ولاية الأعمال
(١) الولايات قبل الإسلام
يراد بالولاية الإمارة على البلاد، فيولي السلطان أو الملك من يقوم مقامه في حكومة الولايات، وهي الأعمال في اصطلاحهم، وهذا النوع من الحكومة قديم، وكانت الشام لما فتحها المسلمون واحدة من ولايات الروم يسمونها ولاية الشرق، وتقسم إلى ١١ إقليمًا تحت كل إقليم عدة بلاد ولكل إقليم قصبة، وهاك أسماءها وأسماء قصباتها وعدد المدن التابعة لها:
أسماء الأقاليم | عدد بلادها | اسم قصبتها |
---|---|---|
(١) سوريا الأولى | ٩ | أنطاكية |
(٢) سوريا الثانية | ٧ | حماه |
(٣) سوريا الثالثة | ١٣ | منبج |
(٤) فينيقية الأولى أو البحرية | ١٢ | صور |
(٥) فينيقية الثانية | ١٣ | دمشق |
(٦) بلاد العرب حوران | ١٤ | بصرى |
(٧) الجزيرة أو بين النهرين | ١٣ | ديار بكر |
(٨) أسروانا | ١٢ | أورفا |
(٩) فلسطين الأولى | قيسارية | |
(١٠) فلسطين الثانية | ٦ | بيسان |
(١١) فلسطين الثالثة | بطرا |
فكان على كل إقليم من أقاليم الشام حاكم يقيم في قصبته ومعه الجند في القلاع، وكان على كل من هذه الأقاليم حاكم عام يقيم في أنطاكية، ولهذا الحاكم أن يولي ويعزل من يشاء من حكام الأقاليم، وهو يتولى جباية الخراج والإنفاق على الجند وسائر أعمال الولاية، وكانت مصر أيضًا على نحو هذا النظام من حيث الانقسام إلى أقاليمَ وبلاد، وحاكمها العام كان يقيم في الإسكندرية.
وكانت العراق وبلاد فارس هكذا أيضًا، وربما كان ولاتها أكثر تقيدًا من ولاة الشام ومصر، لقرب دار الملك منهم.
(٢) الولايات في الإسلام
فلما تولى أبو بكر وبعث البعوث لفتح الشام، كان إذا عقد لأحدهم لواء على بلد أو إقليم ولاه قبل ذهابه لفتحه، هكذا فعل في أول بعث بعثه وولى عليه ثلاثة من كبار قواد الدولة إذ ذاك، فعقد لواء لعمرو بن العاص وأمره أن يسلك طريق أيلة عامدًا إلى فلسطين، وعقد لواء آخر ليزيد بن أبي سفيان وأمره أن يسلك طريق تبوك إلى دمشق، وعقد لشرحبيل بن حسنة على أن يسير في طريق تبوك أيضًا إلى الأردن، وولى كل واحد منهم البلد الذي هو سائر لفتحه وقال لهم «إذا كان بكم قتال فأميركم الذي تكونون في عمله».
ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة ولى أبا عبيدة بن الجراح أمر الشام كله وإمرة الأمراء في الحرب والسلم، فأشبه عمله هذا ما كانت عليه الشام قبل فتحها، وهي أن يكون على كل إقليم عامل، وعلى عمال الأقاليم وال عام كما رأيت، ولكن حاكم الروم العام كان يقيم في أنطاكية، فاختار المسلمون دمشق بدلًا منها، لبعدها عن البحر، وقربها من بلاد العرب، عملًا برغبة عمر بن الخطاب أن لا يقيم المسلمون في مكان يحول بينه وبينهم ماء كما تقدم.
(٢-١) الاحتلال العسكري
وكانت ولاية الأعمال في بادئ الرأي أشبه بالاحتلال العسكري منه بالتملك، وكان العمال، أو الولاة، عبارة عن قواد الجند المقيم بضواحي البلاد المفتوحة بما يعبرون عنه بالرابطة أو الحامية، وكانت الجنود الإسلامية تنقسم إلى قوات تقيم في قواعد عسكرية بأماكن أقرب إلى طريق الصحراء منها إلى السواحل للأسباب التي قدمناها.
