البريد
يراد بالبريد في الدول الإسلامية غير ما يراد به الآن، فقد كان صاحب البريد أو صاحب الخبر أشبه برئيس البوليس السري، أو رقيب أصحاب الأعمال، أو هو عبارة عن جاسوس الخليفة أو الأمير، أو عينه الباصرة وأذنه السامعة، ينقل إليه أخبار عماله أو مساعي أعدائه، فالبريد من هذا القبيل أشبه بقلم المخابرات.
وكان الخلفاء لا يولون البريد إلا ثقتهم من أهل التعقل والدراية، لأن على ما ينقلونه من الأخبار تتوقف علاقات الخلفاء بعمالهم أو بمعاصريهم، وكان كسرى لا يولي البريد إلا أولاده.
(١) ولاية البريد
وولاية البريد قديمة، كانت عند الفرس والروم، وأول من اتخذها من المسلمين معاوية بن أبي سفيان، اقتداء بما كان قبله في الشام أو ما أشار عليه به عماله في العراق، وكان الغرض منه في أول وضعه، سرعة إيصال الأخبار بين الخليفة في الشام وعماله في مصر العراق وفارس، ثم توسعوا فيه حتى جعلوه عينًا للخليفة على عماله وسائر رجال دولته، فإن طاهر بن الحسين لما قطع الخطبة للمأمون على منبر خراسان، عاتبه صاحب البريد فاعتذر أنه سهو وقع منه، وتقدم إليه أن لا يكتب إلى الخليفة به، وتكرر ذلك منه ثلاث مرات وطاهر يتقدم إليه أن لا يكتب، فقال له صاحب البريد «إن كتب التجار لا تنقطع من بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيرنا لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي»، فقال «اكتب إليه»، فكتب.
وكان البريد واسطة العلاقة بين الولاة والخليفة، ينقل أوامر الخلفاء إلى ولاتهم وأخبار الولاة إلى خلفائهم، وكان أصحاب البريد رقباء أو مفتشين من قبل الدولة، يرفعون التقارير عن أحوال الجند أو المال أو غير ذلك من أمور المملكة، فإذا تكدرت العلائق بين العامل (الوالي) والخليفة، وأراد العامل أن يستقل أو يتمرد، قطع البريد عن الخليفة، كما فعل المأمون لما سمع وهو وال في خراسان أن أخاه الأمير نقض بيعته وبايع ابنه موسى بولاية العهد بعده، فإنه أسقط اسم الأمين من الطراز وقطع البريد عنه.
وكان بنو العباس أكثر الناس عناية في أمر البريد، وبالغوا في استخدامه حتى نسب إلى بعضهم مباشرة ذلك بنفسه للاطلاع على أحوال ولاته ونوابه ورعيته، وربما تطلعوا به على أحوال العوام وآحاد الناس، وقد رتب بعض الخلفاء ذلك جهارًا، فعين مع وزيره صاحب خبر من الثقات ينهي إليه ما يجري في مجلسه، فلا يحسن الوزير لأحد ولا يجتمع به أحد من الناس إلا بحضور ذلك الشخص، وكذلك فعل مع القاضي والنائب وجمع ولاة الأعمال، وكان أبو جعفر المنصور يقول «ما أحوجني أن يكون على بأبي أربعة نفر لايكون على بابي أعف منهم، وهم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية» ثم عض المنصور على إصبعه السبابة ثلاث مرات وهو يقول في كل مرة «آه! آه!»، قيل «ما هو يا أمير المؤمنين؟»، قال «صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة».
فأصحاب الأخبار هنا بمعنى جواسيس هذه الأيام، ولم يكن بين صاحب البريد والخليفة أو السلطان أو الأمير واسطة، فإذا جاء صاحب البريد بخبر لا يطلع أحدًا عليه قبل إنهائه إلى الخليفة، ليكون هو الذي يشيعه أو يكتمه على ما يراه.
وقد يجعل الملوك أو الأمراء بينهم وبين صاحب بريدهم علامة يتفقون عليها سرًّا، فلا يعتمد أحدهم كتاب صاحب بريده إلا إذا كانت فيه تلك العلامة — ولو كان الكتاب بخط صاحب البريد نفسه وخاتمه — إذ قد يفعل ذلك بالرغم عنه، نحو ما فعل أبو مسلم الخراساني لما دعاه المنصور إليه من خراسان إلى بغداد، وخاف أبو مسلم عاقبة تلك الدعوة فاستخلف أبا نصر مالك بن الهيثم على عسكره وقال له «أقم حتى يأتيك كتابي، فإن أتاك مختومًا بنصف خاتم فأنا ختمته، وإن أتاك بالخاتم كله فلم أختمه»، فلما جاء أبو مسلم إلى المنصور في المدائن وكان ما كان من قتله، كتب المنصور إلى أبي نصر عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ما خلف عنده وأن يقدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى أبو نصر الخاتم تامًّا علم أن أبا مسلم لم يكتبه.
