخشوعي هكذا: «شهد أبو الطاهر بركات ابن المرحوم الشيخ أبي إسحاق إبراهيم ابن الشيخ أبي الفضل طاهر الخشوعي الدمشقي.» وبعده مذكور شهادة العماد الأصفهاني، وهي هكذا: «شهد كاتبه عماد الدين أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي الفرج محمد بن حامد الأصفهاني.» وبعده شهادة أبي محمد القاسم ثقة الدين علي بن أبي محمد الحسن الدمشقي، وشهادة أبي مغيث شهاب بن صدقة البصروي، وشهادة أبي منصور عبد الغفار بن أبي الحسن طاووس الدمشقي، وشهادة أبي اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي النحوي، وكتبه أبو عبد الله عثمان بن عمر الدمشقي.
ذكرنا هذا لأجل إثبات معاصرة أبي طاهر الخشوعي للعماد الأصفهاني كاتب صلاح الدين يوسف، ولابن جبير الأندلسي الذي نحن بصدده. وكانت وفاة أبي الطاهر الخشوعي سنة ثمانٍ وتسعين وخمسمائة؛ أي بعد توقيعه هذا على نسب أجدادنا بثلاث سنوات، وكانت وفاة أبي عبد الله محمد بن صفي الدين المعروف بالعماد الكاتب في سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
وأما أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي فيقول ابن خلكان: إنه بغدادي المولد والمنشأ، دمشقي الدار والوفاة، سافر عن بغداد في شبابه، واستوطن حلب، ثم انتقل إلى دمشق، وصحب الأمير عز الدين فرُّوخ شاه ابن أخي السلطان صلاح الدين إلى الديار المصرية، ثم عاد إلى دمشق، وكانت وفاته فيها سنة ثلاث عشرة وستمائة. وذكر الذهبي أيضًا وفاته في تلك السنة، وكان من النحاة المشهورين. وكانت وفاة ابن جبير الأندلسي سنة ثلاث عشرة وستمائة في الإسكندرية.
وذكر في حوادث سنة ثمان وسبعين وخمسمائة أن صلاح الدين أرسل أخاه سيف الإسلام طغتكين إلى اليمن ليقطع الفتن منها ويملكها، فذهب وتغلَّب على الأمراء الذين كانوا بها مثل حطان بن منقذ الكناني وعز الدين عثمان الزنجيلي، وقد كان توران شاه — وهو أخو صلاح الدين الأكبر — توفي في الإسكندرية في سنة ٥٧٦، وكان له نواب على اليمن؛ فاختلت بعد وفاته أمور اليمن، فبعد سنين من وفاته أرسل صلاح الدين أخاه الآخر طغتكين إلى اليمن، وكانت هي السنة التي حج فيها ابن جبير؛ أي: سنة ٥٧٨ فصادفه في البيت الحرام حاجًّا، ومنه سافر إلى اليمن.
ومما يفتخر به الإسلام كون بغداد مدينة إسلامية محضة عمرها المسلمون بأيديهم، ولم يرثوها عن أمة سابقة، وكانت حضارتها إسلامية من أولها إلى آخرها، ولم تبلغ في الإسلام ما بلغته دار السلام من عظمة وسعة وثروة ونعمة ومنعة وقوة، وجميع مدن الإسلام التي اشتهرت في التاريخ كدمشق، وحلب، والقاهرة، والقيروان، وفاس، ومراكش، وقرطبة، وغرناطة، والبصرة، وأصفهان، وسمرقند — وفي الأعصر الأخيرة استانبول — لم تصل إلى درجة بغداد، بل كانت رديفًا لبغداد. وقرطبة التي كانت في القرون الوسطى أعظم حاضرة في أوروبة كانت في أيام عظمتها هذه تعادل نصف بغداد، أو كما قال ابن حوقل — فيما أتذكر — تعادل أحد جانبي بغداد.
نقل الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب — صاحب تاريخ بغداد — في الصفحة الأولى من الجزء الأول عن عبد العزيز بن أبي الحسن القرمسيني عن عمر بن أحمد عن أبي بكر النيسابوري أنه قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال لي الشافعي: يا يونس، دخلت بغداد؟ قال: قلت: لا. قال: ما رأيت الدنيا.
