ديوان الإنشاء
(١) الكتابة
ولما ظهر الإسلام لم يكن يكتب بالعربية إلا بضعة عشر إنسانًا، كلهم من الصحابة وفيهم علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وطلحة وعثمان وأبو سفيان وولداه معاوية ويزيد وغيرهم، فكان علي وعثمان وزيد بن ثابت وعبد الله بن الأرقم ممن كتب للنبي، لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ، فكتبوا له سور القرآن والكتب التي خاطب بها الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكان بعضهم يكتب له حوائجه، والبعض الآخر يكتبون بين الناس في المدينة، والبعض الآخر يكتبون بين القوم في مياههم وقبائلهم وفي دور الأنصار بين الرجال والنساء.
ولما تولى أبو بكر كان عثمان بن عفان كاتبه يكتب له الكتب إلى العمال والقواد، وصارت الكتابة منصبًا من مناصب الحكومة لا يستغنى عنه، فلما تولى عمر كتب له أولًا زيد بن ثابت ثم حل محله غيره، ولما فتحت الأمصار وتدونت الدواوين عين عمر كاتبًا لكل ولاية يكتب في ديوانها، وكان الكاتب يكتب في أول الأمر لديوان الجند وبيت المال، فتولى عثمان وعلي وانقضت دولة الخلفاء الراشدين والكتابة منحصرة في واحد يضبط حساب الديوان من أعطيات الجند وأسمائهم ويكتب المراسلات، وربما كانا اثنين يتولى الثاني كتابة بيت المال.
ولما انتقلت الخلافة إلى بني أمية، وتعددت مصالح الدولة على ما مر بك، تعدد الكتاب فصارت الكتابة خمسة أصناف: كاتب الرسائل لمخاطبة العمال والأمراء والملوك وغيرهم، وكاتب الخراج يدون حساب الخراج داخله خارجه، وكاتب الجند يقيد أسماء الأجناد وطبقاتهم وأعطياتهم ونفقات الأسلحة وغير ذلك، وكاتب الشرطة يكتب التقارير عما يقع من أحوال القواد والديات وغيرها، وكاتب للقاضي يكتب الشروط والأحكام.
(٢) ديوان الإنشاء
وأهم أصناف الكتاب، كاتب الرسائل وهو أقدمها، وقد يسمى كاتب السر، وهو يد الخليفة وكاتبه ومستودع أسراره، كما كان عمر لأبي بكر، وعثمان لعمر، وكان الخلفاء في أول عهد الإسلام لا يولون هذا المنصب إلا أقرباءهم أو خاصتهم، لما فيه من الخطورة، وظلوا على نحو ذلك إلى أيام بني العباس، فكان كتابهم في أول الأمر يستبدون في الأمر دونهم، ثم صارت الكتابة إلى وزرائهم، ولم يكن الوزير يكتب الرسائل أو الرقاع بيده، ولكنه يمضيها أي يوقع عليها كما يفعل اليوم الوزراء والرؤساء، وأول من وقع على الرقاع عندهم يحيى بن جعفر البرمكي، لما أطلق الرشيد يده في أمور الدولة ومقاليدها، فصار إذا رفع أحد كتابًا في ظلامة أو طلب رزق أو نحو ذلك وقع يحيى عليه بيده، وصار الوزراء بعده يوقعون على الرقاع أو القصص، وربما انفرد بعضهم في ولاية ديوان السر أو ديوان الرسائل أو الإنشاء.
وفي أخريات دولة بني العباس استقلت الكتابة وعهد فيها إلى غير الوزراء وكانوا ببغداد يقال لهم كتاب الإنشاء، وكبيرهم يدعى رئيس ديوان الإنشاء أو صاحب ديوان الإنشاء أو كاتب السر وكل أمور هذا الديوان إلى الوزير، وكانوا يسمونه أيضًا الديوان العزيز، وهو الذي يخاطبه الملوك في مكاتبات الخلفاء بما يشبه ديوان الرياسة أو وزارة الخارجية في هذه الأيام.
