مقدمات تمهيدية
البحث في تمدن الأمة يتناول النظر فيما بلغت إليه من سعة الملك والعظمة والثروة ووصف ما رافق تمدنها من أسباب الحضارة وثمارها، ويدخل في ذلك تاريخ العلم والأدب والصناعة ولوازمها، كالمدارس والمكاتب والجمعيات، وبسط حال الدولة ومناصبها وما انتهت إليه من الرخاء، وما هو مقدار تأثير ذلك في هيئتها الاجتماعية، وذلك يستلزم وصف عادات الأمة وآدابها الاجتماعية ومناحيها السياسية وإسناد ذلك إلى أسبابه وبواعثه.
غير أن النظر في هذا التمدن على هذه الصورة، لا يكون واضحًا وافيًا إلا إذا تقدمه البحث عن حال تلك الأمة في بداوتها، وكيف تدرجت إلى الحضارة وما هي العوامل التي ساعدتها على ذلك، والبحث المشار إليه ضروري خصوصًا في تاريخ التمدن الإسلامي، لأن فيه عواملَ خاصةً به لا وجود لها في تمدن الأمم الأخرى.
وبناء على ذلك لم نَرَ بدًّا من تصدير هذا الكتاب بمقدمات تمهيدية، نبسط فيها حال العرب قبل الإسلام ونسبتهم إلى التمدن وما تقدم الدعوة الإسلامية من أحوال تلك الأمة … وكيف كانت جزيرة العرب عند ظهور الدعوة، وكيف كانت حال الروم والفرس يومئذ … وما الذي ساعد هؤلاء العرب على فتح تينك المملكتين مع قلة عددهم وضعف معداتهم … وكيف نشأت الدولة الإسلامية وارتقت من حالها الدينية في أيام الراشدين إلى حالها السياسية في أيام الأمويين فالعباسيين فالفاطميين فغيرهم.
فإذا فرغنا من ذلك، عمدنا إلى الكلام في سعة المملكة وتاريخ إداراتها ومناصبها وغير ذلك.
فنبدأ بوصف حال العرب قبل الإسلام.
(١) العرب والتمدن
زعم بعض الكتاب من الإفرنج أن العرب لا فضل لهم في تمدنهم الإسلامي، لأنهم أنشأوه على أنقاض التمدنين البيزنطي والفارسي، فالتمدن الإسلامي عندهم عبارة عن مزيج من ذينك التمدنين، مع بعض التعديل، وأن العرب من فطرتهم بعيدون عن الحضارة، لأنهم لم ينشؤوا تمدنًا من عند أنفسهم في عصر من العصور الجاهلية ولا الإسلامية، وعندنا أن العرب أكثر الأمم استعدادًا للحضارة وسياسة الملك، لا يقلون في ذلك عن سواهم من الأمم التي تمدنت قديمًا أو حديثًا وإليك البيان.
(١-١) قدماء العرب
المشهور عند المؤرخين أن العرب يُقسمون إلى قسمين كبيرين العرب البائدة كعادٍ وثمودَ، والعرب الباقية، وأن العرب الباقية يقسمون إلى القحطانية سكان بلاد اليمن وما جاورها، وهم ينتسبون إلى قحطان أو يقطان بن عامر وينتهي بأرفخشاد إلى سام، والإسماعيلية أو العدنانية وهم سكان الحجاز ونجد وما جاورهما من أواسط جزيرة العرب، وينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم الخليل من امرأته هاجر، ويسمون أيضًا مضرية ومعدية لمثل ذلك السبب.
ويلي الحمورابيين عرب اليمن وهم القحطانية، وقد تمدنوا قبل العرب الإسماعيلية، لأن بلادهم أقرب إلى الخصب والرخاء من بلاد هؤلاء، فنشأت منهم دول قديمة عاصرت الفراعنة وملوك بابل وأشور، وقد ظهروا بعد الحمورابيين بعدة قرون، ذكرنا منهم الدول المعينية والسبئية والحميرية، أصحاب مأرب وصنعاء وغيرهما.
أما العرب الإسماعيلية وهم أهل الحجاز ونجد فأكثرهم أهل البادية، وقد ظهر منهم دول قبل الميلاد وبعده، أشهرها دول القبائل صاحبة الوقائع التي جرت بينهم قبيل الإسلام والتي تعرف بأيام العرب.