فليتأمل الإنسان أن صاحب هذا القول هو الإمام الشافعي — رضي الله عنه — الذي لم يكن ممن تزدهيه الدنيا أو تسكره زينتها أو تغلب على عقله عظمتها، لكنه برجاحة عقله كان في مقدمة الرجال الذين يقدرون الأمور أقدارها؛ فلذلك قال: إن من لم يَرَ بغداد لم يعرف الدنيا. ولقد راجعت الانسيكلوبيدية الإسلامية لأعلم ما تقول عن عمران بغداد في عنجهية أمرها، ولم تكن هذه الانسيكلوبيدية في شيء من التحمس لتاريخ الإسلام، بل هي أميل إلى بخسه من أشيائه منها إلى إعطائه أكثر من حقه، ومع هذا فقد رأيتها تقول في الصفحة ٥٧٦ من جزئها الأول: إن بغداد كانت لعهد الأوائل من الخلفاء العباسيين أعظم مركز تجاري في آسية ومنبع حياة فكرية عظيمة، وكانت بعظمتها وثروتها وزخرفها تشغل المقام الأول في العالم المتمدن في ذلك الزمن.
وقالت الانسيكلوبيدية في تلك الصفحة نفسها: إن هذه الحاضرة يوم وفاة الخليفة المهدي — أي قبل أيام الرشيد — كانت مساحتها من سبعة إلى ثمانية كيلومترات طولًا إلى مثلها عرضًا. قلنا: فإذا حسبنا هذه المساحة بضرب ثمانية في ثمانية كانت أربعة وستين ألف متر مربع، فلنقل: ألف ذراع مربع. فمساحة كهذه لا تسع أكثر من مائتي ألف بيت إذا حسبنا أنه سيدخل في هذه المساحة الشوارع، والساحات، والمساجد، والحمامات، والقصور، والثكن العسكرية، فإذا حسبنا لكل بيت خمس نسمات كان عدد سكان بغداد في زمان المهدي العباسي نحوًا من مليون نسمة، ونظن هذا التعديل أقل من الواقع بكثير، وقد كانت قرطبة تزيد على مليون نسمة، وهي كأحد جانبي بغداد.
وقد جاء هذا التعديل في الانسيكلوبيدية دون ذكر السند الذي توكأ عليه كاتب الفصل في قوله: إن بغداد في أيام المهدي كانت مساحتها من سبعة إلى ثمانية كيلومترات طولًا ومثلها عرضًا. ثم إنه مما اتفق عليه المؤرخون أن أوج عظمة بغداد كان من زمان الرشيد إلى زمان المعتصم؛ فبغداد في أيام الرشيد والمأمون والمعتصم لم يكن فيها أقل من ثلاثة ملايين نسمة، ولا شك أنه مثل هذا العدد قد يلزمه من أربعة إلى خمسة آلاف حمام بالنظر للترف الذي كانت تسبح فيه بغداد؛ ولكون أهلها من مباديهم الدينية الاغتسال والنظافة، فأما الستون ألف حمام والثلاثمائة ألف مسجد فهذا من كلام العوام، وقد أخطأ الحافظ أبو بكر بن الخطيب — رحمه الله — في مجرد نقله دون رد وتعقيب، ولكن حبه لبلده جعله يروي هذه المبالغات على علاتها، والأحسن والأنصح والأجدر بالثقة هو نقل الروايات المعقولة الموزونة دون المبالغات المردودة.
حدث أبو الحسن الهلال بن المحسِّن بن إبراهيم الصابي الكاتب صاحب التاريخ قال: كنت يومًا بحضرة جدي أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، إذ دخل عليه أحد التجار الذين كانوا يخدمونه، فقال له في عرض حديث: قال لي أحد التجار: إن ببغداد اليوم ثلاثة آلاف حمام، فقال له جدي: سبحان الله! هذا سدس ما كنا عددناه وحصرناه. فقال له: كيف ذاك؟ فقال جدي: أذكر وقد كتب ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه إلى الوزير أبي محمد المهلبي بما قال فيه: ذُكر لنا كثرة المساجد والحمامات ببغداد، واختلفت علينا فيها الأقاويل، وأحببنا أن نعرفها على حقيقة وتحصيل، فتعرَّفنا الصحيح من ذلك. قال جدي: وأعطاني أبو محمد الكتاب، وقال لي: امضِ إلى الأمير معزِّ الدولة، فاعرضه عليه واستأذنه فيه؛ ففعلت، فقال له الأمير: استعلم عن ذلك وعرفنيه؛ فتقدم أبو محمد المهلبي إلى أبي الحسن البادرجي — وهو صاحب المعونة — بعد المساجد والحمامات، قال جدي: فأما المساجد فلا أذكر ما قيل فيها كثرة، وأما الحمامات فكانت بضعة عشر ألف حمام، وعدت إلى معز الدولة وعرفته ذلك فقال: اكتبوا في الحمامات بأنها أربعة آلاف.
