مبايعة الخلفاء
(١) نوع المبايعة
لم تجر ولاية الخلافة على عهد الخلفاء الراشدين على نظام واحد، فقد كان المفروض أن تكون انتخابية، ولهذا لم يوصِ رسول الله ﷺ بمن يخلفه، بل ترك الأمر في ذلك للمسلمين، فاختاروا أبا بكر، ولم يشأ أبو بكر أن يدعَ الأمرَ للناس ليختاروا من يشاؤون، فأوصى لعمر بن الخطاب، وعندما حضرت عمر الوفاة لم يدعها شورى خالصة، ولا انتخابية خالصة، بل أوصى لستة نفر من كبار الصحابة ليجتمعوا ويختاروا الخليفة من بينهم، وسمى ابنه عبد الله في جملتهم ولكنه نهى عن انتخابه، فاختاروا عثمان بن عفان، فلما قتل دون أن يوصي اختار الناس عليًّا بلا شورى، فشق ذلك على كثيرين من كبار الصحابة، لأنهم كانوا وقت مقتل عثمان متفرقين في الأمصار لم يشهدوا بيعة علي، فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس، ثم كان ما كان من أمر الفتنة المشهورة.
فلما قُتل علي أرادت شيعته حصر الخلافة في نسله، باعتبار أنهم بضعة من النبي، فسألوه وهو على فراش الموت «أنبايع الحسن؟» فقال: «لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»، أما هم فبايعوا ابنه الحسن، وهذا تنازل عنها لمعاوية بن أبي سفيان، فصارت في بني أمية.
فطريقة الخلفاء الراشدين في انتخاب الخلفاء من أفضل ما بلغ إليه جهد المتمدنين حتى الآن، وهي جامعة بين الجمهورية والملكية والشورى، أما الجمهورية فلأن الخليفة كان ينتخب من جمهور القرشيين بلا حصر ولا تعيين، وهي شورية، لأن الانتخاب يكون بالشورى، وهي مطلقة، لأن الخليفة إذا قبض على أزمة الملك كان مطلق التصرف، فإذا أضفت إلى ذلك شروطها الأربعة التي ذكرناها كانت أفضل أنواع الحكومات على الإطلاق، لأن الحاكم المطلق إذا كان عادلًا مع علم وكفاية وسلامة الحواس لم يكن أقدر منه على النهوض بأعباء المملكة وتوسيع نطاقها والتوفيق بين رعاياه، هذا إلى جانب ما في طريقتهم هذه من أدلة التقوى والزهد في الدنيا، كما يتضح ذلك من مراجعة سير الخلفاء الراشدين.
فلما أفضى الأمر إلى بني أمية واختلطوا بالروم في الشام، واطلعوا على طرق الحكومات عندهم، وفي جملتها توالي الملك في الأعقاب، رأى معاوية أن يجعله كذلك في نسله، ولكنه تهيب، لعلمه بما فيه من مخالفة في سنة الراشدين، فاستشار بعض خاصته، فشجعه المغيرة بن شعبة.
وقد زاده إقدامًا ما خافه من افتراق الكلمة إذا ترك الأمر بعده فوضى فيتطلبه بنو هاشم، ولا يرضى بنو أمية تسليمه إلى سواهم، فيؤول ذلك إلى الفتنة بعد ذهاب دهشة النبوة، وتغلب طبيعة الملك ورجوع الناس إلى العصبية، فتجنبًا للفتنة بايع ابنه يزيدَ، وخوفًا من الافتنان عليه بعد موت معاوية طلب له البيعة في حياته، وتربص ليرى ما يبدو من الناس فلم ير شرًّا، وجرى على ذلك خلفاؤه بعده — إلا عمر بن عبد العزيز — فإنه أراد الرجوع إلى طريقة الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يوفق إلى ذلك، لتغلب العامة عليه، فلم تطل مدته، فعادوا إلى طريقة معاوية.
وأراد مثل ذلك أيضًا المأمون في الدولة العباسية، فعهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق من نسل الإمام علي وسماه «الرضا»، فعظم ذلك على بني العباس ونقضوا بيعة المأمون وبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي، ولو لم يبادر المأمون إلى ملافاة الأمر لخرجت الخلافة من يده، فعاد إلى الخلافة بالإرث، وجرى عليها العباسيون والفاطميون وغيرهم من خلفاء المسلمين.
(٢) البيعة
البيعة هي العهد على الطاعة، فإذا بايع الرجل أميرًا كأنه عاهده وسلم إليه النظر في أمر نفسه لا ينازعه في شيء من ذلك، وإنه يطيعه فيما كلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكان العرب إذا بايعوا أميرًا جعلوا أيديهم في يده، تأكيدًا للعهد بما يشبه فعل البائع والمشتري، فسمي «بيعة» مصدر «باع»، وصارت البيعة مصافحة الأيدي، وهو مدلولها بعرف اللغة أيضًا، وأقدم بيعة في الإسلام بيعة العقبة، ومنها أيمان البيعة التي كان الخلفاء يستحلفونها على العهد ويستوعبون الأيمان كلها.