ثم إن العرب ليس في أرومتهم ما يمنع استعدادهم للحضارة، لأنهم إخوان الأشوريين والكلدانيين والفينيقيين ولهم استعدادهم وأهليتهم … فالذين أقاموا منهم في بلاد مثل بلاد ما بين النهرين أدهشوا العالم بمدنيتهم، والمقيمون في جزيرة أكثر بقاعها جرداء لا أنهر فيها ولا جداول، وإنما يستقون من مياه المطر، قضوا قرونًا في البداوة … فلما أتيحت لهم الإقامة في البلاد الخصبة بعد الإسلام، لم يكن تمدنهم فيها يقصر عن تمدن أولئك.
فالتمدن الإسلامي ليس أول عهد العرب بالحضارة فقد كان المعينيون والسبئيون والحميريون واسطة عقد التجارة بين الشرق والغرب، لتوسط بلاد اليمن بين الممالك المتمدنة في ذلك الحين فكانت تجارات الهند تُحمل في البحر الهندي إلى بلاد اليمن وحضرموت، فيحملها أهل اليمن إلى الحبشة ومصر وفينيقية وبلاد الأدوميين والعمالقة وبلاد مدين وبلاد المغرب، وكذلك كان الإسماعيليون ينقلون التجارة من اليمن ومواني بحر العرب إلى بلاد الشام.
وساعد العرب على التوسع في وسائل التجارة — فضلًا عن توسط بلادهم — أنهم كانوا يتكلمون لغة قريبة من لغات أكثر الأمم المتمدنة في ذلك الحين، لأن اللغات السامية كانت يومئذ لا تزال متقاربة لفظًا ومعنى، فالعربي والكلداني والأشوري والعبراني والحبشي والفينيقي كانوا يتفاهمون بلا واسطة، لقرب عهد تلك اللغات بالتشعب بما يشبه حال اللغات العامية العربية المتشعبة من اللغة الفصحى الآن، فكان العربي من حمير أو مضر إذا جاء العراق لا يحتاج في مخاطبة الكلداني أو الأشوري إلى ترجمان، وكذلك إذا يمم فينيقية أو الحبشة فإنه يفهم لسان أهلهما كما يفهم الشامي لسان أهل مصر اليوم، ويؤيد ذلك ما جاء في التوراة عن إبراهيم الخليل فإنه نزح من بلاد الكلدان في نحو القرن العشرين قبل الميلاد واجتاز سوريا وفينيقية وبلاد العرب وخالط أهلها ولم يفتقر في مخاطبتهم إلى مترجم، وكذلك بنو إسرائيل في تيههم حوالي القرن الخامس عشر قبل الميلاد، فإنهم قضوا أربعين سنة في أعالي جزيرة العرب ولم يحتاجوا إلى مترجم بينهم وبين أهلها.
والمسافر في بلاد العرب اليوم يجد أكثرها رمالًا قاحلة، لكنه لو نقب تحت تلك الرمال في بعض المواضع، لوقف على آثار القصور وغيرها من بقايا المدنية، روى مؤرخو العرب البائدة عما خلفه العاديون من الأبنية الفخمة هناك ما نعده من الخرافات، لخروجه عن المألوف عندنا، مثل حديثهم عن مدينة إرم ذات العماد التي زعموا «أن شداد بن عاد بناها في الأحقاف في بقعة مساحتها عشرة فراسخ في عشرة، فجعل جدرانها من الجزء اليماني وغشاها بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وبنى داخل المدينة مائة ألف قصر على عمد من الزبرجد واليواقيت، طول كل عمود مائة ذراع، وأجرى في وسطها أنهارًا وعمل فيها جداول إلى تلك القصور، وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت، إلى غير ذلك مما يفوق طور الإمكان، لكنه يشف عن حقيقة مهما قيل في تحقيرها، فإنها تدل على أن بعض أبنية العرب البائدة كانت مرصعة في بعض جدرانها أو أساطينها بالحجارة الكريمة، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه البذخ والترف، ولا يكون ذلك إلا في إبان المدنية.
