العلم والمنهج
(١) تعريف العلم الحديث ومعالمه
الرياضيات مَلِكة العلوم وهدية الله للعقل العلمي، وكان التآزر بين دقة لغة الرياضيات وصرامة وقائع التجريب، مفتاحًا من مفاتيح النجاح المتوالي للعلم الحديث. على أن مفهوم «المنهج العلمي» حين يَرِد كمفرد عَلَم بألِف ولام العهد، يكون المقصود عادةً هو المنهج التجريبي؛ منهج العلم التجريبي أو العلوم التجريبية. فهل يمكن قبلًا تحديد مفهوم «العلم التجريبي» ذاته؟ ليس المنشود تعدادًا وحصرًا لفروعه ولشتى العلوم التجريبية، بل تحديدًا للمفهوم يبلور طبيعته ويعكس ماهيته.
والمعرفة العلمية في كل هذا تنصبُّ فقط على العالَم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، العالَم المشترك بين الذوات أجمعين؛ أي العالَم المادي أو الفيزيقي، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالَم الشهادة، كمتمايزٍ عن عالم الغيب المطلق، الذي لا شأن للعلم التجريبي به، فلا يثبته أو ينفيه، ويُؤتى من مصادر معرفية مختلفة عن المنهج العلمي. إن عالَم الشهادة بظواهره ووقائعه، وأحداثه الشتى العديدة المتكثرة والمتداخلة، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية، هو فقط مجال العلم ومنهجه، وهو العالم الأولي الذي ينبغي فهمه والسيطرة عليه لكي يتيسر وجود الإنسان، فيستطيع الانطلاق إلى العوالم الأخرى أو المستويات المختلفة للتجربة الحضارية والوجودية: العاطفية والشخصية والقومية والفنية … إلخ. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بتعدد الأبعاد والمستويات والعوالم، ربما لا يكون العالم المادي التجريبي، هو أهم العوالم، ولكنه بلا جدال مستوًى أولي مهم، التمكن منه والسيطرة عليه مقدمة ضرورية شرطية، للانطلاق إلى ما هو أعلى وأبعد. والعلم التجريبي هو سبيل العقل البشري لمثل هذا التمكُّن والسيطرة.
•••
•••
والعلم في هذا له وظيفة معرفية محدَّدة بالوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. الهدف من أي علم تجريبي يتمثَّل في الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟ في المرحلة الوصفية يجيب العلم عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة، كيف تتبدَّى؟ وليس الوصف العلمي أمرًا يسيرًا أو هينًا، إنه بمثابة اكتشاف للظاهرة موضع البحث، ومعيار وجود العلم الذي يبحثها. لكن الوصف ليس كلَّ ما في الأمر؛ فإحكام الطريق إلى السيطرة على الظاهرة عن طريق التقانة (= التكنولوجيا)، يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها، إلى المرحلة التالية، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدُث الظاهرة؟ وهنا العلوم الأساسية أو البحتة التي تمثِّل محاولة العقل العلمي، للإحاطة بالظاهرة موضوع الدراسة.
أما التنبؤ، فهو محك نجاح الوصف والتفسير. وظيفة التنبؤ تمثِّل المَعْلَم المميز للقوانين في العلوم التجريبية، حيث كل قانون — مهما كان بسيطًا — له قدرة تنبؤية، مثلًا «الماء يغلي في درجة مائة مئوية»، يحمل تنبؤًا بحدوث الغليان حين يصل التسخين بالماء إلى الدرجة مائة، عدم حدوثه يعني تكذيبًا للنظرية وضرورة تعديلها. لن يحدث الغليان مع درجة الحرارة مائة، إذا كان المرجل مغطًّى أو فوق جبل ومعدل الضغط الجوي منخفضًا، هنا يكون التكذيب وتصويبه لنصل إلى العبارة «الماء يغلي في درجة مائة مئوية تحت مستوى الضغط الجوي الكائن عند سطح البحر»، وتعطي هذه العبارة تنبؤًا أدقَّ نسبيًّا، قابلًا للاختبار والتعديل بدوره، وهكذا دواليك. إن التنبؤ هو المواجهة مع الواقع، والمحك الذي تُختَبر به العبارات العلمية، حدوث ما تتنبأ به النظرية هو البينة التجريبية عليها ومبرِّر قبولها، وعدم حدوثه مبرِّر لرفضها أو تعديلها.