(٣) التوقيع
يريدون بالتوقيع في دوائر الحكومة اليوم «الإمضاء»، أما في أيام الخلفاء فكان يراد به ما يعلقه الخليفة على القصص أو الرقاع «العرضحالات» المعروضة عليه لطلب أو شكوى أو نحو ذلك، فيكتب عليها بما يجب إجراؤه أو ما يفيد الجواب على فحواها بما يشبه التأشير أو التعليم في دوائر حكومتنا، وهو من واجبات صاحب ديوان الإنشاء أو من يتعين للتوقيع خاصة، فيجلس الكاتب بين يدي الخليفة أو السلطان في مجالس حكمه وفصله، فإذا نظر الخليفة في الرقاع أمر الكاتب أن يوقع عليها فيتوخى الكاتب أبلغ ما يستطيعه، وكانوا يختارون للتوقيع كتابًا من أهل العارضة والبلاغة ليستقيم توقيعه، فكان جعفر بن يحيى يوقع في القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها، وكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف منها على أساليب البلاغة وفنونها، حتى قالوا: إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار.
(٤) توقيعات الخلفاء وغيرهم
وكان الخلفاء في صدر الإسلام هم الذين يوقعون في القصص والرقاع بأنفسهم أو يأمرون كتابهم بتدوينه، والغالب في توقيعهم أن يكون اقتباسًا من آية أو حديث أو حكمة مشهورة أو شعر حكمي، ومن أمثلة ذلك أن سعد بن أبي وقاص عامل العراق كتب إلى عمر بن الخطاب كتابًا يستأذنه فيه ببناء دار، فوقع عمر في أسفل الكتاب «ابنِ ما يكنك من الهواجر وأذى المطر»، ووقع عمر أيضًا لعمرو بن العاص عامله على مصر، جوابًا على كتاب كتبه إليه «كن لرعيتك كما تحب أن يكون لك أميرك».
وتشكى قوم لعثمان بن عفان من مروان بن الحكم، وذكروا أنه أمر بوجئ أعناقهم فوقع في ذلك الكتاب: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وأرسله إليه. ومن توقيعات علي بن أبي طالب في كتاب جاءه من ابنه الحسن «رأي شيخ خير من جلد غلام»، وكتب سلمان الفارسي إلى علي يسأله «كيف يحاسب الناس يوم القيامة؟» فوقع على كتابه «يحاسبون كما يرزقون».
ومن توقيعات معاوية بن أبي سفيان أن عبد الله بن عامر كتب إليه يسأله أن يقطع مالًا في الطائف فوقع «عِشْ رجبًا تَرَ عجبًا» وكتب زياد بن أبيه إلى معاوية يخبره أن عبد الله بن عباس يطعن في خلافته فوقع في أسفل الكتاب «إن أبا سفيان وأبا الفضل كانا في الجاهلية في مسلاخ واحد، وذلك حلف لا يحله سوء رأيك»، ووقع عبد الملك بن مروان في كتاب جاءه من الحجاج يخبره فيه بسوء طاعة أهل العراق وما يقاسي منهم، ويستأذنه في قتل أشرافهم «إن من يمن السائس أن يتألف به المختلفون ومن شؤمه أن يختلف به المتآلفون»، ووقع في كتاب جاءه من الأشعث وهو ثائر عليه:
وكتب قتيبة بن مسلم إلى سليمان بن عبد الملك يهدده بالخلع، فوقع سليمان على الكتاب:
وكتب إليه قتيبة مرة أخرى بالتهديد فوقع في الكتاب وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وكتب أحد العمال إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في مرمة مدينة، فوقع في أسفل كتابه «ابنها بالعدل ونقِّ طرقها من الظلم»، وكتب إليه عامله على العراق يخبره بسوء طاعة أهلها، فوقع لهى «ارضَ لهم ما ترضى لنفسك وخذ بجرائمهم بعد ذلك»، وكانت توقيعات عمر بن عبد العزيز كثيرة، ووقع يزيد بن عبد الملك على رقعة رجل يتظلم من عامل وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.
