الخلفاء الراشدون
(١) الخلاف بين المهاجرين والأنصار
كان النبي في أثناء حياته أمير المسلمين وقائدهم في الحرب، وإمامهم في الصلاة، وقاضيهم في سائر الأحوال، فلما مات ولم يخلف ذكرًا ولا أوصى بالخلافة لأحد — وأما قوله لعلي المتقدم ذكره أنه وصيه فالأئمة مختلفون فيه — اختلفوا عند موته فيمن يخلفه، وأولى الناس بخلافته أصحابه وهم المهاجرون والأنصار، فقال المهاجرون نحن أحق بالخلافة، لأننا أهل النبي وأصحابه وقد تركنا أهلنا وبلدنا وهاجرنا معه. وقال الأنصار بل نحن أحق بذلك، لأننا آويناه ونصرناه. واشتد الجدال بينهما حتى كاد يفضي إلى النزاع، فذكَّرهم أبو بكر بحديث كان النبي قد قاله على مسمع منهم وهو «قريش ولاة هذا الأمر» فأذعنوا وتراجع الأنصار.
ولكن الخطر ما زال يهدد الإسلام من اختلاف المهاجرين على من يختارونه لذلك المنصب العظيم، فأحس عمر بن الخطاب رجل المسلمين بذلك، وخاف الفشل، لأن الإسلام قام على الاتحاد، فبادر إلى أبي بكر فبايعه والناس ينظرون، وهم إنما كانوا يخافونه إذا طلب الخلافة لنفسه، لشدة بطشه وقوته، فلما رأوه سبقهم إلى مبايعة أبي بكر بايعوا معه وانفض المشكل.
(٢) خلافة أبي بكر
أما مبايعتهم أبا بكر دون سائر المهاجرين وفيهم العباس عم النبي وعلي بن أبي طالب ابن عمه وغيرهما من بني هاشم أهل بيته ففيه نظر، والظاهر من أقوال عمر وغيره في مواقف مختلفة أنهم رأوا بني هاشم قد اعتزوا بالنبوة، لأن النبي منهم فلم يستحسنوا أن يضيفوا إليها الخلافة، ولعلهم فعلوا ذلك اقتداء بالنبي نفسه، لأن عمه العباس طلب إليه مرة أن يوليه عملًا فأبى، وصرح بذلك بنو هاشم أنفسهم وفي مقدمتهم الحسن بن علي لما تنازل عن الخلافة لمعاوية فقال «أبى الله أن يجمع النبوة والخلافة فينا».
ومما ساعد على اختيار أبي بكر دون سائر المهاجرين من غير بني هاشم — مثل عمر وعثمان وطلحة والزبير — أنهم اعتبروا السبق في الإسلام، لأن أبا بكر أسبق رجالهم إليه جميعًا، وهناك سبب آخر ذو شأن عند العرب من عهد جاهليتهم وهو السن، ولفظ الشيخ يدل عندهم على الشيخوخة والسيادة معًا، وكانوا إذا تساوت المناقب في من يترشحون للإمارة فضلوا كبيرهم سنًّا مع ملاحظة المقام الأدبي — كذلك فعلت قريش في حرب الفجار الثاني فإنها جمعت بطونها وعلى كل بطن رئيس ورأسوا عليهم جميعًا حرب بن أمية، قال ابن الأثير «وولوه عليهم جميعًا لمكانه من عبد مناف سنًّا ومنزلة»، وقد جمع أبو بكر الامتياز بالسن والوجاهة على سائر قريش، وفوق كل ذلك فإن النبي لما مرض أنابه للصلاة في المسلمين وهي من حقوق الإمامة، فضلًا عما امتاز به من العلم وصدق العزيمة وقوة التدبير وعلو الهمة وغير ذلك من المناقب.
