منهج العلم أم مناهج العلوم؟
(١) سؤال الميثودولوجيا
•••
وبهذه النظرة الرحيبة المستوعبة يبرز السؤال: هل هناك منهج علمي شامل لكل فروع العلم، أم أن ثمَّة مناهج عديدة بتعدُّد فروع العلم، ونوعيات الظواهر التي يبحثها؟ بعبارةٍ أخرى منهج العلم واحد أم كثير؟
حين أجابت فلسفة المنهج العلمي أو الميثودولوجيا عن هذا السؤال، تقدمت طبعًا بإجابة فلسفية، والفلسفة تنزع للوقوف على الوحدة من وراء التنوع، واستكناه الكل في واحد، فكان المنهج العلمي الذي تنزع الفلسفة — أو الميثودولوجيا — إلى بلورته وصياغته هو منهج واحد. أجل، تختلف العلوم في موضوعاتها وطبيعة الظواهر التي تدرسها، وبالتالي تختلف أيضًا في طرائقها إنْ قليلًا وإنْ كثيرًا؛ لأن طريقة البحث لا بد أن تتكيف مع موضوع البحث، لكنها مع هذا الاختلاف تلتقي في أسسٍ عامة، يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة باختلاف فروع العلم العديدة، لتكون أسسًا منطبقة، لا على الفيزياء دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل أسسًا منطبقة على كل بحثٍ يستحق أن يُسمَّى علمًا. وعلم مناهج البحث هو علم طبائع وقواعد أي بحث علمي، من حيث هو علمي. من هذا المنطلق نجد المنهج العلمي واحدًا، ولكنه أيضًا كثير! إنه واحدٌ على مستوى النظر الفلسفي، وكثيرٌ متعدد على مستوى التطبيقات العينية.
العالم التجريبي للبكتريا — مثلًا — مختلف عن العالم التجريبي لحركة الكواكب، وغير العالم التجريبي للظاهرة الاجتماعية … إلخ، فلا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الإمبيريقية من علمٍ إلى علم، تبعًا لاختلاف طبيعة مادة البحث في هذا العلم أو ذاك، بل إن المناهج تختلف داخل العلم الواحد تبعًا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه، وأيضًا تبعًا لدرجة تقدُّمه؛ فإمبيريقيات أي إجراءات قياسية لمجالٍ معيَّن الآن، تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت في أواسط القرن العشرين للمجال نفسه، وتختلف تمامًا عن تلك التي كانت في القرن التاسع عشر أو الثامن عشر.
على هذه الاختلافات الإجرائية ينصب اهتمام العلماء المتخصصين، كلٌّ يسخِّره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه، بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى. بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث، ملحقة بفروع العلوم المختلفة، لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية، المتكيفة مع موضوع البحث، ومادته التي تختلف من علمٍ لآخر، فنجد مثلًا «مناهج البحث في علم الاجتماع» و«مناهج البحث في علم الفلك» و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية» و«مناهج البحث في علم النفس» … إلخ، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي» و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية» و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينكي» … إلخ. مناهج البحث هنا مسائل متعلقة بنوعيات الإمبيريقيات، وأساليب الممارسة الإجرائية وتفصيلياتها الدقيقة والمرسومة بعناية، وخطواتها وتوصيفاتها. وهذه مسائل تخصصية يعالجها كل علم وفقًا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبر، ولكنهم جميعًا يستندون فيما يفعلونه على أساسٍ كلي، يتمثل في مبادئ عمومية مشتركة، يستندون إلى ثابتٍ بنيوي في مفهوم المنهج العلمي، من حيث هو منهج علمي. هذا الأساس الكلي المشترك أو الثابت البنيوي، هو المنهج العلمي الذي تبحثه الميثودولوجيا، وتصوغ نظرية له. وفي هذا يكون المنهج العلمي واحدًا، لا تستوقفه اختلاقات الإجرائيات.
