دولة بني أمية
بينا في أواخر كلامنا عن الخلفاء الراشدين كيف انتقلت الخلافة إلى بني أمية وأولهم معاوية بن أبي سفيان، وتمتاز الخلافة في عهد بني أمية بأنها سلطنة دنيوية يحكمها خليفتها بالدهاء والسياسة، ويستدني الناس بالإرهاب ويؤيد سلطانه ببذل الأموال، والسبب في ذلك أن مؤسس هذه الدولة لم يستطع تأييدها لولا ما في الشام من الخير الكثير والأموال الطائلة، فلما خلصت له الخلافة عمد إلى التوسعة على الناس ببذل الأموال، وكان يبذلها خصوصًا لبني هاشم، تخفيفًا لما في أنفسهم من النقمة عليه، لانتزاعه الخلافة من أيديهم، وكان إذا وفد أحدهم عليه بالغ في إكرامه وإرضائه وقضاء حوائجه، وكثيرًا ما كانوا وهم في حضرته يذكرون حقهم بالخلافة ويعرضون باغتصابه إياها، وهو يغضي عن ذلك ويقطع ألسنتهم بالمال والحلم مما هو مأثور عنه.
واقتبس معاوية من الروم أسباب البذخ ودواعي الترف وقلدهم في أبهة الملك، فأقام الحرس يحملون الحراب بين يديه إذا مشى أو قام للصلاة، وبنى لنفسه قصرًا نصب فيه السرير وأوقف الحاجب ببابه، وبنى مقصورة في المسجد إذا جاء للصلاة صلى فيها، ولعله اتخذ هذه الوسائل خوفًا من أن يغتاله أحد كما اغتالوا عليًّا وكادوا يغتالونه هو، وقلد الروم في لبس الخز والديباج، وهو الذي وضع البريد على مثال ما كان عند الفرس والروم وأنشأ ديوان الخاتم، مما سيأتي تفصيله.
ومما استحدثه معاوية في الإسلام أنه جعل الخلافة وراثية في نسله، بعد أن كانت انتخابية، وهو أول من استطاع ذلك من المسلمين، فبايع لابنه يزيد وحمل الناس على بيعته بولاية العهد، ولا عبرة في بيعة الحسن بعد أبيه علي، فإن الناس بايعوه من عند أنفسهم ولم يوصِ له أبوه بالخلافة.
(١) الخلافة وبنو أمية
ولا بد من النظر في الأسباب التي أعانت معاوية على إخراج الخلافة من أهل البيت وحصرها في قبيلته، وكان هو وكل الذين بايعوه يعتقدون أن أهل البيت أحق بها منه، والأسباب عديدة ذكرنا بعضها في ما تقدم، ومنها أيضًا أن معاوية استخدم في شد أزره رجالًا هم أشهر دهاة الإسلام استدناهم إليه بالأطماع، منهم عمرو بن العاص فقد أطمعه بمصر فساعد على مبايعته كما قد رأيت، ومنهم زياد بن أبيه وهو رجل لا يُعرف أبوه ولكنه ذو دهاء وسياسة فانتحل معاوية حكاية استلحقه بها بنسبه وزعم أنه أخوه من أبيه أبي سفيان وسماه زياد بن أبي سفيان، فكان زياد هذا من أكبر أعوان معاوية وله فضل كبير في تأييد هذه الدولة في العراق وغيره، وابنه عبيد الله بن زياد هو الذي قُتل الحسين بن علي قتلته المشهورة على يده، وما زال آل زياد يعدون من قريش حتى رد نسبهم الخليفة المهدي (سنة ١٩٥ﻫ) إلى رجل اسمه عبيد الرومي من ثقيف، وممن استخدمهم معاوية في تأييد خلافته المغيرة بن شعبة، وهو الذي شجعه على مبايعة ابنه يزيد بالخلافة وحصر الخلافة في نسله وساعده أيضًا في استدناء زياد بن أبيه.
والمؤرخون يعدون هؤلاء الأربعة أعظم دهاة العرب، ومن ذلك قول أحدهم «ما رأيت أثقل حلمًا ولا أطول أناة من معاوية، ولا رأيت أغلب للرجال ولا أبذلهم حين يجتمعون من عمرو بن العاص، ولا أشبه سرًّا بعلانية من زياد، ولو كان المغيرة في مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج من أبوابها كلها».
