الوزارة وما يتبعها
(١) الوزارة
الوزارة أسمى الرتب السلطانية، وليست من محدثات الإسلام بل هي فارسية الأصل اتخذها المسلمون في عهد الدولة العباسية، أما إذا أريد بالوزارة استعانة الخليفة بمن يشد أزره أو يعاونه في الحكم، فهي تتصل بصدر الإسلام، لأن النبي ﷺ كان يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة، ويختص أبا بكر بخصوصيات أخرى، حتى إن العرب الذين خالطوا الروم والفرس قبل الإسلام كانوا يسمون أبا بكر وزيره، وكذلك كان شأن عمر مع أبي بكر، وشأن علي وعثمان مع عمر، ولكن لفظ الوزير لم يكن يعرف بين المسلمين في سذاجة الدولة.
على أن بني أمية لما جعلوا الخلافة ملكًا، وأصبح معولهم في استبقاء ملكهم على السياسة والدهاء، احتاجوا إلى من يستشيرونهم ويستعينون بهم في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم واصطناع الأحزاب منهم، فاستخدموا أناسًا لنحو ذلك الغرض وهي الوزارة بمعناها ولكن يظهر أنهم لم يكونوا يسمون صاحب هذه الرتبة الوزير، فانقضت دولة بني أمية دون أن يتخذ الخلفاء وزراء، ودون أن تظهر الوزارة في نظم الإسلام.
ولكن دولة بني أمية عرفت نظام الكتاب أو كتاب الخلفاء، ووظيفة الكاتب هي الأصل الذي تطور فيما بعد إلى وظيفة الوزير، وقد عرف الإسلام الكتاب من أول أمره، وكتب لرسول الله ﷺ نفرٌ من الصحابة وكان لكل واحد من الخلفاء الراشدين كاتب أو أكثر يكتب عنه، وعلى هذا النظام مضى بنو أمية.
ولم يكن الكاتب أول الأمر كاتب الدولة بل كاتب الخليفة، أي أمين سره وصاحب ديوانه وسجلاته، ثم صار مع الزمن كاتبًا للدولة أي أمينًا عامًّا لها، وقد حدث هذا التطور على أيام عبد الملك بن مروان.
فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، واستفحل الملك وعظمت مراتبه، عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد، وأضيف إلى الوزارة النظر في ديوان الحساب، ثم النظر في المكاتبات، لصون أسرار الخليفة، فأصبحت الوزارة شاملة لخطتي السيف والقلم.
وأول وزراء بني العباس أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال وزير أبي العباس السفاح وهو أول من سمي وزيرًا في الإسلام، قال ابن خلكان: «ولم يكن قبله من يعرف بهذا النعت لا في دولة بني أمية ولا في غيرها»، وكان أبو سلمة يسمى وزير آل محمد، كما يسمى أبو مسلم الخراساني أمير آل محمد، وكلاهما فارسيان، والعباسيون أول من عول على الوزراء، فسلموا إليهم أمور الدولة، وأكثرهم من الفرس، وأشهر وزرائهم البرامكة، وقد استفحل أمرهم في الدولة حتى اضطر الرشيد إلى الفتك بهم في نكبتهم المشهورة.
وتقلبت على الوزارة أحوال شتى في أيام بني العباس، ففي القرن الرابع للهجرة أضيف إلى اسم الوزير لقب «صاحب»، وأول من لقب به منهم أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس، وكان أولًا وزير مؤيد الدولة بن بويه وعرف بالصاحب، وصار كل من تولى الوزارة بعده يسمى الصاحب …
وأخذ نفوذ الوزارة في بني العباس يتقلص بتقلص نفوذ الخلفاء، حتى استبد العمال في الأعمال، وتفرعت المملكة العباسية، فأصبحت الوزارة كالخلافة اسمًا بلا مسمى، فأسقطوها وأبدلوها بإمرة الأمراء.
(٢) أمير الأمراء
عندما عجز خلفاء بني العباس عن ضبط الأمور، بسبب استبداد أمراء النواحي بما تحت أيديهم وضعف الخلفاء عن السيطرة على جندهم، بسبب قلة الجباية والتوقف عن دفع الأعطيات، أخذوا يستبدلون الوزراء واحدًا بواحد، باحثين عن شخصيات تستطيع القيام بشئون الدولة ومواجهة المشاكل العسيرة التي واجهتها، وقد عين الخليفة الراضي سنة (٣٢٢ / ٩٣٤–٣٢٩ / ٩٤٠) خمسة وزراء واحدًا بعد الآخر، وكان آخرهم سليمان بن الحسن بن مخلد، وعندما ضاقت به الحيل اتجه ببصره إلى أكبر القواد العسكريين في أيامه، وهو ابن رائق، وكان واليًا على واسط والبصرة، فاستدعاه وسلم إليه مقاليد الأمور ولقبه أمير الأمراء.
