خيالة «أمينتريس»
في ذلك المساء، كان يستولي على «مدينة هابو» خشوع لا يبلغهُ الوصف، يأخذ النفس بسرٍّ خفي، وكان الهيكل عجيب الروعة، قد أعادت زينة الليل كل ما كان له من جلالٍ رهيبٍ في الأعصر الخالية.
وكأنما كان كل عمود مبتور في الغرفة ذات العماد، ينطوي على حياة ناهضة.
تجلت بهجة الإشراق في ساحة المعبد الواضحة البياض، وفي الإيوان الأقدس، على صفحات الدعائم المربعة، المخدشة تخديشًا يثير الألم، كانت صور الساجدين تبدو في تبتل وإخبات، بين يدَي الآلهة ذات البهاء السرمدي، وكأنما كانت الجدران أيضًا تنبض بملامسة غيبية سريعة، وكأن كل زهرة من أزهار اللوتس، وورقة من أوراق البردي تتأرج صلاة وابتهالًا.
تلك ليلة لا تُنسى لذاذتها!
خفت العازفون الذين كانوا تحت القباب المعمدة في ساحة المعبد الثانية، يرسلون نغمًا هادئًا، وخمدت تباعًا تلك المصابيح التي وضعت لوقت عند أدنى الدعائم الأوزيريسية.
هنالك أحاطت بالقلوب روعة بالغة، وملكتنا عفو السجِيَّة سكينةٌ، فلم نكن نستطيع الجهرَ بالصوت، مخافة أنْ نعتدي على ما يفيض حولنا من جلال.
كان القمر يتعالى إلى سمت السماء رويدًا، فيمحو لمعان الألوف من الأنجم الزهراء، وكان الأفق صافي الإهاب، ساطع الضياء، حتى لكُنَّا نتبيَّن عن بُعْدٍ ما يحف بنا من النقوش والمخطوطات.
لا شيء يمثل بهجة الليالي القمراء في صعيد مصر أول فصل الصيف.
وقد كانت ليلتنا أجمل ما شهدت من الليالي!
انفردتُ عن حُجَّاج الهيكل، الذين جاءوا للادِّكار والعظة عند شعائر الأديان العتيقة، ثم اعتمدت على قاعدة تمثال «آمون»، وجعلتُ أداول التأمل بين أنجم الأفق والأنجم التي ترصع الدعائم المربعة في معبد السماء، وتغلغل بي الفكر تجاه تلك الكواكب التي كان يهتدي الأقدمون بهديها، وما برحتْ ذات سلطان علينا أيضًا.
ولشد ما يظهر أنَّ كل ما في العالم العلوي ثابت على عهده، لم يتغير منذ العصور النائية عصور الفراعنة. وهذه «الشعرى اليمانية»، التي كانت وهَّاجة في فم «الكلب الأكبر» أيام كان كهنة المصريين يرقبون ظهورها من أعالي مراصد «منفيس»، لا تزال تبهر أبصارنا شعلتها التي لا تنطفئ.
كم من أجيالٍ خرَّت للأذقان سجدًا في هذا الهيكل، وكم من قلوب واجفة، فزعت إلى الحظيرة المقدسة، وإلى الأعراف في معابد السماء، وكم من كروب جاءت تدعو الآلهة في تفريجها.
يا مَن همو مفزعنا في ساعات الهموم إذا استحكمت حلقاتها، وملجأنا في ساعات الفرح القوي الذي ينوء به ضَعفنا، أيتها الآلهة الكبرى المحبوبة حب عبادة، أجيبي تضرعنا إليكِ، كما أجبتِ دعاء المكروبين مثلنا من قَبل.
لا بدَّ أنْ يكون «رمسيس الثالث» و«أمينتريس» وسائر من شادوا معابد ها هنا، جاءوا في ليالٍ كهذه الليلة متلظية وضاءة؛ ليوجهوا قلوبهم إلى الذي اصطفاهم، وينبغي أنْ يكون في هذا المكان سبب فوق العصور والأجناس والأديان من عنصر لا يقبل الفناء.
من أجل ذلك شعرتُ بسرٍّ أخَّاذٍ غير مدفوع، لا أدري ما هو، يخلص من طنف المعبد وباحاته، من كل ناحية كانت موضعًا لتأثير ديني، أو فيض إلهي، أو وحدةِ عقيدة في جيل من الأجيال.