(١-١) بذل المال
وهناك عامل ذو تأثير عظيم استخدمه معاوية وسائر بني أمية في تأييد سلطانهم، نعني به «المال»، فقد كانوا يصطنعون به الأحزاب ويستدنون به الأعداء، فيبذلون للشعراء والوافدين، ففازوا به على علي بن أبي طالب وأولاده وأحفاده، على حين أن هؤلاء كانوا يعدون استخدام المال في هذا السبيل رذيلة يجلون أنفسهم عنها، ويعتقدون أن الحق وحده يكفي لتأييد دعوتهم، وقد صح زعمهم هذا في أوائل الإسلام والناس في دهشة النبوة قبل أن تغلب عليهم أهواؤهم، فلا نظن أهل الكوفة نكثوا بيعة الحسين إلا بالمال، حتى آل الأمر إلى قتله فكأنهم قتلوه بالمال، وهم لم يقتلوا عبد الله بن الزبير إلا بالمال، ولو بذل عبد الله هذا المال مثلهم لكانت الخلافة في نسله لا في بني أمية، ولكنه استنكف أن يعطي الناس من أموال الكعبة فأضر بنفسه، وقد صرح بذلك خصمه عبد الملك فقال وهو على فراش الموت «ما أعلم أحدًا أقوى على هذا الأمر (الخلافة) مني، إن ابن الزبير طويل الصلاة كثير الصيام، لكنه لبخله لا يصلح للسياسة».
وكان أخوه مصعب بن الزبير مع ذلك ينفق الأموال الطائلة على نفسه وأهله، حتى إنه بذل مليون درهم في زواج سكينة بنت الحسين، وكان الجند في ضيق يطلبون مالًا ولا يعطي لهم، فكتب عبد الله بن همام إلى عبد الله بن الزبير يقول:
وقد كان عبد الملك من أكثر بني أمية بذلًا للمال في سبيل تأييد سلطانه، فإن عامله الحجاج بن يوسف لما حاصر الكعبة وفيها ابن الزبير أمر رجاله أن يرموا الكعبة بالمنجنيق فتهيبوا، فجاء بكرسي وجلس عليه وقال «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك» ففعلوا.
وكثيرًا ما كان عبد الملك يرد أذى الأحزاب عنه بالمال، ينشره على الناس فيشتغلون به عنه، ومن ذلك ما فعله مع رجال عمرو بن سعيد بن الأشدق لما طمح بالشام دونه وخاف عبد الملك على نفسه فأمنه، واحتال في استحضاره إلى ديوانه وقتله غدرًا، ثم علم أصحابه بمقتله فتجمهروا حول المجلس، وخاف عبد الملك العاقبة فأمر رجلًا أن يرمي رأس عمرو إلى الناس، وأخذ ابنه عبد العزيز المال في البدر وجعل يلقيها إليها، فلما رأى الناس الرأس والأموال اشتغلوا بالأموال وتفرقوا.
وكان للمال تأثير أعظم من ذلك في أيام العباسيي، فإن سلطانهم كان يقوى ويضعف بنسبة ما يبذله الخليفة من الأموال للجند، وخصوصًا لما استبد الأتراك في أمور الدولة فكانوا يبيعون نصرتهم بالمال، وكان إذا تولى الخليفة طالبوه بحق البيعة وقد يفرضون عليه رزق سنة أو غير سنة.
(١-٢) الدهاء والحزم
ومن الأسباب التي أيدت سلطان بني أمية أنهم كانوا يعولون في تأييده على الدهاء والسياسة والحزم، ولو كان فيها خرق لحرمة الدين أو إهانة لأهله، فإنهم قتلوا ابن بنت النبي، وضربوا الكعبة بالمنجنيق، ولعنوا ابن عم النبي وصهره على المنابر، وقتلوا من لم يلعنه، وسنعود إلى تفصيل ذلك في مكان آخر.
(٢) خلفاء بني أمية
قلنا إن معاوية جعل الخلافة وراثية في نسله، لكنها لم تتعدَّ أولاده ولم يخلفه منهم إلا يزيد الذي بويع بولاية العهد في حياته، ولم يحكم إلا بضع سنين ارتكب في أثنائها أمورًا كبارًا في جملتها مقتل الحسين بن علي، ولما مات يزيد اختلف الناس على البيعة، وكان له ابن اسمه معاوية (الثاني) ولُّوه وهو لا يرى الخلافة حقًّا لهم، ومات بعد قليل، فبايع بنو أمية شيخًا أمويًّا من غير بيت معاوية اسمه مروان بن الحكم سنة ٦٥ﻫ، تولى الخلافة بضعة أشهر ومات، ثم انحصرت الخلافة في نسله، وكل خلفاء بني أمية بعده من ولده أشهرهم عبد الملك بن مروان المتقدم ذكره تولاها من سنة ٦٥–٨٦ﻫ.