وحين يتحقق وصفٌ وتفسيرٌ يشهد على نجاحهما تنبؤ، ترتب على هذا أداء أكمل للوظيفة الرابعة من وظائف العلم؛ أي السيطرة أو التقانة وهي غاية منشودة، والمحصلة والقوة الملموسة للعلم التي تجسِّدها العلوم التطبيقية. روعة العلوم التجريبية تتبدَّى في أنها معرفة تُترجم إلى تطبيقاتٍ عملية … إلى قوةٍ وسلطان، إلى سيطرةٍ على الظاهرة، فضلًا عن أنها تعطينا في نمائها المتصاعد دومًا، التمثيلَ العيني لمقولة التقدُّم في حياة البشر؛ التقدُّم المعرفي والتقدُّم التطبيقي.
لا ينبغي التعويل كثيرًا على تفرقةٍ بين العلوم البحتة والعلوم التطبيقية؛ لأنهما في واقع الأمر لا يفترقان، والعلوم التطبيقية تستند إلى حصادٍ هائل من العلوم البحتة التي هي الأساس، فتُسمَّى العلوم الأساسية، وطبعًا توجد التطبيقات التكنولوجية بفضلها. وكما قال لويس باستير، ليس هناك علمان تطبيقي وبحت، بل يوجد العلم وتطبيقه، مثلما توجد الشجرة وثمرتها.
كل هذا فضلًا عن دخول التكنولوجيا، حصاد العلوم التطبيقية، كقوةٍ منتجة للمعرفة العلمية ذاتها. إنه عاملٌ حاسم في إجرائيات المنهج العلمي التجريبي، يتمثَّل في أجهزة البحث العلمي الدقيقة أو العملاقة، وتجهيزات المعامل والمختبرات، وكأننا بإزاء الأَمَة التي تلد ربَّتها.
(٢) المنهج آية العلم
أثبت العلم الحديث نجاحًا فريدًا في أداء هذه الوظائف، تعاظم نجاحه وتصاعد بشكلٍ غير مسبوق، يَعِد دائمًا بالمزيد، بالتقدم.
وكما أوضح الفصل الأول مفهوم المنهج العلمي آية التقدمية المتواصلة، يرتد في القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، التي هي خاصة منطقية قائمة في صُلب النظرية العلمية، تجسِّد طبيعة العلم التقدمية، حين تجعله دائمًا يعيِّن مواطن قصور أو كذب، فيتجاوزها إلى ما هو أقدر وأجدر، ولا يرتكن أبدًا إلى نظريةٍ ما بوصفها حقيقةً مطلقة، مهما أحرزت من نجاحٍ في مواجهة العلم المتنامية واللامتنامية للواقع.
فينتهي جاستون باشلار إلى أن المنهج العلمي يتنكَّر دائمًا لما ينجزه، من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه وتنقيحه. العلم لا يخرج من الجهل لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق. هذا التصحيح الذاتي هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية وتوالي بحوثهم المنهجية … يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقًا أوسع، فيمثل البحث العلمي دائمًا التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر. ولا تعود اللحظة تكرارًا كميًّا للتاريخ، بل هي عمل دءوب وإنجاز، فيؤكد الإبداع العلمي — بتعبير باشلار — حدس «اللحظة» التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث إنها الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة والمسئولية العلمية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية، وأن نجعل منها منبعًا متدفقًا نحو معرفةٍ، تكون دائمًا أفضل وأوضح وأجدر وأقدر … أكثر تقدمًا.
ويظل العلم إبداعًا إنسانيًّا، وكل شيء في عالم الإنسان متغير ومتطور، فلا يعود نسق العلم بناءً مشيدًا، أو كشفًا عن حقائق مطلقة، بل هو نسق من فروضٍ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة، كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوةً أبعدَ منه، في صيرورة … تغيُّر مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر؛ إنه تقدُّمٌ ذو طابع ثوري متقد.
العلم ممارسة إنسانية وفعالية حية نامية ومتطورة دائمًا، التقدم مفطور في صلبه، لم يَعُد العلم الآن هو البحث عن السبب أو العلة، بل عن التفسير، حساب الاحتمال هو لغته الدقيقة، ولا يقين في العلم التجريبي البتة، إنه بحث عن سنن الكون، ولكنه بحث إنساني لا يملك أبدًا حق الزعم، بأنه أمسك عليها بجُمْع اليدين واطَّلع على سرِّها المكين، بل فقط يحاول أن يقترب من حقيقتها، منتقلًا من محاولةٍ إلى محاولةٍ أنجح … حتى تقوم الساعة. لن يتوقف البحث العلمي مهما أنجز من نجاح، ومهما قدَّم من إجاباتٍ ناجعة على الأسئلة المطروحة، كل إجابة يطرحها العلم تطرح تساؤلات أبعدَ، فيؤدي كل تقدم إلى تقدمٍ يليه.