(٢) في الرياضيات والعلوم التجريبية
•••
يمكن أن يتضح الآن كيف ولماذا ظلت فلسفة العلم ونظريته المنهجية، منذ نشأتها وعلى مدار القطاع الأكبر من القرن العشرين، تدور بصفةٍ أساسية حول الفيزياء، حتى جاز القول إنها أساسًا فلسفة للفيزياء، والصورة المثلى لمفهوم المنهج العلمي في أنه منهج العلوم الفيزيائية؛ فقد كانت الفيزياء أكثر العلوم تقدمًا، تعطي مثالًا يُحتذى للتقدم العلمي المنشود في النظرية وفي التطبيق. وكانت معاملات تقدمها في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، التي شهدت تشكُّل نماء واكتساح ميكانيكا الكوانتم بمعية نظرية النسبية لآينشتين، معدلات متصاعدة بصورةٍ غير مسبوقة في تاريخ العقل البشري، وبدت العلوم البيولوجية أقل تقدمًا لأنها أكثر تعقيدًا، والعلوم الإنسانية أقل وأقل؛ لأنها أكثر وأكثر تعقيدًا. في العقود الأخيرة شهدت البيولوجيا طفرات تقدمية هائلة في النظرية وفي التطبيق، لا سيما بعد اكتشاف «د. ن. أ» كشفرة الحياة وتنامي علم البيولوجيا الجزيئية، وتعاظم شأن الهندسة الوراثية وتقنيات حيوية أخرى، حتى بدت علوم الحياة الآن وكأنها تستقل بنموذجها الخاص، وتحتاج مناهجها لمنظورات ومعالجاتٍ خاصة. العلوم الاجتماعية والإنسانية هي الأخرى لم تتوانَ، وشهدت تطورات منهجية أثْرَت مضامينها، وجعلت مناهج العلوم الإنسانية مبحثًا مستقلًّا ولافتًا.
وما دمنا معنيين بالعالم التجريبي، فإن العلوم التجريبية تتكامل معًا من أجل تفسير الظواهر التجريبية. لنفترض مثلًا أن شابًّا قرَّر الانتحار، فألقى بنفسه من النافذة ليهوي مُسلِمًا الروح، هذه ظاهرة نريد من العلم تفسيرها. تتقدم العلوم الفيزيائية لتفسيرها بحساب معاملات السقوط من حيث الارتفاع والكتلة والجاذبية والاصطدام أو الارتطام بالأرض، قوانين الفيزياء تسري وتساهم لكنها لا تكفي لتفسير الظاهرة. لا بد أن تتدخل العلوم البيولوجية لدراسة أثر الارتطام على الجسد الحي، والصدمة العصبية والكسور والنزف وما إليه … تتكامل مع القوانين الفيزيائية ولكن هذا أيضًا لا يكفي تمامًا لتفسير الظاهرة، ولا بد أن تتدخل العلوم الاجتماعية ليفسِّر لنا علم النفس سبب انهيار الشاب، والاكتئاب الذي يصل به إلى حد قرار الانتحار، ويفسِّر لنا علم الاجتماع ظروف البيئة الاجتماعية التي تفرز شخصيات منهارة على هذا النحو، ويتدخل علم الاقتصاد ليبحث عن عوامل لنشأة هذه البيئات المُحبطة، وبهذا التكامل بين العلوم المختلفة، نخرج بتفسيرٍ أوفى نسبيًّا للظاهرة المطروحة للبحث.
إن العلوم التجريبية تتآزر لتفسير ظواهر هذا العالم، بأكمل وأجمل معاني التآزر.
