الروم والفرس عند ظهور الإسلام
(١) الروم
تأسست رومية (روما) سنة ٧٥٣ قبل الميلاد وقامت معها الدولة الرومانية، وظلت رومية كرسي تلك الدولة عشرة قرون ونصف قرن، وقد فتحت العالم المعمور يومئذ كله، وفي مايو سنة ٣٣٠ أصبح انقسامُ الدولة الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي، حقيقةً واقعة بعد أن كان مجرد تقسيم إداري منذ سنة ٢٩٥ ميلادية، ذلك أن قسطنطين اتفق مع زميله ليسينيوس على اقتسام الدولة، وتولى هو القسم الشرقي واتخذ بيزانطيوم عاصمة له، وسماها القسطنطينية، هيأ لها كل مقومات العواصم الرومانية، حتى لقد نقل إليها أعدادًا من سكان روما وأعضاء مجلس الشيوخ.
وبعد وفاته سنة ٣٣٧م اختلف أولاده الثلاثة، ثم انفرد بالأمر أحدهم وهو قسطنطيوس، ولكنه لم يستطع الاستمرار، وصار الأمر إلى واحد منهم توفي سنة ٣٦٠م، فخلفه يوليان ثم جوفيان سنة ٢٦٤م، ثم توفي هذا بعد بضعة أشهر، فانتخب الرومان إمبراطورًا اسمه فالنتيان، وبعد قليل نصب فالنتيان أخاه فالنس إمبراطورًا على رومية، وتم انفصال المملكة الرومانية على أثر ذلك إلى مملكتين إحداهما شرقية عاصمتها القسطنطينية والأخرى غربية عاصمتها رومية، وكانت الأولى أسعد حظًّا وأطول عمرًا فأصبحت القسطنطينية مبعث العلم ومركز السلطنة ومرجع الدين للجزء الشرقي من الدولة الرومانية القديمة.
وكانت حدود الدولة الرومانية الشرقية في القرن الخامس للميلاد غير ثابتة، ولكننا نستطيع القول بصورة عامة أنها كانت تنتهي في الغرب بالبحر الأدرياتي وفي الشرق بضفاف دجلة، وتمتد حدودها الشمالية إلى جنوبي ما يعرف اليوم بروسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، وتنتهي في الجنوب إلى بلاد النوبة، وأرقى عصور هذه الدولة بعد قسطنطين الكبير عصر جستنيان (من سنة ٥٢٧–٥٦٥م) تولاها ٣٧ سنة، قضى الخمس الأولى منها في محاربة الفرس الساسانية، وانتهت الحرب بمعاهدة سموها «معاهدة الصلح الدائم» لكنها لم تدم، ومن حسن حظ هذا الإمبراطور أنه رزق بقائدين من أشهر قواد العصور الوسطى هما بليزاريوس ونارسيس فتحا له إيطاليا ورفعا أعلامه فوق أسوار روما شمالي إفريقية وغيرها، وكانا عونًا له في سائر فتوحه وساعده الأقوى في توسيع نطاق مملكته.
(٢) الفرس
والعداوة بين الفرس والروم (اليونان) قديمة ربما تجاوزت القرن الخامس قبل الميلاد، وسببها التنازع على السيادة في العالم، لأنهما كانتا أعظم دول الأرض، في تلك العصور، فأرادت كل منهما الاستئثار بالسلطان دون الأخرى، واتصلت تلك العداوة إلى زمن الإسكندر الكبير ثم اتصلت في عصور الرومان إلى أيام الإسلام.
وأفضى عرش الفرس في أيام جستنيان المذكور إلى كسرى أنوشروان المشهور بالعادل، فلم تعجبه مصالحة الروم فحمل عليهم بخيله ورجله، ففتح سوريا وأحرق أنطاكية ونهب آسيا الصغرى، فبعث جستنيان إليه بليزاريوس فحاربه ورده على أعقابه، ثم عاد وعادوا وتوالت الحروب بين الدولتين نحو عشرين سنة (من سنة ٥٤١ إلى ٥٦١م) وقد مل الملكان وشاخا فتوافقا على صلح قضي فيه على جستنيان بجزية سنوية مقدارها ٣٠٠٠٠ دينار، وظلت حدود المملكتين كما كانت قبل الحرب.