كنت أفكر في ما ينبعث من الجدران والعُمُد من سلطان على النفوس غيبي، بينما أسير الهُوَيْنَى في السكون الشامل؛ لألحق بالحجيج الذين ذهبوا ينتظرونني في ساحة «أوزيريس»، وعلى حين فجأة ثبتُّ في مكاني بين دهشة وعجب، إذ لمحتُ امرأة تدنو إلى ناحيتي في تريث وجلال، قادمة من مدخل الهيكل، كأنما تنساب انسيابًا لا تمشي على قدم، يلوح جسمها كله رقيق المستشفِّ، ولم تكن قامتها مفرطة الطول. على أنها كانت كلما تدانت بدت للرائي مهيبة متعالية في شكل رأسها تلك المخايل الصادقة الدالة على أنها مخلوقة للسيادة، وتزين غُرَّتَها تلك العزيمة الماضية التي لا تزين بها الغرر إلا سلسلة طويلة من آباء ملوك، والتي يجعلها تمادي الزمن خاصة السؤدد والحسب.
كانت ترتدي بجلباب أبيض، ليس فيه عن شيء من جسمها فضل، رقيق النسج، مطرز الحواشي، ينحسر عن عنقها ومعاصمها المحلاة بأساور من ذهب، وكانت في قدميها نعال ثمينة، تَهَبُ مشيتَها تلك الرشاقةَ النبيلةَ التي لا تحاكي رشاقة النساء المصريات.
هي الآن تمر أمامي فأفزع من روعة إلى الوراء؛ إذ عرفت من ذلك الكائن ذي المظهر الخيالي، الملامح اللطيفة والخصائص الشريفة والأعين النُّجُل الشبيه سوادها بسواد الليالي المصرية، عرفت محيا الملكة الفتان المصور فوق الجدران في «الكرنك» في معبد «أوزيريس». تلك هي «أمينتريس» صاحبة الإمارة الدينية في طيبة، مليكة المصرين، وسادنة «آمون»، بيدها المعزف الغالي المصوَّر فيه رأس «هاتور»، وقد كلل هامتها زهرُ اللوتس، وسطع عرف البخور الطيب من نواحيها، تمر أمام عيني السادرتين قاصدةً إلى المحراب، طيفًا للماضي ومظهرًا للخلود مجيدًا.
ما الذي جاء بها إلى هذا المكان في هذه الساعة؟
لعلها جاءت تُقِيم شعيرةً من شعائر الدين، أو تخلو للفكر والاعتبار، موحدة لا يصل جناحها بعض الأميرات، ولا بعض وصائف القصر.
ومع تجردها عن بطانتها المصرية، وموكبها الحبشي، كانت كأنما تحفُّ بها المحافل ومظاهر التفخيم، بما كانت تبدو مونقة رائعة في الباحة البيضاء لمعبد «رمسيس الثالث».
كانت تلك الملكة النضيرة تحل من ذلك المكان المقدس الذي كانت سادنته بمعهد أليف، وكانت مكللة بكل أكاليل المجد الغابر، حتى لشعرتُ بلذعة الحزن بما وجدتني مغمورة إلى جانبها، لا يجمعنا شبه ولا تسوي بيننا مرتبة، على أنني مصرية من جيل غير ذلك الجيل، جئت أملأ بصري، وأنعش قلبي بمرأى دِمَن العظمة السالفة.
«أمينتريس» حيالي في ذلك الليل القمري، تتصل بعالَم الماضي شيئًا فشيئًا، وتمتزج بالوجودات المغيبة أيضًا، في حين امتزاجها بكل ما يحيط بها، فأراها تتمثل فيها مصر كلها كما أحبها.
ذلك مشهد كان في النفس غريب الأثر!
أَتْبَعْتُها بَصَرِي، وهي تصعد إلى الرواق الأيمن في السلم الصغير المهدم. هنالك وجَّهَتْ وجهَها إلى القمر، ورَفَعَتْ ذراعيها متوسِّلة في بطء وطُول.
كانت في ذلك الوضع جميلة أخَّاذة بمجامع القلوب، مصورة من شرف مصفى، وإيمان متأجج، وَرِقَّة شعرية، حتى لَخُيِّل لي لشدة ما تأملتُها أنها شعاع منبعث من البدر.
كنت جدُّ مستغرقة في أحلامي، فلم أشعر — بادئ الأمر — بمدخل قادم آخر، يخر ساجدًا لتمثال «آمون»، كان طوالًا مهيبًا عليه سيما الجنود.
لم ألمح وجههُ، فجعلت أسأل نفسي: من ذا عسى أنْ يكون هذا الذي جاء — كسُنَّة العصور الماضية — يقيم شعائر غامضة الأسرار؟!
قد يكون «نيكتانيبو» أو «توتمس» أو«ساهاركا» أو «شاباكا».
كلا، ما هو هذا ولا ذاك، فقد استدار فجأة، فرأيت أنهُ «رمسيس الثالث» لا سواه.