•••
كانت النظرة الوضعية المنطقية أقوى تعبير عن فكرة العلم الموحَّد، وقد سادت في حينها، وبغض النظر عن تطوراتٍ عديدة أدَّت إلى دخول العلم وفلسفة العلم في مرحلة «ما بعد الوضعية»، المواكِبة لمرحلة ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار، فإن الاتجاه يميل الآن بشكلٍ عام نحو اعتبار كل علم وحدة مستقلة، تدخل في علاقاتٍ منطقية وبينية مع العلوم الأخرى، لكنه يصول ويجول في موضوعه بما يلائم طبيعته النوعية بالفروض الجريئة المثمرة. باتت الميثودولوجيا الراهنة تتحدث عن نموذجٍ إرشادي خاص بكل علمٍ من العلوم، مستقل إلى حدٍّ ما عن نموذجٍ إرشادي مشترك تتربع في سويدائه الفيزياء، خصوصًا بعد ما حدث من تطوراتٍ مذهلة للبيولوجيا في العقود الأخيرة، وبحث العلوم الإنسانية المحموم عن منهجياتٍ خاصة، تلائم طبيعتها النوعية وتخرج بها من أزْمة تخلُّفها النسبي عن علوم المادة.
(٣) طريقان منهجيان
كما ذكرنا، فلسفة العلوم، أو بمزيدٍ من التحديد الميثودولوجيا، حين تجيب عن السؤال: ما المنهج العلمي؟ إنما تتغاضى عن الفوارق الإجرائية الشتى للعلوم العديدة، لتقف على الثابت المحوري للمنهج العلمي، الذي يقف بدوره من وراء أو بالأحرى في صلب المناهج الإجرائية جميعها. هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى، ذكرنا أيضًا أن سرَّ نجاح العلم الحديث، يتمركز في ذلك التآزر والتحاور بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب.
لذلك ثمَّة فارق لا يمكن أن تتجاهله الميثودولوجيا في تقنينها لمفهوم المنهج العلمي، بل على العكس ترتكز عليه وتنطلق منه، يتمثل في الفارق بين العلوم الصورية والعلوم الإخبارية، وقد رأيناه سابقًا في تخطيط نسق العلم، ويمكن أن نشتقه مجددًا على النحو التالي:
- المنهج الصوري Method Formal: هو منهج العلوم الاستدلالية، التي تُعنى فقط بالانتقال من قضايا إلى أخرى، أو من مقدماتٍ إلى نتائج تلزم عنها، ولا شأن لها بالواقع أو بوقائع التجريب، وهي علوم المنطق والرياضيات، وقد أثبت برتراند راسل B. Russell (١٨٧٢–١٩٧٠م) برفقة آخرين، أنهما امتداد لطريقٍ واحد، وأن المنطق في صورته الرمزية المحدثة هو صبا الرياضيات، والرياضيات رجولة المنطق، ومنهجهما صوري يقوم دائمًا وأبدًا على الاستنباط deduction، بعبارةٍ أخرى منهج الرياضيات منهج استنباطي، أو بمزيدٍ من التحديد هو المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي (أكسيوماتيكي = بديهي)، الذي يقوم على افتراض بديهيات ومصادرات أولية، ثم استنباط المبرهنات الرياضية منها.
- المنهج التجريبي Empirical Method: وهو منهج العلوم الإخبارية، الفيزيوكيميائية والحيوية والإنسانية، ويقوم على أساس التحاور بين العقل والحواس، أو بين اليد والدماغ، وبالمصطلحات الميثودولوجية لفلسفة العلم، نقول: بين التجريب والتنظير أو بين الملاحظة والفرض.