واستدللنا من قوله على إشفاقه وحسده إياه على بلدٍ هذا عظمه وكبره. وأخذ أبو محمد، وأخذنا نتعجب من كون الحمامات هذا القدر. وقد أحصيت في أيام المقتدر بالله فكانت سبعة وعشرين ألف حمام. وليس بين الوقتين من التباعد ما يقتضي هذا التفاوت. قال هلال الصابي: وقيل: إنها كانت في أيام عضد الدولة بن بويه خمسة آلاف حمام وكسرًا. ا.ﻫ.
قلت: أما زمان المقتدر بالله فكان في عهد الثلاثمائة بعد الهجرة وصاعدًا. وأما زمان عضد الدولة بن بويه فبدأ في بغداد سنة سبع وستين وثلاثمائة، فيكون بين العهدين نحو من ستين أو سبعين سنة؛ فيكون من العجب العجاب أنه في حقبة كهذه ينزل عدد الحمامات من سبعة وعشرين ألفًا إلى خمسة آلاف؛ فلذلك أظن أن في قولهم: كانت الحمامات في بغداد أيام المقتدر سبعة وعشرين ألف حمام، مبالغة عظيمة، وعندي دليل آخر أقرب إلى العقل من هذا على وجود المبالغة في الخبر، وهو قولهم: إن الحمامات كانت في أيام الأمير معز الدولة بن بويه والوزير أبي محمد المهلبي بضعة عشر ألف حمام، ثم قولهم: إنها كانت في أيام عضد الدولة خمسة آلاف حمام وكسرًا.
فقد كان معز الدولة بن بويه في زمان الخليفة المطيع لله، وكانت وفاة معز الدولة سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وكانت وفاة عضد الدولة بن بويه سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة؛ أي: لم يكن بين العهدين أكثر من ست عشرة سنة؛ فكيف يمكن في مدة قصيرة كهذه أن يتقلَّص العمران كل هذا التقلُّص، ويتساقط عدد الحمامات من بضعة عشر ألفًا إلى خمسة آلاف وكسر؟ فالأرجح عندي أن الحمامات كانت أربعة إلى خمسة آلاف حمام في العهدين؛ أي عهد معز الدولة وعهد عضد الدولة. نعم في زمن المقتدر يجوز أن تكون حمامات بغداد عشرة آلاف فأكثر؛ لأن عمران بغداد في زمن المقتدر كان أحفل جدًّا منه في أيام المطيع والطائع؛ أي أيام بني بويه. على أننا لو قلنا: إنه كان في بغداد خمسة آلاف حمام فليس ذاك بقليل؛ لأننا لو جعلنا لكل مائتي بيت حمامًا واحدًا لكان مجموع البيوت مليون بيت، فإذا جعلنا لكل بيت خمس أنفس كان مجموع سكان بغداد خمسة ملايين، وهو أقصى ما يتصوَّر لعدد سكان بغداد.
وإن قلنا: إنهم من أجل كونهم مسلمين وولوعهم بالاستحمام لأجل النظافة وما كانوا منغمسين فيه من الترف كان الحمام الواحد لا يكفي إلا لمائة بيت، وجب أن يكون في بغداد مليونا بيت؛ أي عشرة ملايين نسمة، وهذا بعيد عن العقل، فالأرجح هو التعديل الأول.
أما في الزمن الذي ذهب فيه ابن جبير إلى بغداد وهو آخر القرن السادس، فقد ذكر أنه كان فيها ألفا حمام لا زيادة.
وقد كان الفرق عظيمًا جدًّا بين أيام المقتدر وأيام المطيع والطائع؛ وذلك لأن عمران بغداد من بعد المعتصم أخذ بالتدنِّي، ثم كان الفرق أعظم بين أيام المطيع والطائع وأيام الناصر الذي في زمنه دخل ابن جبير بغداد.
