الذكرى الجديدة
أصبحت اليوم وبين يديَّ ذكرى جديدة حارة تتضوَّر وتتأوَّه وتتلوى كالنفس المترددة بين البقاء والانتحار، وأخذتني منها شفقة فحمَلتها برأفة إلى معبد الأذكار القائم في أعماق روحي.
عبرت العتبة متأنية والتهيب يلاشي وقع خطواتي، وجثوت بين تذكارات متبحرات في شفق التأمل العميق؛ حيث لكل ميتٍ مضى اسم، ولكل حدث انقضى رسم، فتقلصت التذكارات من ذواتهن الهيولية، وحنَونَ عليَّ هامسات وقُلنَ: «نحن فيكِ وأنت فينا.»
فردَدتُ همسهن وقلتُ: «أنا فيكن وأنتن فيَّ.»
ونهضتُ بالذكرى الجديدة أعيِّنُ لها مستقرًّا، فاستوت على متوسط المذبح، وأخذت أنسق أمامها طاقات الأزهار، وأنثر على جوانبها فرائد العطر والندى، وأوقد حولها الشموع والمصابيح، وأذكي نار المجامر بالمرِّ واللبان، ثم وقفت أرقبها بانشراح؛ إذ رأيت الهدوء يباغت اضطرابها وتوجعها.
وفي النهاية مشيت متراجعة إلي المدخل. وبعد نظرة الوداع غادرت معبد الأذكار وبي ارتياح من أدَّى واجبًا عزيزًا، وفخر من أتى أمرًا عظيمًا.
•••
والآن ستتسارع الشهور حتى تنتظم أعوامًا، وتتساند الأعوام حتى تترتب عقودًا، ويتقاذفني موج العمر فلا أعي يومًا إلا وأثر ذكراي الخفي يبدو في جميع أعمالي.
فإذا تكلمت واتخذ صوتي قرارًا بعيدًا كان متكلمًا فيه صوت ذكراي.
وإذا أحرجني موقف فأحجمتُ، فهممتُ، فأقْدَمتُ، فتجاوزته إلى غيره، كان الفضل لأمثولةٍ ألقتها عليَّ ذكراي.
وإذا سرت أحيانًا بخطواتٍ يُخَلنَ لتريُّثهن مفكراتٍ بأرض يطوينها، كان ذلك التباطؤ هوًى من إهواء ذكراي.
وإذا استفزني التحمُّس لمظلوم واستبسلت في الدفاع عن ذي حق، فما ذلك إلا مكافحة لطغيان استدرَّ الدموع والدماء من قلب ذكراي.
ذكراي.
وإذا شعرت يومًا بزمهرير البحار المتجلدة يجاور في كياني تأجُّج الرمضاء المستعرة، وتلاطم بين جوانحي هبوب الصرصر بلوافح السموم، فما ذلك سوى ثورة جديدة تقوم بها عناصر ذكراي.
وإذا شمت خيرات العالم فقرًا، وازدحام العالم قفرًا؛ فلأن لا ائتناس ولا غنًى في غير عالم تبدعه ذكراي.
وإذا رآني جليسي وناظراي يخترقانه إلى أبعاد شاسعات؛ فلأني ألمح بين طبقات السحب خيالًا من ذوي القربى لذكراي.
وإذا نما حبي بغتة واحتوى الموجودات بقوةٍ كأنَّ الروح الكلية اتخذته لحظةً رسولَ عَطفِها على الخلائق، فما ذلك إلا اختمار فطير ذكراي.
•••
وعندما أعود إلى منشأ الكائنات ومرجعها، وأرقد بين جلال المدافن في قبري الضيق؛ حيث تنقلب صورتي البشرية ترابًا، فهباءً، وينحل ما ارتبط من اسمي الصغير، فلا تمثل الميم منه والياء سوى حرفين من حروف الأبجدية فحسب، يومذاك سيكون التماسك والحياة نصيب ذكراي.
وبعدئذ ستمر الذراري الجديدات وتحل محلها الذراري اللاحقات، فتجلس فتاة في صباح خريف شجيٍّ كهذا الصباح على مقربة من نافذتها وراء الأستار المخرمة، وترسل نظرها إلى الأفق الذابل يتفتنها سحر الطبيعة ساكبًا أنوار الفجر في نقيِّ السحاب، وتسأل نفسها: «أين السعادة؟» فتتملكها رغبة فجائية في ركوب تلك السحابة ذات الشكل الطوديِّ واثقةً من أن السعادة كلها في اعتلاء متن النور والهواء.
فتاة المستقبل سترجع بعد حين وتضحك من رغبتها قائلة: «إن هذا لجنون!»
أما أنا ابنة الحاضر، فأعلم منذ الساعة أن تلك الرغبة في النفس الصغيرة المجهولة سوف يثيرها عمل الذكرى التي أدخلتها معبد الأذكار، ووضعتها على المذبح حارة تتضوَّر وتتأوَّه وتتلوى كالنفس الحائرة بين البقاء والانتحار.