وكانت كل قاعدة عسكرية تسمى جندًا، فيقال جند دمشق وجند قنسرين وجند الأردن، وكان سلطانها يشمل زمامًا واسعًا يعادل زمام الولاية الرومانية أو البيزنطية التي تقع فيها القاعدة، ومن هنا فقد أطلق على هذه الولايات التي يحكمها قائد قاعدة عسكرية: الجند، فالجند على هذا الاعتبار هي الولاية العسكرية، وكانت أكثر ما تكون على الحدود.
فكانت عساكر الشام أربعة أجناد تقيم في دمشق وحمص والأردن وفلسطين ومنها تسمية هذه الأقاليم بالأجناد، وقوات العراق كانت تقيم في الكوفة والبصرة، وقوات مصر في الفسطاط وضواحي الإسكندرية … ولم يكونوا يسكنون القرى ولا المدن ولا يختلطون بالأهلين أول الأمر، وقد منعهم الخليفة عمر بن الخطاب من اتخاذ الزرع، وشدد عليهم في ذلك، فكانوا يقيمون في معسكراتهم إلى زمن الربيع، فيسرحون خيولهم بالمرعى في القرى يسوقها الأتباع ومعهم طوائف من السادات، وكانوا كثيري العناية بتربية خيولهم وأسمائها، ومن أقوال عمرو بن العاص لجنده في مصر «لا أعلمن — ما أتى — رجلًا قد أسمن جسمه وأهزل فرسه، واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال، فمن أهزل فرسه من غير علة حططت من فريضته قدر ذلك».
(٢-٢) انتشار الإسلام في البلاد المفتوحة
وكان عمرو بن العاص إذا جاء الربيع كتب لكل قوم بربيعهم ولبنهم إلى حيث أحبوا، فتتفرق العرب في القرى على حسب راياتهم وقبائلهم، وخصوصًا في منوف وسمنود وأهناس وطحا، وكانت قرى مصر كلها في جميع الأقاليم يسكنها القبط والروم، ولم ينتتشر الإسلام في قرى مصر إلا بعد المائة الأولى من تاريخ الهجرة، ثم تضاعف في أواسط المائة الثانية، ولم يقووا إلا في المائة الثالثة — يؤيد ذلك أن المسلمين لم ينشئوا في القرى مساجدَ قبل ذلك الحين، وأن القبط كانوا إذا انتقضوا أتعبوا المسلمين ولا يهون على هؤلاء إخضاعهم، وما زالوا في ذلك حتى أوقع المأمون بهم سنة ٢١٦ﻫ وجعل الإسلام ينتشر في القرى.
وقس على ذلك حال الأندلس لما فتحها المسلمون سنة ٩٢ﻫ، فإنهم أقروا أهلها على ما كانوا عليه إداريًّا وسياسيًّا ودينيًّا، وتركوا لهم أعمال الحكومة وإدارة شؤونها، وإنما أبقوا لأنفسهم الرئاسة العامة وقيادة الجند. هكذا كانت حال الأعمال الإسلامية في أوائل الإسلام، إلا ما قرب منها من مركز الخلافة كالشام في أيام بني أمية، والعراق في أيام بني العباس.
فكان العمال في عهد الخلفاء الراشدين قواد الجند الذين افتتحوا تلك الأعمال، وواجباتهم الرئيسية مراقبة سير الأحكام في البلاد التي افتتحوها وإقامة الصلاة واقتضاء الخراج، وقد رأيت في غير هذا المكان أن أعمال الحكومة في البلاد المفتوحة في مصر والشام والعراق ظلت سائرة على ما كانت عليه قبل الفتح، إلى أواسط أيام بني أمية، وبدأت ولايات الأعمال تتحول إلى حكومات محلية من أواخر دولة الراشدين، حتى كانت أيام عبد الملك بن مروان، فأتم السيطرة الإسلامية بنقل الدواوين إلى اللغة العربية، وأخرج منها من لم يعرف لغة العرب فاجتهد أهل البلاد في تعلم اللغة العربية حتى يحتفظوا بهذه الوظائف، وبذلك كان هذا الإجراء الذي قام به عبد الملك بن مروان من أهم ما قام به خلفاء الإسلام، فقد كان له أثر حاسم في تعريب إدارة الدولة الإسلامية وفي نشر اللغة العربية، ثم تنوعت الولايات وصارت درجات متفاوتة، على ما اقتضاه الزمان والمكان، ولكنها ترجع إلى إمارتين: إمارة عامة، وإمارة خاصة، والإمارة العامة ضربان: إمارة استكفاء، وإمارة استيلاء.