وقد جاء في تاريخ بغداد لابن الخطيب تفصيل استقبال المقتدر لسفراء ملك الروم مما يتجاوز تصور العقول في الأبَّهة والفخامة وكثرة العدد والعدد؛ فقد رووا أنه كان عند المقتدر أحد عشر ألف خادم خصي عدا الغلمان الحجرية والحواشي من الفحول، وكانوا ألوفًا. وقيل: كانت عدة كل نوبة من نوب الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف فرَّاش، ولما جاء رسل ملك الروم صف المقتدر لهم العسكر من دار صاعد إلى دار الخلافة، فكان عدد الجيش المصطف مائة وستين ألفًا بين فارس وراجل، ثم رسم المقتدر أن يطاف بالرسل في دار الخلافة وليس فيها من العسكر أحد البتة، وإنما فيها الخدم والحجَّاب والغلمان السود، فكان عدد الخدم سبعة آلاف؛ منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، وعدد الحجَّاب سبعمائة حاجب، وعدد الغلمان السود غير الخدم أربعة آلاف.
قالوا: وكان عدد ما عُلِّق يومئذ في قصور أمير المؤمنين المقتدر بالله من الستور الديباج المذهبة بالطرز المذهبة الجليلة المصورة بالجامات، والفيلة، والخيل، والجمال، والسباع، والطرد، والستور الكبار الصنعانية، والأرمنية، والواسطية، والبهنسية السواذج والمنقوشة، والدبيقية المطرزة؛ ثمانية وثلاثين ألف ستر، وعدد البسط والنخاخ الجهرميَّة والدورقية في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم من حد باب العامة الجديد إلى حضرة المقتدر بالله، سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط الطبري والدَّبيقي التي لحقها النظر دون الدوس؛ اثنان وعشرون ألف قطعة، وأدخل رسل صاحب الروم من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخيل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهبًا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يدي شاكري بالبزة الجميلة، ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت إليها من الحير قطعان تقرب من الناس وتشمَّمهم وتأكل من أيديهم.
ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج على كل فيل ثمانية نفر من السند الزرَّاتين بالنار، فهال الرسل أمرها، ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع؛ خمسون يمنة وخمسون يسرة، كل سبع منها في يد سباع وفي رءوسها وأعناقها السلاسل والحديد.
ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث، وهو دار بين بساتين في وسطها بركة رصاص قلعي حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلُوَّة، طول البركة ثلاثون ذراعًا في عشرين ذراعًا، وحولها مجالس مزينة بالدَّيبقي المطرَّز، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيه نخل عدده أربعمائة نخلة، قد لبس جميعها ساجًا منقوشًا من أصلها إلى حد الجمَّارة بحلق شبه مذهبة، ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة فيها ماء صافٍ، وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل غصن منها شاخات كثيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة، وهي تتمايل في أوقات، ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما يتحرك أوراق الشجر الطبيعي بالريح الهابَّة.
وقيل في هذه الشجرة: إن وزنها كان خمسمائة ألف درهم. قالوا: وكان تعجُّب رسول ملك الروم من هذه الشجرة أكثر من تعجبه من كل ما شاهده. وكانت الطيور المصنوعة التي على الشجرة تتحرك بحركات قد جعلت لها. ثم إنه كان في جانب الدار يمين البركة تماثيل خمسة عشر فارسًا على خمسة عشر فرسًا قد أُلبسوا الديباج وغيره، وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد خببًا وتقريبًا، فيظن أن كل واحد منهم إلى صاحبه قصد. وفي الجانب الأيسر مثل ذلك.
ثم أدخلوا إلى القصر المعروف بالفردوس، فكان فيه من الفرش والآلات ما لا يحصى، وكان في دهاليز الفردوس عشرة آلاف جوشن مذهبة معلَّقة. ثم أخرجوا منه إلى ممر طوله ثلاثمائة ذراع قد علِّق من جانبيه نحو من عشرة آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وردية وجعبة محلاة وقسي، وقد أقيم نحو ألفي خادم بيضًا وسودًا صفين يمنة ويسرة.
ثم أخرجوا بعد أن طيف بهم ثلاثة وعشرين قصرًا، وذلك إلى الصحن التسعيني، وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل والبزة الحسنة، وفي أيديهم الشروخ والطبرزينات والأعمدة، ثم مروا بمصاف من عليَّة السواد من خلفاء الحجاب وأصاغر القواد، ودخلوا دار السلام، وكانت عدة كثيرة من الخدم والصقالبة في كل من القصور يسقون الناس الماء المبرَّد بالثلج والأشربة والفقَّاع، ومنهم من كان يطوف مع الرسل، ولطول المشي بهؤلاء جلسوا واستراحوا في سبعة مواضع، واستسقوا الماءَ فسُقوا.
وكان أبو عمر عدي بن أحمد بن عبد الباقي الطرسوسي — رئيس الثغور الشامية من قبل الخليفة — يطوف معهم وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة، ووصلوا إلى حضرة المقتدر بالله وهو جالس في قصر التاج مما يلي دجلة، وكان الخليفة على سرير أبنوس قد فرش بالدَّبيقي المطرز بالذهب، ومن يمنة السرير تسعة عقود من اللآلئ مثل السبح معلقة، ومن يسرته تسعة أخرى من أفخر الجواهر غالب ضوءها على ضوء النهار.
ومثَّل الرسول وترجمانه بين يدي المقتدر بالله، فكفَّر له، وكان الرسول شابًّا والترجمان شيخًا، وقد كان ملك الروم عقد الأمر في الرسالة للشيخ إذا حدث بالشاب حدث الموت، فناوله المقتدر جوابه لملك الروم، وكان ضخمًا كبيرًا، فتناوله وقَّبله إعظامًا له، ثم أُخرجا من باب الخاصة إلى دجلة، وأقعدا وسائر أصحابهما في شذًا من الشذوات الخاصة — الشذا نوع من السفن — وأصعدا إلى دار صاعد التي أنزلا فيها، وحُمل إليهما خمسون بدرة كل بدرة خمسة آلاف درهم. فهذا ما كانت عليه دار الخلافة في أيام المقتدر، وذلك في نحو سنة خمس وثلاثمائة.
ونقل عن أبي نصر خوا شاذة خازن عضد الدولة بين بويه قال: طفت دار الخلافة عامرها وخرابها وحريمها وما يجاورها، فكان ذلك مثل مدينة شيراز. قال هلال الصابي: وسمعت هذا القول من جماعة آخرين عارفين خبيرين. ومع هذا فقد كانت بغداد في أيام عضد الدولة انحطت كثيرًا عما كانت في أيام المقتدر؛ أي قبل ذلك بستين أو سبعين سنة. وكانت في أيام المقتدر قد نزلت كثيرًا عن درجتها في أيام المأمون والمعتصم. وأما في أيام الناصر — وهي التي زار فيها ابن جبير بغداد؛ أي بعد أيام المقتدر بمائتين وخمسين سنة — فكانت بغداد لا تعد شيئًا بالقياس إلى ما كانت عليه من قبل.
وأما جامع الخليفة المتصل بداره الذي يقول فيه ابن جبير: إن فيه سقايات عظيمة ومرافق كثيرة، فنظنه الجامع الذي بناه الخليفة المكتفي سنة تسع وثمانين ومائتين، فقد ورد في تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر الخطيب أن الناس كانوا يصلون الجمعة في دار الخلافة نفسها وليس هناك رسم لمسجد، فلما استُخلف المكتفي أمر ببناء مسجد جامع في داره يصلي فيه الناس؛ فصاروا يبكرون إلى المسجد الجامع في الدار يوم الجمعة، فلا يمنعون من دخوله، ويقيمون فيه إلى آخر النهار. قال الخطيب: وحصل ذلك رسمًا باقيًا إلى الآن.
ويقال: إن ابن قرة أرسلان باع من ذخائر آمد وخزائنها مما لا حاجة له به مدة سبع سنين، حتى امتلأت الأرض من ذخائرها، وقيل للسلطان: إنك وعدته بآمد، وما وعدته بما فيها من الذخائر والأموال، وفيها من الذخائر ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار، قال: لا أضن عليه بما فيها من الأموال، فإنه قد صار من أصحابنا.
قال القاضي بهاء الدين ابن شداد الذي كان هناك ليلتئد هو والقاضي الفاضل والقاضي ابن الزكي، وهذه يقظة في وقت الحاجة وعناية من الله تعالى به. وقال ابن شداد أيضًا: ولقد حُكي لي أنه لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى: لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ تبسَّم وتهلل وجهه وسلمها إلى ربه.
قال ابن شداد أيضًا: ثم اشتغل بتغسيله وتكفينه، فما أمكننا أن نُدخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض حتى في ثمن التبن الذي يُلثُّ به الطين. وغسله الدولعي الفقيه، وأخرج بعد صلاة الظهر في تابوت مسجًّى بثوب فوط، وكان ذلك وجميع ما احتاج إليه من الثياب في تكفينه قد أحضره القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني من وجه حِلٍّ عرفه. وارتفعت الأصوات عند مشاهدته، وعظم من الضجيج والعويل ما شغلهم عن الصلاة، فصلى عليه الناس أرسالًا، وكان أول من أمَّ بالناس القاضي محيي الدين بن الزكي، ثم أعيد إلى الدار التي في البستان، وكان متمرضًا بها، ودفن في الصفة الغربية منها. ا.ﻫ.