ومهما أنجز العلم من تقدُّم، فسوف يظل هذا الإنجاز يحمل في صُلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. كل إجابة تكون مثمرة بقدر ما تطرح أسئلة أبعد، وكل نظرية تكون ناجحة بقدر ما تفتح الطريق لنظرياتٍ أخرى أكفأ وأقدر، ولن يتحول العلم التجريبي لنشاطٍ ترديدي أبدًا، ولن تدعي أية نظرية علمية لنفسها الخلود، أو أنها أمسكت بالحقيقة وختمت البحث في ميدانها. كل نظرية علمية خاضعة للتعديل والتنقيح والإبدال، وأن يحل محلها الأكفأ والأقدر. تتطور النظريات العلمية في متواليةٍ متصاعدة دومًا، لا تتوقف أبدًا. قد تحقِّق نظريةٌ ما نجاحًا يطبق الخافقين، ثم تذوي وتقبع في متاحف التاريخ؛ لأن الأفضل أو الأشمل أو الأدق قد حلَّ محلها، والحكم على النظريات العلمية دائمًا نسبي، النظرية «ك» أفضل من «ق»، أدق من «ن» …
•••
•••
-
هو مجموعة القواعد التي تُوضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة بالعالم بصفةٍ عامة (الفلسفة القديمة).
-
هو مجموعة القواعد التي تُوضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة الطبيعية التي تُعرف بوصفها معرفةً علمية (بدايات الفلسفة الحديثة).
-
هو المبادئ التي نجرِّدها من الممارسات العملية للأفراد، الذين عملوا بنجاحٍ في عملية اكتساب المعرفة العلمية. وهذا هو مفهوم المنهج العلمي المأخوذ به، منذ نشأة الميثودولوجيا وفلسفة العلوم في أواسط القرن التاسع عشر. على أن هذا التجريد ليس مجرد وصف لسلوك العلماء، بل يتضمن تقييمًا للمغزى الذي يدل عليه هذا السلوك، أو كما عبَّر كارل بوبر عن هذا قائلًا: إن نظرية المنهج العلمي تقويم لمباراة العلوم التجريبية.٧
وإذ نستشهد كارل بوبر فقد دخلنا أنضر ساحات فلسفة العلم، الساحة المخوَّلة قبل سواها بتعريف مفهوم المنهج العلمي ومعالجته، الموسومة باسم الميثودولوجيا.
(٣) المنهج العلمي في فلسفة العلوم
ننتهي الآن إلى حيث بدأنا في المقدمة، إلى أن جوهر مفهوم المنهج العلمي يتلخص في: أسلوب التفكير العلمي وطريقة سير العلماء في عملهم أو في بحوثهم، وسنرى الآن أن هذا أبعد ما يكون عن تحصيل الحاصل، كما قد يبدو للوهلة الأولى.
كما ذكرنا، جعلت الفلسفة/أم العلوم من «فلسفة العلوم» أهم فروع الفلسفة المعاصرة، والأكثر تجسيدًا وتجريدًا لروح العصر، الحاملة لأبرز الإشكاليات المعرفية الشاغلة في الحقبة الراهنة. وعلم مناهج البحث أو الميثودولوجيا؛ أي نظرية المنهج العلمي في صدر مباحث فلسفة العلوم، بل عمادها وعمودها الفقري.
وهنا نشأت إرهاصات فلسفة العلوم، لتبحث في المنهج العلمي التجريبي، كبحثٍ في معامل ذلك النجاح اللافت وحيثياته … في آلية التقدُّم المتوالي في هذا المشروع المعرفي المطرد النجاح: العلم الحديث. بدأت فلسفة العلوم تتشكل وتتحدد معالمها في إنجلترا وفرنسا خصوصًا، مع بضعة إسهاماتٍ لاحقة من ألمانيا والنمسا، كمبحثٍ تخصصي مستقل، وتوالت أدبياتها بوصفها نشاطًا يهدف إلى تكوين معرفة بالمعرفة العلمية، أو نظرية عن النظرية العلمية من حيث آلياتها وطرائقها وأسلوبها … من حيث منهجها العلمي.
لقد اشتبكت الفلسفة بالمنهج العلمي، وهي تملك رصيدها الهائل وميراثها الضخم في قضية المنهج والمنهجية، وقضايا الاشتباك بين العقل والوجود، وسبل التفكير والاستدلال والانتقال من المعلوم إلى المجهول.
وإبان النصف الأول من القرن العشرين تنامى سؤال المنهج، وأصبحت فلسفة العلم معالجة إبستمولوجية شاملة لمنهج العلم ومنطقه، لا سيما من خلال مبحثها الموسوم باسم الميثودولوجيا.
وسبيلنا الآن إلى المعالم الأساسية، لما أنجزته فلسفة العلوم في هذا الصدد، ليلقي الضوء الكثيف على مفهوم المنهج العلمي ومضامينه.