عرفته بجلبابه الفخم المعلم، كما عرفتهُ بتألق حليه العجيبة، ثم عرفته بنظره الفولاذي، الذي يلمع فيه ضياء كل ما ملك نواصيه من الآفاق.
ورأيي أنَّ الغزاة الفاتحين يعرفون بذلك السحر الذي ينفثونه في الجماهير، متى رموها بأبصارهم.
عرفت «رمسيس الثالث» بعينيه الخلابتين، عيني متحكم في عزائم الرجال.
عيناهُ شبيهتان بعيني «إبراهيم»، الذي كانت له نظرات كنظرات «نابليون» و«قيصر»، لا تعرف الرجفة من ذعر.
كان «لرمسيس الثالث» مظهر «مونتو» أخا غزوات ذا جمال فخم.
وبينما كنت أنظر مُلِحَّة، أبصرتُه يدنو إلى ناحية «أمينتريس»، وهي تهبط من الرواق.
قال: سلامًا أيتها المليكة.
قالت: أجئت — يا صاحب الجلالة — تطوف مثلي سبهللًا ها هنا؟
قال: ومن ذا الذي يستطيع معاصاة لجمال هذه الليلة، التي هي على غرار ما سلف في غابر الدهر من ليالينا؟ نعم، جئت مجيئك، وثلج بلقائك صدري، تعالي بنا نذكر عصورًا خواليًا.
ثم رأيتهما في غرفة العبادة جالسَيْن إلى حاشية بعض الدعائم المبتورة، يتناجيان.
أنت موفورة الحسن، بمقدار ما كنت مليكة عظمى، ولئن غفل الناس عن ذكرك — والإنسان سريع النسيان — فلن تفتأ «مدينة طيبة»، و«سيين»، وأرض «أمينتت»، و«الدلتا»، و«منفيس» تذكر عهدك المملوء بالمفاخر، ولن يبرح سلطانك خالدًا لا يزول، في كل ناحية من النواحي التي ثبتِّ فيها أركان الوحدة القومية.
أنت حقًّا من جرثومة الآلهة، وأنا معشر جدودك؛ لنزهى بما نرويهِ من سيرتك؛ إذ حكمت مصر المقهورة في بلاد الحبش فاتحة «بيانكاري».
وما كان أحسن الاستماع لذلك الملك الكبير يثني على أميرة من سلالته؛ عرفانًا لما تركت في الملك من أثر خطير!
وبينما كان القمر يغمرهما بشعاعه، كان يُخيَّل إليَّ أن قد بُعِثَتْ حيَّةً صفحاتٌ من ذلك التاريخ البعيد الفياض بالمفاخر.
إنَّ هذه الأرض التي لم يُخلَق مثلها في البلاد، قد رفعت من شأن النساء ما لم تعرفه «روما» ولا «أثينا»؛ فهي جعلت منهن كهنة وملكات وآلهة.
أولئك نسوة نهضن بالعظائم، وكنَّ من جوهر تتقاصر الأعناق دونه، وكان لهن فيما حملن من أعباء الحياة نفاذ وكفاية.
ما أرجح وزنهن؛ أولئك اللواتي نزلت على حكمهن عصورهن!
آه! لو أنَّ نساءنا نساء الشرق عرفن كيف يحتفظن بتلك الهمة الأولى، إذن لهان ما نلقى اليوم من الألم الوجيع لكربة الشرق الشاملة.
وإزاء هذه النماذج الماثلة متينة عديدة، تَنْظِم عِقْدًا من عهود منقطعة النظير، قامت صورة التعاسات التي تنوء بها الآن كل واحدة منَّا، بما كسبت أيدينا، صورة لا يبلغ الوصف ما تثيرهُ من وخز الأسف.
هنالك مرت بنا — كما يومض الشهاب الثاقب — تلك السلسلة الذهبية لربات التاج فيما سلف، يتنازعن غاية الجمال في عزة باهرة، ما بين أوجه ملكات وشخوص أميرات، فملأن باحة الهيكل إذ خطرن بها متعاقبات زينة وجمالًا.
شهدتهن يجتزن الغرفة ذات العماد، أولئكن اللواتي كن حلية التاج الشرقي الذي لا تساميه التيجان، أولئكن الجواهر في جِيد «مصر»، «وبلاد العرب»، «وفارس»، «والترك»، «والهند» اللواتي رفعن لأوطانهن ذكرًا، بما لمع في الخافقين من لآلائهن. وهنَّ: «آه هوتيب»، «أهمس»، «تايا»، «كليوباترا»، «سيميراميس»، «زبيدة»، «صبيحة»، «هاتون»، «نيلوفر»، «ماهبيكار»، «نور مهال»، «قرة العين»، «سلطان جهان»، «جشم آفت» …
كنَّ يرسلن جميعًا إلى أمينتريس ابتسامة، هي الدلالة القدسية الخالدة على الود السماوي.