ومن توقيعات بني العباس أن بعض أهل الأنبار كتبوا إلى السفاح يشكون أن منازلهم أخذت وأدخلت في البناء الذي أمر به ولم يعطوا أثمانها فوقع «هذا بناء أسس على غير تقوى» وأمر بإعطائهم الأثمان، وشكا أهل الكوفة إلى أبي جعفر المنصور سوء معاملة عاملهم، فوقع على كتابهم «كما تكونون يؤمر عليكم»، ووقع على قصة رجل شكا عيلة «سل الله من رزقه» وجاءه من عامله على حمص كتاب فيه خطأ فوقع في أسفله «استبدل بكاتبك وإلا استبدل بك»، وكتب صاحب أرمينيا إلى المهدي يشكو سوء طاعة رعاياه، فوقع في الكتاب خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وشكا بعضهم إهمال عامله في خراسان فوقع على شكواهم «أنا ساهر وأنت نائم» وأرسله إليه، ومن توقيعات هارون الرشيد إلى عامله في خراسان «داوِ جرحك لا يتسع»، وإلى عامله على مصر «احذر أن تخرب خزانتي وخزانة أخي يوسف فيأتيك منه ما لا قبل لك به ومن الله أكثر منه»، وقس على ذلك سائر توقيعات الخلفاء.
على أن التوقيع لم يكن خاصًّا بالخلفاء، ولكنه كان شائعًا بين الأمراء والكبراء أيضًا مثل زياد بن أبيه وأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، ولجعفر شهرة طائرة في بلاغة توقيعاته كما تقدم، من ذلك توقيعه لمحبوس «ولكل أجل كتاب»، ووقع في كتاب جاءه في شكوى بعض عماله «لقد كثر شاكوك وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت»، وفي رقعة رجل يستأذن في الحج «من سافر إلى الله أنجح»، وفي كتاب رجل طلب ولاية «لا أولي بعض الظالمين بعضًا»، وفي قصة رجل يستمنحه وقد كان منحه مرارًا «دع الضرع يدر لغيرك كما در لك»، وغير ذلك شيء كثير، ومثله للفضل بن سهل وطاهر بن الحسين وغيرها.
(٥) اختصار الكتابة
وكان لهم ولع غريب في اختصار الكتابة في المراسلات اختصارًا يصح أن يتخذ مثالًا للبلاغة، من أمثلة ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يستمده الحنطة والمؤونة من مصر على أثر ما أصاب أهل المدينة من الجهد، فكتب ابن الخطاب يقول «من عبد الله أمير المؤمنين إلى العاصي بن القاصي، سلام، أما بعد فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي، فيا غوثاه ثم يا غوثاه!» فكتب إليه عمرو «لعبد الله أمير المؤمنين من عبد الله عمرو بن العاص، أما بعد فيا لبيك ثم يا لبيك! قد بعثت إليك بِعير أولها عندك وآخرها عندي والسلام». أمثال ذلك كثير في مراسلاتهم، فلتطلب في كتب الأدب والتاريخ.
ولم يكن هذا الاختصار قاصرًا على المكاتبات بينهم وبين عمالهم، لكنه كان شأنهم في كل مكاتباتهم، من أمثال ذلك جواب هارون الرشيد إلى نقفور «نيسوفورس» ملك الروم، وكان قد كتب إليه كتابًا يهدده فيه ويطلب إليه أن يرد ما كان أخذه من الخراج من الإمبراطورة التي كانت قبله، فلما قرأ الرشيد الكتاب احتدم غيظًا فلم يتمالك عن أن أخذ دواة وكتب على ظهر الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم! قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه».
ومثل ذلك جواب يوسف بن تاشفين صاحب مراكش على كتاب الأذفونش ملك الإفرنج الذي يهدده فيه، وكان الكتاب طويلًا فلما قرأه يوسف كتب على ظهره: «الذي يكون ستراه».