فاستحدث بذلك وظيفة كبرى كانت قاضية على الوزارة، وكان لها أثر بعيد في الهبوط بمستوى الخلافة، وفي ذلك يقول ابن طباطبا: «واستبد ابن رائق أمير الأمراء بالأمور، ورد الحكم في جميع الأمور إلى نظره، ولم يبق للوزير سوى الاسم» — (الفخري، ص٢٥٣).
ويقول مسكويه إن الراضي «عرفه أنه قلده الإمارة ورياسة الجيش، وجعله أمير الأمراء، ورد إليه تدبير أعمال الخراج، والضياع وأعمال المعادن في جميع النواحي، وفوض إليه تدبير المملكة، وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر في الممالك …» — (تجارب الأمم، ج١ ص٣٥٦).
ويبدو أن ابن رائق لم يكن أول من تلقب بأمير الأمراء، فقد ذكر مسكويه أن الخليفة المقتدر منح هذا اللقب لمولاه مؤنس الخادم، ولقبه بمؤنس المظفر، ولكن هذه الوظيفة لم تأخذ مظهرها الحقيقي إلا في أيام ابن رائق، وعندما استبد بنو بويه بأمور الخلافة على يد معز الدولة بن بويه ابتداء من سنة ٣٢٠ / ٩٣٢ انتقل إليهم هذا اللقب.
وما زال هذا اللقب في بني بويه إلى سنة ٤٤٩ﻫ، فانتقل إلى السلاجقة الأتراك وأولهم طغرل بك، ثم صار خلفه ألب أرسلان من أعظم ملوك زمانه، وظل هذا اللقب في السلاجقة إلى سنة ٥٤٧ﻫ وسقط بسقوط دولتهم في بغداد.
وكان بنو بويه لما استفحل أمرهم يولون أمير الأمراء من عند أنفسهم، ولم يتركوا للخلفاء إلا نائبًا يسمى «رئيس الرؤساء»، ثم عاد الخلفاء في أيام السلاجقة إلى تولية أمير الأمراء.
ومن يتدبر تاريخ منصب الوزارة في الدولة العباسية، يتبين له أنها كانت من جملة أسباب انحلال هذه الدولة، لأن الخلفاء سلموا مقاليد الحكومة إلى وزرائها وتقاعدوا عن أمور السياسة، فأصبحوا بتوالي الأجيال عاجزين عنها.
وأما الدول الأخرى، فالدولة الفاطمية بمصر أول وزرائها يعقوب بن كلس وزير العزيز بالله سنة ٣٦٣ﻫ، والدولة الأموية في الأندلس كانت الوزارة فيها كما كانت في أيام أمويي الشام: كانت مشتركة في جماعة يعينهم الخليفة للإعانة والمشاورة، ويخصهم بالمجالسة ويختار منهم شخصًا لمكان النائب المعروف بالوزير في دولة بني العباس، فيسميه الحاجب ثم سمي الوزير، وكانت هذه الرتبة عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة، كما كان شأن البرامكة في بغداد.
(٣) وزارة التفويض
- (١)
ولاية العهد فإن للخليفة أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير.
- (٢)
للخليفة أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الخليفة.
- (٣)
للخليفة أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير.
ومن وزراء التفويض آل برمك، ويحيى بن أكثم، وابن الفرات وغيرهم في الدولة العباسية، وأمير الجيوش في الدولة الفاطمية، وقد بلغ من تفويض بني العباس لوزرائهم أنهم كثيرًا ما كانوا يسلمون إليهم خاتم الخلافة يختمون به الكتب دونهم، وفي حكاية الرشيد مع جعفر والفضل يوم أخذ الخاتم من جعفر وسلمه إلى الفضل دليل على مقدار نفوذهم.
وناهيك بحكاية جعفر بن يحيى البرمكي مع عبد الملك بن صالح دليلًا على ذلك كان جعفر في مجلس فدخل عبد الملك بن صالح (ابن عم الرشيد) عليه وهم في الطرب، فقال له جعفر «هل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة على ما صنعت؟»، قال «بلى، إن في قلب أمير المؤمنين تغيرًا علي فتسأله الرضا عني»، فقال جعفر «قد رضي عنك أمير المؤمنين»، قال «وعلى عشرة آلاف دينار» فقال جعفر «هي حاضرة لك من مالي، ولك من مال أمير المؤمنين مثلها»، قال «وأريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة أمير المؤمنين»، قال «قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية»، قال «وأحب أن تخفق الولاية على رأسه»، قال «قد ولاه أمير المؤمنين مصر»، ثم انصرف عبد الملك، وقد أقدم جعفر على ذلك كله من غير استئذان!