ومصلحة البريد ولاية جليلة خطيرة، يحتاج صاحبها إلى عمال عديدين وإلى نفقات طائلة للتوسعة عليهم حتى يظلوا على أمانتهم، وكان في جملة واجبات صاحب البريد حفظ الطرق وصيانتها من القطاع والسراق، وطرق الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر، وإليه كانت ترد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف، وهو يوصلها في أسرع ما يمكن من اختصار الطرق واختيار المراكب.
(٢) طرق البريد
وكان للبريد طرق تتشعب من مركز الخلافة إلى أطراف المملكة، حتى تتصل بطرق الممالك الأخرى، وتنقسم كل طريق إلى محطاتٍ أو مواقفَ فيها أفراس أو هجن، فيستبدل عمال البريد أفراسهم بأفراس مستريحة في كل موقف، التماسًا للسرعة، وكان الغالب في العرب أن يتخذوا الجمال لبريدهم، وأما الفرس فكانوا يستخدمون الخيل.
وبلغ عدد سكك البريد في إبان الدولة العباسية ٩٣٠ سكة، ونفقات الدواب وأثمانها وأرزاق رجالها ١٥٩١٠٠ دينار في السنة، وقد رأيت في كلامنا عن خراج السواد في أيام بني أمية أنه كان ينفق على البريد أربعة ملايين درهم، أي نحو ضعفي ذلك، وهو يؤيد ما قلناه غير مرة عن بذل بني أمية الأموال في سبيل تأييد سلطانهم.
وكان قطار البريد يتألف من دابة فأكثر، حتى تبلغ أربعين أو خمسين دابة، وكثيرًا ما كانوا يستخدمون خيل البريد لحمل بعض الناس إلى الخليفة أو الأمير، التماسًا لسرعة قدومهم، وتختلف سرعة البريد باختلاف الطرق ونوع المراكب، بين أن تكون إبلًا أو خيلًا، وكانوا يعلقون في أعناق الدواب جلاجل أو سلاسل، إذا تحركت سمعت لها قرقعة تعرف عندهم بقعقعة البريد، وقد ترسل البريد على السفن في البحار.
ومن طرق المخابرة بالبريد، غير نقل الخرائط على الدواب أو في البحار، إرسالها مع السعاة، وهم رجال خفاف تعودوا الجري والصبر على السير ثلاث مراحلَ في رحلة، وأهل البراري أنشط لذلك، وأول من أنشأ السعاة في الدولة العباسية معز الدولة، أنشأها في بغداد لإعلام أخيه ركن الدولة بالأحوال سريعًا، ونبغ في أيامه ساعيان، اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش فاقا سائر السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفًا وأربعين فرسخًا، أي نحو ١٤٠ ميلًا واتصل استخدام السعاة في سائر الدول الإسلامية.
(٣) حمام الزاجل
(٤) طرق أخرى للمخابرة
ومن طرق المراسلة عندهم أن تكتب ورقة تعلق بقصبة، وتغرس القصبة في باقة حشيش وتلقى في الماء، فيعوم الحشيش ولا يزال جاريًا بمجرى النهر حتى يراه المرسل إليه، ومنها أن تكتب الأخبار على السهام وترمى إلى المكان المراد إرسال الخبر إليه، ويغلب أن يكون ذلك في أيام الحصار وانقطاع السبل.
ومن طرق المخابرة بناء المناظر أو المنائر كالأبراج العالية على المرتفعات، ونقل الإشارات عليها بإشعال النار أو نحوه، فينتقل الخبر بها من منظرة إلى منظرة حتى تبلغ المكان المطلوب، وكان ذلك معروفًا عند اليونان وغيرهم، واستخدمه الحجاج بن يوسف في الإسلام، فاتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهارًا، وإن كان ليلًا أشعلوا نارًا، وكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فيصل الخبر في وقت قصير.
ومن عمال البريد — ما عدا السعاة — الشعوذي وهو رسول الأمراء على البريد، والكوهبانية وهم أصحاب الأخبار الذين يرسلون للاستطلاع، ورجال يتولون فض الخرائط بين يدي الخليفة، والخرائط أجربة أو أكياس من جلد توضع الكتب فيها وتختم بختم المرسل وتحمل إلى المرسل إليه، فيفض ختمها بيده أو بيد من يتولى ذلك عنه.