الفتوح الإسلامية في صدر الإسلام
للكتَّاب وأهل النقد بحث طويل وجدال عنيف في الأسباب التي ساعدت العرب على فتح بلاد الروم والفرس، وقهر القياصرة والأكاسرة برجال يكاد لا يزيد عددهم على عدد حامية مدينة من مدن أولئك، مع ما كان عليه العرب يومئذ من سذاجة المعيشة وقلة الدربة في فنون الحرب وضيق ذات اليد وضعف العدة، والروم والفرس أعظم دول الأرض يومئذ وعندهما العدة والرجال والحصون والمعاقل، وزد على ذلك أن العرب فضلًا عن قلتهم وسذاجة أحوالهم جاءوا مهاجمين في بلاد لا يعرفونها ولا نصير لهم فيها، وأغرب من ذلك كله أنهم فتحوا تينك المملكتين في مدة لا تتجاوز بضع عشرة سنة، فكيف تأتَّى لهم ذلك؟
أشهر أقوال أهل النقد في هذا الشأن أن العرب لم يستطيعوا فتح تينك المملكتين إلا لِمَا كان فيه الروم والفرس من التضعضع والضعف، على أثر ما كان من الحروب بينهما قبيل الإسلام مما بيناه في فصل سابق، وعندنا أن ذلك التضعضع لم يكن وحده علة ذلك النصر، وإلا لكانت إحدى الدولتين أولى بالاستيلاء على جارها وعدوتها من أمة صغيرة قليلة العدد ضعيفة العدة غلبت الدولتين جميعًا، على أننا لا ننكر ما كان لتضعضع الروم والفرس من التأثير في تسهيل الفتح ولكنه لم يكن هو علته، وهناك أسباب أخرى سيأتي بيانها.
(١) ما الذي جرأ العرب على الفتح؟
لنبحث أولًا في الأسباب التي جرأت العرب على مهاجمة تينك المملكتين، وهم أهم بادية ما برحوا من أجيال متطاولة ينظرون إلى الروم والفرس نظر الاحترام والتهيب، يضربون الأمثال بضخامة ملكهما ويخافون اسميهما، فكيف تتجرأ شرذمة منهم على مناوأتهما ببضعة آلاف ليس على أبدانهم إلا غليظ الكساء، وأكثر طعامهم الشعير، وعدتهم الرماح مشدودة بعصب والسيوف معلقة بخرق؟ ولماذا لم يفعلوا ذلك قبل الإسلام؟ والجواب على ذلك أن العرب أصبحوا بعد الإسلام غير ما كانوا عليه قبله كانوا قبائلَ مشتتةً متباغضة فأصبحوا أمة واحدة بقلب رجل واحد، وهذا وحده لا يكفي لإقدامهم على هذا الأمر العظيم، وإنما ساعدهم على ذلك اعتقادهم صدق الدعوة التي دعوا إليها، اعتقادهم أنهم إنما يفتحون الدنيا في سبيل الدين، وأن الله يدعوهم إلى نشر الإسلام في الأرض، وأن من مات منهم مات شهيدًا، وأن العالم الآتي خير وأبقى، هذا الاعتقاد هو الذي جرأ العرب على ركوب هذا المركب الخشن، غير ما ذاقوه من حلاوة النصر في غزواتهم وسراياهم في أيام النبي، والإنسان إذا خدمه التوفيق في أمر هانت عليه المخاطر بكل ما له في سبيله.
(١-١) الاتحاد بالإسلام
أما الاتحاد بالإسلام فإنه ظاهر في كل أعمالهم، يشهد بذلك ما قدمناه من أمر المعاهدة والمؤاخاة في أول سنة للهجرة، ويؤيده أن الإسلام عنوان التوحيد كما يتضح من مراجعة القرآن والحديث، ولا تكاد تخلو خطبة من خطب الخلفاء أو الأمراء في صدر الإسلام من الإشارة إلى تلك الوحدة، وتذكير المسلمين بما كان عليه آباؤهم في الجاهلية من التفرق والتشتت، وما يدعوهم إليه الإسلام من نزع العصبية وتوحيد الكلمة، وقد زاد متانة تلك الوحدة اجتماعهم خمس مرات في اليوم للصلاة خلف الإمام أو من يقوم مقامه، وفي ذلك من توطيد عرى الاتحادة والإجماع على الطاعة ما لا يخفى، ذكر البلاذري أن أبا سفيان لما جاء المسلمين قبل الفتح — وهو لم يسلم بعد — رآهم قائمين للصلاة إذا ركع النبي ركعوا وإذا سجد سجدوا فقال «تالله ما رأيت كاليوم طواعية قوم جاءوا ههنا وههنا ولا فارس الكرام والروم ذات القرون».
(١-٢) اعتقادهم صدق الدعوة
يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأننا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم وأشد لحرصنا عليهم، لأن ذلك أعضر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما شيء أقر لأعيننا ولا أحب لنا من ذلك، وإننا منكم حينئذ لعلى إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، ولإنها أحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله — عز وجل — قال لنا في كتابه كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وما منا رجل إلى ويدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة وأن لا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه، وقد استودع كل منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا، وأما قولك إننا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا! فنحن في أوسع السعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه …
وأمثال ذلك كثير في تاريخ الإسلام حتى لقد كان المسلم يقاتل أباه وأخاه إذا كانا مشركين ولا يبالي … بل هو يعتقد أنه يفعل خيرًا، ويؤيد ذلك ما جاء في تواريخ الأديان الأخرى فإن الإنسان لا يستهلك في أمر ويعرض حياته للخطر من أجله إلا إذا كان من قبيل الدين، وفي أحاديث الشهداء عند النصارى وسائر الأديان الأخرى ما يكفي.
