تطور نظرية المنهج العلمي
(١) مشكلة الاستقراء
ترسَّخت رؤية المنهج العلمي التي تعتبر النظرية العلمية في جوهرها تعميمات استقرائية، لا سيما وأن هذا كان مُلائمًا تمامًا لفيزياء نيوتن الكلاسيكية، وهي لم تقتحم بعدُ عالم الذرة وما دون الذرة، وتتعامل مع كون كل شيء فيه تقريبًا قابلًا للملاحظة الحسية. كانت الفيزياء النيوتونية التي تحكم قوانين الحركة في الزمان والمكان، هي النظرية الفيزيائية العامة التي ترسم معالم نسق العلم وتحدِّد مثالياته ومعاييره، وكانت النيوتونية تسير قُدُمًا من نجاحٍ إلى نجاحٍ أعظم، وأثبتت ذاتها بوصفها المثال المعرفي المنشود، وتبارت العلوم المختلفة في احتذاء حذوها، وقد سلَّم الجميع بأن منهجها الاستقرائي، هو المنهج العلمي المشهود.
ولكن في أوج العلم الكلاسيكي ونجاح فيزياء نيوتن، وفي أوان صعودها عرش المعرفة بثقةٍ واقتدار، المعرفة النظرية والتطبيقية أيضًا التي جعلت الثورة الصناعية على الأبواب، في قلب هذا المعمعان الظافر الرافع للواء الاستقراء بوصفه المنهج العلمي المعلَّى، حدث أن أُثيرت مشكلة الاستقراء أشهر مشكلات الفلسفة ومناهج البحث.
وتتلخص مشكلة الاستقراء في التساؤل: بأي مبرِّر يخرج العالم من وقائع جزئية محدودة إلى قانونٍ كلي عام؟ كيف يسحب الحكم مما لاحظه على ما لم يلاحظه؟ لماذا يفترض أن الوقائع التي لم يشاهدها تماثل تلك التي شاهدها، وأن الأحداث سوف تتعاقب في المستقبل تمامًا كما تعاقبت في الماضي؟
إن العالِم في معمله يلاحظ عددًا محدودًا من الحالات، مثلًا القطعة «١» من الحديد تمددت بالحرارة، القطعة «٢» … القطعة «٣» … القطعة «٤» … القطعة «ن» … فيخرج بتعميمٍ استقرائي: الحديد يتمدَّد بالحرارة. أو مثلًا افترض باحث أن المضاد الحيوي «س» فعَّال في علاج التيفود، وجرَّبه على المرضى الذين يعالجهم وهم عشرة أو عشرون أو حتى ألف، وهبْ أنهم شُفوا جميعًا، سيخرج بتعميمٍ استقرائي: المضاد الحيوي «س» يشفي من التيفود. القانون العلمي عبارة عامة تحكم الحالة المطروحة للبحث بصفةٍ كلية، وليس مجرد حصر أو تعداد لأمثلةٍ لُوحظت. إن العالِم يلاحظ ويجرِّب على عددٍ من الوقائع الجزئية، مهما كان كبيرًا فهو عدد محدود، ثم يخرج منه بعبارةٍ كلية تنطبق على كل الوقائع المماثلة في أي زمانٍ ومكان. والسؤال الآن: بأي مبرِّر يخرج من وقائع محدودة لُوحظت إلى قانونٍ كلي عام؟ كيف يسحب الحكم مما لاحظه على ما لم يلاحظه؟ مَن أدرانا أن الحديد منذ مليون عام أو بعد ألف سنة أو على كوكب المريخ أو في مجرَّة أخرى يتمدد أيضًا بالحرارة؟ ما الذي يضمن عدم وجود عينات من الحديد هنا أو هناك لا تتمدد بالحرارة ولم يصادفها الباحثون؟
مشكلة الاستقراء هي مشكلة تبرير القفزة التعميمية، من عدد محدود من الوقائع التجريبية إلى قانون كلي عام. على أي أساس يُمارَس التعميم الاستقرائي، وهو صُلب فاعلية المنهج العلمي؛ أي صُلب عملية إنتاج المعرفة العلمية؟
معنى هذا أن قوانين العلم التجريبي تفتقر إلى أساسٍ مطمئن وإلى حجةٍ تبرر مصداقيتها، فهل هي تعميمات لا عقلانية في حين أن العلم هو نجيب العقل الأثير؟! أين الأساس والتبرير العقلي للقفزة التعميمية؟ لا إجابة على هذا السؤال بعد انهيار السببية بفعل هيوم، فقيل إن التأمُّل في أصول المنهج العلمي يجعل نفرًا من الفلاسفة التجريبيين شكاكًا أو لا عقلانيين. وفي النهاية يبدو وكأنه يحق القول الدارج: الفلسفة لا منها ولا كفاية لشرها! لم تستطِع أن تنجز ما أنجزه العلم، وحين قنعت بمحاولة تبريره وتمييزه بمعيار المنهج العلمي، انتهت إلى ما لا يمكن تبريره، إلى ما يعني أن العلم التجريبي بجلال قدْره قائم على غير أساس!
والحق أن مشكلة الاستقراء لم تكن دليلًا على عقم الفلسفة، على مدى خصوبتها وثقوب بصرها، وقدرتها على استشراف آفاق مستقبلية في تطور العلم ونظرية المنهج العلمي. وما تكشَّف من عقمٍ ويأس مردود إلى قصورات معرفية وظروف حضارية آنذاك، دفعت إلى رفع لواء البدء بالملاحظة، وأن يكون الفرض العقلي تاليًا لها، حتى يبدو وكأنه تعميم لوقائع، فتتخلق مشكلة الاستقراء غير القابلة للحل. وسوف ننتقل الآن إلى ظروفٍ مصاحبة لنشأة العلم الحديث وتناميه، لتتكشف حقيقة الأمر.
(٢) ظروف حضارية ومعرفية
مهما كانت مشكلة الاستقراء من أشهر مشكلات الميثودولوجيا وأكثرها إلحاحًا، فإن ما نشدِّد عليه الآن أن هذه المشكلة لم تأتِ من صميم مفهوم المنهج العلمي، وما قد يبدو من تداخلٍ في عناصره أو خطواته، التي بدت حصائلها مفتقرة للتبرير المنطقي بل وللعقلانية. بعبارةٍ أخرى موجزة، مشكلة الاستقراء جاءت من ظروفٍ حضارية وقصورات، أو أوضاعٍ معرفية لها حدودها، وهي التي جعلت العقل العلمي في مرحلةٍ من تطوره الحديث، يفترض أن الاستقراء التقليدي؛ أي البدء بالملاحظة، هو المنهج العلمي.
وتلك هي المشكلة الحقيقية: طالما نبدأ من الملاحظة فلن تجد مبررًا للقفزة التعميمية، وتجلى ثقوب النظر الفلسفي في تعيين الخلل الكامن في تصور البدء بالملاحظة، وفيما بعدُ اتضح أن هذا التصوُّر لا يعبِّر عن طبيعة المنهج العلمي، الذي يبدأ بفعلٍ عقلي وفرضٍ ما، بل هو تصوُّر أملتَه ظروف خاصة بمرحلة الحداثة في القرن السابع عشر وما تلاه، ظروف حضارية وظروف معرفية.
ونبدأ بالظروف الحضارية، وفي هذا نلاحظ أن العلم نشاط معرفي، نعم، ولكنه لا ينشأ في سديمٍ ولا يمارسه البشر/العلماء في خلاء، بل في إطارٍ حضاري له ظروف وحيثيات، فيشتبك العلم كنشاطٍ إنساني بهذه الظروف، ولا تُفهم الحركة العلمية فهمًا متكاملًا، من دون أن نأخذ في الاعتبار عواملها الخارجية؛ أي تفاعلاتها واشتباكاتها مع المؤسسات الاجتماعية والثقافية، والأوضاع الحضارية المحيطة بها في مرحلتها التاريخية المعنية.
من هذا المنظور كانت نظرية المنهج العلمي الاستقرائية، التي ترتكز على البدء بالملاحظة، قد تصاعدت «مواكبة» لنشأة العلم الحديث في أعقاب عصر النهضة وبدايات العصر الحديث، كرد فعل عكسي على إفراط العصور الوسطى الأسبق، خصوصًا العصر المدرسي في منهجية القياس الأرسطي. القياس شكلٌ عقيم من أشكال الاستنباط الخالص، يهبط من مقدماتٍ كبرى إلى نتائج جزئية، فيما يبدو كتحصيلٍ لحاصل ومصادرة على المطلوب، من حيث إن النتيجة متضمنة قبلًا في المقدمات، فضلًا عن أن الأمر انتقال من قضيةٍ إلى أخرى، ولا مساس إطلاقًا بآفاق المجهول الرحيبة، ولا تَعامل مع الواقع والوقائع، ودعْ عنك استشهاد الحواس. كان القياس الأرسطي الذي مثَّل الروح المنهجية في العصر المدرسي، أمثولة على الاستنباط الخالص العقيم.
بدا لعقول الحداثة الناهضة آنذاك — في القرن السابع عشر — أن شقَّ الطريق الحديث للعلم الحديث، يعتمد على نبذ القياس الأرسطي والاستنباطات العقلية طُرًّا، وسلْك الطريق العكسي وهو الاستقراء؛ أي البدء بالملاحظة والصعود منها إلى نتائج عامة.
وزاد من حدة هذا، ذلك الصراع الدامي آنذاك بين العلم الحديث، وبين السلطة المعرفية التي كانت لا تزال في يد رجال الكنيسة، وقد استمدوا سلطانهم — لا لأنهم مبدعون أو يفترضون فروضًا جريئة — بل فقط لأنهم أقدر البشر طُرًّا على قراءة الكتاب المقدس. ولكي يستطيع رجال العلم احتلال مواقع معرفية والاستقلال بنشاطهم، بدا من الحمق الصُّراح والخسران المبين، إقحام فكرة الفرض صنيعة العقل الإنساني الخطَّاء القاصر في المواجهة مع رجال الكنيسة المتوسلين بالكتاب المقدس والحقائق الإلهية، فأصر العلماء على أنهم هم الآخرون أقدر البشر، على قراءة كتابٍ آخرَ لا يقل عظمة أو دلالة على بديع صنْع الرب، ألا وهو كتاب الطبيعة المجيد، محض قراءة مصوغة باللغة الرياضية، محض مشاهدة لوقائع التجريب ثم تعميمها، فلا إبداع ولا فروض.
ترسَّخت دعائم المنهج العلمي الاستقرائي، ثم شهد القرن الثامن عشر فكرة الفرض العلمي تتقدم على استحياء، خصوصًا على يد عالم الكهرباء الفرنسي أمبير، ثم تعاظم شأنها وأثبتت ذاتها في القرن التاسع عشر، وبات من المسلَّم به أن عماد مفهوم المنهج العلمي شقان: الفرض والملاحظة، ولكن ظلت الأسبقية للملاحظة والبدء منها لتُثار مشكلة الاستقراء.
•••
أما عن الظروف المعرفية فتعني الولوج إلى قلب نسق العالم وعوامله الداخلية المنطقية والمنهجية. وفي هذا نجد أن المنهج الاستقرائي التقليدي كان يتواكب مع إبستمولوجيا العلم الحديث في مرحلته الكلاسيكية؛ أي مع نظرية المعرفة العلمية وطبيعتها وخصائصها في تلك المرحلة، التي تحدَّدت معالم نسق العلم فيها بفيزياء نيوتن الكلاسيكية. ونظرية نيوتن بدورها تصوِّر الكون ككتلٍ مادية قابلة للملاحظة المباشرة، وتتحرك على سطحٍ مستوٍ عبْر الزمان والمكان المطلقين، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام، إذن فالكون بالتأكيد نظام ميكانيكي حتمي خاضع للسببية الشاملة والحتمية، فضلًا عن أن مكوناته قابلة لأن تدركها الحواس. في مثل هذا العالم من الملائم جدًّا أن نلاحظ وقائعه ثم نعمِّمها، ويتقدم العقل العلمي بتفسير للتعميم إلى آخر خطوات المنهج الاستقرائي التقليدي.
وكانت كل خطوة يحرزها العلم آنذاك إنما هي نجاح ملموس، يؤكد فرضية الاستقراء والبدء بالملاحظة، ويتأكد بها. وفي هذه الأجواء المشبعة بنشوة الظفر والنجاح العلمي الحديث، جاء هيوم ليثير التساؤل حول السببية، ويفجِّر مشكلة الاستقراء.
وكان هذا حدَسًا عميقًا لأن الظروف الحضارية والقصورات المعرفية، هي التي أملت البدء بالملاحظة، في حين أن العقل هو سيد الموقف العلمي: يبدأ بفرضٍ ما يتَّجه منه إلى الملاحظة. وانقشعت أوهام الاستقراء والمصادرة على البدء بالملاحظة باقتحام عالم الذرة وما دون الذرة؛ حيث يتعامل العلم التجريبي مع كيانات غير قابلة للملاحظة أصلًا، فلا يمكن رصد جسيمات الذرة لكي نخرج بتعميمٍ استقرائي لما لاحظناه أو رصدناه، يمكن فقط رصد آثار الجسيمات على الأجهزة المعملية. إذن لا بد من فرض قبلًا لنستنبط منه ما يلزم عنه، نصمم التجربة على أساس الفرض، أو بالأحرى نصممها لاختبار الفرض عن طريق المقارنة بين النتائج المستنبطة من الفرض وبين الآثار المرصودة معمليًّا. هكذا يأتي دور الملاحظة المعملية التجريبية بعد الفرض، وانتبهنا أخيرًا إلى أن أحدًا من العلماء — قديمًا أو حديثًا — لم يدخل البتة معمله، إلا بناء على فكرةٍ أولية أو فرضٍ ما مطروح قبلًا. بدون فكرة مبدئية، كيف ولماذا يدخل المعمل؟ لقد انقلبت نظرية المنهج العلمي رأسًا على عقب، ليغدو الفرض قبل الملاحظة، يُختَبر ويُنقَّح ويُعدَّل عن طريقها … فيما يُعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي.
(٣) المنهج فرضي استنباطي
في علوم الفيزياء تحديدًا نجد الاستدلال الرياضي، وهو عملية استنباطية، إنما يمثِّل العمود الفقري للمنهج العلمي، وأهم من وقائع التجريب ذاتها، خصوصًا حين نقترب من الفيزياء النظرية أو البحتة. ليس التجريب مقابلًا تمامًا للاستنباط، أو يستبعده كما كان الحال مع الاستقراء. والفروض العلمية الآن لم تَعُد تحكم وقائع بقدْر ما تحكم قوانين وعلاقاتها ببعضها. المنهج العلمي التجريبي لا يعني تهميش دور العقل، كما كان يفعل الاستقراء التقليدي؛ فقد عاد الاستنباط ليحتل موقعًا محوريًّا. انهار التصور الحتمي للكون وكأنه يسير كما تسير الآلة الميكانيكية، وارتفع لواء اللاحتمية واللايقين واللاتعيُّن والمنطق الغائم ونظرية الشواش، ويظل المنهج تجريبيًّا والعلم تجريبيًّا، من حيث إن العالم التجريبي هو المحك النهائي الذي يشهد على النتائج المستنبطة ليتقرر مصير الفرض. إن مفهوم المنهج التجريبي في حقيقته، هو التآزر الجميل حقًّا بين إمكانيات العقل وقوة التجريب.
•••
يُعَد كارل بوبر أهم فلاسفة المنهج العلمي والميثودولوجي الأول في القرن العشرين، وكان من أسبق وأقدر الذين تمثَّلوا الأبعاد الإبستمولوجية والميثودولوجية لثورة النسبية والكوانتم. وكما أشرنا فيما سبق، يحدِّد بوبر الخاصة المنطقية المميزة للنظرية العلمية بأنها القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب. وهذه الخاصة تمثيل منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي، ولطبيعة التفكير العلمي كفرض يفرضه العقل على الواقع، وليس يستقرئه من الواقع. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر، فلا تكون نظرية المنهج العلمي نظرية في تبريره، بل في أسلوب هذه الصيرورة أو كيفية التقدم المستمر، الأسلوب أو الكيفية هو ما يُعرف بالمنهج العلمي، ومن ثَم تكون فلسفة العلم هي نظرية المنهج العلمي، هي ذاتها منطق الكشف العلمي.
كارل بوبر يصوِّب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد، لحظة التكذيب والتفنيد. ومن خلال منطق التكذيب والتصويب، تغدو فلسفة المنهج العلمي، هي منطق قابلية العلم المستمرة للتقدم، بحيث تكون قواعد البحث العلمي — كما يؤكد بوبر — قواعد مباراة هي من حيث المبدأ بلا نهاية، أما العالم الذي يقرِّر يومًا ما أن العبارات العلمية، أصبحت لا تستدعي أي اختبارات أخرى، ويمكن أن نعتبرها متحققة بصورةٍ نهائية، فإنه ينسحب من المباراة.
على هذا النحو نسلِّم بأن قطبي المنهج العلمي هما الفرض والملاحظة، وقد سادت المرحلة الكلاسيكية نظرية البدء بالملاحظة التي فرضتها فيزياء نيوتن، ويُعَد جون ستيوارت مل أبرز فلاسفتها، بينما تسود المرحلة الراهنة نظرية البدء بالفرض التي أكَّدها آينشتين، وعمل من أجلها فلاسفة كبار للمنهج العلمي في القرن العشرين وفي مقدمتهم كارل بوبر.
(٤) آفاق مركَّب جدلي
ليس الأمر تلاعبًا بطرفي المنهج العلمي، بل هو طرح انقلابي لطبيعة العلم، وطبيعة موقع العقل في هذا الكون، ومفهوم المنهج العلمي؛ فلو كانت الملاحظة هي الأسبق، فإن العلم تعميم آلي للوقائع ملغوم بمشكلة الاستقراء، ودور العقل الإنساني تابع للحواس سلبي هامشي، فقط يخدم الملاحظة الحسية، ليعممها في صورة قوانين مُستقرأة من صُلب الواقع التجريبي، فتكون يقينية ضرورية حتمية، ويغدو نسق العلم بناءً مشيدًا راسخًا ثابتًا، يعلو ولكن لا تبديل ولا تعديل، وكل تقدم تراكمي. أما إذا كان الفرض هو الأسبق، كما تبلج في ضوء ثورة الكوانتم والنسبية واقتحام عالم جسيمات الذرة، فإن العقل الإنساني المبدع للفرض هو الذي يخلق ملحمة العلم المجيدة، لا يخدم الملاحظة الحسية بل يستخدمها لتمحيص وتقنين الفروض، لقبولها أو رفضها، أو تعديلها.
وكان هذا انقلابًا من النقيض إلى النقيض، انحلت إشكاليات منهجية تجسِّدها مشكلة الاستقراء، أي استحالة تبرير القفزة التعميمية من ملاحظاتٍ محدودة إلى قانون كلي، وبدت ظاهرة العلم أكثر إنسانية وأكثر تقدمية.
واللافت حقًّا أن فلسفة العلم قد واصلت مسارها، بتصوراتٍ من قبيل النموذج الإرشادي مع توماس كون، وميثودولوجيا برامج البحث مع إمري لاكاتوش، والاستراتيجيات العقلية مع ستيفن تولمن … وهي تصورات توضِّح كيف أن الوقائع التجريبية لا تتحدد إلا في ضوء النظرية العلمية، والنظرية بدورها لا تتعين بدون الوقائع، كلاهما محمَّل بالآخر، الملاحظة العلمية ليست تسجيلًا لانطباعاتٍ حسية، بقدْر ما هي تأويل للمعطيات في ضوء الفرض المطلوب اختباره أو النظرية المعمول بها، والنظرية بدورها لا تترسم إلا من خلال وقائع تجريبية.
وبهذا يسفر تطور نظرية المنهج العلمي عن صيرورةٍ جدلية؛ فقد كانت الاستقراء الذي يبدأ بالملاحظة، ثم انقلبت إلى النقيض الذي يبدأ بالفرض، وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، اتخذت نظرية المنهج العلمي صورة المركَّب الجدلي، الذي يجمع خير ما في هذين النقيضين ويتجاوزهما إلى الأفضل، إلى نظريةٍ ترى الفرض والملاحظة كلًّا متكاملًا. وهكذا يكون مفهوم المنهج العلمي بدوره مفهومًا متكاملًا.
وفي كل هذه المراحل الجدلية يظل جوهر المنهج العلمي التجريبي، وأساس الآليات الإجرائية في كل بحثٍ علمي، هو التفاعل بين الفرض والملاحظة، النظرية والتجربة، العقل والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، فلا حسية فجة غشوم أو مفككة، وأيضًا لا تحليقات في جنوحات العقل الخالص أو تهاويم في سدم الفكر المطلق. وبالمثل تنفذ نظرية المنهج التجريبي المعاصرة من ذلك الخيار العصيب بين الاستقراء والاستنباط؛ فهي تجمع المجد من طرفيه وتظفر بالمغنمة من الجهتين. هنا في مفهوم المنهج العلمي آية توظيف كل مَلَكات الإنسان وقواه، وسبله الإبستمولوجية في عملية معرفية متكاملة، ولعلها الأكثر تكاملًا من غيرها، لا سيما إذا نظرنا إليها في حدود طبيعة موضوعاتها ومجالاتها. إنه التآزر بين قوى العقل المنطقية والرياضية وبين شهادة الحواس أو استشهاد الواقع والوقائع، مع التسليم بأسبقة العقل وريادته.
•••
بهذه الرؤية الجدلية نتفهم بشيءٍ من العمق آلية العقل العلمي التجريبي. والعقل مِلْك للبشر أجمعين، قال عنه ديكارت إنه أعدل الأشياء قسمةً بين الناس، وبتعبيرٍ معاصر نقول إنه مشترك إنساني عام، بين الثقافات جميعها، وأن يمتلك الإنسان عقلًا، وأن تكون الحواس شواهد ومنافذ للمعرفة بالعالم، فهذه مسألة من أوليات الموقف الطبيعي للإنسان؛ لذا فالمنهج العلمي بدوره هكذا. بعبارةٍ أخرى إذا كان قد اتضح لنا الآن أن جوهر مفهوم المنهج العلمي في تطوراته الشتى، لا يعدو أن يكون التفاعل بين العقل والحواس، فهو إذن — وكما صادرنا منذ البداية أو منذ المقدمة — آلية مفطورة في الإنسان، منذ أن انتصبت قامته واستقام وجوده في هذا الكون؛ لذلك كان العلم نفسه مشروعًا ملازمًا لوجود الإنسان، يسير بدرجاتٍ متفاوتة في مراحله الحضارية المتتالية، حتى باتت تتصاعد بمعدل أسي في المرحلة الحديثة والمعاصرة. كل مرحلة أسهمت بما استطاعته، وتفاوتت في هذا تفاوتًا كبيرًا، وبات سباق التفاوت في عصرنا هذا محمومًا، وقدر الظفر فيه هو قدر الظفر من الحياة … أو الموت، التقدم … أو التخلف.
ليس العلم صنيعة الشرق أو الغرب، العلم أعظم قدْرًا وأجل خطرًا من أن تنفرد بصنعه حضارة معينة، لا الحضارة الغربية بجلال شأنها، ولا الحضارة العربية الإسلامية بعزيز قدْرها. ولئن كان العلم الحديث مرحلة متميزة، وتميزت بها الحضارة الحديثة، فإنه لم ينشأ في رحابها فجأة أو من فراغ، بل هو تطور لمراحل العلم الأسبق. وبطبيعة الحال يقترن العلم — في كل صوره ومراحله ودرجاته — بمنهاجه الذي هو في جوهره التفاعل بين العقل والحواس. وفي هذا يتجلى لنا تاريخ المفهوم العلمي عبر تاريخ العلم ذاته، ومن حقنا — نحن المعنيين بفلسفة العلم ومفهوم المنهج العلمي — التأكيد أن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات، هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصُلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد، والسجل الموثق على تطور الإنسان وخطاه التقدمية في استجابته للعالم المحيط، الذي يحيا فيه عبْر امتلاكه العقل المتفاعل مع الحواس كسلاحٍ أكيد، جعل الإنسان بطل الرواية الكونية وخليفة الله على الأرض.
هكذا يبدو مفيدًا أن نردف ونكمل تحليلنا العَرْضي السابق لماهية المنهج العلمي، بإلقاء نظرة رأسية طولية تتتبَّع تطور العقل العلمي، وفعالية المنهج عبْر التاريخ الإنساني وتطوره في المراحل الحضارية المتتابعة، لتكون الإحاطة بمفهوم المنهج العلمي إحاطة أكمل وأشمل.
ولتفصيل نظرية كارل بوبر في المنهج العلمي انظر الفصل «منهج العلم» في كتابنا: «فلسفة كارل بوبر»، ص١٦٥–١٩١.
Karl Popper, Conjecture and Refutation: The Growth of Scientific Knowledge, 4th impression, Routledge & Kegan Paul, London, 1976, P. 47.
وراجع: يمنى الخولي، فلسفة كارل بوبر، ص١٣٨ وما بعدها.