كن سعيدًا
في هيكل الأشجان الإنسانية وقف الزعيم الأكبر يخطب في القوم فسمعته يقول:
«إذا كنت غنيًا كن سعيدًا؛ لأن مزاولة الأمور الخطيرة هُيئَت لك، وكنت مشكور الصالحات مرجوَّ الجميل. لقد عزَّ جانبك، ومُنعت حوزتك، ونُشر رواق العزِّ فوق ذمارك، فتمَّ لك وجه من وجوه الحرية والاستقلال، وإن كنت فقيرًا فكن سعيدًا! لأنك سلمت من شلل معنوي ابتلي به من دانت لرغبته جميع المطالب، ووُقيتَ ما عُرِّض له السريُّ من حسد وكرهٍ، فلا تتلظى الصدور لنعمتك، ولا يُنظر إلى متاعك بعين مريضة.
إذا كنت مُحسنًا فكن سعيدًا؛ لأنك ملأت الأيدي الفارغة، وسترت الأجساد العارية، وكوَّنت من لا كيان له فرضيت عن نفسك، ووددت إسعاد عشرات ومئات لتتضاعف مسرتك النبيلة الواحدة بتعدُّد المنتفعين بأسبابها. وإن عجزت عن الإحسان فكن سعيدًا؛ فقد أجَّلت ساعة تشهد فيها نكران الجميل ممن صانعت، فاتخذ المعروف سلاحًا يهددك به، حاسبًا التجني شجاعة، والسفاهة حذقًا. تلك الساعة لا بد من مرورها، فتتوتر لها أعصابك، ويفوز سخطك، وتقسو عواطفك، ويجفُّ منهل كرمك، وتحتقر الإنسان، وتيأس من إصلاحه قبل أن تصل إلى قمة الغفران السامي، والتغاضي الحكيم.
إذا كنت شابًّا فكن سعيدًا؛ لأن شجرة مطالبك مخضلَّة الغصون، وقد بعُد أمامك مرمى الآمال، فتيسر لك إخراج الأحلام إلى حيز الواقع إذا كنت بذلك حقيقًا، وإذا كنت شيخًا فكن سعيدًا؛ لأنك عركت الدهر وناسه، وأُلقيت إليك من صدق الفراسة وحسن المعالجة مقاليد الأمور، فكل أعمالك إن شئت منافع، والدقيقة الواحدة توازي من عمرك أعوامًا؛ لأنها حافلة بالخبرة والتبصر وأصالة الرأي، كأنها ثمرة الخريف موفورة النضج، غزيرة العصير، أشبعت بمادة الاكتمال والدسم والرغبة.
إذا كنت رجلًا فكن سعيدًا؛ لأن في شهامة الرجولة يتجسم معنى الحياة الأكبر، وإذا كنت امرأة فكن سعيدًا؛ فالمرأة منشودة الرجل، ونبلها موضع اتكاله، وعذوبتها مستودع تعزيته، وبسمتها مكافأة أتعابه.
إذا كنت رفيع الحسب فكن سعيدًا؛ فقد فزت بثقة الجماعة دون أن يوصي بك أحد، وإن كنت وضيع النسب فكن سعيدًا؛ لأنه خيرٌ لك أن تكون مؤسس عيلتك، ورافع عمادها الذي تعرف به، وتفاخر بذكراه، من أن تكون أحد أبنائها المرغمين بطبيعة الحال على حمل اسمهم، ولا فضل لهم بإعلائه.
إذا كنت كثير الأصدقاء فكن سعيدًا؛ لأن ذاتك ترتسم في ذات كل منهم، والنجاح مع الصداقة أبهر ظهورًا، والإخفاق أقل مرارة، وجُمع القلوب حولك يستلزم صفات وقدرات لا توجد في غير النفوس ذات الوزن الكبير، أهمها الخروج من حصن أنانيتك لاستكشاف ما عند الآخرين من نُبل ولطف وذكاء، وإذا كنت كثير الأعداء فكن سعيدًا؛ لأن الأعداء سلَّم الارتقاء، وهم أضمن شهادة بخطورتك، وكلما زادت منهم المقاومة والتحامل، وتنوَّع الاغتياب والنميمة، زدتَ شعورًا بأهميتك، فاتعظتَ بالصائب من النقد الذي هو كالسم يريدونه فتاكًا، ولكنك تأخذه بكميات قليلة، فيكون لك أعظم المقويات، وتُعرض عما بقي، وكان مصدره الكيد والعجز، إعراضًا رشيقًا. وهل يهتم النسر المحلِّق في قصي الآفاق بما تتآمر له خنافس الغبراء؟
إذا كنت صحيحًا فكن سعيدًا؛ فقد استبان فيك توازن الناموس الكلي وانسجامه، وأهلت لمعالجة المصاعب ودحر العقبات، وإن كنت عليلًا فكن سعيدًا؛ لأنك مسرح تتقاتل فيه قُوَّتَا الكون العظيمتان، فالغلبة لما تختار منهما، والشفاء موقوف على ما تريد.
إذا كنت عبقريًّا فكن سعيدًا؛ فقد تجلَّى فيك شعاع ألمعي من المقام الأسنى، ورمقك الرحمن بنظرة انعكست صورتها على جبهتك فكرًا، وفي عينيك طلسمًا، وفي صوتك سحرًا، والألفاظ التي هي عند الآخرين أصوات ونبرات ومقاطع، صارت بين شفتيك وتحت لمسك نارًا ونورًا تلذع وتضيء، وتحرق وتهنأ، وتخجل وتكبر، وتذل وتنشط، وتوجع وتلطِّف، وتسخط وتدهش، وتقول للمعنى «كن!» فيكون. وإن كنت خاملًا فكن سعيدًا؛ لأن الألسنة لا ترهف حدَّها لتذكرك، والأنظار لا يستعر فيها لهيب التفحص وحب المنافسة إذ تتجه إليك. هاك القمة فاقتحمها إن كنت كفُؤًا، وإلا فاقنع بأنك جزء مهم من أجزاء الكون تستعملك الكفاءة وقودًا؛ فالإيوانات الباذخة لا تقوم بغير الحجارة الصغيرة، وأنت متمتع براحة لا ينعم بها من لا ترتوي شفتاه بغير ماء الحياة، ولا تغتسل روحه بغير سيول الإلهام.