وللإمبراطور جستنيان ذكر مجيد في تاريخ الدولة البيزنطية، بسبب اتساع حدودها على أيامه واستعادتها للكثير مما كانت قبائل الجرمان قد استولت عليه من ولايات الدولة الرومانية، وبسبب ما قام به من أعمال خلدت ذكره على مدى التاريخ، منها اجتهاده في تكوين مجموعات القوانين الرومانية المعروفة وأشهرها المجموعة المعروفة إلى اليوم بمدونة جستنيان التي كانت أساسًا لما وضع بعدها من القوانين في أوربا إلى اليوم، وقد أدخل صناعة الحرير إلى أوربا وبنى الكنائس والمعاقل والقصور، وأشهر ما يذكر به كنيسة أيا صوفيا، التي جعلها العثمانيون عند فتح القسطنطينية جامعًا لا يزال معروفًا بهذا الاسم إلى اليوم.
ولكن الدولة المطلقة إنما يكون حظها من السعادة أو الشقاء كما يكون مَلِكُها فإن كان عظيمًا عظمت أو كان حقيرًا حقرت، فلما توفي جستنيان خلفه أناس لا يليقون بالملك فلم تعد تعرف السعادة بعده — خلفه ابن أخيه جستين الثاني ثم طيباريوس ثم الإمبراطور موريس «موريقوس» وقد ضعف أمر الدولة، فأراد هذا الإمبراطور أن يقويها بفتح الشرق فناصب الفرس وحاربهم سبع سنين، وقد توفي كسرى أنوشروان سنة ٥٧٩، وخلفه ابنه هرمز الرابع، وكان عاتيًا فثار عليه رعاياه، فاشتغل بإخماد ثورتهم، والروم يوغلون في بلاده من العراق، والتركمان يسطون عليها من الشمال والشرق حتى كادت تذهب فريسة الفاتحين لو لم يقيض لها الله قائدًا شهيرًا يعرف ببهرام فحارب العدوين وأنقذ البلاد منهما، فمال الفرس إليه فأنزلوا هرمز وسملوا عينيه وملكوا عليهم ابنه كسرى أبرويز، فلم يقبل بهرام، وأذله ففر أبرويز إلى القسطنطينية واستنجد الإمبراطور موريس، فأنجده بجيش تغلب به على بهرام واستعاد الملك، فعرف أبرويز ذلك الفضل لموريس وما زال على ولاء الروم إلى وفاة موريس.
أما هذا الأخير فقد مات مقتولًا سنة ٦٠٢م وخلفه الإمبراطور فوقاس، وكان فوقاس جلفًا جاهلًا فأبغضته الرعية والتمسوا من ينقذهم منه، وكان من جملة ولاة الأمور يومئذٍ والٍ على إفريقية اسمه هراكليوس «هرقل» فاستنجده أهل القسطنطينية، فأنفذ إليهم عمارة بحرية تحمل جيشًا يقوده ابنه، وكان يسمى هرقل أيضًا، فقتل فوقاس وتربع في دست الإمبراطورية مكانه سنة ٦١٠ وفي أيامه ظهر الإسلام.
(٣) بين الروم والفرس
ورأى أبرويز بابًا لمناوأة الروم فادعى أنه يريد الانتقام من قتلة صديقه موريس فزحف بجنده على سوريا سنة ٦١٤م وناصره يهودها على البيزنطيين ففتحها وفتح مصر واستولى على أنطاكية ودمشق وبيت المقدس ومدن أخرى من سوريا وفلسطين، ثم أباح لجنده نهب أورشليم «بيت المقدس» فنهبوها وأحرقوا القبر المقدس وكنيسة القيامة وسلبوا خزائنها وحملوا بطريركها والصليب الحقيقي إلى بلادهم، وواصلوا القتل والنهب في سوريا سنة ٦١٦م فكان عدد الذين قتلوا من المسيحيين ٩٠٠٠٠ نفس، وأرسلوا جندًا آخر إلى آسيا الصغرى ففتحوها وكان النصر حليفهم حيثما حلوا حتى كادوا يطأون شواطئ البوسفور.
كل ذلك والإمبراطور هرقل معتزل في قصره وقد انغمس في اللهو والقصف والترف لا يبالي بما يهدد مملكته، وكأنه لما تحقق وقوع الخطر نفض غبار الخمول عن عاتقه وخرج للدفاع، ولم يكن عنده مال ينفقه في التجنيد فاقترض أموال الكنائس على أن يعيدها بعد الحرب مع رباها، وحشد جنده وركب البحر إلى كليكيا في آسيا الصغرى واحتل إيسوس فلقيه الفرس هناك فحاربهم وغلبهم سنة ٦٢٢م، وفي هذه السنة هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة.