(١-٢) عرب اليمن
أما عرب اليمن القحطانية، فقد تمدنوا تمدنًا لا تزال آثاره مطمورة تحت الرمال في حضرموت ومهرة واليمن، وأشهر دولهم عند العرب حمير وسبأ وكهلان، وتاريخ هذه الدول أقرب عهدًا من عاد وثمود، وقد اكتشف البحاثون بعض آثارهم، وأكثر ما اكتشفوه أنقاض بعض الأبنية في صنعاء وعدن وحضرموت، فاستخرجوا منها ألواحًا مكتوبة بالقلم الحميري «المسند» أكثرها دعاء ديني أو نحوه، ولم يتمكنوا من التنقيب عن الدفائن المهمة في داخلية البلاد لمشقة الوصول إليها، ناهيك بما ذكره مؤرخو العرب عن أبهة تلك الدول وكانت قد انحلت قبل الإسلام، لكن أخبارها كانت إلى ذلك العهد لا تزال مألوفة وفيها ما يدل على تمدن قديم لا يقل عن تمدن الأشوريين والمصريين والفينيقيين، فقد أنشأوا المدن وعمروا القصور وغرسوا الحدائق ونحتوا التماثيل وحفروا المناجم ونظموا الجند وفتحوا البلاد ووسعوا التجارة وأتقنوا الزراعة، وقد ذكرهم هيردوتس الرحالة اليوناني في القرن الخامس قبل الميلاد فقال «إن في جنوبي بلاد العرب وحدها البخور والمر والقرفة والدار صيني واللاذن» وعدها من أغنى ممالك العالم في زمانه.
ومن آثار العرب في اليمن، ما لا يزال التاريخ يلهج بذكره ويعد من عجائب الأبنية، نعني بذلك السد المشهور بسد مأرب، بنوه نحو القرن الثاني قبل الميلاد كما بنى محمد علي «باشا» القناطر الخيرية في رأس الدلتا، وكما بنت الحكومة المصرية خزان أسوان.
سد مأرب
وسد مأرب هذا، عبارة عن حائط موصل بين جبلين يحجز الماء الذي يسيل بينهما، فيرتفع ويروي السفحين إلى أعلاهما، جعلوا فيه شعبًا وأقنية وساقوا إليه سبعين واديًا تصب مياهها فيه، فمثل هذا السد العظيم يحتاج إلى مهارة في الهندسة وهمة عالية، وهو أقدم خزان للماء ذكره التاريخ، وعرب اليمن أسبق الأمم إلى هذه الهندسة، وكان بناؤه متينًا صبر على صدمات الماء وتأثيرات الهواء بضعة قرون، ولما ضعفت الدولة عن تجديده وأحسوا بقرب تهدمه أخذوا في المهاجرة من جواره، في أواسط القرن الثاني للميلاد، وتفرقوا في البلاد، والمشهور عند العرب أن الغساسنة في الشام، والمناذرة في العراق، والأوس في المدينة، والأزد في منى وخزاعة بجوار مكة منهم «أي من عرب الجنوب»، ثم انفجر السد وطغت المياه فهاجر من بقي، وذلك ما يعبرون عنه بسيل العرم.
وذكر إسترابون الرحالة اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، أن مأرب كانت في زمانه مدينة عجيبة، سقوف أبنيتها مصفحة بالذهب والعاج والحجارة الكريمة، وفيها الآنية الثمينة المزخرفة مما يبهر العقول، وذلك يهون علينا سماع ما ذكره العرب عن إرم ذات العماد.
وفي اعتقادنا أنهم لو بحثوا في أنقاض مأرب وصنعاء وغيرهما من عواصم ملوك سبأ وحمير لعثروا على أحافيرَ ثمينةٍ تكشف للعالم عن تاريخ جديد كما كشفت آثار وادي النيل عن تاريخ الفراعنة، وكما كشفت آثار وادي الفرات عن أخبار ملوك أشور وبابل، ولا يتأتى ذلك إلا بإرسال البعثات العلمية للحفر والتنقيب.
