ليلة عيد النصر
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: عامل الحزن وعامل السرور، على أن قطرة حزنٍ في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه …
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوه الثكل والوداع يفطِّر لبَّه، وتجهده المسئولية في معترك الأعمال، فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال …
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزنٍ في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه …
•••
من لا يذكر ذلك النهار والليلة التي تبعته، يوم قامت دول الحلفاء تذيع بشائر النصر بدويِّ مدفع طالما هدر لدى الكريهة مجاهرًا باستصغار الحياة وإكبار المفاداة؟ مَن لا يذكر مهرجانًا انتشرت بهجته على ضواحي العاصمة، وتقاسم أفراحه صاحبُ الكفِّ النديِّ الذي أجزل للمعدم العطاء، وصاحب اليد الفارغة التي أثقلتها أكياس الطعام والحلوى؟
إلا أن نور النهار باهت لزخرف الأعياد، ولا تتمُّ الحفلات وتسطع الزينات إلا تحت رواق الظلام الغدافي.
وأنت، أيها الظلام، أمين على مواعدك، دقيق في الوفاء بها. ما شرعت الشمس مرة في الأفول إلا دنوت أنت متلمسًا متمهلًا، كأنك ذلك المحب المحبوب الذي ينفث في روع إلفهِ الكلمة المنتظرة طويلًا قبل أن ينبس بها، ويقولها بأساليب شتَّى قبل انتهاج الأسلوب الأوحد.
واليوم، لدُن حلولك، تتكيف غيوم المغرب متلوِّنات وتترجرج خلالها الأنجم الزاهرات، كأن هذه وتلك أوسمة العز، وأشرطة الفخار على صدور الأبطال.
وأقواس النصر هيفاء تحت بنود ألوية تعاقدن عليها، والأنوار تتغامز متفاهمات عن بعدٍ كأرواح الأحباب، وأجواق الموسيقى تنبثق من جميع الشوارع والزوايا، والجيوش تجوب الأحياء بطبولها دون أن يعلم من أين تجيء وأنَّى تغدو.
ولأسراب الطيارات عزيف إذ تحلِّق في السماوات العُلى باعثات من جوانبها إلى الأرض بذيول الضياء، مرصعاتٍ هواء الشفق ببسمة نجوم البرايا لنجوم الباري.
هو ذا مائج على الآفاق لألاءُ المواسم والأعياد. ومن أحشاء المدينة يصعد هزج النشوة والظفر. كلُّ شيء يلمعُ ويموج ويهتف ويتلظَّى. وقد سرتْ إليَّ عدوى الطرب، فها أنا أعتلي سطوح الحمى لأشرف على فرح الفارحين وأنال منه نصيبي.
ولكن …
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزنٍ في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
•••
إذ بينا الإنسان يبتهج حاسبًا أن أنظمة الاجتماع قد انحلت، ونواميس الطبيعة توقفت حتى انقضاء سروره، إذا بالنواميس والأنظمة نافذة في أدق مغازيها.
… وفي وسط الهتاف المنسجم تعالت نغمة شاذة.
وقفت عند الزاوية المشرفة على الديار المجاورة أبحث عن مصدر الأجيج، وما لبثت أن عثرت عليه في فاجعة من فواجع البؤس العديدة، تلك التي تذوب حيالها لفائف القلوب.
هاك أربعة رجال على أحد السطوح المحاذية يعالجون أمتعة أخرجت من غرفة صغيرة، ويزجرون امرأة بينهم تتوسل وتنتحب؛ مسكينة احدودب ظهرها، وقبحت هيئتها، ونثر شتاء العمر على هامتها ثلج الشيخوخة. لقد مرت شهور خمسة ولم تؤدِّ بدل الإيجار، فتسلح المالك القوي بالقانون وحجز متاعها ليباع بالمزاد، وأما هي فتطرد طردًا من الغرفة الصغيرة القائمة في طرف السطح، وتطرد من المنزل إلى تحت قبة السماء.
الجماهير السعيدة ترقب أفاعي النور التي شرعت تتلوَّى في الظلام، ترقبها وتهتف، والشيخة التعسة تجيل الطرف وتبكي. وما كانت الدموع لتنقلب يومًا ذهبًا وفضة يفيها المدين، ويرضى بها الدائن!
هذه هي الطاولة التي تتناول عليها طعامها الغث الجاف، وهذا هو المقعد الذي طالما جلست عليه تستطلع خبايا الليل البهيم، وهذه هي المرآة الكالحة البلور التي ترجع صورة وجهها الكئيب، وقامتها الممسوخة، ودموعها الغزيرة.
وجيع، وجيع مشهد دموع اليأس في المرآة الصلبة الباردة!
كم كانت تحرص على هذه الأمتعة الحقيرة! هي تلمسها الساعة ملاطفة، شاكية، شاكرة، آسفة، إلا أنها لم تعد لها، فمن أين هي آتية بمثلها الآن؟
تعاون الرجال على إخراج أكبر متاع من الغرفة، فهرولت الشيخة إليهم، والزفير في صوتها يقطع الشهيق: هو ذا السرير! السرير الذي طالما أنال أعضاءها الكليلة راحة بعد مشقة النهار الطويل.
