التي صوَّرها البدر
يوجد في وسط مدينة «طيبة» — بين فدافد الدير البحري ذات الرضام والأكمة المقدسة، أكمة دير المدينة — منظر ذو جمال باهر غير أليف، ذلك هو وادي النسر.
ما وادي الملكات في غرابته وهدوئه، ولا ثنايا وادي الملوك الموحشة، ولا الطريق الذاهب إلى مقابر القرود في فخامته الجافية، بمؤدية إلى الذهن مثالًا من الروعة التي لا شبيه لها لتلك النجوة ذات الحدور.
لا يستطيع أحدٌ يُقَدِّر هذه الروعة وهو في جوف السهل، ولا ينفذ موجود إلى ذلك الحمى الرهيب، الذي ظلَّ على الدهر محجبًا مجهولًا.
كان يعجبني في بعض الأحايين لدى عودتي من زورة بحث وتنقيب في كهوف «دراع أبو النجا»، أو في مآبي من حجة طويلة الأمد إلى بعض المعابد المجتباة، أنْ أستريح إلى طرف الحقف الأمعز الصاعد إلى وادي النسر.
أحب أنْ أنظر من ذلك العلو إلى الشعب العبقري من سهل طيبة، حيث يتجلى للنظر مشهدٌ ذاهب إلى غير منتهى، منقطع النظير.
باقة من الهياكل طافية فوق خضرة النبت المتكاثف، كمروحة عظيمة وُضِعت منشورة على بساط السماء، تلوح جملة عن عرض، وتارة تبدو منتثرة في ذلك الأفق البالغ في زرقته.
وبينما كان مهرجان الربيع يتجلى بمباهجه الفياضة — في إطار ساحر من الأطلال — كانت تنفذ إلى صميم الفؤاد تلك الطمأنينة المنعشة، المنبعثة من آثار العصور الخوالي.
ولقد لاحظت أنهُ في صعيد مصر، يكفي أنْ تنظر إلى أشد الأشياء غموضًا، وأنت محب لها لتسارع إلى نفسك محدثة بأسرارها.
بأعلى أروقة «دندرة»، حيث المنظر غير محدود، وهو قيد للبصر، وحيال الثنية الرهيبة في «جبل أبيدوس»، كعبة الحجاج الراسب فيه الزورق المقدس وبذروة «هيكل هوروس» بإدفو التي تدهش البصر، غير متفاوت ذلك الشعور الذي يهجم على النفس من جميع أقطارها.
ومن حيث خرجت لدى أيِّ موطن تخشع النفس فيه لجلال العقائد وتكاليفها، وتضطرب القلوب من هلعٍ أمام غيب العالم العلوي الذي لا منفذ إليه، سرعان ما يجد النظر راحة وسلوانًا في البقاع المطيفة بمرآها العجيب، الذي كأنما جعلتْهُ الطبيعة لطفة للعيون.
من أجل ذلك كنت في منحدري من زيارات عفو الساعة لبعض جوانب مدينة طيبة، كثيرًا ما أحب الخلوة بنفسي؛ لألهو بأفكارٍ أقل تغلغلًا في عالَم التجريد، فأرتقي مصعدة في قلب «الأصاصيف» إلى جوف الكهف ذي الأسرار، السابق على عهود التاريخ، المنحوت في نازح من مسارب السيل.
وثمت في ذلك الوكر البديع المكون من أحجار على سجيتها، كنت أستريح مُنْصِتة إلى النسور المارة إذ تزف زفيفًا.
في وسط الكهف يقوم مذبح من محاريب العبادة، طريف في نوعه، ومع أنه محفوف بالصمت منذ آلاف السنين، فهو يقص علينا العجب العاجب من تاريخ الإنسان في نشأتِه الأولى، حين نزع بالهام من فطرته إلى عبادة النور بارئ كل شيء. وعند ذلك النُّصب الذي أقامه الأوائل من البَشر مصلى، والذي تكتنفه أقفاف بهيجة، تصبغ الشمس في عنفوانها ذهبًا، فهمت بما شهدت من السحر العظيم سر عبادة المصريين القدماء «لآمون-را».