(١-٣) الأنباط
ومن الأمم العربية التي تمدنت قديمًا العمالقة، وقد تفرعوا من الحمورابيين على ما نظن وهم مشهورون بشدة البطش، ومنهم الملوك والرعاة الذين فتحوا مصر وتولوها عدة قرون، غير مستعمرات العرب في مشارف الشام والعراق ومن مدنهم بصرى في حوران للغساسنة، والحيرة في العراق للمناذرة …
أيقال بعد ما تقدم أن العرب بعيدون بفطرتهم عن الحضارة؟
(١-٤) التمدنان اليوناني والفارسي
على أننا لا ننكر أن التمدن الإسلامي قام على أنقاض التمدنين اليوناني والفارسي، لكن شأن العرب في ذلك مثل شأن اليونان والرومان والفرس وسائر الدول العظمى … لأن اليونان اقتبسوا أكثر عوامل تمدنهم من المصريين وزادوا فيها ووسعوها على مقتضى مؤثرات الطبيعة، حتى صار تمدنًا معروفًا بهم، فأخذ عنهم الرومان وعدلوا فيه تعديلًا طفيفًا جدًّا، وكذلك الفرس فإن تمدنهم قام على أنقاض تمدن الأشوريين والبابليين والكلدانيين قبلهم وأخذوا أيضًا عن اليونان.
على أن تلك الأمم لم تستطع الظهور في عالم الحضارة إلا بعد أجيال متوالية، أما العرب فلم يمضِ على نشوء دولتهم قرن حتى ظهر تمدنهم وبانت ثمار عقولهم، وفي القرنين الثاني والثالث الهجري ملأوا الأرض علمًا وأدبًا ومدنية وحضارة.
وزد على ذلك أن الجرمان الذي نشأ منهم فيما بعد عدد من أعظم دول الأرض، قضوا أجيالًا متطاولة وهم يغيرون على الدولة الرومانية قبل الإسلام وبعده، وفتحوا كثيرًا من مدنها ودخل بعضهم رومية نفسها ولم يكن من ثمار فتوحهم في القرون الأولى غير النهب والقتل، واعتبر ذلك في غزوات الهون في القرن الخامس للميلاد، فإنهم اكتسحوا شمالي الدولة الرومانية وشرقيها، وفتحوا المجر ورومانيا وسائر شرق أوروبا، وأنشأوا هناك دولة عرفت بدولة الخاقانات حكمت مائتي سنة — كما فعل العرب باكتساح سوريا ومصر والعراق — لكن الهون لم ينشؤوا تمدنًا ولا خلفوا حضارة مع أنهم أقرب إلى مركز التمدن اليوناني من العرب. وغزا الصقالبة في القرن السادس للميلاد الدولة الرومانية الشرقية حتى طرقوا أبواب القسطنطينية ثم عادوا ولم يتمدنوا. ألا يدل ذلك على أن في العرب استعدادًا خاصًّا للحضارة؟
(٢) الحجاز في العصر الجاهلي
لجاهلية العرب عصران الجاهلية الأولى في عهود من ذكرنا من أمم العرب البائدة ومن خلفهم في اليمن وغيرها، والجاهلية الثانية نريد بها حالة جزيرة العرب ولا سيما الحجاز قبل الإسلام بعدة قرون، وللحجاز شأن خاص في ذلك، ففي الجاهلية الثانية تمدن العرب في جنوبي جزيرة العرب وفي شماليها وظل أهل الحجاز في أواسطها على بداوتهم، لجدب أرضها وجفاف تربتها مع بعدها عن الاحتكاك بالدول المتحضرة، لتوسطها في الصحراء ووعورة المسالك إليها، حتى امتنعت على الفاتحين العظام مثل رعمسيس الثاني في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبله، وإيليوس غالوس على عهد يوليوس قيصر في القرن الأول للميلاد، وامتنعت أيضًا على ملوك الفرس في إبان دولتهم فآل امتناعهم هذا إلى اطمئنانهم وسكونهم، والإنسان لا ينزع إلى الإصلاح إلا مضطرًّا، بخطر أو نحوه، ولكنه مفطور على الأثرة والمنافسة، فقامت المنازعات بين العرب أنفسهم وأصبحت مصادر الارتزاق فيها الغزو والنهب … فشغلهم ذلك عن الالتفات إلى المصادر الأخرى.
على أنهم كانوا على جاهليتهم أهل أنفة وذمام وكرم ووفاء، مما يدل على استعدادهم لمستقبل عظيم.