قلت: وعلى ضريحه اليوم قبَّة بنيت فيما بعد وفاته — رحمه الله — ولا يكاد سائح ذو بال يزور دمشق إلا يزور مدفن صلاح الدين، وقد زاره قيصر ألمانية سنة ١٨٩٨ مسيحية، وانحنى أمام قبره إجلالًا وإعظامًا، ثم أهدى إلى المقام قنديلًا عظيم القيمة، فعلِّق فيه، وذلك في أيام الحرب الكبرى، فلما دخل الإنكليز إلى دمشق في نهاية الحرب الكبرى قيل إنهم أخذوا القنديل من هناك، فالقنديل المذكور ليس الآن في تلك القبة، وقد سألني الإمبراطور المشار إليه عن هذه القصة فأجبته بأني سمعتها كما سمعها هو، وعددت هذا العمل مستغربًا من الإنكليز.
هذا وقد كانت وفاة ابن جبير — الذي علقنا هذه الحواشي على كلامه إجلالًا لقدر بيانه — ليلة الأربعاء التاسع والعشرين من شعبان سنة ٦١٤؛ أي بعد وفاة صلاح الدين بخمس وعشرين سنة.
وقيل: إن المشهد بعسقلان بناه أمير الجيوش أبو الأفضل، وكان حمل الرأس من عسقلان إلى القاهرة سنة ثمانٍ وأربعين وخمسمائة، جاء به الأمير سيف المملكة تميم — والي عسقلان — ومعه القاضي المؤتمن بن مسكين، وحصل الرأس الشريف في القصر الفاطمي يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة. ثم ذكر نقلًا عن ابن عبد الظاهر أن طلائع بن رزيك المنعوت بالصالح كان قد قصد نقل الرأس من عسقلان لما خاف عليها من الإفرنج، وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر على ذلك وقالوا: لا يكون الرأس إلا عندنا؛ فدفن عند قبلة الديلم بباب دهليز الخدمة في خلافة الفائز سنة تسع وأربعين وخمسمائة.
وقد ذكر المقريزي بعد ذكر المشهد الحسيني بمصر قصة قتل سيدنا الحسين — رضي الله عنه — وكيف جيء برأسه إلى يزيد، وكيف استقبل هذا الأمر يزيد مما لا حاجة إلى ذكره. ثم قال إنه أنزل في خزائن السلاح إلى أن ولي سليمان بن عبد الملك، فجعله في سَفَط وطيَّبه وجعل عليه ثوبًا، ودفنه في مقابر المسلمين.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى خازن بيت السلاح أن وجه إليَّ برأس الحسين بن علي، فكتب إليه أن سليمان بن عبد الملك أخذه وجعله في سفط وصلى عليه، فلما دخلت المسودَّة — أي العباسيون — سألوا عن موضع الرأس؛ فنبشوه وأخذوه، والله أعلم ما صنع به. ا.ﻫ.
فمن هنا يعلم أن رأس الحسين — رضي الله عنه — مختلَف في محل وجوده. فإن كان الرأس الحقيقي هو الذي أخذه العباسيون من دمشق، فلماذا يجعلونه في عسقلان ولا يأخذونه إلى المدينة المنورة أو إلى بغداد عاصمتهم؟ فوجود الرأس مدفونًا في عسقلان أمر مستغرب، ولم أطلع حتى الآن على قصة نقله من دمشق إلى عسقلان. ومن الجهة الثانية يكون غريبًا أن الخلفاء الفاطميين ينقلون رأس الحسين إلى مصر بهذا الاهتمام العظيم خوفًا من الإفرنج لو لم يكونوا واثقين بكونه رأس الحسين — عليه السلام — وعلى كل حال، فإن ابن جبير ذكر نقل رأس الحسين إلى القاهرة قائلًا: إنه كان في دمشق لا في عسقلان، وكلامه هذا كان سنة ٥٧٨، ورواية المقريزي هي أن الرأس نقل إلى القاهرة سنة ٥٤٩، فلا تضادَّ بين الروايتين إلا في قضية عسقلان، وقول ابن جبير: «ثم نقل إلى القاهرة.» لا ينفي أنه كان قد نقل من دمشق إلى عسقلان قبل نقله منها إلى القاهرة.