وفي أثناء الساعات التي كنت أقضيها في هدأة الوحدة بأعماق وادي النسر، طالما تمثلت لخاطري وجوه أدركها الزوال، مرت سراعًا في هذه الحياة الدنيا، فكانت سِيَرُها فصولًا مبدعة في سجل تاريخ الشرق الخطير الشأن.
وإليك ما ورد على النفس من الذكرى لحياة ملكة عظيمة من ملكات الأعصر الماضية، هي «أهمس-نوفريتاري»، التي رفعتْ لنفسها في حياتها ذكرًا، ومكنتْ لها في مصر سلطانًا كبيرًا، وبعد مماتها عزَّ على رعيتها أنْ تنقطع بينهم وبينها كل أسباب الاتصال فجعلوها من الآلهة. وكذلك صار للملكة «أهمس» شعائر دينية معترف بها رسميًّا، كشعائر آلهة طيبة الثلاثة، وأصبحت مثل «آمون» و«مت» و«كونسو»، لها فلك مقدس، ولها ما للأرباب من مظاهر التمجيد.
إنَّ أكمة دير المدينة الآخذة إلى وادي النسر هي أقدس مكان في القرافة، وهي معدة لعبادة الملكة «أهمس-نوفريتاري» المعتبرة من آلهة طيبة.
هي ابنة الملكة «أﻫ-هوتب» والأمير «سكنن-را الثالث»، وقد تزوجت أخاها «أهمس»، وشاركته في الحكم مدة ربع جيل. وتاريخ هذا العهد مسطور على النُّصب التي وُجِدت في المعصرة، وعندما مات «أهمس» صعد على عرش الملك ابنه الصغير «أمنهوتب الأول»، على أنَّ «نوفريتاري» ظلت تدير الشئون العامة.
ولقد كانت ملكة عظيمة نبيلة، ولم يكن لها همٌّ إلا توطيد السكينة في مملكتها، وكانت بفطرتها ذات عزم وقوة حياة لا منتهى لهما، ووهبت نفسها خالصة لأعباء الملك، غير مشغولة إلَّا بالقيام على مصالح دولتها.
كانت البلاد ظمأى إلى الأمنة والثقة، من بعد الأزمنة المضطربة التي خاضت عبابها، وبخاصة بعد الحروب العاتية مع «الهيكسوس»، فمهدت لها «أهمس-نوفريتاري» بنشاطها الدائم اليقظ عهد إقبال وعِظم شأن.
ولقد نهضت مدة أخذها بأزِمَّة الحكم بالأمر الذي كان هَمَّ نفسها، وهو أنْ تكون لأمتها هاديًا ثقة رشيدًا.
وهكذا عاشت «أهمس-نوفريتاري» حياة جد مفعمة، وتركت بمصر طابعًا بعيد الغور.
ويظهر أنها برغم ما أنجزت من العمل الخطير الشأن لم تكن حياتها طويلة المدى، فقد تبيَّن من سبر جثمانها الذي وُجِد مصانًا بالدير البحري، أنها كانت عند مماتها عوانًا بين الصبا والهِرم.
بيد أنها بعد أنْ أتمت مُلكها في الأرض، ظلت وهي في عالَم الغيب ذات سيطرة حميدة الأثر، وأصبح مَن كان يتوجه بحاجته نحوها في حياتها يتوسل إليها بالدعاء. ومنذ ذلك العهد وجدت مصر عن فقدها الأليم عزاء، باعتقادها أنها وجدت إلهًا جديدًا، وصارت مؤسسة بيوت الملك التي كانت فخر القطرين، معتبرة في تلك الأماكن التي أحبتها من قبل، وساست أمورها آلهة تُقصَد بالدعاء، وأمست «أهمس-نوفريتاري» مثل «آمون» و«مت» و«كونسو» صورة تولي الوجوهُ شطرَها بالصلاة، ولها رمز يشبه رمز الإلهة «هاتور».
وأحيانًا تُصوَّر أمام البقرة المقدسة؛ مثال القبة السماوية التي تلد الشمس كل صباح.
لا تنسى مصر ملوكها المحبوبين، ولا تفتأ تشدو بذكر مفاخرهم، وما هو إلا أنْ ننعم النظر؛ لنرى أنَّ الذين أخلصوا في محبتها لم تألُهم على وجه الدهر قيامًا بحق الجميل، وأنَّ «أهمس-نوفريتاري» ملكة مصر وإلهة طيبة لتعيش دائمًا محاطة بهالة كرامة، بين تلك الآثار التي ذهبتُ إليها مستخبرة أَجْمَعُ ما تفرق من تاريخ الملكة الغريب، وقد وجدتُ في كل مكان بقايا لائحة مسفرة من شعائرها الدينية، التي هي نسيج وحدها.
ما بين «أبيدوس» إلى «إدفو» هي حية بآثارها، وصورتها معبودة بنشاط لا يدركه فتور.
«أهمس-نوفريتاري» جالسة على عرش من نضار، و«رمسيس الثاني» مقبل يسوق إليها الهَدي، كما يسوقه إلى سائر آلهة «طيبة»، ثم شهدتها في «دراع أبي النجا» في ضريح «آمون مزو» البالغ في لطف الصنعة ومهارة التفنن.
تمثال الملكة مرتدية حُلَّة بيضاء بهيجة يسير في الزورق الكبير، متنقلًا فوق البحيرة المقدسة، ويتوارد الذين ألَّهوا الأميرة؛ ليطلقوا حوله البخور، ويقيموا عنده الصلوات.
وقد ذهبت إلى قبر «كا-سا» الذي كان أحد المريدين بالوادي المقدس، وادي دير المدينة؛ لأملأ ناظريَّ من محاسنها، مصورة بلون أزرق كامل الشبه بلون السماء الصافية في جُنح الليل، تلبس البياض كعهدها دائمًا، وعلى رأسها ريشة الذهب الكبرى، وفي عنقها القلادة المتلألئة الثقيلة في الوزن، على حين يسعى «كا-سا» بين يدي عرشها، مشيرًا بعلائم الإجلال.
في كل ناحية من نواحي مدينة طيبة، وبخاصة في دير المدينة، يلقاك رسمها؛ ذلك بأن هذا المكان من جانب هضبة المكاشفة هو الذي قام به من قبل أنْ يوجد معبد البطالسة بناء مخصص لعبادة ذات ثلاث شُعَب: للبقرة المقدسة حمى الأموات، ولمظهر تجليها في الأرض الملكة «أهمس»، ولابنها «أمنهوتب الأول».
أولئك الحماة الأعزة لأموات طيبة، كانت لهم الزعامة في المواسم الكبرى لشعائر المآتم.
وفيما حوالي عهد الأسرة التاسعة عشرة، نشأت فرقة المكاشفين الشهيرة.
وتحتوي مقابرهم ذات الصور الرمزية على المعارف الصوفية، التي كان يتضمنها علم اللاهوت في مدينة طيبة.
ولقد شهدت على الجدران في قبر السمكة سلسلة من التصاوير الغريبة، يستخرج منها الرائي ما يبعث العجب، من أفهامهم في تاريخ العالم، وتاريخ القوى الفلكية، ونور البعث والنشور، وفي مناشئ الحركة ومادة الحياة.
هذه التصاوير الأنيقة الصنع، المطيفة بالجدران رمزًا لنظريات مستفيضة، متوجهة تهدي التحايا إلى «أمنهوتب» وإلى الملكة الإلهة.
لما كانت مصر تدافع المغيرين، كان سادة مدينة طيبة يجمعون على العدو كل ما في صعيد مصر من القوى، وكان استتب لهم أمر المُلْك في المدينة منذ زمن، وسلالتهم هي ما نسميه اليوم الأسرة السابعة عشرة، وقد وصلوا وشائج نسب وصهر بنساء البيت الملكي في إقليم الإله «توت»، ووَلدت إحداهنَّ «أهمس-نوفريتاري» ذلك الوليد الذي تجلت فيه من بعدُ آيات الفراعنة، وأخذ بناصية القطرين غير مدافع، وما كان «ابن أهمس» من محض عنصر بشري، ذاك الذي كان أول مَن سُمِّي بالاسم المجيد «أمنهوتب»؛ أي: «من هو متحد بآمون».