قضى أهل الحجاز في جاهليتهم الثانية قرونًا لا يعلم مقدارها إلا الله وهم في حال البداوة، إلا ما اقتبسوه ممن هاجر إليهم من جالية اليمن جيرانهم، أو من لجأ إلى بلادهم من اليهود، وخصوصًا في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده، فرارًا من اضطهاد حكامهم الرومانيين ولا سيما بعد خراب بيت المقدس، وربما هاجر إليهم أيضًا قوم من الأنباط وهم أهل تمدن كما تقدم، فجعلوا مكة والمدينة والطائف دار هجرتهم بعد استبداد الرومان بهم، أما اليهود فكانوا يقيمون في يثرب على الأكثر.
(٢-١) مكة
وكان لليهود تأثير عظيم على عرب الحجاز من حيث الآداب الدينية وطقوسها، فاقتبس العرب منهم أمورًا كثيرة كانوا يجهلونها، كالحج والذبائح والزواج والطلاق والكهانة والاحتفال بالأعياد ونحوها، وعلموهم بعض أقاصيص التوراة وفصولًا من التلمود، ونشروا بينهم كثيرًا من تقاليدهم وعاداتهم، وقد يكون بعض تلك الآداب أو الطقوس متسلسلًا إليهم مما كان عند أسلافهم في الجاهلية الأولى، فضلًا عمن هاجر إلى الحجاز من أهل اليمن وغيرهم من الأمم التي كانت تحيط بجزيرة العرب، كالكلدان والمصريين والأحباش وغيرهم، فأصبح أهل الحجاز بعد ذلك الاختلاط فئتين أهل البادية الباقين على الفطرة وهم العرب الرُّحَّلُ، وأهل المدن المقيمين في مكة والطائف والمدينة وهم الحضر.
وكانت مكة أشهر مدن الحجاز لاتخاذها محجًّا يؤمه الناس من أقاصي البلاد لزيارة الكعبة، فأصبحت بتوالي الأجيال مركزًا للتجارة لمن يتوافد إليها من الحجاج في المواسم كل عام، فطمحت إليها أنظار أهل السلطة من القبائل القوية، وكانت في أوائل أزمانها في حوزة الحجازيين بني إسماعيل وهم سدنة الكعبة أي حجابها، ثم نزح إليها بنو خزاعة من اليمن بعد سيل العرم نحو القرن الثاني للميلاد وتسلطوا عليها، وغلبوا الحجازيين عليها بما تعودوه من السيادة في عهد دولتهم باليمن، وكان الإسماعيليون (أو العدنانيون) يومئذ ضعافًا لا يقوون عليهم، ولكن ناموس الاجتماع قضى عليهم كما قضى على سواهم فدارت الدائرة بعد عدة أجيال على بني خزاعة وضعف أمرهم، وقوي أمر العدنانية، فتفرع منهم كنانة وتشعب من كنانة قريش.
قصي بن كلاب والكعبة
فشق ذلك على خزاعة، وحدثت بسببه حروب بينهم وبين قريش ثم تداعوا إلى الصلح والتحكيم، فحكموا بينهم رجلًا من قريش فقضى لقصي، وما زالت سدانة الكعبة في قريش حتى جاء الإسلام.
وكانت سدانة الكعبة تستلزم السيادة على مكة، فجمع قصي أهله من قريش في مكة، وحولها فملَّكوه عليهم، فقسم مكة أرباعًا بينهم، فبنوا المساكن وعمرت بهم وأصبح هو سيدهم في كل شيء، وخلفه بعده ابنه عبد مناف، وكان في جملة أولاد عبد مناف ولدان هاشم، وعبد شمس، فلما دنت وفاة عبد مناف أوصى بالسدانة لهما ثم انفرد بها هاشم، وكان لعبد شمس ابن اسمه أمية (جد بني أمية) حسد عمه على الرئاسة، فآل ذلك إلى المنافرة، فكره هاشم أن ينافر ابن أخيه فلم تتركه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشرين سنة، فرضي أمية وجعلا الكاهن الخزاعي حكمًا بينهما، فاستفتياه فقضى لهاشم بالغلبة فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها وغاب أمية عن مكة بالشام عشرين سنة على حسب الشرط، وكانت تلك أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية وتوارثها أعقابهما إلى أيام الإسلام، وتولى الكعبة بعد هاشم ابنة عبد المطلب جد النبي صاحب الشريعة الإسلامية.
(٣) حكومة العرب في الجاهلية
ونريد بالعرب خاصة عرب الحجاز وبالأخص قريش، لأن منها ظهر النبي محمد ﷺ.
