مقدمة (١)
لا مشاحة في أن تاريخ الإسلام من أهم التواريخ العامة، لأنه يتضمن تاريخ العالم المتمدن في العصور الوسطى، أو هو حلقة موصلة بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث، فيه انتهى التمدن القديم، ومنه أشرق التمدن الحديث، وقد علقنا بدرس هذا التاريخ منذ أعوام، وكنا نغتنم ساعات الفراغ من إنشاء «الهلال» ونعلق ما يبدو لنا من حقائقه على أمل التفرغ لتأليف تاريخ مطول فيه، وقد أعلنا عزمنا على ذلك غير مرة، ولا نزال على هذا العزم بعون الله.
ونظرًا لما نعتقده من افتقار قراء العربية على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم إلى نشر هذا التاريخ فيما بينهم — لأنه تاريخ لسانهم وأمتهم وبلادهم، بل هو تاريخ تمدنهم وآدابهم وعاداتهم — وما فتئنا نختلس الفرص لنشر ما يسهل تناوله وتدعو الحاجة إليه في حينه مما يتعلق بهذا التاريخ، وأخذنا نهيئ أذهان القراء على اختلاف طبقاتهم وتفاوت معارفهم ومداركهم، لمطالعة هذا التاريخ بما ننشره من الروايات التاريخية الإسلامية تباعًا في «الهلال»، لأن مطالعة التاريخ الصرف تثقل على جمهور القراء وخصوصًا في بلادنا، والعلم لا يزال عندنا في دور الطفولة، فلا بد لنا من الاحتيال في نشر العلم بيننا بما يرغب الناس في القراءة، والروايات أفضل وسيلة لهذه الغاية.
وتاريخ الأمة الحقيقي إنما هو تاريخ تمدنها وحضارتها، لا تاريخ حروبها وفتوحها، وخصوصًا على ما تعوده مؤرخو العرب في تاريخ الإسلام، فإنهم يسردون الوقائع على علاتها، وقلما يشيرون إلى الأسباب التي تربط تلك الوقائع بعضها ببعض بحيث يرتاح العقل إلى تعليلها والنظر فيها وترسخ في ذهنه حقيقة تلك الأمة، على أننا نظنهم معذورين في ذلك باعتبار ما كانت تدعوهم إليه الحال من تجنب الخوض في أسباب تلك الوقائع، وأكثرها لا ينجو الباحث فيه من الانتصار لأحد الجانبين وهم يتجنبون ذلك، ولعل لهم عذرًا آخر.
أما الآن فليس هناك ما يمنعنا من الخوض في هذا العباب، وقد حاول غير واحد من المستشرقين — من الإفرنج وغيرهم — استطلاع كنه ذلك التمدن، فلم يجدوا في كتب القوم ما يشفي غليلًا، لتشتت تلك الحقائق وتبعثرها، ولذلك لما نشرنا في العام الماضي عن عزمنا على تأليف هذا الكتاب، كتب إلينا جماعة من هؤلاء الأفاضل يستغربون إقدامنا على ركوب هذا المركب الخشن.
والحق يقال إننا أعلنا هذا العزم ونحن لا نتوقع العثور على ما يزيد على صفحات تتمة السنة العاشرة من مجلة «الهلال» (١٦٠ صفحة) فشمرنا عن ساعد الجد وبذلنا جهد المستطاع في مطالعة ما كتبه العرب في الأدب والتاريخ والسياسة وسائر العلوم فيما وفقنا إليه من الكتب المطبوعة والمخطوطة …
ومن أمثلة ما قرأناه من كتب التاريخ والفتوح والتقاويم مؤلفات البَلاذُري والمسعودي وابن الأثير وابن خَلِّكَان وأبي الفدا وابن خلدون وابن طاطبا والسيوطي والمقري من المؤرخين، وابن خرداذبة والأصطخري وياقوت الحموي من الجغرافيين، ومن كتب الأدب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والكشكول، والمستطرف، للإبشيهي، وسراج الملوك للطرطوشي، وغيرها، ومن كتب التفسير والحديث والفقه تفسير الرازي والزمخشري وصحيح البخاري ومشكاة المصابيح والهداية وغيرها.
ومن كتب السياسة والإدارة كتاب الخراج لأبي يوسف، وكتاب الخراج وصنعة الكتابة لقدامة بن جعفر، والأحكام السلطانية للماوردي والعقد الفريد للملك السعيد، ومقدمة ابن خلدون، وغير ذلك من الكتب في موضوعات أخرى لا يخطر للمطالع أنها تفيد في هذا الموضوع، وقد عثرنا فيها على فوائدَ جمةٍ، مثل حياة الحيوان للدميري، وعجائب المخلوقات للقزويني، وغيرهما، فضلًا عن المعاجم والفهارس مثل كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، وكتاب كشف الظنون لحاجي خليفة، وكليات أبي البقاء، وغيرها، وكل ذلك في اللغة العربية …
وقد زاد عدد ما طالعناه من الكتب العربية والإفرنجية على مائتي مجلد … عدا ما راجعناه من القواميس العامة والموسوعات على اختلاف اللغات والموضوعات، مع ما رسخ في ذهننا من مطالعة تاريخ المشرق بتوالي الأعوام، فوفقنا بعد كل ما تقدم إلى ما يملأ أضعاف الكتاب المطلوب من الأبحاث الفلسفية في تاريخ ذلك التمدن العجيب، من الوجوه السياسية والإدارية والعلمية والأدبية والأخلاقية، فلم نَرَ بدًّا من تقسيم الموضوع إلى أجزاء نصدر الجزء الأول منها الآن، ثم نصدر ما يليه من الأجزاء تتمة للسنين التالية من الهلال إن شاء الله.