ألم إله طيبة الأكبر ذات ليلة بمقصورة الملكة، فكان من هذه الزورة التي جاءَت على غير انتظار، وليد عُرِف به أهل مدينة طيبة أنَّ الإله الجليل رب الإقليم لم يزل يرعى مستقبل الأمة، ولم يرضَ أنْ يُسلِم للزوال خلفاء «هوروس».
من قبل ذلك بعدة أجيال، جاء سادة «أرمنت» من وكرهم — وكر نسر الجبلين — فهبطوا مدينة طيبة، وأسسوا بها الأسرة الحادية عشرة، وأعادوا لمصر وحدتها بعد انفصامها، وأسعد الجد المواتي طيبة، وهي يومئذٍ داخلة إلى حظيرة التاريخ بأن جلس على عرشها أبناء إله.
وقد ذهبت لرؤية صورة فوق جدار في مدينة طيبة، لها صلة بهذا الموضوع، مصونة على وجه يستحق الإعجاب، وهي تمثل الملكة الجليلة «نوفيريس»، التي يدلُّ اسمها على معنى — طلعتها مجمع الجمال — مستندة إلى الجبل المقدس، ذات محيا مسودٍّ كمحيا «هاتور» و«أهمس».
ويريد المصور بهذا الرسم الرمز إلى الأسطورة اللطيفة، التي تتضمن أنَّ «آمون» نزل من السماء ليتصل بالملكة، وينشئ معها الأسرة الأولى لمدينة طيبة. والواقع — فيما يظهر — أنه كان كلما بدا في عرش مصر تَزَلْزُلٌ، هبطت الآلهة من أفقها لتسعف أمتها المحبوبة.
وقد جرى نحو هذا في زمن قديم جدًّا، إذ كان مقدورًا لمصر بعدما عرفت عهد نضارة أنْ تجتاز دور ذبولٍ خضوعًا لناموس محتوم، لم يُكشَف لنا سره، تجري على أنغامه حركات الحياة.
لم يكن متأخرو ملوك الأسرة الرابعة يعدلون في قوةِ ولا جلالِ أسلافهم الألى شادوا عجائب الجيزة الثلاث، وقد وضع كهنة «هليوبوليس» السيطرة في أيديهم شيئًا فشيئًا، كما تم لهم ذلك في طيبة بعد هذا العهد بخمس عشرة أسرة، وتجهزوا للصعود على عرش مصر، فأنشأوا الأسرة الخامسة، تحمل راية النصر المبين لعبادة الكوكب العظيم «را».
أولئك الكهنة هم أول من تجاسر على إدخال اللقب الباهر «سا-سا»؛ أي ابن الشمس، في ألقاب الفراعنة.
لما تخاذلت قوى الملِك «كيوبس» من الكِبَر، أهمه مصير ذريته من بعده، فخبَّره ساحر عليم، بقولٍ ذي ألغاز، أنَّ ثلاثة من عقبهِ يلون الملك، ثم لا يضع أحد من سلالته تاجًا، ورووا — كما هو الشأن في كل الأساطير — أنَّ «كيوبس» حاط أمره بكل تدبير فلم ينفعهُ، ومن ذا الذي ينجو من القدر؟!
في ذلك الوقت هبط إلى الأرض «را» شمس مصر وشمس هذا العالم، وتفشى العنصر الجسمي لبنت الكاهن الأكبر، فنشأ من آثاره أولاد ثلاثة، هم الذين صاروا الملوك الأُول لأسرة «هليوبوليس الجديدة».
ولإتمام جميع أبحاثي الخاصة بملك «أهمس-نوفريتاري» في الأرض، وملكها في السماء، ختمتُ سلسلة الدرس بزورة للمكان الذي تقوم عليه أطلال هيكلها، فإن «أهمس-نوفريتاري» شادت لنفسها معبدًا، كدأب كل ملكات العصور الكبرى في تاريخ الشرق.
هو واقع على شفير السهل، الذي شهد ما شهد من العظمة، إلى جانب مزرعة من مزارع الفول ما بين «قرنة» و«رمسيوم».