وفي الغد دخل جعفر على الرشيد فقال له الرشيد «كيف يومك يا جعفر بالأمس؟»، قال جعفر «فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح، وكان الرشيد متكئًا فاستوى جالسًا وقال «لله أبوك! ما سألك؟»، قلت «سألني رضاك عنه يا أمير المؤمنين»، قال «قد رضيت عنه، ثم ماذا؟»، قلت «وذكر أن عليه عشرة آلاف دينار فأجبته قد قضاها عنك أمير المؤمنين»، قال «قد قضيتها عنه، ثم ماذا؟»، قلت ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه، فقلت له قد زوجه أمير المؤمنين ابنته الغالية»، قال «قد أجبته إلى ذلك، ثم ماذا؟»، قلت «قال: وأحب أن تخفق الألوية على رأسه، فقلت قد ولاه أمير المؤمنين مصر»، قال «لقد وليته إياها»، ثم أنجز له جميع ذلك من ساعته.
وكثيرًا ما كان الخلفاء يقلدون وزراءهم مع الوزارة منصبًا آخر مهمًّا، كما تقلد الفضل بن سهل رئاسة السيف مع الوزارة، فسموه ذا الرئاستين.
(٤) وزارة التنفيذ
أما وزارة التنفيذ فالنظر فيها مقصود على تنفيذ ما يراه الخليفة، فيكون الوزير واسطة بين الخليفة وبين الرعية، فيمضي ما يأمره الخليفة به من تقليد الولاة، وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم، خلافًا لوزير التفويض، فإنه يولي ويعزل كما يشاء، يقضي ويمضي بلا حد ولا قياس، ويجوز للخليفة أن يستوزر وزيري تنفيذ: أحدهما للحرب مثلًا والآخر للخراج، ولكنه لا يستوزر إلا وزيرًا واحدًا تفويضيًّا.
(٤-١) راتب الوزير
-
الوزير راتبه في الشهر ٥٠٠٠ دينار.
-
لكل واحد من أولاده وإخوته راتبه في الشهر من ٢٠٠–٣٠٠ دينار.
-
لكل واحد من حواشيهم راتبه في الشهر من ٣٠٠–٥٠٠ دينار.
ما عدا الإقطاعات وما كان يدفع إليهم في المواسم من الهدايا وما يخلع عليهم من الخلع في الأعياد ونحوها فربما بلغ راتب الوزير وتوابعه بما يلحقهم من الإقطاع نحو ١٠٠٠٠٠ دينار في السنة، وسنعود إلى الرواتب في الجزء الثاني من هذا الكتاب في الكلام عن مالية الدولة.
(٤-٢) السلطان
كان هذا المنصب في أوائل أمره لقبًا لوزراء الدولة العباسية، يلقبون به على سبيل التفخيم بأمر الخلفاء كما تقدم، وذكر ابن خلدون أن جعفر بن يحيى دعي سلطانًا، ويظهر من مجمل ما نقرأه من كتبهم أنهم يطلقون لفظ السلطان على والي بغداد أو والي الشام، ولعله رئيس الشرطة أو ما يشبه المحافظ اليوم، وقد يريدون بالسلطان الخليفة نفسه، وكل ذلك على سبيل المجاز، ولم تصر السلطنة رتبة رسمية إلا في أيام محمود الغزنوي ابن سبكتكين، وهو أول سلطان في الإسلام، سمي به في أواخر القرن الرابع للهجرة بدلًا من لقب أمير الأمراء الذي ذكرناه، وكأنه ابتذل كما ابتذل اسم الوزير قبله، فأبدلوه بلقب سلطان، وصار بعد ذلك لقبًا لملوك الأتراك والأكراد والجراكسة، وغيرهم من السلاجقة والأيوبية والمماليك والعثمانيين، والوزارة لم يكن الإرث شرطًا فيها، فلما صارت إلى السلطنة صار الإرث شرطًا فيها، والسلطان يعهد إلى ولي عهده قبل موته.
وكان الخلفاء هم الذين يولون السلاطين، وإن كانت القوة في أيدي هؤلاء، ولكنهم كانوا يعتبرون ذلك من وجهه الديني، وكانوا يحتفلون بتولية السلطان احتفالًا شائقًا، فيخلع عليه الخليفة سبع خلع، ويلبسه طوقًا وتاجًا وسوارين، ويعقد له اللواء، ويقلده السيف، ويخطب له.
وكانوا يلقبون السلاطين يوم الاحتفال بتوليتهم ألقابًا تشير إلى تأييد الخلافة بهم، مثل ناصر الدولة وسيف الدولة وعضد الدولة ونحو ذلك.