(٢-١) عبد الملك بن مروان وابنه الوليد
ومن أعمال عبد الملك أنه ضرب النقود الذهبية بالعربية، ونقل الطراز من الرومية إلى العربية، وسيأتي تفصيل ذلك. وكان عامل عبد الملك على العراق الحجاج بن يوسف المشهور بدهائه وغلظته، وكان نصيرًا له على تأييد دولته فحارب عبد الله بن الزبير، وكان هذا يدعو الناس إلى بيعته دون بني أمية فحاصره الحجاج في مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق، ثم قتله واستخلص الخلافة لعبد الملك.
ومنهم الوليد بن عبد الملك (سنة ٨٦–٩٦) وفي أيامه فتحت الأندلس وامتدت فتوحاته من جهة تركستان وبعض جزائر البحر المتوسط، واتسعت حال بني أمية في بناء القصور واتخاذ المصانع والضياع.
(٢-٢) عمر بن عبد العزيز
(٢-٣) يزيد بن عبد الملك
وخلفه ابن عمه يزيد بن عبد الملك، وكان من أهل اللهو والطرب فشغل عن مصالح الدولة بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة، وتسلطت حبابة على عقله وقلبه فأصبحت المملكة طوع إرادتها، تولي من شاءت وتعزل من شاءت، وهو لا يعرف من أمور الدنيا شيئًا، فلامه أخوه مسلمة وقال له «توليت هذا الأمر بعد عمر بن عبد العزيز وعدله، فتشاغلت بهذه الجارية عن النظر في الأمور، والوفود ببابك وأصحاب الظلامات يصيحون وأنت غافل عنهم» فتأثر لقوله وقال «صدقت» وهم بترك الشراب ولم يجتمع بحبابةَ أيامًا، فاشتاقت هي له فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها «إن خرج أمير المؤمنين للصلاة فأعلميني» فلما أراد الخروج أعلمتها فتلقته والعود في يدها وغنت:
فغطى يزيد وجهه وقال «مه، لا تفعلي»، ثم غنت:
وما زال يزيد في ذلك حتى مات بعد موتها حزنًا عليها، وخبر موتهما أنه نزل ببيت رأس بالشام ومعه حبابة وقال في نفسه «زعموا أنه لا تصفو عيشة لأحد يومًا إلى الليل إلا كدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك»، ثم قال لمن معه «إذا كان غد فلا تخبروني بشيء ولا تأتوني بكتاب»، وخلا هو وحبابة وأتيا بما يأكلان ويشربان، فأكلت حبابة رمانة فشرقت بحبة منها فماتت.
فأقام يزيد ثلاثة أيام لا يدفنها حتى تغيرت وأنتنت، وهو يشمها ويرشفها، ولم يتركها حتى عابه أهله وعاتبوه فأذن بدفنها، ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يومًا ثم مات ودفن بجوارها سنة ١٠٥ﻫ.
(٢-٤) هشام وبقية خلفاء بني أمية
وتولى الخلافة بعده أخوه هشام (من سنة ١٠٥–١٢٥ﻫ) وكان غزير العقل لكنه كان بخيلًا، والبخل مضر في دولة تأسست بالكرم.
وخلفه الوليد بن يزيد، وكان قبل الخلافة منهمكًا في اللهو والشراب والغناء مثل أبيه وله أشعار في ذلك، فلما أفضت الخلافة إليه زاد انهماكًا في اللذات واستهتارًا بالمعاصي، وزاد على ذلك أنه أغضب أهله وأساء إليهم فهجموا عليه مع أعيان رعيته فقتلوه وبايعوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك.
وكان يزيد هذا عاقدًا النية على إصلاح الأحوال، ولكن الأمر كان قد استفحل وبدأت الدعوة العباسية واضطرب حبل بني أمية.
وفي أيامِ خلفِه مروان بن محمد بن مروان خرجت الخلافة من أيديهم سنة ١٣٢ﻫ رغم ما كان عليه مروان هذا من الرغبة في استبقائها والهمة في سبيل الدفاع عنها، لكنه جاء متأخرًا وقد قضي عليها بالزوال.