(٣) الإمارة العامة
(٣-١) إمارة الاستكفاء
- (١)
تدبير الجيوش، وترتيبهم في النواحي، وتقدير أرزاقهم (إلا إذا كان الخليفة قدرها).
- (٢)
النظر في الأحكام، وتقليد القضاة والحكام.
- (٣)
جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتقليد العمال فيهما وتفريق ما استحق منهما.
- (٤)
حماية الدين والدفاع عن الحريم.
- (٥)
إقامة حدود الشرع.
- (٦)
الإمامة في الصلوات.
- (٧)
تيسير الحج.
وإذا كان الإقليم المشار إليه متاخمًا لعدو، ترتب على العامل أمر ثامن هو جهاد ذلك العدو، وقسمة الغنائم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس، كما هو مفصل في باب الجند والمال.
وكان أكبر ولايات الإسلام على هذه الصورة، وخصوصًا لما بعد منها عن مركز الخلافة، كالعراق في بني أمية ومصر والشام في بني العباس وخراسان في كليهما.
عمال الاستكفاء في زمن بني أمية
ومن عمال الاستكفاء في أيام بني أمية في العراق زياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، وبشر بن مروان، والحجاج بن يوسف، ويزيد بن المهلب، ومسلمة بن عبد الملك، وعمر بن هبيرة، وخالد بن عبيد الله القسري، ويوسف بن عمر الثقفي، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عمر بن هبيرة، وكانت تسمى إمارة كل منهم «إمارة العراقين»، لاشتمالها على الكوفة والبصرة.
فكان كل أمير من هؤلاء يتصرف في إمارته تصرف الملوك المستقلين بالكيفية التي قدمناها، فيعين العمال على البلاد تحت إمارته وسائر عمال حكومته، ويجبي الأموال فينفق منها على جنده وفي ما تقتضيه العمارة من إصلاح الجسور وحفر الترع ونحو ذلك، ويرسل ما يبقى عنده إلى بيت المال في الشام.
وكانت الحال نحو ذلك في مصر، فقد كان عاملها من عمال الاستكفاء من عهد عمرو بن العاص فما بعده، وربما كان عامل مصر أكثر استقلالًا من سواه، وخصوصًا عمرو بن العاص لما تولاها المرة الأخيرة بأمر معاوية بعد أن نصره على علي، وربما فعل معاوية مثل ذلك بزياد بن أبيه لما ولاه خراسان، وبالمغيرة بن شعبة لما ولاه الكوفة، رغبة منه في إرضاء أطماع هؤلاء كما تقدم.
عمال الاستكفاء في أيام العباسيين
ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس ساروا على نحو هذه الخطة، لكنهم قلما كانوا يجعلون أمر العراق مفوضًا للعمال، لقربه من مركز الخلافة، على أنهم كانوا يفوضون العمال في الأقاليم البعيدة، كالشام ومصر وخراسان وسائر ما وراء العراق نحو الشرق إلى أقصى بلاد الترك وما وراء النهر، ولما تمكن البرامكة من الدولة وغلب نفوذهم فيها، ولى الرشيد أحدهم — جعفر بن يحيى — الغرب كله، من الأنبار إلى إفريقية، وقلد أخاه — الفضل بن يحيى — الشرق كله، من شروان إلى أقصى بلاد الترك سنة ١٧٦ﻫ، فأقام جعفر بمصر، وأرسل العمال بأمره إلى الشام وإفريقيا وغيرهما، وأما الفضل فإنه سار إلى عمله حتى وصل إلى خراسان، فأصلح وبدل واستخلف عمالًا، وعاد إلى العراق.
وكثيرًا ما كان الخلفاء يفوضون إلى بعض خاصتهم عملًا من الأعمال، فيرسل هذا من يقوم مقامه في ذلك العمل، ويبقى هو في بلاد الخليفة، وأكثر ما كان يقع ذلك في الدولة العباسية، في عصرها الثاني.
