الحجابة
يراد بالحاجب في دول الإسلام ما يراد بالتشريفاتي في هذه الأيام، وهو الذي يتولى الإذن للناس في الدخول على الملك أو السلطان أو الأمير، ولا بد منه في الدولة، حفظًا لهيبة الملك، وكلما أعرقت الدولة في المدنية واستغرقت في الترف تكاثف الحجاب بين ملكها ورعاياه، فكان الخلفاء الراشدون يفتحون أبواب مجالسهم لأي من كان، ويخاطبون الفقير والغني والصعلوك والقوي بلا حجاب ولا كلفة.
فلما تحولت الخلافة إلى الملك كان في جملة ما أدخلوه على الدولة التدقيق في الحجاب، وترتيب الناس في الدخول على الخلفاء بحسب طبقاتهم وأنسابهم، وأول من انتبه لذلك معاوية بن أبي سفيان، نبهه إليه زياد بن أبيه، فكانوا يفضلون في الدخول أهل البيوتات، أي أهل النسب، فإذا تساوت الأنساب فضلوا أهل السن، فإذا تساوت فضلوا أهل الأدب والعلم، لكنهم كانوا يبيحون الدخول لأربعة في أي وقت شاءوا وهم المؤذن، وطارق الليل، ورسول الثغر، وصاحب الطعام، ومن هذا القبيل قول زياد لحاجبه «وليتك حجابتي وعزلتك عن أربعة هذا المنادي إلى الهل في الصلاة والفلاح لا تفرجنه عني فلا سلطان لك عليه، وطارق الليل لا تحجبه فشر ما جاء به، ولو كان خيرًا ما جاء به في تلك الساعة، ورسول الثغر فإن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة فأدخله علي وإن كنتُ في لحافي، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد».
فلما جاءت دولة بني العباس وصارت إلى ما هو معروف من العز والترف، زادوا في منع الناس عن ملاقاة الخليفة إلا في الأمور الهامة، وهذا ما يسميه ابن خلدون بالحجاب الثاني، وصار بين الناس والخليفة داران: دار الخاصة ودار العامة، يقابل كل فئة في مكان على ما يراه الحجاب، وتطرقوا عند انحطاط الدولة إلى حجاب ثلاث أحصن من الأولين، ولا يكون هذا إلا عند الحجر على صاحب الدولة، وذلك أن أهل الدولة كانوا إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وأرادوا الاستبداد عليهم، فأول ما يتوخونه حجب البطانة وسائر الأولياء عنهم، ويوهمونهم أن في مباشرتهم خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب، كما حدث في آخر أيام العباسية، ولا يكون ذلك إلا في أواخر الدولة.