وكانت العادة إذا همّوا بمبايعة خليفة بايعه أولًا كبار الدولة، ثم من يليهم من أصحاب المناصب، وفي الدولة العباسية كان أول من يبايع الخليفة الجند والقواد وقضاة بغداد، وكان كاتب الجيش هو الذي يتولى استحلافهم على الغالب، ويدعوهم بأسمائهم، ويقف الوزير أو من يقوم مقامه فيعمم الخليفة بيده ويلبسه البردة، ومتى تمت المبايعة يعرضون على الخليفة ألقابًا فيختار لقبًا منها، وهذه الألقاب حادثة في الإسلام، وكانت في أوائل الدولة العباسية بسيطة، كالأمين والمأمون والرشيد، فلما كانت أيام المعتصم أضاف اسم الجلالة إلى لقبه فسموه «المعتصم بالله»، وصارت تلك عادة في من خلفه من بني العباس.
فإذا بويع في داره جاؤوه بموكب الخلافة، وهي أفراس مسرجة ولكل دابة سائس بالألبسة الفاخرة، فيركب الخليفة وحوله الفرسان من كبار الدولة، ويمشي بين يديه رجل بالحربة، ويصف الجنود في الطريق صفين يسير الموكب بينهما إلى دار الخليفة، وهي دار العامة في بغداد، ثم ترد عليه وفود المهنئين من الأمصار على مقتضى الأحوال.
(٣) يمين البيعة
يختلف نص يمين البيعة باختلاف الدول والأحوال، وإن كان مرجعها واحدًا، فلما بايع الأنصارُ النبيَّ بالعقبة قالوا «يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصير إلى دارنا، فإذا وصلت فإنك في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا». وهناك نص آخر تمت به البيعة بالعقبة يعرف ببيعة النساء، وهي «بايعنا على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن خشيتم من ذلك شيئًا، فأمركم إلى الله — عز وجل — إن شاء عذب، وإن شاء غفر».
أبايعكم على كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ والطاعة للرضا من أهل بيت رسول الله ﷺ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه والطلاق والعتاق والمشي إلى بيت الله الحرام على أن لا تسألوا رزقًا ولا طعمًا حتى يبتدئكم به ولاتكم.
وقد اختلفوا في نص يمين البيعة وفي كيفية الاحتفال بالمبايعة باختلاف الدول، ولكن الجوهر واحد، وهو تبادل العهود بين الخليفة ورعيته بالسير على ما يقتضيه الكتاب والسنة ونحو ذلك، وكان شأنهم في المبايعة الاختصار كما تكون الدول في أبسط أحوالها، وكانت البيعة تتلى شفاهًا ثم صارت تكتب وتحفظ، وكانت كلمات قليلة فصارت سطورًا عديدة بما أدخلوه فيها من الحشو والإطناب، لما اقتضاه استغراق القوم في الترف من الميل إلى التفخيم والتبجيل والتطويل، شأن الدول في أيام بذخها.
(٤) بيعة ولي العهد
ذكرنا في كلامنا على الخلافة بعد أن صارت وراثية أن الخلفاء كانوا يبايعون لأولادهم بولاية العهد أو لغيرهم من ذوي قرابتهم، وكانوا يحتفلون بذلك مثل احتفالهم بمبايعة الخلفاء، وكثيرًا ما كانوا يعرضون عزمهم في ذلك على أهل الرأي، كما فعل المنصور لما أراد البيعة لابنه المهدي، وكان جعفر يعترض عليه في ذلك فأمر المنصور بإحضار الناس، وقامت الخطباء فتكلموا وقامت الشعراء فأكثرت في وصف المهدي فرجحت بذلك بيعة المهدي.
وكانوا إذا رأوا غير واحد من أولادهم أو إخوتهم أهلًا للخلافة بايعوا لأحدهم وشرطوا أن يخلفه فلان أو فلان، كما فعل يزيد بن عبد الملك لما أراد أن يبايع بولاية العهد، وكان ابنه لا يزال صغيرًا فبايع أخاه هشامًا على أن يخلفه ابنه الوليد بن يزيد، وكثيرًا ما كانوا يغيرون في شروط المبايعة بعد حين إذا رأوا لزومًا لذلك، وقد يبايع الخليفة بولاية العهد لأحد أولاده ويذكر من يخلفه ويخيره في استخلافه، كما فعل الرشيد لما كتب بولاية العهد لابنه المأمون ومن بعده للقاسم وجعل أمره للمأمون إن شاء أقره وإن شاء خلعه.
والعهد كتاب يكتبه الخليفة أو من يكتب له، ويختمه بخاتمه وخواتم أهل بيته، ويدفعه إلى ولي العهد أو من يتولى أمره فيحفظه إلى حين الحاجة، وقد يحفظه في مكان أمين في خزانة أو مسجد أو في الكعبة، كما فعل الرشيد بالكتابين اللذين كتبهما لأولاده بولاية العهد، أحدهما للأمين والآخر للمأمون وبعد هذا للقاسم.
ويدعى لولي العهد على المنابر بعد الدعاء للخليفة، فيقولون بعد الدعاء للخليفة «اللهم وبلغه الأمل في ولده فلان ولي عهده في المسلمين، اللهم والِ من والاه من العباد وعادِ من عاداه في الأقطار والبلاد، وانصر من نصره بالحق والسداد، واخذل من خذله بالغي والعناد، اللهم ثبت دولته وشعاره، وانبذ من نابذ الحق وأنصاره».