يوم الموتى
ريح خريفية تعصف في الأشجار فتنزع عنها الأوراق، وتسفي التراب فتذره في الجو عجاجًا، وأشجان خريفية تشتد في مكامن النفس فتثير فيها تذكارات، وتهيمن على تذكارات.
اليوم تجرحني الأصوات والخطوات والنظرات، وأرى كل حركة يأتيها الناس تمثلًا، كأنما الحكمة المثلى لديَّ في تكتم الصور المتوارية تحت صدرة القبور، وفي هجوع الأشكال المتقلصة لحين ما من أحكام البعث والنشور.
اليوم عيد الموتى، وهذا شهر الموتى. هذا شهر الكآبة المزدوجة: كآبة الحسرة والدموع عند الشعوريين، وكآبة التأمل والتبحُّر عند الباحثين والمفكرين. للأموات من البشر يعيِّد المعيُّدون. وأنا أعيِّد لمن عاش ومضى، وعلم ونسي، ولما ظهر واختفى، وأبرق وانطفأ؛ أي لكيفيات الحياة المعروفة والمجهولة جميعًا.
اليوم عيد جميع الموتى.
عيد العيون الجامدات، والقلوب الساكنات، والأوراق الذابلات، والآمال الذاويات؛ عيد شريف الانكسارات وذليل الانتصارات، عيد آلهة تزلَّف لها العباد، ونحروا على هياكلها الأفئدة قرابين، ثم قاموا يدكون قوائمها، ويحرقون معالمها ليدوسوا رمادها بأقدامهم الطاغيات؛ وعيد مذاهب شيدت صروحها في مجاهل الغابات، وعلى قمم الراسيات، بما تجمد من دماء القلوب وتصلب من لهب العواطف، ثم انبرى مؤمنو البارحة يصيحون بين جدرانها صياح الهادم الأثيم. عيد كل ما قُدس من رمز ثم احتقر، وكل ما فوخر به من رأي ثم دحر. عيد مدنيات دوَّن العلم ارتفاعها واندثارها، ومدنيات غوِّر ذكرها في غلس التاريخ وما زالت حية ظاهرة في استعداداتنا وميولنا. عيد عوالم خبت أنوارها في الإطار الفلكي، وتطايرت غازاتها، وتفتتت أجزاؤها متفرقة في المدى الشاسعات؛ لينضمَّ كلٌّ منها إلى ما يجذبها من عنصر أو كوكب، وعيد شموس طالما بعثت بالنور والحرارة إلى أنظمة جليلة، فصفرت وإياها في الهاوية الرهيبة صفورًا، وليس من يلتفت لغيابها؛ لأن عين العلم وإن تسلَّحت بالتلسكوب ضعيفة عاجزة، ولأن الأكوان لاهية بأنانيتها الحيوية، مسوقة إلى تتميم دورتها المفروضة، فلا يستوقفها في سبيلها ما يلتهب من شمس، ويتحطم من عالم، ويحترق من سيار.
بل اليوم عيدكِ، أيتها المجرَّة العظيمة، بما تراكم وتلازب فيك من ملايين الكواكب المتتابعة التكوُّن والتحوُّل، وأنت على هذه الضخامة لستِ غير جزء من الخليقة الشاملة؛ حيث تتعاقب الأكوان الفخمة فتملأ الفضاء الذي لا يحدُّ، وتتجدد في كل اتجاه على أبعاد لا يدركها قياس، ثم تبلى وتختفي في ظلمات اللانهاية.
•••
ولكن قبل أن يطير الفكر منا إلى أبراج خاويات وشموس متجلدات، ما ذكرنا الموت إلا احتضنتكم قلوبنا أيها النازحون الراقدون. ما ذكرنا الموت إلا سمعناكم متكلمين، وخلناكم باسمين، وشعرنا بنبضات قلوبكم في راحات أيدينا، فنسألكم: «أين أنتم؟» فتجيب القبور: «ها هم في حماي.» فتفرغ قلوبنا من عناقكم، وراحاتنا من نبضات قلوبكم، ولا يرن في مسامعنا غير تنهُّد الأسى، ولا تبصر عيوننا غير سائل عبرات.