(١-٣) خصب البلاد المفتوحة
وقد زاد في رغبة العرب في فتح الشام والعراق ومصر ما علموه من خصب تلك الأرضين وكثرة خيراتها، وبلادهم قاحلة لا تفي بمطالبهم بعد تلك النهضة الدينية، وكانت بعض القبائل التي دخلت الإسلام، تحارب لمجرد الكسب من الأسلاب والغنائم، يستدل على ذلك مما أظهروه بعد غزوة حنين والطائف، فقد كانت الأموال كثيرة والغنائم غزيرة — كما تقدم — فلما فرغوا من الحرب ورد السبايا «ركب (النبي) وتبعه الناس يقولون يا رسول الله قسم علينا فيأنا من الإبل والغنم، حتى ألجأوه إلى شجرة فاختطفت عنه رداءه فقال ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالله لو كان بعدد شجر تهامة نعمًا لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلًا ولا جبانًا ولا كذوبًا».
(٢) ما الذي ساعدهم على الفتح؟
ذلك ما جرأ العرب على الفتح، أما ما ساعدهم عليه فهاك تفصيله:
(٢-١) نشاطهم وخفة أحمالهم
لأنهم أهل بادية تعودوا خشونة العيش فأصبحوا لا يبالون بالجوع ولا العطش، إذا سافر أحدهم إلى حرب لا يحمل معه شيئًا يثقل كاهله أو يشغل بعيره، وقد لا يحملون طعامًا وإنما يقتاتون بما يكسبونه بالغزو في أثناء الطريق.
وللإبل فضل كبير في تغلب العرب، لأنها كانت تقوم عندهم مقام المركبات والخيول والماشية عند الروم، فالعربي يركب ناقته ويحمل عليها أثقاله ويغتذي من لبانها ويستريح في ظلها، وهي تقتات بالعشب في الصحراء ولو كان يابسًا، وتصبر على الجوع وتحتمل الظمأ أيامًا، وأما الرومي أو الفارسي فلا يستطيع الانتقال إلى الحرب إلا بالأحمال والأثقال من المؤونة والذخيرة مما لا يقوى على حمله إلا المركبات، والمركبات تحتاج في جرها إلى دواب، والدواب تحتاج إلى طعام ومياه، ويذكرنا ذلك بما شاهدناه في حرب الإنجليز وعرب السودان في أثناء الحملة النيلية التي أنفذوها سنة ١٨٨٤ لإنقاذ غردون باشا من الخرطوم، فقد كان الإنجليزي لا يستطيع الانتقال إلا ومعه الأحمال من البقسماط واللحوم المطبوخة والسكر والشاي والبن والشمع وفناطس الماء وأحمال الخيم والأمتعة وأطعمة الخيل، وغير ذلك مما يحتاج إلى الدواب الكثيرة، فكان رجال حملة «المتمة» ١٤٠٠ وجمالها أربعة آلاف ومعها الجمالة والخدم، وهي عبء ثقيل على كاهل الحملة، وأما السوداني فقد كان في غنى عن كل ذلك بجراب فيه شيء من الذرة الناشفة يتأبطه ويمشي.
(٢-٢) اعتقادهم بالقضاء والقدر
وأن الإنسان لا يموت إلا إذا جاء أجله، فإذا أتت ساعته مات ولو كان على فراشه، وإذا تأخرت فلا يصاب بسوء ولو كان تحت مراهف السيوف، وكان هذا الاعتقاد متمكنًا فيهم وهو علة معظم ما كان يبدو من بسالتهم في وقائعهم المشهورة، وفي تاريخ الفتح شواهد كثيرة على ذلك.
(٢-٣) مهارتهم في ركوب الخيل ورمي النبال
فقد كانوا أمهر من الروم والفرس فيهما، وخيل العرب أنجب من خيول أولئك، وكانت أكثر وقائعهم بالمبارزة بين الأفراد على جاري العادة في تلك العصور، فيختارون فارسًا من كل جند فيتبارزان، فمن غلب كان أصحاب الغالبين، وكان العرب يغلبون في المبارزة على الأكثر، وكثيرًا ما كان نصرهم متوقفًا على غلب في مبارزة أو رمي بنبلة صائبة إذا أصابت رئيس الجند أحبطت رجاله، وسيأتي تفصيل ذلك في كلامنا عن السلاح.