وثم مجتمع عظيم من شجر الميموزا المزهر، يرسل ظلًّا لطيفًا فوق الشظايا المتناثرة من العُمُد المهشمة، ويجعل حول ما تركت الأيام من جداره الذي عفاهُ البِلى وفرَّق لبناته بشاشة تسخر بالدهر، أما البحيرة المقدسة فلم يبقَ لها من أثر!
يا ليت شعري! ما الذي كان عليه هذا المعبد فيما مضى من أزمان بهجته؟! أيام كانوا في الحفلات الرسمية الكبرى يخرجون التمثال العظيم؛ تمثال الملكة في زورقها، محفوفًا بالمواكب.
لكي تتمثل في ذهني صورة صحيحة كاملة لما كانت عليه معابد ذلك العهد الزاهر في مصر، ولأستبين ما كان يُقام يومئذٍ من احتفالات ومواكب، صعدتُ إلى صومعة الموتى الصعبة المرتقى عند شيخ عبد القرنة، وهنالك راقني منظر صورة قديمة فوق جدار، تمثل هيكلًا كاملًا.
فج بهيج المنظر، تكتنفه الأشجار مقلمة على سواء، يقوم في منتهاه تمثالان ضخمان عن يمين المدخل ويساره، بإزاء وجه البرجين الشامخين، ثم يبدو الصرح مهيبًا بروعته، تزينه سوار سامقة، تحمل أعلامًا محمرة أو زرقاء ضاربة إلى السواد، على حين يسير موكب يضم كبار السادنات، فكبار الموسيقيات معهن تسعة معازف مختلفة، بيد كل واحدة منهن معزفها تتناوله على وضع لطيف، ولثيابهن ثياب الزينة تماوج منسجم في نسمات الصباح.
وأنَّ هذه الصورة التي لا يذهب من النفْس أثرها، الممثلة للرونق الفاخر والجلال التليد، لتجعل للماضي علينا حق الثناء والإعجاب.
وإذا كانت أجيال هدم وتخريب قد أنحت بتدبير مرتب على آثار تلك المدينة التي تضيء العالم، والتي كانت مصر مهدًا لها؛ فإن مدينة طيبة عرفت — وذلك من جدها المقبل — كيف تصون الركاز المقدس لملوكها الذاهبين؛ فخارًا لها ومجدًا.
هي حفظت بأحسن من «أبيدوس» و«منفيس» في أعماق جبلها الوردي اللون المنقطع النظير أسرارًا لتاريخ آلهتها وملوكها، كما تُصان القنية الغالية، وهي تسلم إلى من يحترمها ويحبها مفتاح البرزخ المرموس، فيهِ غيب أولئك الآخذين بقسط من البشرية وقسط من الألوهية، الذين تجاسروا على تحدي العدم. ها هنا بينهم، في جوهم ذي الأسرار، استطعت أنْ أفهم المعنى الخفي للابتسام الذي لا يفارق شفاههم، وأنْ أملأ روحي من ذلك الكمال الغريب، الذي تفيض بهِ كل فكرة من أفكارهم.
وبينما كنت في ذلك المساء الهادئ من أيام شهر مايو، أتأمل في الجبل المقدس الشبيه بلون الورد الذي تختلط فيه عظائم الخيالات بحقائق عظمى، لمحت ذلك الجبل سابحًا في ضياء «را» الكبير، وخُيِّل إليَّ أنَّ مدينة طيبة لم تكن قط باهرة كما كانت في تلك الساعة.
يختلط الفاغم من أريج ورد الحديقة برائحة الياسمين المزدوج التي تدور لشدتها الرأس، وتذبل أزهار القرنفل البهيجة المدبَّجة بأنواع الألوان، بين أنامل الأشعة التي ترسلها آلهة طيبة عند مغيبها، وتنوء أغصان اللبلاب وعَبَّاد الشمس والأبيكسوس، تحت حمل عجب من أزهارها اليانعة. وبينما كانت تتم أبهة ذلك المساء الربيعي الشعلة اللامعة من شجرتي البونسيانا الكبيرتين، كانت القنابر والقماري تؤلف من تغريدها بأهازيج المرح، ومن سجع الطيور المهاجرة الزمردية اللون، تهليل أريحية وفخار.