كان بعض تلك الصور الشاردة المتعاقبة سراعًا — فوق حاجز الساحة البيضاء — يظهر أشد من غيره بيانًا، وهذه هي وجوه العصر المجيد المصرية.
أما التي كانت دون ذلك وضوحًا، فهي شخوص الملكات المسلمات، تسنح لمامًا في جوف الهيكل المنير.
ماذا عسى أنْ يكون عدد من يعلم في الشرق أسماء أولئك الملكات في عهد الفخار الغابر؟!
وما عدد من يدري صنيعهن بين من تلقفوا أسماءهن تلقفًا؟
ذلك مع أنَّ النبي ﷺ أثنى على زوجهِ بعلمها، وجعل لها شأنًا خطيرًا.
ولقد كان يبدي لِبنته مظاهر عطف تنتشر لها النفس رقة، ويبيِّن للناس أنَّ لكل من فتاته وامرأته مكانًا في نفسه كريمًا.
ووُجِد في تاريخ الإسلام البعيد الأطراف بعد عائشة وفاطمة الزهراء، أمثلة من النساء تستحق الإعجاب، بيد أنَّ مؤرخي الوقت آثروا أنْ يسحبوا عليهن ذيل النسيان؛ ليقصروا جهدهم على تراجم ليس لها طعم، لرجال لم يكونوا أهلًا لتقدير تلك الفِطَر النسائية المختارة، التي لو وثبت قليلًا لحلَّقت فوق ما علت في كبد سمائنا الفيروزية.
أولئك النسوة اللواتي وهبن لبلادهن نفوسهن غير ضنينات، أولئك الملكات اللواتي تمثلت فيهنَّ أوطانهن، لم ينلن من حسن الذِّكر الذي استوجبنهُ بما قدمت أيديهنَّ، إلا هذه الأشعة المختلط نورها بظلامها، يرسلها ليلٌ من ليالي الصيف بهيٌّ، في أعقاب الشمس الهاوية إلى مغربها متألقة رائعة.
كنت في غمرة بالغة، فلم أستطع — لتأثري المتزايد — تتبع ما كان يتناجى به «رمسيس» و«أمينتريس»، ولم أكن أشعر إلا بشيء واحد، هو أنَّ ذلك الإطار الخيالي الذي يحف بي، قد صار بقوة الحب والإخلاص والإرادة حقيقةً ثابتةً.
إنَّ أولئك الذين قضوا حياتهم في خدمة غرض مقدَّس عندهم، قد رجعوا إلى معاهدهم الأولى، في حضن الهياكل التي أقاموا في الحياة دعائمها؛ ليتفاوضوا في شئون تأخذ من قلوبهم مكانًا، وقد أدنتهم قوة إيمانهم من منازل الآلهة.
وعندما تأملت في القَوام الأهيف للكاهنة العظيمة، وفي بأس الرجولة للفاتح الكبير، شعرت بأنهما صاغا صورتهما البديعة في الأبدية كما يشاءان.
رأيتهما يتواريان في صمت حيالي، فيعود هو إلى «قبة مجدول»، حيث صوَّرَه مصورو العصور الخوالي لاعبًا الشطرنج، بينما تسير هي إلى صومعتها البهيجة؛ لِتُوالي القيام بشعائر دينها المقدسة في هذه الليلة الزهراء، ليلة البدر كاملًا.
هناك أقبلتُ على نفسي أسألها: أي ثلاثتنا حقيقة، وأيها خيال؟!
ليت شعري! هل تجلِّي الملأ الأعلى في عالم الظهور هو الحقيقة الثابتة؟ أم أنا وحدي ذات الوجود الحقيقي؟
تعب الحجيج من انتظاري، فغادروا الهيكل قبلي، وتبعتهم كأني في حلم.
ولما سارت بنا العربات، أحسست بأني أحمل معي تذكارًا، لا يستطيع شيء أنْ يمحوه، فإن الذي رأيتهُ وسمعتهُ مذ الليلة لا يدركه النسيان.
كانت السواقي تدور في مزارع القمح والفول المتباعدة الأطراف، كعهدها دائمًا صدَّاحة شاكية، وكانت أشجار البرتقال المزروعة في القرى الحافة بنا، تعطر بأريجها موكبنا الليلي، بينما كانت التماثيل الضخمة الرابضة تنظر إلينا إذ نمرُّ بها — كما شُهِدَت منذ الأحقاب المتنائية — وهي جامدة لا تحرك ساكنًا، أمواج الخضم الإنساني تتدافع غير متناهية.