(٢-٤) رجال صدر الإسلام
اختص صدر الإسلام برجال توفرت فيهم خصال النصر، وقد امتاز ذلك العصر بنبوغ الرجال العظام كما امتاز عصر نابليون الكبير بقواد لم تلد فرنسا مثلهم، وقد نبغ قواد نابليون على أثر الثورة الفرنسية، كما نبغ قواد الصدر الأول للإسلام على أثر واقعة الفيل التي سطا بها الأحباش على الكعبة، وحركت ساكن العرب فأظهرت قواهم بالضغط والاحتكاك كما تقدم، فكأن الله قدر للعرب النصر فاختصهم بقواد من نخبة رجال العالم في الحرب والسياسة والدهاء والحكمة، كخالد بن الوليد وخالد بن سعيد وأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص ويزيد بن أبي سفيان وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، ممن تغلب عليهم البسالة ويحسنون قيادة الجند، ومثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد بن أبيه من أهل الدهاء والسياسة، وأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب من أهل الحزم والتقوى وصدق العزيمة.
فنبوغ هؤلاء الرجال وأمثالهم في أوائل الإسلام، كان من أكبر العوامل في سرعة نجاحه، وكان المسلمون يعلمون ذلك حتى إن النبي نفسه قال في أول ظهور الدعوة «اللهم أيد الإسلام بأبي جهل بن هشام» ولما أسلم حمزة وعمر بن الخطاب قال «قد تأيد الإسلام بحمزة وعمر»، وأمثال أبي بكر وعمر وعلي وابن العاص ومعاوية وخالد لو ظهروا اليوم لكانوا من عظماء الناس الذين يمثلهم العالم المتمدن بعظمتهم، كما يتمثل الإفرنج ببونابرت وكرومويل وبسمارك وغلادستون وغيرهم، غير من ظهر من رجال الإسلام في عصر الأمويين والعباسيين.
(٢-٥) الصبر والمطاولة
أصبح العرب بعد فشلهم في واقعة مؤتة وقد عرفوا قوة الروم وخبروا كثرتهم، وعلموا أن قتالهم غير قتال أهل البادية الذين كانوا يغزونهم ببلاد العرب، فلما تحققوا من ذلك جعلوا عمدتهم في حروبهم الصبر والمطاولة، والصبر هين عليهم لاكتفائهم بالشيء اليسير من الطعام واللباس كما تقدم، وإذا قل زادهم عمدوا إلى الغزو واقتاتوا بما تصل إليه أيديهم من الماشية أو الحنطة أو غيرهما.
وكانت حروبهم في أول خروجهم إلى الشام والعراق أشبه بالغزو منها بالفتح، بل تلك كانت قاعدتهم في أكثر فتوحهم، كانوا يرسلون جماعة منهم لغزو البلد الذي يريدن فتحه — وقد لا يكون قصدهم الفتح في بادئ الرأي — فيحومون حول البلد يغزون وينهبون حتى تتاح لهم فرصة للفتح فيغتنمونها، كذلك فعلوا في كثير من فتوحهم في صدر الإسلام وبعده، فإن موسى بن نصير إنما أرسل طارقًا إلى سواحل إسبانيا سنة ٩٢ﻫ غازيًا لا فاتحًا، فاتفقت له أسباب ساعدته على الفتح تشبه الأسباب التي ساعدت العرب على فتح الشام فدخل طارق الأندلس، فلما بلغ موسى ذلك استغربه وشق عليه أن لا يكون هو الفاتح فبعث يستوثق منه، إلى آخر ما كان بينهما، هكذا كان شأنهم قبل ذلك في فتح إفريقية وما يليها.
(٢-٦) نجدة العرب
كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية، والمسلمون هم العرب حتى أصبح اللفظان مترادفين في كثير من الأحوال، وكان العرب أقرب الأمم للدخول في الإسلام لما اختصهم به دون غيرهم من الافتخار، وتمكن ذلك من الأذهان خصوصًا لما أمر عمر بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب.
والمسلمون لم يهاجموا مدن الشام والعراق رأسًا، ولكنهم قضوا زمنًا طويلًا يغزون ضواحيهما مما يلي البادية، وسكان تلك البادية عرب مثلهم وفيهم الغساسنة في بصرى وغيرها من حوران على حدود الشام، والمناذرة بنو لخم في الحيرة على حدود العراق، وكان الغساسنة عمال الروم في الشام، وبنو لخم عمال الفرس في العراق، ولم يكن هؤلاء العرب يحبون الروم ولا الفرس، وإنما كانوا يخضعون لهم قسرًا أو طمعًا في الغنائم إذا حاربوا معهم، وخصوصًا بنو لخم، فقد كان بينهم وبين الفرس ضغائن على أثر مقتل النعمان بن المنذر الملقب أبا قابوس، فإن كسرى أبرويز قتله وحصلت بسبب قتله واقعة شهيرة بين الفرس والعرب في مكان يقال له «ذو قار» وبه تعرف الواقعة، فيها انهزم الفرس شر هزيمة، وهي أعظم واقعة انتصف فيها العرب من العجم، ومن غريب الاتفاق أنها حدثت في السنة التي جرت فيها واقعة بدر الكبرى، والعرب فازوا في كلتيهما.