•••
سرت البارحة بين الأضرحة متمهِّلةً أستنشق جثمان الماضي الفسيح، فتاقت أعضائي إلى الرقاد في ظل الغصون الحنونة. يا لغرور الذين أقاموا هذه القبور المرمرية ناصبين حواليها التماثيل الفنيَّة! عجان المنايا يسوِّي من كبريائنا الصعود والهبوط؛ إذ يلقي بنا في معمل التحوُّل العام، فتعود أيدينا الحقيرة إلى إعلاء الآكام، وحفر الحفرات؛ تمييزًا لذليل الأسماء! وبدلًا من أن نبعث بذوينا إلى باريهم على ما يريد ترانا نوثقهم بكتائف التظاهر والدعوى، ونثقل كواهلهم بالجدران والتماثيل؛ خوفًا من أن نكون بسطاء متواضعين، ولو في أحزاننا فحسب! ولكنَّ أصوات الموتى تتشابهُ وراء القبور البسيطة الجليلة والقبور المزخرفة الحقيرة. هذا ضريح شهمٍ عظيم سألتهُ حكاية نزيله فقال: لقد عاش وأحبَّ وتعذَّب وجاهد، ثم قضى.
وهذا مضجعُ فقير ينزوي وراء المضاجع سألتُهُ عن ضيفه فأجاب: لقد عاش وأحبَّ وتعذَّب وجاهد، ثم قضى.
وهذا قبر فتاةٍ لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصَّات، وهو كذلك يقول: لقد عاشت وأحبَّت وتعذبت وجاهدت، ثم قضت.
وهذا قبر امرأةٍ صالحةٍ أسعدت زوجها وأبناءها جميعًا، وصوته يقول: لقد عاشت وأحبَّت وتعذَّبت وجاهدت، ثم قضت.
وهذا قبر من كان عالةً على نفسه وعلى ذويه، وعلى كل محيطه، حتى من لقيه صدفةً في طريقه، وصوته يقول: لقد عاش وأحبَّ وتعذَّب وجاهد، ثم قضى.
وهذا قبر طفل رضيع لم يُحسب عمره بغير الأيام، وهو يقول هذه هي حكاية الموتى، وهذه هي حكايتنا نحن اللاحقين بهم.
هذه هي حكاية الموتى على الإطلاق، حكاية الظالم منهم والمظلوم، والكبير والصغير، والذكي المعتوه، والأحمق والحكيم، صاحب القبر المرمري الذي لا تبلغ الهامات عتبته، وصاحب المضجع الترابي الذي تدوس هامته الأقدام، كلٌّ منهم عاش مرغمًا، وأحبَّ مرغمًا، وتعذَّب وجاهد بإمكانه الفطري والاكتسابي، ثم دعاهُ الرَّدَى فلبَّى صاغرًا.
•••
وإذا تحوَّلنا عن هذه المقبرة ذات الحدود إلى مقبرة الخليقة التي لا حدود لها، سمعنا من الزهرة والشجرة والحيوان والإنسان والشعب والجنس والمدنية، ومن كل سيَّارٍ، ومن كل شمسٍ، ومن كل نظام شمسي، هذه اللازمة التي تأبى التغيُّر: لقد عاش بقوَّة الحياة التي كوَّنتهُ وشكَّلته وأدمجته في فصائلها، ولقد أحبَّ بقوة الجاذبية الشفيقة العنيفة التي تضمد جراح القلوب لتمزِّقها، وتواسي أوجاع الأرواح لتُضنيها، وتجلو للعقول أسرارًا لتثقلها بغوامض الأسرار، ولقد تعذَّب لأن العمر ارتفاع وانحدار، ونمو وتناقص. وبين هذه المتناقضات المحتمة يتفطر الفرد في احتياجه إلى التوازن والثبات. ولقد جاهد لأن الجهاد وسيلة يزعمها مُوصِّلة إلى الثبات والتوازن، وهي لا توصل إلى غير نفسها لو عَلِم العالمون! لقد جاهد ضد العناصر وضد الفصول، ضد الأجناس وضد الجماعات، ضد الاصطلاحات المتحجرة والمجازفات المتهورة، ضد الغنى والفقر معًا، ضد الجمال والقباحة، وضد البله والذكاء. جاهد ضد الغرباء، وضد الأعداء، وضد الأصدقاء، وجاهد ضد أحب الأحباب. وكان أوجع جهوده ضد ذاته — تلت الجهود التي تكسر لولب القدرة وتبيده بينا الجهود ضد العالم الخارجي تعزُّزه وتقوِّيه، ثم عندما تحلَّبت منه القوى بالحياة والحب والعذاب والجهاد قضى؛ أي التحف باللغز الأعظم، وأسدل على حقيقته الظاهرة حجاب الخفاء، وغاص في مغذية الكائنات ليتقمَّص في النار شرارة، وفي الهواء نسمة، وفي الماء قطرة، وفي التراب ذرة. وما هي الذرة؟ أهي مادة أم هي قوة؟ أهي فاعلة أم هي منفعلة؟ أهي بصيرة أم هي كفيفة؟ ولماذا تتجمهر ومثيلاتها لتُشكل الصور ثم تحلَّها، ثم تشكلها ثم تحلها؟ أفي المادة كل وعود الحياة وكل قواها، أم في الحياة كل وعود المادة وكل قواها؟ ولماذا تتعاون الحياة والمادة حتى تصيرا في دماغنا إدراكًا، وفي جناننا عاطفة، وفي أعضائنا حركة، وفي ألحاظنا نورًا، وفي محاجرنا دموعًا. ماذا تريد منا الحياة، وماذا تبتغي المادة منا؟ ومتى تنتهي هذه الألعوبة السحرية التي تبتدئ بالاهتزاز، وتستطرد بالاهتزاز، ولا اهتزاز ينهيها؟
والآن إذ أسمع الرياح تعتول وتندب، والأجراس تطنُّ طنين الغم والكرب، والأرغون يعزف ألحان التفجُّع والانتحاب، ثم تتراءى لي أودية وجبال زرعت فيها العظام منا وامتدت الأعصاب، وتنبسط لمخيلتي سهول ومروج تغذَّت من أجسامنا، وارتوت بدمائنا، وتضج حولي أصوات الباكين الحزانى، وتتزاحم أمام ناظري جميع مشاهد الفراق — فراق مرٌّ يحتِّمه الموت، وفراق أمر تقضي به الحياة، فأذوب وأتضاءل، ثم أذوب حيال بحر الشقاء العام حتى ألبث ذرة واحدة متوجعة متلهفة متفجعة تتوق إلى التلاشي؛ إذ ذاك تنقشع عن عاقلتي حجبُ الجهل والأنانية، وتلقي بي يد الروح الأعظم في فضاء اللانهاية، ويحملني جناحان قويان إلى حيث أجد الموت حدثًا عرضيًّا، والفناء خيالًا زائلًا؛ إذ ذاك ينمو كياني ويتعالى ويعظم، فيتنشق هواء الحياة الواحدة السائدة في كل مكان.
من أعماق اللجج إلى أعالي الجبال، من نواة السلب المبعثرة في المادة الخرساء إلى نواة الإيجاب الكامنة في بوارق الكهرباء، من ذرة الرمل إلى الشجرة المزهرة، إلى الهواء الملامس أفنانها، إلى طير سابحات تحت الغمام، إلى فتيت شموسٍ تلبَّد في حضن المجرَّة، إلى أبعادٍ لا يدركها غير الخيال العظيم، إلى ما وراء ذلك من إطار الخليقة السلبي، إلى كل نقطة من كل مسافة في كل مكان من كل زمان في كل أبدية تتموَّج حركة الحياة النضناض متتابعة متقطعة، متفردة متنوِّعة، متظاهرة متوارية، متلاطفة متخاشنة، متمهلة متضاعفة، متشدِّدة متعادلة، أبدية أزلية سرمدية. صوتها العجيب يتراجع من حنجرةٍ إلى حنجرةٍ، ومن أُفقٍ إلى أفقٍ، ومن عالم إلى عالم، ومن سكوت إلى سكوت، مولولًا مع الإعصار، هامسًا مع النسمات، نادبًا مع البحار، مدمدمًا مع العناصر، متمتمًا مع ثلاثمائة ألفٍ من أجناس الحشرات، صامتًا مع جميع المِكروبات والذرات، آجًّا مع المجهولات، ملعلعًا مع الآلات، حافًّا في حفيف الأفلاك، داويًا بجميع أنغامه ونبراته في ملايين الملايين من أصوات الخلائق.
تكسونا الحياة كرداءٍ سحري لا تبلى خيوطه، وتحضننا السماء، فنحن فيها مقيمون قبل الحياة وبعد الموت، والجحيم والفردوس في نفوسنا يتناوبان. تغزونا الحياة في الاندحار وفي الانتصار، فنحن أبطالها ونحن ضحاياها، سواء أشئنا أم لم نشأ.
ما الأرض والبحار وأبعادُ الأفلاك سوى مدافن دهرية. إنما هي الوقت نفسه معاملُ توليدٍ وتكوين. نحن نخلد الحياة بفنائنا، وهي تُفنينا بخلودها، ونحن أبدًا كذلك حتى تثلج الشموس، وتضمحل قوى العناصر، وتتفكك عرى الأكوان سابحة في الفناء الأنور، في البقاء الأوحد، في حضن الله.
إذن أعيدُ الموتى اليوم أم عيد الأحياء؟
إنما اليوم ككل يوم، عيد الناموس الفرد الذي يعجن أشكالًا تبدعها الطبيعة العلماء. يجبلها باليد الواحدة التي تدعى التكييف قطعًا ذات صور معيَّنة. ولا يفتأ يستخرج الجديد من القديم، ويدغم القديم في الجديد؛ ليتمَّ للأحقاب تعاقبها بالبشر والأفلاك والزمان في مجاهل اللانهاية الخالدة.