قضى هرقل في محاربة الفرس ثلاث سنين متوالية حتى أوغل في بلادهم واضطر أبرويز أن يسحب جنده للدفاع عن قلب مملكته.
أما هرقل فإنه حاربه مرة أخرى سنة ٦٢٧م فأجهز على قواته وانكسر الفرس انكسارًا عظيمًا، وبلغت جنود الروم نينوى عاصمة الأشوريين القديمة وهي أول مرة وطئ الروم فيها تلك المدينة، وكان أبرويز قد أصبح شيخًا طاعنًا في السن فأوصى بالملك لابنه مردز، وكان له ابن آخر اسمه شيروبه حسد أخاه وعمد إلى الكيد له ولأبيه، فاستعان ببعض الناس حتى قبض على من بقي من أولاد أبرويز وهم ثمانية عشر ولدًا فقتلهم جميعًا بين يدي أبيه وزج أباه في السجن حتى مات.
وبموت كسرى أبرويز انقضى مجد الدولة الساسانية ولم يعش ابنه شيرويه بعده إلا ثمانية أشهر فأصبحت حكومة الفرس فوضى، وادعى الملك تسعة ملوك في أربع سنوات، فساد الفسادُ وتمكن الاختلال فيها فجاءها المسلمون وهي في تلك الحال.
ناهيك بما كان يهدد الروم في أوربا من هجمات برابرة القوط، وكان هؤلاء في أوائل الإسلام قد استولوا على غربي هنجاريا «المجر»، وزد على ذلك أن الهون كانوا في أثناء ذلك يهددون مملكة الروم من جهة الشرق.
(٤) الانقسامات الدينية
ولم يكن الاختلال في دولتي الروم والفرس مقصورًا على الوجهة السياسية والإدارية، ولكنه كان يتناول الأحوال الاجتماعية والدينية بما تفاقم فيها من الانقسامات المذهبية مما هو مشهور، فقد كان الروم حوالي القرن السادس للميلاد في منتهى التضعضع، لتعدد الفرق وتشعب المذاهب وخصوصًا فيما يتعلق بالطبيعة والطبيعتين والمشيئة والمشيئتين، وأكثر اختلافهم على الألفاظ، والجوهر واحد.
فكان الإمبراطور وأهل دولته يقولون إن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، وأما رعيته في مصر والشام فكان أكثرهم يقولون بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وهم اليعاقبة، وفي زمن هرقل سعى البطريرك إثناسيوس بطريرك اليعاقبة في منبج في التوفيق بين الطائفتين، فخاطب الإمبراطور في ذلك وذهب مذهبًا متوسطًا بين القولين، وهو أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة، فوافقه الإمبراطور واستمهله ريثما يخابر بطريق القسطنطينية بيروس وهو سوري الأصل، وكان إثناسيوس قد اتفق معه على ذلك قبل مخاطبة الإمبراطور، فنشر الإمبراطور بهذا المعتقد منشورًا قبله أكثر الأساقفة الشرقيين إلا صفرونيوس بطريق بيت المقدس وبعض الأساقفة، وفي مقدمتهم أسقف عمان وسائر أهل الكنيسة الملكية، فشق ذلك على الإمبراطور فعمل على الانتقام من الذين لم يقبلوا منشوره وفيهم جانب عظيم من الروم، فأصبح الانقسام مزدوجًا الإمبراطور وبطارقة القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية حزب يقول بطبيعتين ومشيئتين، واليعاقبة ومنهم الأقباط وأهل حوران وسائر أهل داخلية سوريا ومصر حزب آخر، والنساطرة وهم أهل العراق والجزيرة حزب ثالث، فضلًا عن طوائف أخرى غير هذه منهم الخياليون الذين يقولون إن المسيح لم يصلب حقيقة، وإنما صلب رجل آخر مكانه، والإكيفاليون القائلون بعدم الخضوع للرؤساء وهم يشبهون الخوارج، ثم إن اليعاقبة أيضًا كانوا أقسامًا مما يطول شرحه.