وظلت الضغائن بين المناذرة والفرس حتى جاءهم المسلمون، وعرض عليهم خالد بن الوليد الإسلام أو الجزية أو السيف، فاختاروا الجزية وصالحوه على مال يدفعونه كل عام، ووقع نحو ذلك في بصرى وغيرها من بلاد العرب والنصارى في ضواحي الشام، وفي غيرها من بلاد العرب في حدود البادية بين العراق والشام، كعين التمر وفيها قوم من كندة وإياد، وقراقر وهو ماء لبني كلب، وغيرهم من القبائل التي حاربها خالد في أثناء قدومه من العراق إلى الشام، فكانت العرب أقرب سائر الأمم إلى نجدة الإسلام للأسباب التي قدمناها، ولأسباب أخرى تختص بكل قبيلة على حدة، كحقد عرب اليمن على الفرس منذ فتحوا بلادهم وحكموهم قبل الإسلام، ثم تقلص ظلهم عنهم وانحسر إلى البحرين، وكانت ربيعة تقيم في الجزيرة ببلاد الفرس، وكانوا عونًا للعرب المسلمين على الفرس، نكاية في هؤلاء.
وكثيرًا ما كان هؤلاء العرب وغيرهم من أهل الشام الأصليين يضافرون المسلمين على الروم فرارًا من أداء الجزية، كما فعل الجراجمة في جبل اللكام، فإن حبيب بن مسلمة الفهري غزاهم فبادروا بطلب الأمان، فصولحوا على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام وأن لا يؤخذوا بالجزية … ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم من أهل القرى في هذا الصلح فسموا الرواديف.
(٢-٧) خط الرجعة
ثم إن العرب كانت قاعدتهم في حروبهم هناك المحافظة على خط الرجوع، فلا يقاتلون الفرس أو الروم إلا وهم في حيطة، وكان حفظ ذلك الخط هينًا عليهم، لأنهم كانوا يجعلون الصحراء وراءهم وهي ملجأهم، فإذا اندحروا لا يستطيع الروم أو الفرس اللحاق بهم إليها ولا يهمهم ذلك اللحاق، ومتى عاد الروم إلى مساكنهم عاد العرب عليهم، وهكذا حتى يقلقوا راحتهم ويضعفوهم بالمطاولة والصبر، ولو كانوا أقل عددًا منهم، وشأنهم في ذلك مثل شأن البوير مع دولة الإنجليز لما حاربوها سنة ١٩٠٢، كانوا نفرًا قليلين فأقلقوا راحة الجيوش الإنجليزية بضع سنوات، وهؤلاء أكثر عددًا وعدة وعندهم الحصون والمعاقل، ولكن البوير إنما أتعبوهم بالمطاولة بالسطو حينًا بعد حين، ثم الرجوع إلى مكامنهم بين الجبال حيث لا يستطيع الإنجليز الذهاب إليها إلا تحت الخطر الشديد.
وكانت هذه القاعدة مرعية عند العرب يحرضون بعضهم بعضًا عليها، ومن هذا القبيل قول المثنى بن حارثة الشيباني، أحد قواد العرب لما علم بقدوم المسلمين لمحاربة الفرس في العراق، فبعث إليهم يقول «قاتلوا الفرس على حدود أرضهم على أدنى حجر من أرض العرب، ولا تقاتلوهم بمقر دارهم، فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم، وإن كانت الأخرى رجعوا إلى فيئة ثم يكونون أعلم بسبيلهم وأجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرة عليهم».
ويؤيد ذلك رغبة الخليفة عمر في بقاء المواصلة بين مركز الخلافة في المدينة وبين سائر أطراف المملكة الإسلامية بحيث لا يكون بينه وبين سائر المسلمين ماء، فقد كتب إلى قواده في الأطراف بعد فتح فارس ومصر — وكان سعد بن أبي وقاص مقيمًا في مدائن كسرى وعمرو بن العاص في الإسكندرية — «لا تجعلوا بيني وبينكم ماء متى أردت أن أركب إليكم راحلتي حتى أقدم عليكم قدمت» فتحول سعد إلى الكوفة وتحول عمرو إلى الفسطاط، فأقاما بجندهما في مضارب الخيام، ثم صارت تلك المضارب مدنًا بعد ذلك.
(٢-٨) واقعة اليرموك وواقعة القادسية
وإذا تأملت في تفاصيلها رأيت سبب الفوز فيها سداد رأي عمرو بن العاص وشجاعة خالد بن الوليد، وذلك أن الروم لما رأوا ما كان من مناوأة العرب لهم في ضواحي الشام ومطاولتهم، جمعوا قواتهم وعزموا على الفتك بهم دفعة واحدة، وكان المسلمون متفرقين في ضواحي الشام والعراق، فتكاتبوا بشأن ذلك فقال عمرو بن العاص «إن الرأي عندي لمثلنا الاجتماع، فإننا إذا اجتمعنا لا نغلب من قلة وإن تفرقنا لا تقوم كل فرقة بمن استقبلها، لكثرة عدونا» فكتبوا إلى أبي بكر بذلك فأجاب مثل جواب عمرو، فاجتمع جند المسلمين من العراق والشام فلاقاهم الروم في اليرموك، وعددهم على قول ابن الأثير ٢٤٠ ألفًا والمسلمون ٥٠ ألفًا بقيادة خالد بن الوليد، فخطب خالد فيهم خطابًا حرضهم فيه على الثبات وجعل الجند كراديس على كل كردوس قائد، ولم تكن الحرب بالكراديس معروفة عند العرب كما سترى، والظاهر أن خالدًا عبأ الجند تلك التعبئة، لمقاومة الروم بمثل نظامهم.