(٦) مكاتبة الخلفاء
وكان من القواعد المرعية في مكاتبة الخلفاء أن يبدأوا بأسمائهم قبل مخاطبيهم، ويكلفوا مكاتبيهم أن يراعوا ذلك … كما رأيت فيما دار بين عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ويعدون العدول عنه ذنبًا، وقد كان في جملة ما حمل المنصور على قتل أبي مسلم الخراساني — مع ما له على دولتهم من الفضل — أنه كتب مرة إلى المنصور وبدأ بنفسه، وإذا رأيت في بعض المراسلات ما يخالف هذه القاعدة فإنه سهو من النساخ.
ولم يزل الأمر كذلك إلى أن استولى بنو بويه على الأمر وغلبوا على الخلفاء واستبدوا بهم، فاحتجب الخلفاء ولم يبقَ إليهم في ما يكتب عنهم غالبًا سوى الولايات، وفوض الأمر في غالب المكاتبات إلى وزرائهم، وصارت إذا اقتضت الحال ذكر الخليفة كني عنه بالمواقف المقدسة والمقامات الشريفة والسدة النبوية والدار العزيزة والمحل الممجد، يعنون بالمواقف الأماكن التي يقف الخليفة فيها، ثم انتقلوا إلى تعظيم الأمراء والوزراء بالتلقيب بالمجلس العالي والحضرة السامية وما أشبه.
(٧) الإشارة أو الرمز
ومن تفننهم في المكاتبات الإشارة بحرف واحد إلى مقالة طويلة، كما وقع للسلطان محمود الغزنوي بن سبكتكين بعد أن استقل بالسلطنة، فإنه كتب إلى الخليفة ببغداد يطلب إليه أن يذكر اسمه في الخطبة وينقش اسمه على النقود فامتنع الخليفة من ذلك، فبعث محمود إليه كتابًا يهدده فيه قال في جملته «لو أردت نقل حجارة بغداد على ظهور الفيلة إلى غزنة لفعلت»، فبعث إليه الخليفة كتابًا مختومًا، فلما فتحه محمود لم يجد فيه غير البسملة، وبعدها ألف ممدودة، وفي وسط الكتاب لام، وفي آخره ميم، ثم الصلاة والحمد لله! فتحير السلطان وأهل مجلسه من ذلك، حتى دخل عليهم أبو بكر القهستاني، وكان من كبار العلماء ففكر في ذلك حتى فقه له فقال: «عندي شرحه»، فقال السلطان «قل ولك ما تريد» فقال «إنكم بعثتم تهددون الخليفة بالفيلة فبعث إليكم هذا الكتاب وفيه ألف لام ميم إشارة إلى قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ إلى آخر الآية فارتاع السلطان لذلك وتشاءم وندم وعاد إلى أحسن الأحوال.