وكان لهذه الانقسامات تأثير شديد في السياسة لاختلاط السياسة عندهم بالدين، حتى آل ذلك أحيانًا إلى خروج أمم بأسرها من حوزة الروم إلى الفرس، كما حصل للأرمن فإنهم لما حرم مجمع القسطنطينية بدعة الطبيعة الواحدة جعل الإمبراطور يشدد النكير على متبعيها، والأرمن منهم، فأفضت بهم الحال إلى تسليم بلادهم إلى الفرس، وكذلك فعل القبط بمصر يوم جاءهم عمرو بن العاص، فقد كانوا عونًا له في فتحها للسبب عينه.
(٥) التناقض بين الروم واليهود
ولا بد من الإشارة هنا إلى ما كان بين اليهود والروم من تباغض قوي بسبب ما جرى عليه أباطرة الدولة الرومانية من اضطهاد اليهود في تلك الأيام، وقد بلغ هذا التباغض حده في أيام هرقل فثار اليهود في أنطاكية وقتلوا بطريقها ومثلوا بجثته تمثيلًا قبيحًا، فأرسل إليهم هرقل فقتل منهم جمعًا غفيرًا، وثاروا في صور عاصمة فينيقية وقتلوا واليها، وتآمر يهود صور ويهود فينيقية وفلسطين على أن يدخلوا مدينة صور ليلًا ويقتلوا النصارى، فاطلع مطران صور على المكيدة وأخبر الوالي بها فأمر الوالي الحامية والبوابين والحراس بأن يكونوا تلك الليلة على حذر، ولما جن الليل هجم اليهود من خارج السور فردهم الجند على أعقابهم، فرجع اليهود إلى الأديرة والكنائس القائمة بجوار المدينة فهدموها وسلبوا آنيتها، وفعلوا مثل ذلك فيما جاورها من القرى، فعاقبتهم الحكومة بقتل كل يهود صور.
وحدث مثل ذلك في قيسارية فلسطين فأرسل الملك أخاه ثاودورس فقتل من كان فيها من اليهود، فاشتد غيظهم على المملكة في كل أنحائها، وزاد الروم خوفًا من اليهود وحذرًا منهم أن بعض أهل التنجيم أنبأوا الملك أن رجلًا من أهل الختان سيأخذ المملكة منه، ويقول العرب إن المراد بأهل الختان المسلمون، ومما فعله اليهود من الفظائع نكاية في الروم، أنهم اشتروا من الفرس ثمانين ألفًا من أسرى النصارى وذبحوهم.
ولم يكن التباغض مقصورًا على ما بين اليهود والروم، لكنه كان بينهم وبين النصارى على الإجمال، وكانت حكومات النصارى إذا سنت قانونًا خصصت بنودًا منه لليهود لمعاملتهم بالاحتقار، كما فعل القوط حكام إسبانيا قبيل زمن الفتوح الإسلامية فقد سموا اليهود أعداء الحكومة القوطية، وكانت المجالس الملية في تلك المملكة قد قررت إلغاء الديانة الإسرائيلية فأمرت الحكومة بمنع اليهود من الاحتفال بأعيادهم، وأجبرتهم على النصرانية وضيقت عليهم تضييقًا شديدًا حتى اضطروا للتظاهر بالنصرانية وقلوبهم ما زالت يهودية تكاد تنفجر حقدًا وكظمًا على ما نالهم من صنوف العذاب، ولم يكن القوط يجهلون تكتمهم ولذلك لم يكونوا يعاملون المتنصرين منهم معاملة المسيحيين الأصليين، بل حرموهم من كل الحقوق المدنية وحظروا عليهم اقتناء العبيد وتمادوا في إذلالهم حتى منعوهم من القراءة، فهل نستغرب بعد ذلك إذا كان اليهود عونًا للعرب المسلمين على حكامهم المسيحيين …؟
(٦) حالة الفرس الداخلية
أما الفرس فقد كانت حالتهم الاجتماعية في غاية الانحطاط قبل الإسلام بمدة طويلة لانشقاق عصاهم بتشعب المذاهب عن ماني ومزدك، ومن غريب دعوى هذا الأخير أن إلهه بعثه ليأمر بشيوع النساء والأموال بين الناس على السواء، لأنهم أخوة أولاد أب واحد، وتبع هذا المذهب قباذ أحد ملوكهم، فجاء بعده من نقضه وأقام غيره وتشعبت الآراء هناك وفسدت الأخلاق، وفيما كان الروم والفرس على ما ذكرناه من الانحلال كان العرب في إبان نهضتهم، وقد اجتمعت كلمتهم واشتد أزرهم بمن كان يهاجر إليهم من رجال الروم والفرس أنفسهم، فرارًا من تغالب الأحزاب أو ضعف الحكام.