وشعر خالد بتهيب المسلمين وخوفهم من كثرة الروم، وسمع أحدهم يقول «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!» فقال له «ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان»، وبينما هم في القتال جاءهم الخبر بموت أبي بكر، فكتموه وصبروا صبر الرجال، لعلمهم أن الفشل في تلك الواقعة يذهب بكل أعمالهم، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى إن النساء كن يقاتلن بالعصي، فانتصر المسلمون، وكان هذا النصر مقدمة سائر ما نالوه في الشام. وكذلك واقعة القادسية في العراق، فقد كانت فاتحة نصرهم على الفرس، وقد صبروا في هذه الواقعة صبرًا جميلًا وطال أمرها كثيرًا.
(٢-٩) نقمة الرعايا على حكامهم
قد علمت ما كان من انقسام الروم والفرس فيما بينهم، وانحطاط الحالة الاجتماعية في بلادهم، فضلًا عما كان من الشحناء بين الرعية أهل البلاد الأصليين وحكامهم، وخصوصًا في مصر والشام، فإن المصريين الأصليين وهم الأقباط كانوا قد عانوا سلطة الأجانب أجيالًا متطاولة (الفرس فاليونان فالرومان) وهان عليهم الانتقال من سلطان إلى سلطان، فرارًا من الظلم أو الضغط، وكذلك أهل الشام، وهم أخلاط الآراميين والسريان والأنباط واليهود وغيرهم، وكان حظهم من ذلك مثل حظ جيرانهم المصريين وقد يئسوا من الاستقلال مثلهم، فلا يهمهم إذا كان حاكمهم روميًّا أو عربيًّا وإنما يهمهم أن يكون لهم راحة تحت سلطانه، وربما فضلوا العرب، لأنهم أقرب إليهم لغة ونسبًا وأخلاقًا، وزد على ذلك أن المرء من طبعه يرجو النفع من البعيد أكثر من القريب، ويتوسم الخير في القادم المجهول أكثر مما يتوسمه في الحاصل المعلوم، وعلى الخصوص إذا كان الفرق بينهما ظاهرًا مثل ظهوره بين الروم والعرب، فالروم كانوا يومئذ في دور انحطاطهم وقد فسدت أحكامهم وآدابهم، والعرب في دور نموهم وفي إبان نهضتهم وقد جعلوا العدل والمساواة وجهتهم، فضلًا عما كان بين أهل هذين القطرين وبين حكامهم الروم من الانقسامات الدينية التي قدمناها، حتى هان عليهم الرضوخ لأية دولة كانت، ولم يروا بأسًا في أن يكونوا عونًا لها على حكامهم.
(٢-١٠) اليهود
كان الروم مع انقسامهم إلى طوائفَ وأحزابٍ قد أجمعوا على اضطهاد اليهود — كما تقدم — ولما جاء المسلمون لفتح الشام كانت البغضاء قد بلغت أقصاها حتى هان على اليهود أن يخسروا أموالهم — مع رغبتهم في الأموال — في سبيل الانتقام من الروم، وفي الواقع أنهم كثيرًا ما كانوا عونًا للعرب عليهم وكانوا يدلونهم على عورات المدن ويدخلونهم إليها، كذلك فعلوا بقيسارية بعد أن حاصرها المسلمون سبع سنين ولم يقووا عليها، لقوة جندها، ومناعة حصونها، فكان يحرس أسوارها كل ليلة مائة ألف جندي، وكان قائد المسلمين هناك يومئذ معاوية بن أبي سفيان، فجاء يهودي من أهلها اسمه يوسف دلهَّم على طريق في سرب فيه ماء إلى حقو الرجل على شرط أن يؤمنوه وأهله، فدخل المسلمون المدينة وفتحوها.
وقس على ذلك مدنًا أخرى سلمها اليهود نكاية في الروم حكامهم، وخصوصًا في الأندلس للأسباب التي قدمناها.
(٢-١١) عدل المسلمين ورفقهم وزهدهم
كان لتلك المناقب تأثير عظيم في من يدخل تحت سلطان المسلمين من رعايا الروم أو الفرس، وتلك كانت الوصية الأولى التي يتزودون بها إذا خرجوا للفتح، وإليك وصية أبي بكر لأسامة يوم خروجه بالمسلمين إلى الشام قال «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا كيبرًا، ولا تعقروا نخلًا أو تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له».
وفي حكاية بناء الفسطاط ورفق عمرو بن العاص باليمام الذي كان معششًا في فسطاطه ما يدل على رغبتهم في الرفق.
(٢-١٢) التسوية بين الناس
ومن هذا القبيل التسوية بين طبقات الناس، رفيعهم ووضيعهم، ومن أوضح الأدلة على ذلك ما كان من أمر جبلة بن الأيهم ملك غسان لما أسلم في زمن عمر بن الخطاب وجاء المدينة بخيله ورجله، وقد فرح عمر بإسلامه وخرج أهل المدينة للنظر إلى موكبه وفيه الخيول المعقودة أذنابها وفي أعناقها سلاسل الذهب وعلى رأس جبلة تاج مرصع بالجوهر، على أن ذلك لم يمنع عمر من إقامة الحد عليه، لما وطئ أحد بني فزارة إزاره وهو يطوف بالكعبة فرفع جبلة يده وهشم أنف الفزاري، فاشتكاه الفزاري إلى عمر فبعث إلى جبلة فأتاه فقال له «ما هذا؟» قال «نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف»، فقال عمر «قد أقررت على نفسك، فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقيده منك فآمره بهشم أنفك كما فعلت به» فقال «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك؟!» فقال «الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقى والعافية» فلم يرَ جبلة مخرجًا من حكم عمر إلا بالفرار، فهرب إلى القسطنطينية ولم يرجع إلى بلاد العرب.