ومن هذا القبيل حكاية لطيفة وقعت لسديد الملك علي بن مقلد، صاحب قلعة شيزر في أواسط القرن الخامس للهجرة، وكان شجاعًا مقدامًا موصوفًا بقوة الفطنة، وكان قبل تملكه قلعة شيزر يتردد إلى حلب وصاحبها يومئذ تاج الملوك محمد بن صالح، فوقع بينهما أمر أخاف سديد الملك من تاج الملوك، فخرج سديد الملك إلى طرابلس الشام، وصاحبها يومئذ جلال الملك بن عمار فأقام عنده، فعلم تاج الملوك بذلك، فأراد الاحتيال في استقدام سديد الملك إليه للفتك به، فأوعز إلى كاتبه أبي النصر محمد بن الحسين أن يكتب إليه كتابًا يشوقه فيه ويستعطفه ويستدعيه إليه، وفهم أبو النصر الغرض الحقيقي من ذلك الكتاب، وكان صديقًا لسديد الملك، لكنه لم يَرَ مندوحة عن كتابة الكتاب، فكتبه كما أمر به تاج الملوك، حتى إذا بلغ إلى قوله: «إن شاء الله تعالى» شدد النون في إن وفتحها فجعلها «إنَّ» وأنفذ الكتاب، فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك قرأه، ثم عرضه على ابن عمار صاحب طرابلس ومن في مجلسه من الخواص، فاستحسنوا عبارة الكاتب واستعظموا ما فيه من رغبة تاج الملوك في سديد الملك وإيثاره قربه، فقال سديد الملك «إني أرى في الكتاب ما لا ترون»، ثم أجابه على الكتاب بما اقتضاه المقام، وكتب في جملة ذلك «أنا الخادم المقر بالإنعام» وكسر همزة «أنا» وشدد نونها فصارت «إنَّا» فلما وصل الكتاب إلى تاج الملوك ووقف عليه أبو نصر الكاتب سر بما فيه وقال لأصدقائه: «قد علمت أن الذي كتبته لا يخفى على سديد الملك»، وكان أبو نصر قد قصد بتشديد نون «إنَّ» الإشارة إلى الآية إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، فأجابه سديد الملك بتشديد «إنا» إشارة إلى الآية: إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا.
ومن تفننهم من هذا القبيل ما كتبه عضد الدولة بن بويه إلى أبي منصور أفتكين متولي، وكان أفتكين قد كتب إليه كتابًا مضمونه «إن الشام قد صفا وصار في يدي وزال عنه حكم صاحب مصر، وإن قويتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مستقرهم»، فكتب إليه عضد الدولة جوابًا في كلمات متشابهة لا تقرأ إلا بعد الشكل والتنقيط والضبط وهي: «غرك عزك فصار قصار ذلك دلك فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدا» إلخ. أراد أن لا يقع الكتاب بيد أحد فيطلع على ما فيه، ففهم أفتكين مراده وعمل به.
(٨) أدوات الكتابة
القلم كانوا يصنعونه من القصب نحو ما نفعل اليوم، وأما الحبر وهو المداد فالظاهر أنهم كانوا يصنعونه من مسحوق الفحم أو من الهباب مذابًا في سائل لزج كالصمغ أو نحوه.
وأما القرطاس فأقدم ما كتب فيه العرب من أول الإسلام الرق وهي الجلود، وكتبوا أيضًا على الأقمشة وأشهرها نسيج مصري كانوا يسمونه القباطي، وعليه كتبت المعلقات السبع قبل الإسلام، وإذا تعذر ذلك كتبوا على الخشب أو العظام أو على قطع الخزف أو على الأحجار أو نحو ذلك.
ولما فتحوا مصر اتخذوا البردي فكان أكثر مكاتبات الأمويين على البردي والقباطي، وفي دار الكتب المصرية في القاهرة آثار مخطوطة بالعربية عثروا عليها في بعض أنحاء القطر المصري، شاهدنا بينها صفحة من البردي وقطعًا من القباطي، وقد ظهري البلى فيها والكتابة لا تزال ظاهرة عليها، ورأينا قطعًا من الفخار عليها كتابة عربية أيضًا، وتلك المخطوطات لا يتجاوز تاريخها آخر القرن الأول للهجرة، وكلها معروضة في معرض دار الكتب المصرية.
فلما كانت أيام الدولة العباسية اتخذوا الكاغد، والذي أشار به الفضل بن يحيى البرمكي فاصطنعوه، والأرجح أنهم أخذوه عن صناعة الصين، لأن الصينيين برعوا في صناعة الورق قبل الميلاد، وكانت هذه الصناعة منتشرة في بلادهم، فلما فتح المسلمون سمرقند أخذوها عنهم، لكنهم لم يجتهدوا في تعاطيها إلا في إبان الدولة العباسية، إذ ضاقت الرقوق والجلود عن المكاتبات والمراسلات والسجلات، فأشار الفضل باصطناعه فأنشأوا له المصانع في بغداد والشام وغيرهما من عواصم الإسلام.