وأول خطبة قالها أبو بكر بعد المبايعة تمثل حقيقة الإسلام، وتبين السر الذي ساعد على سرعة انتشاره وتأييد سلطانه وهي «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله تعالى، لا يدع أحد منكم الجهاد فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
(٢-١) الردة
تسلم أبو بكر الخلافة والإسلام في غاية الاضطراب بسبب الردة التي أشرنا إليها، ومن أسبابها أن بعض القبائل دانت للإسلام ولم يتمكن الإسلام من عقولهم وقلوبهم، فلما مات النبي تبادر إلى أذهانهم أن الدعوة إلى النبوة أمر هين وظنوا أنفسهم يستعينون على تأييد دعواهم بقبائلهم وهي أكثر رجالًا من قريش، فكيف يستطيع هؤلاء السيادة على جزيرة العرب كلها وهم قليلون؟ فادعى النبوة غير واحد، وفيهم طليحة الأسدي من بني أسد، وسجاح التميمية من تميم، ومسيلمة من بني حنيفة في اليمامة، وغيرهم، واستعان كل منهم بقبيلته وأنصاره، فدعا ذلك إلى اضطراب الأحوال في سائر القبائل، فمنهم من رفض الإسلام وتابع أولئك الدعاة، ومنهم من اكتفى بالامتناع عن أداء الزكاة، والزكاة من دعائم الإسلام الأولية، ولها شأن المال في الدولة، والمال ضروري لقيام الدول في كل زمان ومكان، وبعض العرب امتنعوا عن الزكاة، لأنهم عدوها من قبيل الإتاوة التي كانوا يدفعونها في جاهليتهم.
واشتد أمر الردة واستفحل المرتدون، حتى حمل بعضهم على المدينة نفسها وهي عاصمة المسلمين، فهاجموها وكادوا يأخذونها لو لم يدافعهم أبو بكر دفاعًا جميلًا، وقد تصرف في محاربة المرتدين تصرفَ الرجل الحكيم الحازم، وبين يديه نخبة القواد وأهل الحزم، فعقد لهم الألوية للقتال، وبلغ عدد ما عقده منها أحد عشر لواءً عقدت لأحد عشر قائدًا في جملتهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص.
فلم تمضِ على ذلك سنتان حتى استتب الأمر لأبي بكر، وعاد الناس إلى ما كانوا عليه وسكنت الأحوال، فحول التفاته إلى الشام والعراق، اقتداءً بما أراده النبي، فوجه إليهما الجنود فجرت واقعة اليرموك الشهيرة سنة ١٣ﻫ وكانت سببًا في فتح الشام، واشتد أزر المسلمين بها كما اشتد أزرهم بواقعة بدر الكبرى.
(٣) خلافة عمر
وتوفي أبو بكر في تلك السنة وقد أوصى بالخلافة لعمر بن الخطاب، وليس هو أكبر سائر المهاجرين سنًّا، لكن الصحابة لم يكونوا مخيرين في خلافته، لأن أبا بكر أوصى له بها، وكان عمر رجلًا حازمًا عادلًا شديدًا في الحق، وفي أيامه تم فتح الشام والعراق وأهم وقائعها واقعة القادسية سنة ١٤ﻫ وهي من أشهر الوقائع الرئيسية التي فاز فيها المسلمون، وفي أيامه فتح بيت المقدس واشترط أهلها أن يأتي عمر بنفسه لعقد الصلح على يديه، وفتحت المدائن عاصمة الفرس سنة ١٦ﻫ ثم أوغلت جنود المسلمين في فارس، وفتحت الجزيرة وأرمينيا سنة ١٧ﻫ، وفتحت مصر على يد عمرو بن العاص، ثم فتحت برقة.
وهو الذي دون الدواوين ووضع الأعطية كما سنفصله، وفي أيامه بنيت الكوفة والبصرة والفسطاط، وبنى المسجد الحرام بمكة ووسع فيه فأضاف إليه ما كان يخاوره من الأرض، ابتاعها من أصحابها.
وقتل الإمام عمر سنة ٢٣ﻫ وخلفه عثمان بن عفان، ونظرًا لكثرة الفتوح في أيامه نذكر الأسباب التي ساعدت عليها.