ومثلها حكاية القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص وذهب إلى عمر بن الخطاب في المدينة فاستعاذ به، فبعث عمر إلى عمرو فاستقدمه وابنه، فلما جاء أعطى الخليفة القبطي سوطًا وأمره أن يضرب ابن عمرو فضربه، وأراد أن يضرب أباه عمرًا فقال عمرو «إنما ابني الذي ضربه»، فقال له «يا عمرو، منذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟».
ولا يخفى ما كان لهذه المناقب من التأثير في تعجيل الفتح، لأن أهل الشام والعراق ومصر كانوا يشكون استبداد حكامهم فيهم واحتقارهم إياهم، فلما علموا بعدل المسلمين ورفقهم مالوا إليهم.
(٢-١٣) استبقاء الناس على أحوالهم
كان العرب إذا فتحوا بلدًا أقروا أهله على ما كانوا عليه من قبل لا يتعرضون لهم في شيء من دينهم أو معاملاتهم أو أحكامهم المدنية أو القضائية أو سائر أحوالهم، كذلك فعلوا بمصر لما فتحها عمرو بن العاص، فإنه جعل أمور الأقباط لأنفسهم يحكم في مصالحهم قضاة منهم، وفعلوا مثل ذلك في معظم ما فتحوه من البلاد.
وكان المسلمون يفرضون على من يقبل البقاء على دينه من أهل البلاد المفتوحة ضريبة تسمى الجزية في مقابل حمايتهم وتأمينهم، وكان الروم قد تعودوا أداء مثل هذا المال للعرب المقيمين في حدود الشام من الغساسنة وغيرهم، يبتاعون به نصرتهم على الفرس، كما كان الفرس يؤدون المال إلى عرب العراق لينصروهم على الروم.
وأما العرب فقد اشترطوا مع دفع المال الخضوع لهم عملًا بنص الآية حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وكانوا مع ذلك يتعهدون بحماية الذين يدفعون الجزية أي يعتبرونهم في ذمتهم، ولهذا فقد سموا أهل الذمة، والغالب أن يراد بها حماية أهل البلاد الأصليين من حكامهم الروم، لأنهم كانوا يريدون الخروج من طاعتهم وهم يخافون سطوتهم.
وترى ذلك واضحًا في كلام عبادة بن الصامت للمقوقس حاكم مصر ولسائر القبط لما دعاهم إلى الإسلام فقد قال لهم «وإن أبيتهم إلا الجزية فأدوها إلينا عن يد وأنتم صاغرون، وأن نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدًا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وتعرَّض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا … إلخ»، ومثله كتاب خالد بن الوليد إلى ابن نسطونا في العراق، وغيره من كتب العهود لأهل الذمة وهي كثيرة، ويؤيد ذلك أن المسلمين لما دعوا إلى الاجتماع في اليرموك، وكانت حمص في ذمتهم، ردوا إلى أهلها ما كانوا أخذوه منهم من الجزية وقالوا «قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم»، فقال أهل حمص «لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والضيم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم» وكثيرًا ما كانوا يعفون غير المسلمين من الجزية إذا تعهدوا بالقتال معهم، وأكثر ما يكون ذلك مع العرب النصارى، ولكنه وقع مع غير العرب كالجراجمة وغيرهم.
فلم يكن استيلاء المسلمين ثقيلًا على الناس، بل كان الأهالي كثيرًا ما يفضلونهم على حكامهم الأصليين، والجزية التي كانوا يتكفلون دفعها إلى المسلمين أقل كثيرًا من مجموع الضرائب التي كانوا يؤدونها إلى الروم أو الفرس.
(٢-١٤) الخلاصة
وجملة القول أن المسلمين لم يجزئهم على الفتح ويساعدهم عليه إلا الدين وشدة الاعتقاد بالنصر، مع ما كان من مهارتهم في الفروسية ورمي النبال، وقوة أبدانهم ونشاطهم من عيشة البداوة، مع المطاولة في الحرب ونبوغ أفراد منهم في الرأي والشجاعة، فضلًا عن عدلهم ورفقهم واختلال أحوال الروم والفرس، فلم تمضِ بضع عشرة سنة حتى فتحوا الشام وفلسطين ومصر والعراق وفارس في زمن عمر بن الخطاب، وتواصل الفتح في أيام عثمان بن عفان ومن بعده.
(٣) عود إلى الخلفاء الراشدين
(٣-١) الفتنة
وفي زمن عثمان حدثت الفتنة، ثم استشرى أمرها بمقتله سنة ٣٥ﻫ فغيرت طور التاريخ الإسلامي، وسببها أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة سنة ٢٣ﻫ وأحس بدنو الأجل أهمه أمر المسلمين بعده، فعمد إلى طريقة لانتخاب من يتولاهم بعده بالأكثرية، فسمى نفرًا من الصحابة فيهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وأوصاهم أن يجتمعوا في بيت عائشة زوج النبي ويختاروا واحدًا منهم يتولى الخلافة بعده، فاختاروا عثمان بن عفان وهو من بني أمية وأكبرهم سنًّا.