لعل هناك مناهج بحث فرعية أخرى، مثلًا المنهج الاستردادي الذي نسترد فيه صورة الماضي، تبعًا لما تركه من آثار، كما يحدث في علومٍ كالتاريخ والجيولوجيا، وثمَّة المنهج الوصفي ومنهج التصنيف والتقسيم، والمنهج التحليلي والتعدادي والإحصائي، ومنهج دراسة حالة … إلخ. غير أن مناهج البحث في جذرها العميق، الذي يتمثل في مفهوم المنهج العلمي، لا تخرج عن واحدٍ من هذين الشكلين أو الطريقين: فإما استغلال قوى العقل المنطقية لاستنباط قضية من أخرى، وإما استشهاد الواقع والوقائع عن طريق الحواس، التي قد تستعين بالأجهزة، إنهما الآليتان الأساسيتان للعقل العلمي، توافرهما معًا يعني توافر المنهج العلمي. لا غرو إذن أن يكونا الشقَّين الأساسيين للمنهج العلمي؛ لهذا يمكن القول إن علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا علم التقابل بين المنهجين الصوري والتجريبي، بحيث يمكن ترسيمه بالشكل الآتي:
وبحكم الطبيعة المنطقية المحكمة للرياضيات، نجد أن المنهج الصوري هو دائمًا الاستنباط، ويُمارس في أنضج صوره منذ القرن الثالث قبل الميلاد، حين وضع إقليدس في الإسكندرية كتابه «أصول الهندسة» نسقًا مكتملًا، أما المنهج التجريبي فإنه يشتبك مع خضم عالم الواقع والوقائع، شديد الالتباس والغموض والتعقيد؛ لذلك يمثِّل المنهج التجريبي المشكلة الفلسفية الحقيقية، التي استنفدت جهود رعيل وأجيال من الفلاسفة. ولا غرو، فالمشكلة الفلسفية الكبرى على إطلاقها، هي الإنسان في هذا العالم أو مشكلة العقل والواقع.
-
مرحلة العلم الكلاسيكي منذ العام ١٦٠٠م (تقريبًا) حتى العام ١٩٠٠م (تحديدًا)؛ حيث كانت نظرية نيوتن بمثاليتها المعرفية والمنهجية هي الإطار السائد. ويواكب هذا نظرة كلاسيكية للمنهج التجريبي، يمثِّلها الاستقراء التقليدي، الذي يبدأ بالملاحظة ويصعد منها إلى الفرض. يمكن اعتبار جون ستيوارت مل J. S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م)، ممثلًا رسميًّا لهذه النظرة. آمن مل بالاستقراء إيمانًا طاغيًا، رآه الآلية الوحيدة التي امتلكها العقل البشري، حتى بديهيات الرياضة والمنطق وحتى العواطف والمشاعر، كلها في رأيه تعميمات استقرائية؛ فكان مل أبرز مَن تفانَوا في صياغة الاستقراء كمنهجٍ، بل وكمذهب، وفي كتابه الشهير «نسق المنطق» System of Logic وضع للاستقراء بوصفه منهج العلم لوائح أو ضروبًا خمسًا، وهي منهج الاتفاق الذي يرصد حالات اتفاق العلة مع معلولها، ومنهج الاختلاف الذي يرصد حالات غياب المعلول بغياب العلة، ومنهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف، ومنهج التغير النسبي، وأخيرًا منهج البواقي. إنها طرق استكشاف العقل للعلاقات السببية بواسطة التجريب؛ أي طرق تعميم الملاحظات التجريبية، التي يبدأ البحث العلمي برصدها، ليصل إلى القوانين.
-
مرحلة العلم المحدث، المعاصر منذ العام ١٩٠٠م وما تلاه، منذ أن تفجَّرت ثورة النسبية والكوانتم، التي أحدثت انقلابًا في مثاليات المعرفة العلمية، ويحق اعتبارها أعظم ثورة عقلية أنجزها الإنسان، وتصاعدت معها معدلات التقدم العلمي بصورةٍ مبهرة حقًّا. لقد أحدثت انقلابًا جذريًّا في مثاليات المعرفة العلمية وفي إبستمولوجيا العلم،٦ وبالتالي واكبها انقلاب مماثل في نظرية المنهج التجريبي، بحيث اتضح أنه يبدأ من الفرض ويهبط منه إلى الملاحظة والواقع التجريبي، فيما يُعرف بنظرية المنهج الفرضي الاستنباطي، التي تمثِّل نضجًا ملحوظًا وتطورًا خصيبًا، لقد انتقلت نظرية المنهج التجريبي من الاستقراء إلى المنهج الفرضي الاستنباطي، إنه التقاءٌ ثمين بين التجريب والاستنباط، يعني إزاحة الاستقراء — الذي هو تجريب خالص — جانبًا.