وضع السرير بجوار الحوائج الأخرى، ووقفت هي عنده واستولى عليها الهدوء بغتة، وطفق رأسها ينحني ببطء حتى استقر عند نحرها، وظلت كذلك كأنها في جمودها تمثال الحزن على ضريح ميت حبيب.
الجماعات تضجُّ والمدافع تقصف، والأضواء تجعل الليل نهارًا وهاجًا، غير أني لم أعد أرى سوى نقاب القنوط المجلل وجه الشيخة الذليلة، وكأني لمحت غائرات الكواكب يتشاورن في مؤاساة تلك المرأة الوحيدة؛ الوحيدة وسط ازدحام الجماهير.
•••
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشِّم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوُّه الثكل والوداع يفطر لبَّه، وتجهده المسئولية في ميدان الأعمال، فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال.
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها توازي بحر سرور في اتساعه.
تدافعت الجماهير في الشوارع المؤدية إلى حديقة الأزبكية لحضور المهرجان الأكبر، فهل من باحث يهتدي إلى الشيخة وسط العباب البشري المتزاحم؟
فقدك بصري، ولكني لا أفتأ أتحزَّن لكِ، أيتها الطريدة، إلى أين تذهبين؟ أتقصدين إلى جمعية خيرية كلهنَّ الليلة موصدات الأبواب؟ أم تطرقين باب كريم وكرام البشر لا يعبئون بغير لطيف الجمال أنيق الهندام؟ أم تهجعين في مدخل منزل عظيم والناس كالشرطة يعتبرون من لا منزل له لصًّا متشردًا؟ أم تبكين كما رأيتك باكية، وتمدِّين يدك المرتعشة للتسوُّل فيعرض عنك الفرحون؛ لأن نائحًا يعكر صفو الأنس مكروه بحق! أم تستنهضين همة صديق ولستِ بالشابة المليحة ليتحمس لك المتحمسون، ولا بالوجيهة القديرة ليتقرب إليك المتقربون؟ أم أنت وطدت النفس على زيارة النيل السخي الذي يجود ولا ينتظر وفاء، فتجدين من أمواجه صدرًا ليِّنًا، ومن أمواهه عطفًا عذبًا، وتباركين موتًا احتضنك عندما نبذتك الحياة.
•••
أيًّا كانت وجهتك، قفي قليلًا لأودعك.
نظري بعيد عنك، وإنما هو حائم حولك، وتتبعك شفقتي الدامية، تتبعك روحي المتفطرة معك.
روحي المتفطرة تعانقك، أيتها المسكينة، أشاعرة أنت بوجودي؟ أنا الفتاة أستطيع أن أكون لك لحظة أمًّا، أيتها الشيخة الطريدة. أنت الآن ككلِّ سقيم تحتاجين إلى حنُوِّ الأم، وما كان كل ذي أم نائلًا من الحياة حنُوًّا! سأهمس في مسمعك كلمات حلوة لا تعرف سرها سوى شفاه المظلومين، وسأمسح عبراتك بأنضر ورود البستان، ثم أهدي الوردة وما امتصته من لآلئ القلب إلى آلهة العبرات والأشجان.
لا تشكي الوحدة، فإخوانك الأشقياء كثير، ولا تندبي حظَّك فأنواع العذاب جمَّة، وصنوف الذل لا تُحصى. لست بالقبيحة ما كان لك جمال اليأس الرائع، ولا أنت بالعجوز ما ظل منها البكاء فيك فتيًّا كما كان منذ فجر العالم.
فيك يتجلَّى الليلة الفرد الجوهري بينا الفرحون يمثلون الفرد المجازي. أنت الذات الجليلة المفجَّعة وهم الذات الهزلية الطائشة. أنت الحقيقة الناضجة وهم الوهم الخالي. أنت قطرة الحزن التي توازي بحر السرور؛ لأن وراء اللهو والجزل فراغًا وخلوًّا، ووراء الحسرة والقنوط نفسًا زاخرة بالعواطف، متسعرة بالحرق، رويَّة بالدموع يتناظر في غورها جبَّارا الحياة: الممكن والمستحيل.
صوتان اثنان يناديان المرء من سحيق أقطاب الحياة: صوت السعادة وصوت الشقاء، فينطلق يعدو والسعادة وجهته، على أن صخور الوعر تهشم قدميه، وأشواك القتاد تدمي يديه، وتأوه الثكل والوادع يفطِّر لبَّه، وتجهده المسئولية في معترك الأعمال فينسى السعادة بين الشفقة والنضال؛ لأن الشقاء حقيقة والسعادة خيال.
عاملان اثنان يتجاذبان الجنان: الحزن والسرور، على أن قطرة حزن في عمقها ترجح بحر سرور في اتساعه.