وكان بنو أمية أوفر بطون قريش عددًا وقوة، لكن أكثرهم لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد فتح مكة وبعد أن أسلم أبو سفيان زعيمهم، فلم يكن لهم جهاد في الغزوات التي قامت عليها دعائم الدولة الإسلامية، فلما تولى أبو بكر لم يولهم الأعمال، إلا قليلًا منهم، وربما كان السبب في ذلك أنه لم يكن يثق بصدق إسلامهم، لحداثة عهدهم فيه، أو لأنهم أسلموا مضطرين، فطالبوه بزيادة نصيبهم في الولايات فقال لهم «أدركوا إخوانكم في الجهاد» وأنفذهم لحروب الردة، ثم بعثهم عمر لحروب الشام، وهم مع ذلك يرون أنهم أولى بطون قريش بالسلطة، لأنهم أعز من بني هاشم جانبًا وأكثر عددًا، وكانت القيادة في الحروب قبل الإسلام إليهم كما رأيت في كلامنا عن مناصب الجاهلية، وزاد نفوذهم بعد موت أبي طالب عم النبي، وكانت بين الهاشميين والأمويين منافسة متصلة بزمن الجاهلية.
فلما تولى عثمان بن عفان اعتزوا به، وكان رجلًا صالحًا لكنه كان يؤثر أقرباءه فجعل يوليهم الأعمال في الأمصار ويعهد إليهم بمصالح الدولة، فشق ذلك على الصحابة الذين كانت الأعمال إليهم من قبل، وحدثت أسباب أخرى يطول شرحها آلت إلى نقمة أهل الأمصار على عثمان، فجاءوا إلى المدينة وفيهم أهل مصر والكوفة وأهل البصرة وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، فأبى فقتلوه وهو يقرأ القرآن فتلطخ قميصه بالدم.
(٣-٢) علي وطلحة والزبير
فلما قتل عثمان اختلفوا في من يخلفه من كبار الصحابة، وكان غرض أهل مصر في علي بن أبي طالب، وغرض أهل البصرة في طلحة بن عبيد الله، وغرض أهل الكوفة في الزبير بن العوام — وهم أكثر الصحابة تطلعًا إلى الخلافة — وكان أكثر مسلمي الشام مع بني أمية، وهم يريدونها لعثمان أو من يخلفه منهم، وأما أهل المدينة فكانوا يريدونها لعلي بن أبي طالب، جريًا على عادتهم في نصرة بيت النبي منذ هاجر النبي إليهم، وانضم إلى أهل المدينة في نصرة علي ربيعةُ واليمنُ وغيرهما، فكان دعاة علي أكثر عددًا من سائر الأحزاب، لكنهم كانوا لفيفًا من قبائل شتى وأكثرهم من المدينة، وبين أهل مكة والمدينة منافسة قديمة تمكنت بعد الإسلام، لما رأيته من نصرة أهل المدينة للمسلمين بعد الهجرة، حتى تأيد أمرهم بهم وعادوا ففتحوا مكة، وسارت المدينة عاصمة المسلمين وتحولت إليها التجارة والنفوذ وضعف أمر مكة، فلما بايع أهلُ المدينة عليًّا بايعه أيضًا طلحةُ والزبير مكرهين، وخرجا إلى مكة فنصرهما أهلها، نكاية في أهل المدينة، ثم شخصا إلى العراق للاعتزاز بأحزابهما هناك فتبعهما علي بجنده، فجرت بين الجيشين واقعة الجمل الشهيرة بجوار البصرة، فقتل فيها طلحة والزبير وخلصت الخلافة لعلي، فنقل عاصمة المسلمين من المدينة إلى الكوفة، وقد أخطأ في تخليه عن أحزابه بالمدينة واعتماده على أهل العراق.
(٣-٣) علي ومعاوية
وظن علي أن الجو قد خلا له، وما درى أن في الشام رجلًا عظيمًا يطلب البيعة لنفسه — نعني معاوية بن أبي سفيان — وقد رأيت أن أبا سفيان وأولاده لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد أن يئسوا من الفوز، فلما قتل عثمان كان معاوية بالشام وحوله نخبة الرجال من قريش، وكلهم يستهلكون في سبيل نصرته، لما ذكرناه من كثرة بني أمية وقوتهم من أيام الجاهلية، وقد شق عليهم في أول الإسلام أن تكون النبوة في بني هاشم فنقموا عليهم، ولما خرج بنو هاشم من مكة بالهجرة خلا الجو في مكة لبني أمية، وسارت الرياسة إليهم في أثناء محاربتهم المسلمين في وقائعهم المشهورة في بدر وغيرها، ورئيسهم في كل ذلك أبو سفيان والد معاوية، ولما تولى أبو بكر وأرسلهم للجهاد تولى ولاية الشام منهم يزيد بن أبي سفيان، ثم مات فخلفه أخوه معاوية في زمن عمر، فلما تولى عثمان أقره عليها ومعظم جنده من قريش، فاتصلت رياسة بني أمية — وخصوصًا بيت أبي سفيان — على قريش في الإسلام كما كانت قبله، واستقل بنو هاشم بأمر النبوة ونبذوا الدنيا.