والحكومة في الجاهلية متشابهة عند سائر أهل البادية، فإن المناصب التي تعد عند أهل العالم المتمدن بالعشرات، تجتمع عندهم في شخص شيخ القبيلة، فالشيخ هو الملك، والقاضي، وصاحب بيت المال، وقائد الجند وكل شيء، وكانوا يختارون لهذه الرياسة أقواهم عقلًا وأكثرهم دهاء وسياسة بلا تواطؤ أو تعمد، وإذا تساوى عدة منهم في القوة والدهاء اختاروا أكبرهم سنًّا وأوسعهم جاهًا، وإذا اجتمعت عدة قبائل في محالفة على حرب واحتاجوا إلى من يرأسهم جميعًا، اقترعوا بين أهل الرئاسة، فمن خرج سهمه رأسوه، كبيرًا كان أو صغيرًا.
ذلك كان شأن العرب الرحل أهل الغزو والسطو، أما الحضر وهم أهل مكة فقد كانت السيادة فيهم لسادن الكعبة، ولما أفضت السدانة إلى قريش، صارت السيادة لهم في كل شيء.
(٣-١) الكعبة والتجارة وقريش
كانت قريش كما قدمنا حضرًا أهل تجارة، وتجارتهم قائم أكثرها على الحجاج الذين يردون مكة في المراسم، فكان من مقتضيات مصلحتهم تسهيل طرق القدوم وترغيب الناس في الحج، وفي جملة ما بعث القبائل على زيارة الكعبة، أنه كان لكل قبيلة منها صنم خاص بها، تأتي في المواسم لزيارته والذبح له حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على ثلثمائة صنم وفيها الكبير والصغير، ومنها ما هو على هيئة الآدميين أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات.
سوق عكاظ
وكان على مقربة من الطائف سوق يجتمع إليها الناس في الأشهر الحرم، فينصبون خيامهم بين نخيله، يبيعون ويشترون ويتبادلون، وهي سوق عكاظ المشهورة، وكان للعرب أسواق أخرى في أماكن أخرى، ولكن هذه كان يجتمع فيها أهل البلد المجاور لها … وأما عكاظ فكان يتوافد إليها العرب من كل جهة، وزادت قريش في بواعث الاجتماع إليها بأنهم جعلوها مسرحًا للأدب والشعر، تتسابق فيه القبائل إلى إظهار نوابغها من الشعراء والخطباء، فيتناشدون ويتحاجون ويتفاخرون، ومن كان له أسير سعى في فدائه، وكان لعكاظ في أيام الموسم رجل يولونه الحكومة للفصل في ما قد يقع من الخلاف أو نحوه، وكان الغالب أن يكون ذلك الحاكم من بني تميم، ومتى فرغ الناس من سوق عكاظ، وقفوا في عرفة، ثم يأتون مكة فيقضون مناسك الحج ويرجعون إلى موطنهم.
وكان رجال قريش يرحلون للتجارة رحلتين في العام رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى بصرى في حوران بضواحي الشام، فكانت مكة وسط عقد التجارة، بين اليمن والشام، وكانت طرق التجارة خطرة، إلا عليهم، لحفظ العرب حرمتهم، لأنهم ولاة الكعبة، وكانوا كثيرًا ما يسافرون إلى بلاد فارس أو إلى الشام، فيأتون من الشام بالأنسجة والأطعمة، ويحملون من فارس السكر والشمع وغيرهما.
مناصب القرشيين
- (١) السدانة: وهي الحجابة وصاحبها يحجب الكعبة وبيده مفتاحها … يفتح بابها للناس ويقفله، ولها المقام الأول عندهم، ومثل هذا المنصب قديم عند اليهود فقد كان عندهم كاهن خاص لحراسة الهيكل يسمونه حافظ الباب، وقد جعل صاحب «العقد الفريد» السدانة والحجابة منصبين.
- (٢) السقاية: وصاحبها يتولى سقاء الحجاج لقلة الماء في مكة فينشئ حياضًا من الجلد، توضع في فناء الكعبة تنقل إليها المياه العذبة من الآبار على الإبل في المزاود والقرب، وما زال ذلك شأنهم حتى حفرت زمزم وكانت السقاية في بني هاشم.