هكذا نلاحظ كيف كانت نظرية المنهج العلمي حوارًا وشجارًا ولقاءً وافتراقًا، بين طريقين متقابلين هما الاستنباط والاستقراء، وسوف نتوقَّف الآن عند كل منهما، فنعرض للاستنباط منهج العلوم الرياضية، ثم الاستقراء الذي حمل على عاتقه لواء الثورة التجريبية العظمى، في القرن السابع عشر وما تلاه، قبل أن يلتحم مرةً أخرى بالاستنباط في تطورٍ رائع لنظرية المنهج العلمي.
(٤) الاستنباط في الرياضيات
الاستنباطية كآلية ذهنية له أشكال وفعاليات كثيرة، متفاوتة في طبيعتها وفي دورها وفي قيمتها، يستخدمه العقل البشري في أي لحظة حين يستخرج مضمونًا من مضمونٍ آخر، دون التجاء للتجريب، مثلًا حين يستخرج المعاني من النصوص، أو الجزء من الكل أو الخاص من العام، أو المثيل من المثيل، أو ينتقل من القاعدة إلى حالةٍ جزئية لها. والاستنباط كمنهج بحث وتنظيم لفعاليات العقل، له أيضًا أشكال عديدة متفاوتة، على أن أرقى أشكاله وممارساته في الرياضيات.
فما الاستنباط؟
وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (سورة النساء، الآية: ٨٣).
وفي التفسير الميسر جاء معنى هذا:
هكذا نجد القدماء قد عرفوا مصطلح الاستنباط، واستخدموه كفعلٍ ذهني ذي طريق محدد، وعرفوا أيضًا أشكالًا للمنهج الاستنباطي، أشهرها القياس الأرسطي والقياس الأصولي. وفي استعمالٍ جديد ومتطور لهذا المصطلح القديم، يأتي علم مناهج البحث الحديث، ليسير في طريق خدمة الفعل الذهني الاستنباطي، كي يستخرج الصورة الإيجابية المنتجة له في منهج الرياضيات.
يقوم المنهج الرياضي، أو نمط التفكير الرياضياتي، على استنباطٍ بمعنى استخراج النتائج من مقدمات، والانتقال من قضية أو قضايا إلى أخرى تلزم عنها، والمقدمات في النسق الرياضياتي تقوم على بديهيات، يُسلِّم بها العقل لوضوحها أو بداهتها؛ لذلك يُسمَّى المنهج الرياضياتي: المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي (الأكسيوماتيكي = البديهي). واستنباط النتائج من المقدمات يعني البرهنة على هذه النتائج. الصفة الأساسية للاستنباط هي لزوم النتائج عن المقدمات بالضرورة، متى سلَّمنا بالمقدمات لا بد أن نسلِّم بالنتيجة المستنبَطة منها، فإذا أنكرناها وقعنا في التناقض. اللزوم والضرورة والدقة هي خصائص النتائج المستنبطة، خصائص القضايا الرياضية التي هي تحليلية تحصيل حاصل، تُوصف بالصحة والبطلان وليس الصدق والكذب.