(٣-٤) التحكيم
فلما قتل عثمان رأى معاوية سبيلًا لالتماس الخلافة، فعرض قميص عثمان الملطخ بالدم في مسجد دمشق ودعا الناس للمطالبة بثأره، لأنه من رهطه، واتهم عليًّا وأصحابه بقتله، ثم رأى الحرب منتشبة في العراق بين علي وطلحة والزبير، فظن هذين يكفيانه مؤونة الحرب، فلما قتلا وفاز علي عمد معاوية للمطالبة بدم عثمان، واستنجد رجالًا من دهاة العرب فيهم عمرو بن العاص، وكان عثمان قد عزله عن مصر، فاستدناه معاوية ووعده بولاية مصر إذا هو فاز، فحارب معه في واقعة صفين الشهيرة سنة ٣٧ﻫ وكادت رجال علي تظفر بمعاوية وأصحابه فيها، فاستنبط ابن العاص حيلة أخرجت الخلافة من أهل البيت إلى بني أمية.
وذلك أنه أمر رجال معاوية برفع المصاحف على أسنة الرماح، إشارة إلى طلب الهدنة للمخابرة، فانخدع أصحاب علي بذلك فألحوا عليه أن يوقف القتال ففعل، وبعد المخابرة توافقوا على التحكيم، فاختار معاوية عمرو بن العاص، واختار أصحاب علي أبا موسى الأشعري، وشتان بين الرجلين في الدهاء والذكاء، ورضي الفريقان بما يحكم به هذان وعينوا يومًا لسماع الحكم، فاحتال عمرو على أبي موسى حيلة غلب بها على عقله، أظهر أنه يريد خلع علي ومعاوية معًا ليختار المسلمون واحدًا سواهما، فقبل أبو موسى ذلك، لكن عمرًا طلب إليه أن يتكلم قبله، لأنه أرفع منه منزلة وأكبر سنًّا، فانخدع أبو موسى فوقف وقال «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليًّا فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتهموه أهلًا».
ثم وقف عمرو وقال «إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي عثمان والمطالب بدمه وأحق الناس بمقامه».
فلما سمع الناس ذلك أيقنوا أنها حيلة قد عملت، ولو أنها آلت إلى خلافة معاوية فقط لهان أمرها، ولكنها أوجبت انقسام رجال علي عليه، لأن بعضهم لاموه على قبول التحكيم وخرجوا من حكمه وهم الخوارج، فأصبح علي بين عدوين، والخوارج أشدهما خطرًا عليه، لأنه قتل بطعنة من أحدهم في السنة ٤٠ للهجرة في مسجد الكوفة.
فبايع أهل الكوفة ابنه الحسن، ومعاوية لا يزال يطالب بالخلافة لنفسه فرأى الحسن أنه لا يقوى على حربه فتنازل له عنها، حقنًا للدماء، فبويع معاوية في الشام وانتقل كرسي الخلافة من الكوفة إلى دمشق، وكان ذلك آخر العهد بدولة الخلفاء الراشدين.
(٤) أحوال الخلفاء الراشدين
نرى مما تقدم أن دولة الخلفاء تأسست على التقوى وشيدت بالعدل، وكان خلفاؤها في أبسط أحوال العيش، وكانت الخلافة على عهدهم أشبه بالرتب الدينية منها بمصالح الدولة، وكان أحدهم يلبس الثوب من الكرباس الغليظ (الكرباس القطن الأبيض) وفي رجليه نعلان من ليف، وحمائل سيفه ليف، ويمشي في الأسواق كبعض الرعية، وإذا كلم أدنى الناس سمع منه أغلظ من كلامه، وكانوا يعدون ذلك من قبيل الدين ويحكمون الناس بالتقوى والعدل والقدوة الحسنة.
وكان طعامهم أدنى من أطعمة فقرائهم، وهم لم يتقللوا منه لفقر أو عجز، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك مواساة للفقراء من رعيتهم، فقد كان لعلي بن أبي طالب دخل طائل من أملاكه يخرجه جميعه على الفقراء.
ولم يكونوا يعبأون بالمال، وكان ذلك شأن سائر الصحابة في أيامهم، ولعل السبب في ذلك قربهم من عهد النبوة ولا تزال رهبتها آخذة بمجامع قلوبهم، فلما بعد عهدها زالت تلك الرهبة من قلوبهم فعكفوا على مطالب الدنيا، ويظهر أن ذلك بدأ فيهم في أواخر عهد الراشدين، فقد ذكر المسعودي أنه «في أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الضياع والدور، فكان لعثمان يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف إبلًا وخيلًا كثيرة، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار، وخلف ألف فرس وألف أمة، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك، وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم، وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفًا، وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار، وبنى الزبير داره بالبصرة وبنى أيضًا بمصر والكوفة والإسكندرية، وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجُرِّ والساج، وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرافات، وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن، وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقارًا وغير ذلك ما قيمته ثلثمائة ألف درهم».
وكانت مدة حكمهم نحو ثلاثين سنة اتسعت فيها الفتوح الإسلامية، حتى وطئت خيل العرب ما بين إفريقية في الغرب إلى أقاصي خراسان في الشرق وعبرت النهر إلى سمرقند.