- (٣) الرفادة: وهي خرج كانت تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى صاحب الرفادة فيصنع منه طعامًا يأكله الفقراء، وأول من أشار بالرفادة قصي المتقدم ذكره، وكانت الرفادة في بني نوفل ثم في بني هاشم.
- (٤) الراية: كانت لقريش راية تسمى «العقاب» فكانوا إذا أرادوا الحرب أخرجوها، فإذا اجتمع رأيهم على واحد سلموه إياها وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها وكانت الراية لبني عبد الدار.
- (٥) القيادة: وهي إمارة الركب، وصاحبها يسير أمام الركب في خروجهم للقتال أو التجارة، وكانت القيادة في بني أمية، وصاحبها منهم في أول الإسلام أبو سفيان والد معاوية.
- (٦) الأشناق: وهي الديات والمغرم وصاحبها إذا احتمل شيئًا فسأل فيه قريشًا صدقوه فيه، وكانت لتيِّم.
- (٧) القبة: هي قبة كانوا إذا خرجوا إلى حرب ضربوها وجمعوا فيها ما يجهزون الجيش به، أشبه بما يسمى عندنا بالمهمات الحربية.
- (٨) الأعنة: وهي أعنة الخيل وصاحب هذا المنصب يتولى خيل قريش ويدبر شؤونها في الحرب.
- (٩) الندوة: وهي دار بناها قصي بجانب الكعبة للشورى فيجتمع فيها كبار قريش للمشاورة، ولا يدخلها إلا من بلغ الأربعين من عمره، وكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا يعقد لواء الحرب إلا فيها ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك في بناتهم إذا بلغن الحلم، وكانت دار الندوة في أيدي بني عبد الدار.
- (١٠) المشورة: وصاحبها يستشار في الأمور الهامة، وكانت في بني أسد، فلم تكن قريش يجتمعون على أمر حتى يعرضوه عليهم.
- (١١) السفارة: هي أنهم كانوا إذا وقعت بينهم وبين غيرهم من القبائل حرب، وأرادوا المخابرة بشأن الصلح بعثوا سفيرًا، وإن نافرهم حي لمفاخرة جعلوا السفير منافرًا ورضوا به، وكان آخر سفراء قريش في الجاهلية عمر بن الخطاب قبل أن يسلم.
- (١٢) الأيسار: وهي الأزلام التي كانوا يستقسمون بها للاستخارة ونحوها إذا هموا بأمر عام من سفر أو قتال، فكانوا يستقسمون بالأزلام بما يشبه سحب القرعة عندنا، وكان يتولى ذلك رجل من بني جُمح.
- (١٣) الحكومة: وهي عندهم الفصل بين الناس إذا اختلفوا، وتشبه القضاء في الإسلام أو التحكيم.
- (١٤) الأموال المحجرة: وهي أموال كانوا يسمونها لآلهتهم، وفيها النقد والحلي وربما أشبهت بيت المال، وكانت ولايتها في بني سهم.
- (١٥) العمارة: ويراد بها أن لا يتكلم أحد في المسجد الحرام بهجر ولا رفث ولا يرفع فيه صوته.٥
فترى مما تقدم أن بعض هذه المناصب لا أهمية لها على الإطلاق، ولكن يظهر أنهم أكثروها ليرضوا كل بطون قريش، خوفًا من التحاسد وإجلالًا لقدر الكعبة والمبالغة في تعظيمها.
وترى أيضًا أنهم جمعوا بها بين السياسة والدين والإدارة والحرب، ولكنهم اقتسموها فيما بينهم بما يشبه الجمهورية، أو هو نوع من الحكومة لا ترى له شبيهًا بين الأمم المتمدنة، وربما أشبهت الحكومة الشورية من بعض الوجوه، إلا أن للشورى رئيسًا كالملك أو السلطان أو رئيس الجمهورية وليس في هذه شيء من ذلك إلا ما قد يكون لصاحب دار الندوة أو السدانة من الرياسة.