وكانت إمارة الاستكفاء هذه من جملة الأسباب التي ساعدت على تشعب المملكة العباسية إلى دول مستقلة … لأن الوالي كان يقيم في ولايته كأنه ملك مستقل، إلا فيما يتعلق بإرسال فضلات الخراج إلى الخليفة، والخطبة له، وضرب النقود باسمه، وأمور أخرى لا تضغط على إرادته، فإذا كان الوالي ذا دهاء وآنس من الخليفة ضعفًا، جمع أهل الإقليم على ولائه واستقل بعمله، إما استقلالًا تامًّا وإما على مال معين يبعث به إلى الخليفة ببغداد، أو على شروط أخرى، وعلى نحو هذا النمط استقل الأغالبة في إفريقية، وبنو طاهر في خراسان، وابن طولون في مصر، ولكن تلك الأقاليم ظلت تعد إمارات عباسية من الناحية النظرية على الأقل.
(٣-٢) إمارة الاستيلاء
- (١)
حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة وتديبر أمور الملة.
- (٢)
إلزام الناس بالتزام أشراط العقيدة.
- (٣)
جمع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون للمسلمين يد على من سواهم.
- (٤)
أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة والأحكام فيها نافذة.
- (٥)
أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحق تبرأ به ذمة مؤديها.
- (٦)
أن تكون الحدود مستوفاة بحق وقائمة على مستحق.
- (٧)
أن يهتم الأمير في حفظ الدين.
ولأمير الاستيلاء أن يستخدم الوزراء وغيرهم، ومن هذه الإمارات ما انتهت إليه الدولة العباسية من التشعب وظهور الدول الصغرى فيها، كالدولة الحمدانية والبويهية والغزنوية والإخشيدية وغيرها، وكلها كانت إمارات مستقلة تدعو للخليفة على المنابر، وتضرب السكة باسمه، وترسل إليه مالًا معينًا في السنة يتم الاتفاق عليه، وهو الذي يثبت أمراءها، ويكون الحكم متسلسلًا في أعقابهم.
(٤) الإمارة الخاصة
وأما الإمارة الخاصة، فهي أن يكون الأمير فيها مقصورًا على تدبير الجيش، وسياسة الرعية، وحماية البيضة، والدفاع عن الحرية ضمن حدود معينة، وليس له أن يتعرض للقضاء أو الأحكام أو لجباية الخراج أو الصدقات في شيء حتى الإمامة في الصلاة، فربما كان القاضي أولى بها منه، والخليفة يعين لهذه الإمارة قضاة وجباة من عنده، فالجباة يجمعون الخراج لحساب بيت المال المركزي، وهم يؤدون أعطيات الجند وغيرها مما يجمعونه، والإمارات الخاصة كانت قليلة في إبان الدولة العباسية.
(٥) رواتب العمال
أما رواتب العمال فقد قدرها عمر بن الخطاب، بعد تدوين الدواوين وتعيين أرزاق الجند، وأول ما فعل ذلك لما وجه عمار بن ياسر إلى الكوفة وولاه صلاتها وجيوشها، فجعل له ستمائة درهم في الشهر، وعين الرواتب لولاته وكتابه ومؤذنيه ومن كان يقوم بالأمر معه، فبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وعبد الله بن مسعود على قضاء الكوفة، وشريحًا على قضاء البصرة، وأجرى على عثمان ربع شاة وخمسة دراهم كل يوم، وجعل عطاءه خمسة آلاف درهم في السنة، وأجرى على عبد الله مائة درهم في الشهر وربع شاة في اليوم، وأجرى على شريح مائة درهم وعشرة أجربة في الشهر، فترى مما تقدم أنه فضل عمار بن ياسر عليهم أجمعين، لأنه كان على الصلاة والجند وهي الإمارة يومئذ، ولما ولى عمر معاوية بن أبي سفيان على الشام، جعل له ألف درهم كل سنة، وكان عمر يشدد في محاسبة العمال، فإذا رآهم ربحوا مالًا من شيء قاسمهم وأخذ النصف لبيت المال.
وأما بنو أمية فقد نال عمال الأقاليم في أيامهم امتيازات كثيرة، منحهم إياها معاوية، ترغيبًا لهم في البقاء على ولائه، فولى زياد بن أبيه البصرة وخراسان وسجستان ووسع له بما يريد، وفعل نحو ذلك مع عمرو بن العاص بمصر.
وجرى العباسيون على نحو ذلك، فلما ولى المأمون الفضل بن سهل على الشرق جعل له ٣٠٠٠٠٠٠ درهم في السنة، وكانت رواتب العمال تختلف باختلاف نوع العمل وسعته وأهميته.