وتقوم ممارسة المنهج الاستنباطي الرياضياتي على أساسٍ من مقدماتٍ أساسية: وهي مجموع الحدود والقضايا الأولية، التي يسلِّم بها الرياضياتي قبْلًا بلا برهان، وتتكون من تعريفات ثم مصادرات تضم بديهيات ومسلمات. وللبديهية ثلاث خواص: أولًا الوضوح الذاتي، فتكون في غير حاجةٍ إلى شرح أو توضيح. وثانيًا الأولانية المنطقية، فهي غير مأخوذة أو مستنبَطة من أي قضايا أو مبادئ أخرى. والخاصية الثالثة أنها قاعدة صورية عامة، أما المسلَّمات فقد لا تكون بوضوح البديهية ونسلِّم بها فقط؛ لأن العالم رآها ضرورية لبناء نسقه الاستنباطي، وهي بدورها لها ثلاثة شروط: الاتساق الذاتي، فتكون خلوًا من أي تناقض، ثم الاستقلال فتكون كل مسلَّمة مستقلة عن الأخرى، لا يمكن استنباطها منها؛ لأنه لو أمكن هذا لكانت مبرهَنة وليست مسلَّمة. أما الشرط الثالث فهو الكفاية، فلا بد أن تكون المسلَّمات كافية لاستنباط المبرهَنات؛ أي النظريات المطلوبة.
(٥) الاستقراء في العلوم التجريبية
حين بدأت إرهاصات وبشائر فلسفة العلم في أواسط القرن التاسع عشر من أجل صياغة نظرية المنهج العلمي التجريبي، كان الإجماع منعقدًا تقريبًا على أنه الاستقراء.
يسهل إدراك أن المبادئ الثلاث وجوه لعملةٍ واحدة، طالما أن السببية هي اطراد التعاقب في الطبيعة، والاطراد بدوره شاهد على السببية، وقد انتظما معًا في إطار مبدأ الحتمية الكونية الشاملة، الذي رسَّخته فيزياء نيوتن حين قدَّمت تفسيرها الميكانيكي للكون. الحتمية لا تعدو أن تكون الإقرار بأن السببية الشاملة، تجعل كل حدث يحدث كان لا بد حدوثه ويستحيل أن يحدث سواه، والقانون العلمي يتنبأ يقينًا بالأحداث على أساسٍ من السببية الشاملة، بحيث إذا توصَّلنا إلى نسق العلم الشامل، تبدت أمامنا أحداث الكون جميعها كتابًا مفتوحًا.
وراح فلاسفة العلم آنذاك يتبارون في تحديد خطوات المنهج الاستقرائي، وترتيبها ترتيبًا تصاعديًّا وصولًا إلى الكشف أو النظرية العلمية. وأهم ما في هذا الترتيب أن الخطوة الأولى هي الملاحظة التجريبية؛ فلا بد أن يبدأ العالم بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة خالصة بلا أية موجهات، وكأن العالِم يرقب من وراء ستار بحيادٍ تام. الملاحظة العلمية دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتَّبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية، وأيضًا الدقة التي توجِب استخدام الأجهزة المعملية إلى أقصى حدٍّ ممكن وصولًا لتكميمٍ دقيق. وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها. وهناك علوم تعتمد على الملاحظة فقط كالفلك والجيولوجيا، وعلوم تعتمد على التجربة فقط كالفيزياء والكيمياء، وعلوم تجمع بين الاثنتين كعلوم الطب والحياة. والخطوة الثانية هي التعميم الاستقرائي للوقائع، التي لُوحظت في صيغة قانونٍ عام، وقد تتلوها خطوة افتراض فرض يعلِّل أو يفسِّر هذا التعميم. الخطوة الرابعة هي التحقُّق من صحة الفرض منطقيًّا، وأنه قادر على حل المشكلة المطروحة للبحث ومتسق مع ذاته، ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها، ثم اختباره تجريبيًّا. ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرضٍ آخر إذا تم دحضه، كل هذا وفقًا لنتائج محكمة التجريب، ليتم بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلى بنيان العلم.
هذا هو ما يُعرف بالاستقراء التقليدي أو الصورة الكلاسيكية البائدة للمنهج العلمي. ولئن كان العلم التجريبي تجسيدًا وتجريدًا لمقولة التقدم في حياة البشر، فلا غرو أن تشهد نظريته المنهجية بدورها تقدمًا أو تطورًا جذريًّا، فكيف سار الأمر؟