(٣-٢) النهضة العربية قبل الإسلام
إذا تدبرت تاريخ العرب قبل الإسلام على غموضه وإبهامه، تبين لك أمور تدعو إلى الاعتبار وإعمال الفكرة، منها أن العرب على اختلاف القبائل والبطون، قلما نبغ فيهم شاعر أو خطيب أو حكيم أو كاهن في عصورهم الجاهلية الثانية إلا بعد دخولهم في القرن الأول قبل الهجرة، ولا يعترض بضياع أخبار من ظهر منهم قبل ذلك التاريخ، فقد حفظوا أخبار عاد وثمود وصالح وهود قبل ذلك يقرون متطاولة، وذكروا بضعة شعراء ظهروا قبل القرن الأول المذكور، فلو نبغ غيرهم من الشعراء أو الخطباء لما ضاع ذكرهم ضياعًا تامًّا، وأما تاريخهم في جاهليتهم الأولى وهم في بابل أو اليمن، فلم يصلنا منه ما يشفي الغليل.
فتكاثر الشعراء والخطباء والحكماء في القرن الأول قبل الإسلام دفعة واحدة هو ما عبرنا عنه بالنهضة العربية أو الأدبية، على أنها لم تكن تقتصر على الأدب والشعر ولكنها شملت الدين أيضًا، فقد كان هناك نهضة دينية اضطربت فيها الأفكار واختلطت الاعتقادات، وأصبح أهل الجاهلية لا يعرفون لمن يصلون ولا إلى من يتوسلون، يذبح أحدهم للصنم ويدعو إلى الله، وفيهم عبدة الحجارة وعبدة النار وعبدة الأصنام، وفيهم الموحدون والمشركون وغير ذلك من أنواع العبادات المتضاربة، وقد ظهر في أثناء ذلك الاضطراب من حرَّم الخمر ورفض الأصنام، وأصبح الناس يتوقعون الفرج من باب النبوة، وكان ذلك حديث الناس في مجالسهم، فادعى النبوة غير واحد من قبائل مختلفة وهم بعضهم بادعائها مما يدل على تنبه الأذهان إلى أمر الدين والتفكير في عواقب الأعمال.
سبب تلك النهضة
بينا في ما تقدم استعداد العرب العدنانية للنهوض وأهليتهم للتمدن، لما فطروا عليه من صفاء الذهن وسرعة الخاطر، ولكنهم لم يكونوا يستخدمون تلك القوى لاشتغالهم بالغزو وقعودهم عن طلب العلا مع بُعدهم عن العالم المتمدن، والإنسان تظهر قواه بالاحتكاك أو الضغط شأن القوى الطبيعية، فالفرد لا يسعى في طلب العلا غالبًا إلا إذا عضه الفقر فأحوجه الرزق أو نافسه منافس في أمر يبعث إلى الاستئثارية.
أما الأمم فإنما يدعوها إلى طلب العلا الحروب الخارجية أو الثورات الداخلية، والأولى أكثر تأثيرًا لما يرافقها غالبًا من الاختلاط بالأمم الأخرى، وفي ذلك من الاحتكاك ما يدعو إلى الاقتباس والمنافسة، وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك.
غزو الحبشة
ومن هذا القبيل ما أصاب العرب في القرنين الأخيرين قبل الإسلام، كان عرب الحجاز قبل الإسلام يدينون بالطاعة لدولة حمير اليمنية، وكانوا يؤدون لها الإتاوة، ثم غزا الأحباش اليمن في القرن الرابع للميلاد وبعده، وتغلبوا على الحميريين فقلت هيبتهم في قلوب العدنانيين.
ثم غزا الأحباش الحجاز في أواسط القرن السادس للميلاد، يريدون فتح مكة والاستيلاء على الكعبة، وكانت سدانتها يومئذ إلى عبد المطلب جد النبي فجاء الأحباش بأفيالهم ورجالهم وعدتهم، وأهل مكة لم يتعودوا شيئًا من ذلك، لما للكعبة من المنزلة الرفيعة في نفوس القبائل وغيرهم، فلما رأوا الأحباش قادمين شعروا بما يهددهم من الخطر، وأحسوا بافتقارهم إلى الاتحاد لدفع الأجانب عنهم، فدفعوا الأحباش وقد تنبهت أذهانهم وأخذت مواهبهم في الظهور.
ومهما يكن من السبب فإن بلاد العرب كانت قبل الإسلام في نهضة أدبية دينية تمهيدًا لقبول الدعوة الإسلامية والقيام بنصرتها، ومثل هذه النهضة تتقدم الدعوات الدينية في الغالب، استعدادًا لقبولها.