فالجزء الأول، وهو هذا، أساس ما يليه من الأجزاء، وقد صدرناه بمقدمات تمهيدية في العرب والتمدن وحال العرب قبل الإسلام إلى نهضتهم الأخيرة قبيله، والحكومة في الجاهلية وتاريخ الكعبة وقريش إلى ظهور الدعوة الإسلامية وكيفية ظهور هذه الدعوة، وانتشار الإسلام والفتوح الإسلامية إلى قيام الدولة الأموية فالعباسية فالأموية الأندلسية فالفاطمية فغيرها، وقد نظرنا في كل ذلك نظرَ الناقدِ، فلم نذكر حادثة إلا أسندناها إلى عللها وأسبابها وبينا ما نتج عنها وذكرنا علاقتها بما بعدها … وخصوصًا فيما ساعد العرب على فتح المملكتين الفارسية والرومية (البيزنطية) مع قلة عددهم وضعف معدّاتهم، وهو بحث فلسفي لم يستوفه أحد في لغة من اللغات على ما تعلم — إلا ما قد تراه في كتب الباحثين من الإفرنج وأكثره مختصر لا يروي غليلًا — ولا يعابون في ذلك والموضوع بعيد عنهم ولا علاقة له بأحوالهم ولا بأديانهم ولا بآدابهم ولا بتاريخهم إلا قليلًا — وإنما اللوم علينا نحن أبناء هذا اللسان — وقد سبقنا الإفرنج إلى البحث في تاريخ بلادنا وأمتنا وآدابنا وأخلاقنا.
وعمدنا بعد تلك المقدمات إلى النظر في المملكة الإسلامية في إبان عزها وفي إحصائها، ثم في الدولة الإسلامية وإدارتها وكيف نشأت وتشعبت إلى الوظائف المتعددة كالخلافة وما يتبعها والوزارة وولاية الأعمال وبيت المال والجند وسائر الدواوين، ثم ذكرنا تاريخ كل هذه الإدارات والوظائف وما تفزع منها أو ألحق بها، وقد عانينا المشاق الكبرى في استخراج حقائق تلك التواريخ من كتب القوم، فربما قرأنا المجلد الضخم فلا نستفيد إلا فقرة أو فقرتين، وقد لا تتم الحقيقة الواحة إلا بمطالعة المجلدين أو الثلاثة.
ومن أمثلة ما اتفق لنا من هذا القبيل أننا بعدما كتبنا تاريخ ولاية الأعمال وتاريخ القضاء في الدولة الإسلامية، عمدنا إلى البحث عن رواتب العمال ورواتب القضاة في زمن الخلفاء الراشدين، فوجدنا في فتوح البلدان للبلاذري أن عمر بن الخطاب «بعث عمار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة وجيوشهم، وعبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض، إلخ» لكنه لم يذكر مقدار عطاء أحد منهم، ثم وجدنا في كتاب سراج الملوك للطرطوشي في باب سيرة السلطان في الإنفاق من بيت المال وسيرة العمال قوله «ولم يقدر عمر الأرزاق إلا في ولاية عمار فأجرى على عمار ستمائة درهم مع عطائه لولاته وكتابه ومؤذنيه، وعبد الله بن مسعود مائة درهم كل شهر، إلخ» ولم يذكر منصب عمار ولا منصب ابن مسعود، ولكننا جمعنا بين الروايتين فاستنتجنا منهما أن راتب من يتولى الجيوش والصلاة في عمل من الأعمال، كان على عهد عمر بن الخطاب ستمائة درهم، وراتب القاضي مائة درهم في الشهر، وعلمنا من قرائنَ أخرى أن الذي يتولى الصلاة والجيوش في أيام عمر هو العامل، ومن قرائن أخرى أن عمارًا كان عاملًا لعمر على الكوفة، فتحققنا من مجموع ما تقدم أن راتب العامل كان على عهد عمر ستمائة درهم وراتب القاضي مائة درهم — وقس على ذلك.
وسنبحث في الجزء الثاني عن ثروة المملكة الإسلامية وغنى أهلها وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء في مجالسهم وألعابهم واهتمامهم بالعلم والعملاء والشعر والشعراء والدخول عليهم وجلوسهم للناس وقصورهم وبذخهم وركوبهم وضيافتهم وكرمهم والأبنية الإسلامية والمدن الإسلامية إلخ …
والجزء الثالث يبحث في العلوم والآداب والشعر والصناعة وحالها في الشام والعراق قبل الإسلام، وكيف ارتقى إليها المسلمون وتاريخ ذلك الارتقاء ومقداره.
فترى مما تقدم أن الموضوع شاق ووعر، فضلًا عن حداثته في عالم التأليف مع قصورنا في هذا الشأن، وفي ذلك تمهيد للعذر على ما قد يشوب هذا الكتاب من النقص، ونتقدم إلى أهل الفضل أن يؤازرونا بملاحظاتهم وآرائهم للانتفاع بها فيما سيصدر من الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى.