المنهج العلمي والحداثة
(١) أورجانون العلم والعصر
تتوالى فقرات «الأورجانون الجديد» منفصلة متتابعة ومرقَّمة، حاسمة موجزة ومكثفة، مصوغة بأسلوب بليغ عُدَّ من قمم النثر في عصره. تحمل هذه الفقرات تفصيل المنهج التجريبي. وقد جاء على جانبين أو قسمين: القسم الأول سلبي مختص بالتنويه إلى الأخطاء المتربصة بالعقل البشري كي يتجنبها، والآخر إيجابي مختص بقواعد وإجرائيات التجريب، وقد أسماها «صيد بان»، تعبيرًا عن سدادها ووفرة حصائلها؛ لأن «بان» هو إله الصيد عند الإغريق.
في الجانب السلبي تناول بيكون تلك الأخطاء بتعبيره: الأوهام أو الأوثان التي تصرف الذهن عن جادة الصواب، وقسَّمها إلى أربعة أنماط: أوثان القبيلة أو الجنس البشري، بأسره المتربصة بالعقل الإنساني عمومًا، مثل سرعة التعميم والتغاضي عن الأمثلة النافية، وأوثان الكهف وهي التي تأتي بفعل تأثير البيئة التي نشأ فيها الفرد، كأن يتصور المتواضعات الخاصة بها وكأنها حقائق مطلقة، وقد يُقصِر جهوده المعرفية على إثباتها. أما النوع الثالث من الأوهام أو الأوثان، فهو أوثان المسرح الناجمة عن الافتتان بممثلي الفكر القدامى، فيعيش معهم المتفرج أو الباحث وينعزل عن واقعه، وهذه أوثان تشتد وطأتها في ثقافتنا نحن. كان بيكون يقصد أرسطو تحديدًا ولكن الممثلين البارعين كُثُر. وأخيرًا ثمَّة أوثان السوق الناجمة عن الخلط اللغوي وعدم دقة التعبير، مثلما يحدث في السوق من ضجيجٍ ومساومة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن فلسفات التحليل اللغوي، التي تهتم بتدقيق المعنى اللغوي من أبرز تيارات الفلسفة في القرن العشرين، أدركنا مدى ثقوب نظر بيكون في التنويه لأخطاء اللغة. والحق أن هذه الأوثان الأربعة، تقنينها وتوضيحها كي يحذرها العقل، إنما هي إضافة ولفتة ثاقبة من بيكون، مثمرة وصالحة لكل العصور، يراها البعض أهم وأبقى من الجانب الإيجابي، الذي يحمل تخطيطًا لإجراءات المنهج التجريبي، ويحمل قصورات المحاولات المبدئية.
الجانب الإيجابي على أية حال هو الذي جعل اسم بيكون يقترن بالعلم الحديث والعصر الحديث، وينقسم إلى قسمين أو مرحلتين: المرحلة الأولى هي إجراء التجارب، حيث تحدَّث بيكون عن أنواع ودرجات التجريب، وهي: تنويع التجربة، تكرارها، إطالة أمدها، ونقلها إلى فرعٍ آخر من فروع البحث، وقلب التجربة وإجراؤها بصورةٍ معكوسة، وإلغاؤها لدراسة الصورة السلبية لموضوع البحث، وتطبيقها لاستكشاف خاصية نافعة، وجمع التجربة لزيادة فعالية مادة البحث بالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، وصدف التجربة أي إجراؤها فقط لكونها لم تُجرَ بعدُ.
أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تسجيل نتائج التجريب في ثلاث قوائم تصنيفية، تنتظم فيها الوقائع التجريبية تمهيدًا لاستخلاص نتائجها، وهي: أولًا قائمة الحضور أو الإثبات؛ حيث يضع الباحث جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة، أن الظاهرة موضوع الدراسة تتبدى فيها، وثانيًا قائمة الغياب أو النفي؛ حيث يسجِّل الباحث الحالات التي تغيب فيها الظاهرة، فمثلًا إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، وهذه القائمة تجعل استقراء بيكون منهجًا علميًّا وليس مجرد تعداد ساذج، والنفي أقوى منطقيًّا من الإيجاب، وقوة المنهج العلمي في البحث عن الأمثلة النافية وليس الأمثلة المؤيدة، مثلما يعلمنا منطق التكذيب البوبري. وأخيرًا قائمة التفاوت في الدرجة؛ حيث يسجل الباحث وقائع حدوث الظاهرة محل الدراسة بدرجاتٍ متفاوتة.
تبدو «الطبائع البسيطة» فكرة جوفاء ولا علمية، والأدهى أن بيكون تصوَّر مجموعة من الأبحاث تجرى في بضع سنوات أو عقود تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسق العلم الطبيعي! هكذا كان تصوُّره لعالم العلم الطبيعي على قدْرٍ من السذاجة.
ويبقى أهم المآخذ على منهج بيكون في أنه لم يفطن لأهمية الفروض، بل حذَّر منها وأسماها استباق الطبيعة، وكأن المنهج العلمي يمكن أن يقتصر على محض استقراء للوقائع. إن الفروض سر تقدُّم العلم، إن لم تكن هي العلم نفسه، وبغيرها لا جديد.
جهوده العلمية متهافتة، لكنه قام بتجربةٍ دفع حياته ثمنًا لها: دفن دجاجة مذبوحة في جليد لندن، ليختبر أثر البرودة في وقف تعفن اللحم، وبعد بضع ليالٍ خرج في يومٍ قارص البرودة ليرى نتيجة التجربة، وكم كانت سعادته حين وجد الدجاجة سليمة، لكنه أُصيب بنوبة برد قاتل ألزمه فراش الموت؛ حيث قال قولته الشهيرة، التي أصبحت شعار العصر: «لقد نجحت التجربة.» فهل يقصد تجربة الدجاج والبرودة؟ أم كان يقصد أن التجربة قد نجحت في فرض ذاتها على روح العصر الحديث وروح العلم الحديث، فبات الأورجانون الجديد شريعة الاثنين معًا.
تنقش مكتبة الكونجرس الأمريكي في واشنطن اسم بيكون أعلى إحدى بواباتها المذهبة، بوصفه واحدًا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث، خصوصًا بفعل قولته النافذة «العلم قوة» وليس ترفًا أو زينة أو دوائر مغلقة؛ فذلك القول هو ملخص قصة الحداثة والعصر الحديث.
(٢) المنهج العلمي معالم عصر
العلم الحديث الذي كان فرنسيس بيكون «نافخ بوقه»، ليس مجرد مرحلة أعلى شديدة التميز والتألق من مراحل العلم، بل كان أيضًا نقلة حضارية شاملة للثقافة الغربية، تبدَّلت معها طبيعة التفكير ورؤية العالم، ونتج عنها تطبيقات وفعاليات غيَّرت معالم الحياة الإنسانية وتكوين طبقات المجتمع، ثم طبيعة العلاقات بين الدول والأقاليم. إنها متغيرات وتحولات صنعت العصر الحديث، والعقل الحديث والإنسان الحديث في أوروبا.
راح العلم الحديث ينمو ويتصاعد، ليمتثل نصب الأعين فعالية المنهج التجريبي شريعة العلم وناموسه، بدرجةٍ لم تتحقق من قبلُ. الحديث المستحدث فعلًا أن المنهج العلمي كان روح العلم، بقدْر ما كان تجسيدًا لروح العصر الحديث، التي تخلَّقت في الأراضي الأوروبية، بعد أن امتصت الخلاصة من الحضارة الإسلامية الأسبق والمتاخمة لها. وكانت أوروبا بيئة مواتية لهذا التوقُّد والتفجُّر في نجاح العلم التجريبي؛ لأن التجريبية فيها آنذاك لم تكن محض آلية منهجية للكسب المعرفي، بل هي أيديولوجيا العصر الحديث وروحه، حاملةً قيمه ومحكَّاته، وأوضح تعبير عن متغيراته وعن آفاقه المستهدفة. كان العلم التجريبي في الحضارة الإسلامية دائرة من الدوائر المعرفية، التي ترسَّمت حول المركز الحضاري الإسلامي/النص الديني، فكان المنهج العلمي بُعدًا من أبعادٍ عدة لعطائها المعرفي. أما في الحضارة الغربية الحديثة، فلم تكن التجريبية العلمية مجرد بُعد، بل هي المحور. ومفهوم المنهج العلمي هو المركز ذاته، الذي تترسم حوله الدوائر المتوالية. من هذا المركز وإليه تنبع وترتد معالم الحداثة، تترسم القيم وتتشكل أيديولوجية العصر أو إطاره المرجعي.
كان مفهوم المنهج العلمي التجريبي جوهر الحداثة، بقدْر ما كان علامة وإمارة وقوة فاعلة لإغلاق العصور الوسطى وفتح بوابات العصر الحديث، طريق الانتقال من عصورٍ مظلمة إلى مقدمات عصر التنوير. انتهت المرحلة الأوروبية الوسيطة بما حملته من كهنوتٍ كنسي ثقيل وصل إلى محاكم تفتيش، يحمل السلطة المعرفية ويفرض الوصاية على الإنسان. ولئن كان جوهر المنهج العلمي هو التفاعل بين العقل والحواس، فقد باتت فعالياته الحديثة المتوالية إعلانًا وتبيانًا وبرهانًا، على أن الإنسان الذي يملك العقل والحواس، جدير بأن يستقل بذاته وتُرفع من عليه أية وصاية، لينطلق باحثًا عن الحقائق متحملًا مسئولية المعرفة.
اقترن العصر الحديث في أوروبا واقترنت الحداثة برفض السلطة المعرفية على الإنسان وأن يستقل بنفسه. العقل والحواس وسائل يملكها الإنسان لاكتساب المعرفة، والتوصل إلى الحقائق وتمييزها عن الباطل، ولا حاجة إلى سلطةٍ تدله عليها، إنها الثقة في الإنسان التي فتحت الباب لإعلاء الفردية والمبادرة والاستقلال والحرية والمسئولية، وتأدت إلى العلمانية ومنظومة القيم الليبرالية، وذلك بتفاعلها مع متغيرات الواقع الأوروبي آنذاك، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصعود الطبقة البرجوازية.
•••
على أن الحداثة الأوروبية التي تمخَّضت قواها عن استغلال وظلم في الداخل، واستبدال طبقة العمال بطبقة عبيد الأرض، وفي الخارج عن جرائم استعمارية تقشعر منها الأبدان، لم تكن محض فيحاء الحرية والمدينة المثالية واليوتوبيا السرمدية، ولا توجد تجربة إنسانية هكذا. إن سلبيات ومثالب وجرائم الحداثة معروفة جيدًا، مشهورة ومذكورة، وقد طرحتها تيارات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية على الملأ الأعلى، أو ببساطةٍ فضحتها، ونحن الذين عانينا الأمرين من جرائم الاستعمارية والإمبريالية، لسنا في حاجةٍ لانتظار جهود كشف وفضح لسلبيات الحداثة. على أية حال، الإيجابيات عظيمة شاهقة وثمَّة سلبيات، في القرن الثامن عشر تبلورت الإيجابيات والسلبيات في ذروة المد الحداثي، وهو ما يُعرف بعصر التنوير.
يتمثَّل التنوير الأوروبي في المقولات الجوهرية المعروضة آنفًا: العقلانية والتجريبية واستقلال الإنسان والفردية والحرية والتقدُّم، بعبارةٍ موجزة، يتمثَّل التنوير في مفهوم المنهج العلمي ومتوالياته، التي تبدو إيجابيات ناصعة.
وكما اتفقنا، المنهج العلمي آلية مفطورة في العقل، مِلك للبشر أجمعين، مشترك إنساني عام، ولكن درجة وحدود تفعيله حجم وطبيعة ونواتج هذا التفعيل … باختصار متوالياته تختلف من حضارةٍ لأخرى. كانت الحداثة الأوروبية تفعيلًا متعاظمًا لمفهوم المنهج العلمي، بدرجةٍ فاقت بها العالمين، وعرفت كيف تستغل متوالياته المتعاظمة بدورها لكي تسود الأرضين، وذلك فيما عُرف بالمد الاستعماري، الذي يرسم بسلبياته قبل إيجابياته تاريخَ العالم الحديث.
على مستوى الفكر تبلورت متواليات مفهوم المنهج العلمي في عقيدة عصر التنوير، وعلى مستوى الواقع تكاثفت متوالياته ونواتج ممارساته المقننة في الثورة الصناعية المواكبة، التي جعلت الاستعمار لازمة لأوروبا، من أجل حماية الإنتاج بالجملة وضرورة تأمين طرق التبادل التجاري العالمية، وورود المواد الخام من الدول البعيدة المتخلفة الفقيرة، التي لا بد أن تظل هكذا لا تصنع ولا تنتج؛ لتبقى سوقًا لمنتجات المصانع الأوروبية.
هنا ارتد مفهوم التنوير الأوروبي إلى مقولةِ حقٍّ يُراد بها باطل: طريق التقدم هو طريق العلم والعقل والحرية، وهذا الطريق قطعه باقتدارٍ وامتياز إنسان الحضارة الأوروبية الحديثة، الرجل الأبيض، ومن حقه ومن واجبه أن يفرضه على الشعوب المتخلفة طوعًا أو كرهًا، ليغدو الاستعمار حقًّا وواجبًا.
حتى شهدت أواسط القرن العشرين منعطفًا جذريًّا بانتهاء الحرب العالمية الثانية، التي أثارت ويلاتها الشك في قيم الحداثة، والأهم أنها أعلنت إفلاس الاستعمارية الأوروبية ووصولها طريقًا مسدودًا، تزامن مع هذا تصاعد المد القومي في أنحاء العالم ومطالب الحرية والاستقلال. وفي الثلث الثالث من القرن العشرين كان الولوج الصريح إلى عصر ما بعد الاستعمارية، وما بعد الحداثة، وهما وجهان لعملةٍ واحدة، تعني طابعًا نقديًّا حادًّا، وأن الحداثة مرحلة وليست غاية المطاف وسدرة المنتهى، كل مفاهيمها ومنطلقاتها مستحقة للتفكيك، للمراجعة والتعديل والتصويب، ويمكن أن تظفر بطرحٍ أفضل. ولا يُستثنى مفهوم المنهج العلمي.
(٣) مفهوم المنهج العلمي وما بعد الحداثة
- أولًا: العقلانية التجريبية وما تقتضيه من فاعلياتٍ تخصصية مستقلة، محكومة فقط بالأدوات بالإبستمولوجية، كاللغة الرياضية والملاحظة والتجربة ودقة التنبؤ والتفسير، ليست حصرًا لمنهجية العلم؛ فقد شهد العلم عبْر تطوراته المتلاحقة مناهجَ وأساليب عديدة، وليس أقنومًا واحدًا ووحيدًا. وهنا نجد محاولات قد تأتي رعناء من أجل تفكيك العقلانية التجريبية ونقض مركزيتها. واللافت حقًّا ما يتمخَّض عنه هذا من دعوى بتعدديةٍ منهجية في العلم. وعودًا على بدء، يمكن الرد عليها بعين الإجابة على سؤال الفصل الرابع: منهج العلم واحد أم كثير؟ أي بأن العقلانية التجريبية تكمن كثابتٍ بنيوي من وراء وفي صُلب أشكال الإجرائيات أو حتى المناهج العلمية الشتى، ورُبَّ قائل: إن هذا ردٌّ على التفكيكية بالبنيوية؛ أي محض تأكيد لما يُراد نفيه! ويكون الرد بأنه غير قابل للنفي بحكم الخاصة المنطقية المميزة للنظرية أو العبارة العلمية، وإلا كنا لا نتحدث عن العلم بالعالم التجريبي أصلًا. هذا المعامل كما ذكرنا مثير للجدل.
- ثانيًا: العقلانية التجريبية لا تجري ممارساتها وتفعيلاتها وحصائلها في فراغٍ أو سديم سرمدي، بل في واقعٍ إنساني متعيَّن له وضعه التاريخي والحضاري والثقافي، وبالتالي لا ينفصل مفهوم المنهج العلمي عن اشتباكاته بواقعٍ إنساني حي ونابض، والالتزام بمتعيناته وأهدافه، فضلًا عن ارتباطه بقيم الممارسة العلمية وبأخلاقياتٍ لها أبعادها. وغير صحيح أن المنهج العلمي متحرِّر من القيم ولا علاقة له بها كما زعمت الحداثة، بل الأدنى إلى الصواب أن مفهوم المنهج العلمي لا يُؤتَّى حقًّا إلا في إطار منهجية شاملة، تستوعبه بمعية قيم والتزامات وتوجُّهات، وليس بتجريده وتفريده كما دأبت فلسفات العلم الحداثية والتنويرية.
وهذا المعامل الثاني قد أدَّى فعلًا إلى معالجاتٍ فلسفية أكمل وأجمل لمفهوم المنهج العلمي، أو بالأحرى لمبحث الميثودولوجيا المعني بهذا المفهوم.
•••
•••
من السهولة بمكان أن نتبيَّن في هذا محاولة تفكيكية صريحة، من حيث إنها تنكِر أي تعريف نهائي للمفهوم، وأي ارتباط حاسم بين دالٍ ومدلوله، وتزعم — على دأب التفكيكيين — كشف الآليات المراوغة التي تسعى إلى الاستئثار بالسلطة المعرفية، فيواصل فييرآبند مساره الفوضوي اللاسلطوي، حتى يرفض تنصيب السلطة المعرفية للعلم بالذات، فيجاهر بأن العلم الحديث ليس نظامًا مقدسًا، يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظام عقلاني وجب أن ينمو ويزدهر وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، إنه شكلٌ من أشكالٍ عديدة للمعرفة، وجب أن يتسع لها جميعًا المجتمع الديمقراطي الحر، ولا ينبغي أن يكون ذريعةً لفرض النموذج الحضاري الغربي ووأد الثقافات الأخرى، لا سيما ثقافات العالم الثالث، فتُحرم البشرية من خصوبةٍ وثراء وتعدُّد جوانب، إن نعمت بها تنعم بالعلم أكثر. لماذا نجعل العالم الغربي مطية للخواء والإجداب، حين نقهر الثقافات الأخرى تحت اسمه المجيد، حتى لا يبقى سوى الحضارة الغربية؟!
لقد كان فييرآبند كفيلسوف بعد حداثي ناقدًا جريئًا حقًّا للاستعمارية ولأسطورة الغرب المعيار، وللحضارة الغربية العلمانية إجمالًا، ربما لدرجةٍ جديرة بالإعجاب، ولكنه في سبيله لهذا غالى وبالغ في تفعيل مقولات النسبوية واللاسلطوية واللامقايسة، حتى كاد مفهوم «التقدم العلمي» ذاته يفقد معناه، والأخطر أن فييرآبند بذينك المغالاة والشطط، قد جار كثيرًا على حدودٍ منطقية مصونة للعلم، ترتد إلى مفهوم المنهج العلمي، فكان أن شنَّ حربه التفكيكية الشعواء على هذا المفهوم الأثير.
عن طريق تفعيل اللامقايسة التي قال بها كون والإسراف فيها يرفض فييرآبند حتى سلطة العلم الراهن في مضمار المعرفة العلمية ذاتها، يتمسك بأن تحتفظ كل نظرية بمكانها في تاريخ العلم وفي الوعي العلمي، كل نظرية لها دورها، والحكم عليها يجب أن يكون بالنسبة إلى سياقها، لظروفها وتحدياتها؛ لأن النظرية العلمية في جوهرها محض طريقة للنظر إلى العالم، تُوضع بجوار طرق أخرى، ويشدِّد على قدرة النظريات القابعة في تاريخ العلم على إخصاب الواقع العلمي الراهن، وطرح مداخل ومنظورات مختلفة لحل المشكلات المطروحة للبحث، ويواصل شططه، ليزعم أن اللامقايسة ليست بين النظريات فحسب، بل أيضًا بين الأنماط المعرفية ذاتها، فلا يعود ثمَّة مبرِّر لادعاء الأفضلية المطلقة للعلم على أشكال المعرفة الإنسانية الأخرى، إنها شكية التفكيكية وجنوحها للإطاحة بكل الثوابت في مغامرةٍ غير مأمونة العواقب.
شطحات التفكيكية كثيرة، ومعظمها مما لا يقبله المنطق. والمشكلة مع مفهوم المنهج العلمي أنه لا ينفصل عن منطقه، فلا يمكن نفي العقلانية التجريبية، قد لا نكتفي بها ولكن لا يمكن إلغاؤها. نفيها أو إلغاؤها يعني أننا لا نتحدث عن المشروع العلمي أصلًا! وهذا خلف محال، فعن أي منهج نتحدث؟! على أية حال، انتهى فييرآبند إلى أن العلم مجرد تقليد معرفي ضمن تقاليد معرفية عدة، والعقلانية التجريبية منهج للعلم ضمن مناهج عديدة له، وكما ذكرنا تلك قضية مثيرة لجدلٍ لا ينتهي، والحق أن فييرآبند نفسه أكثر فيلسوف علم مثير للجدل على الإطلاق، اندفاعاته الفلسفية بلا حدود، أعلن أن هدفه حماية العلم من شوفنية الروح العلمية وطغيانها، وحماية الفلسفة من أساتذتها المحترفين إياها، وحماية الحضارة الغربية من توجهها الغربي. باقٍ أن نقول: وكان يريد قَبلًا أن يحمي مفهوم المنهج العلمي من عقلانيته وتجريبيته!
الأجدى أن ننتقل الآن إلى المعامل الثاني، الذي جعل ميثودولوجيا ما بعد الحداثة أو الميثودولوجيا الراهنة، تقدِّم مفهومًا للمنهج العلمي أكثر تكاملًا، نابضًا حقًّا بالحيوية والفاعلية والخصوبة والدفء، وقد بلغ هذا ذروته مع الفلسفة النسوية.
(٤) مفهوم المنهج العلمي: رؤية نسوية
إنها ليست مجرد بحث عن حقوق المرأة أو إثبات لذاتها، فقد اكتسبت نضجًا فكريًّا، وهدفت إلى رؤيةٍ ثقافية حضارية جامعة، وتقديم صياغة نظرية عن الهوية النسوية، وبدلًا من التماهي مع النموذج الذكوري، لا بد من العمل على إبراز الأنثوية كجانبٍ جوهري للموجود البشري، كان قمعه اعتوارًا طال السكوت عليه، ونزفًا حضاريًّا لإمكانياتٍ هائلة، يمكن أن تُكسب الإنسانية شيئًا من التوازن.
الفلسفة النسوية — كتمثيلٍ لما بعد الحداثة وما بعد الاستعمارية — هي منطلق نقدي للحداثة، تلقي الضوء على المثالب والقصورات والحيودات، باحثةً عن رؤيةٍ متكاملة، تستوعب منظورات وقيمًا، يمثلها جانبٌ طويلًا ما جرى تهميشه؛ أي الجانب الأنثوي، ولعلها لا تعبِّر عن نظرةٍ خاصة بالنساء، بقدْر ما تعبِّر عن نقدٍ وتطوير لما هو عام وشامل للبشر أجمعين، لا تزعم أن النساء يمتلكن الحقيقة، بل فقط أن الرجال لا يستأثرون بها، وذلك لإحداث توازن وتكامل مأمول بين جانبي الموجود البشري: الذكورة والأنوثة، بدلًا من انفراد الذكورية بالميدان، فتأتي المحصلة أكثر سخاء.
العلم — فيما ترى النسوية — كأية بنيةٍ ثقافية أخرى في الحضارة الغربية البطريركية: مؤسسة موسومة بالمركزية الذكورية والجنوسة والتحيز الجنساني، ويكون أفضل لو أنه عُولج من غلواء هذا، بل إن العلم الحديث أكثر استحقاقًا للمعالجة النسوية وقيمها الأنثوية؛ لأنه أكثر من سواه تجسيدًا للقيم الذكورية، اعتبر كل ما هو أنثوي حميم كالعاطفة والحنو والشعور والانفعال وعمق الارتباط بالآخر … لا علم وضد المنهج العلمي، وانطلق بروح الهيمنة والسيطرة على الطبيعة وتسخيرها، مما تمخض عن الكارثة البيئية، واستغلال قوى العلم المعرفية والتكنولوجية في قهر الثقافات والشعوب الأخرى، وبهذا القالب الذكوري المصمت يبدو العلم خشنًا جافًّا، يُوضع كنقيض للإنسانيات، في حين أنه الأكثر إنسانية وحيوية وإبداعية.
إنه اكتشاف طرق إضافية للفهم، وتقدِّم النسوية عقلًا علميًّا يلعب فيه الشعور دورًا أكبر. إن الشعور مصدر من مصادر الفهم، وبالمثل نتيجة من نواتج الفهم، ليتوشج الشعور في مفهوم المنهج العلمي، تخليصًا للعلم من جفافه، وتخلصًا من الفوارق القاطعة بين المناشط العقلية، ومن سائر التصنيفات القاطعة. القيم الأنثوية تعني انفتاح البحث العلمي على الطبيعة والعالم، بتصوراتٍ نسوية تداوي أحادية الجانب، من أجل توازن مأمول وتكامل منشود.
المثيودولوجيا التقليدية بعقلانيتها التجريبية تركِّز على العقل والحواس، وقد تضيف الخيال والحدس، لكن ماذا عن الشعور والإحساس والعاطفة والوجد والانفعال والتذوق والاستمتاع والمعايشة والعلاقات مع الزملاء والارتباط بالمؤسسة العلمية … النسوية ترى أن يُؤخذ كل هذا أيضًا في الاعتبار إذا رُمْنا تفسيرًا متكاملًا للمنهج العلمي، أكثر حيوية ودافعية، أكمل وأجمل وأشد حضورًا.
وهذا ما يؤكده التاريخ العتيق المهدَر لصالح الرجل؛ فقد اكتشف القنص والحرب، واكتشفت المرأة الزراعة والرعي. اخترع الرجل الفأس والبلطة والسكين والخنجر والقوس والسهم والرمح، واخترعت المرأة القدور والأواني والأطباق والأقداح والموقد. صنع الرجل العجلة وصنعت المرأة الردهة والفراش والستائر … والآن بدأ عصر البيئة بكتاب «الربيع الصامت» (١٩٦٢م)، وهو من وضع امرأة. هكذا تملك النسوية مبررات الزعم بأن الحفاظ على البيئة من خصوصياتها. ويبدو مفهوم المنهج العلمي الأنثوي قادرًا على إعادة التصالح مع البيئة، وعلى صونها ورد الاعتبار إليها.
على الإجمال مفهوم المنهج العلمي، يغدو أرقى وأكمل وأكثر إنسانية وأكثر إيجابية، حين يتلاقح بمثل هذه الأبعاد الأنثوية الحميمة.
•••
وأخيرًا فإن القيمة الحقيقية لهذه الرؤية النسوية لمفهوم المنهج العلمي، ليست في إضافة أبعاد أنثوية حميمة ونابضة ومجدية إلى العقلانية التجريبية، بل في فعل الإضافة نفسه وفي حد ذاته.
ألا إن في هذه الإضافة استجابة مثمرة لما طرأ على فلسفة العلم من عدم اقتصار على العناية بالبنية المنطقية للمعرفة العلمية، بل أيضًا في تفاعلها مع سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي، وهذا هو درس توماس كون العظيم ونموذجه الإرشادي، وتنامي أبحاث سوسيولوجية العلم واشتباكها بفلسفة العلم. ومن ناحيةٍ أخرى تسير هذه الإضافة في سياقٍ متنامٍ مؤخرًا يُعرف بالفلسفة التطبيقية، التي تُعنى بمباحثَ تتحوَّل إلى واقعٍ حي معيش. ومع الرؤية النسوية وما أضافته من أبعادٍ وقيم إلى مفهوم المنهج العلمي، نجد العقلانية التجريبية واقعًا حيًّا معيشًا في إطار منهجية أشمل، تحتويها بمعية أبعاد اجتماعية وثقافية وحضارية معيشة، إنه مثالٌ لتحويل مفهوم المنهج العلمي إلى فعاليةٍ تطبيقية معيشة، وبالطبع يمكن أن يكون ثمَّة مبادرات أخرى وتفعيلات أخرى في أطر منهجية أخرى.
فماذا عن تفعيل المنهج العلمي بعقلانيته التجريبية في سياقنا نحن الثقافي وواقعنا الحضاري.
كارل ر. بوبر، «أسطورة الإطار: في دفاعٍ عن العلم والعقلانية»، ترجمة وتقديم د. يمنى طريف الخولي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد ٢٩٢، ٢٠٠٣م، ط٢ عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ٢٠١٥م.
ولهذا الكتاب المهم أكثر من ترجمةٍ عربية، ولمزيدٍ من تفاصيل رؤية توماس كون، انظر: د. يمنى طريف الخولي، «فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الآفاق المستقبلية»، ٤٤٠–٤٥٢.
أما غايات فلسفة العلم النسوية وواقع المنهج العلمي المعيش في الرؤية النسوية، فمن أكمل العروض: ليندا جين شيفرد، «أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية»، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع٣٠٦، أغسطس ٢٠٠٤م، فيمكن القول إن هذين الكتابين متكاملان تكامل النظرية والتطبيق، ويمكن العود إلى كتاب ليندا شيفرد لتفصيل خطوط الميثودولوجيا النسوية المجملة هنا.