إذا كان صاحبك وفيًّا فكن سعيدًا؛ لأن الأيام حبتك بكنز من أثمن كنوزها، وإن كان خائنًا فكن سعيدًا؛ لأنه لم يكن على استعداد لاستماع أمثولة خفية تلقيها عليه نفسك، ولا يغادر امرؤ حظيرة المحبة إلا ليفسح مكانًا لمن هو خير منه وأجدر.
إذا كنت حرًّا فكن سعيدًا؛ ففي الحرية تتمرَّن القوى، وتتشدد الملكات، وتتسع الممكنات، وإن كنت مستعبدًا فكن سعيدًا؛ لأن العبودية أفضل مدرسة تتعلم فيها دروس الحرية، وتقف على ما يصيرك لها أهلًا.
إذا عشت في وسط يفهمك ويقدرك فكن سعيدًا! فهناك اكتسبتَ كل يوم شبابًا جديدًا، وقوة جديدة، ونمتْ روحك ثم نمَتْ حتى أذهلتك منها الآفاق والبحار، وإن عشتَ في وسط متقهقر منحطٍّ، أيها التعس، فكن سعيدًا؛ لأنك في حِلٍّ من أن تخلق لك جناحين تطير بهما فوقه؛ إلى حيث تبدع من أشباح روحك عالمًا حوى قوتًا لجوع فكرك، وشرابًا لظمأ جنانك.
إذا كنت محبًّا محبوبًا فكن سعيدًا؛ فقد دلَّلتك الحياة، وضمتك إلى أبنائها المختارين، وأرتك الألوهية عطفها في تبادل القلوب، واجتمع النصفان التائهان في المجاهل المدلهمة، فتجلت لهما بدائع الفجر، وهنأتهما الشموس بما لم تهتد بعد إليه في دورتها بين الأفلاك، وأفضى إليهما الأثير بمكنون أسراره؛ لذلك هما يتأملان حيث يتصابى الخالي، ويصمتان حيث يتكلم، ويمزحان حيث يجد، ويتفرسان في خطوط البقاء حيث لا يلمح هو خيالًا.
وإن كنت محبًّا غير محبوب فكن سعيدًا؛ لأن النابذ يحب المنبوذ في أعلى طبقات كيانه، حبًّا لا يدانيه افتتانه بمن يهوى، والهجران حالة جمَّة المعاني والألغاز ترقق ما ضخم من الرغبات، وتصفِّي ما عكر من الانفعالات، حتى يغدو الفؤاد شفَّافًا نورانيًّا متلألئًا كآنية تتناول فيها الآلهة كوثر الخلود.
ولسوف تفوز بمن تريد إن لم يكن في تلك الصورة الأنسية المتباعدة ففي سواها. تهيَّأ للحب مهما أثقلتك المشاعر؛ لأن للحب هبَّات وسكنات، وأنت لا تعرف ساعة مروره. كن عظيمًا ليختارك الحب العظيم، وإلا فنصيبُك حبٌّ يسفُّ التراب، ويتمرَّغ في الأوحال، فتظل على ما أنت أو تهبط به، بدلًا من أن تسمو إلى أبراج لم ترها عين، ولم تخطر عجائبها على قلب بشر؛ لأن هياكل مطالبنا إنما تقام على خرائط وهمية وضعتها منَّا الأشواق.
كن سعيدًا لأن أبواب السعادة شتى، ومنافذ الحظ لا تُحصى، ومسالك الحياة تتجدد مع الدقائق. كن سعيدًا دوامًا، كن سعيدًا على كل حال!»
•••
انفضَّ القوم فإذا الجماعات تقف عند بقية جدار خارج الهيكل لتنتحب وتبكي، ومضى غيرها في سبيله ضاحكًا هازئًا، فنظرت إلى شبح انتصب قربي نظرة استفهام فقال: «أنا روح الخطاب جئت أرى تأثيري في الناس!»
قلت: «إذن أنت تعلم ما هذا الذي يبكي الناس عنده.»
قال: «هذا جدار الدموع.»
قلت: «وهل هؤلاء يهود؟ وهل نحن في أورشليم؟»
فقال: «للإنسانية كما لليهود «جدار دموع» تبكي عليه وتتحسر.»
قلت: «ولماذا يبكي هؤلاء بعد تلك الخطبة المعزية الموحية الرجاء؛ خطبة السعادة الجميلة؟»
قال: «منهم من يبكي لأنه لم يسمعها من قبلُ، ومنهم لأنه سمعها قبل الآن ولم يستفد، وآخر لأنه استفاد أيامًا ثم تغلب عليه المحيط، وجرَّته الوراثة بأثقالها الباهظة إلى هوة القنوط، وغيره يبكي بكاءً عصبيًّا لأن الباكين يحيطون به، ولو ضحكوا ورقصوا لكان أول المقلدين، وغيره ليُظهر أنه ذو نفس حساسة تستوعب كل تأثير صالح، ويبكي غيره لأنه يرى في الجدار المحطم صورة لآماله الذاوية، وهو من الذين يندبون حيال متراكم الأخربة، ومندثر الديار، ومتعفي الآثار.»
قلت: «وأولئك الضاحكون؟»
قال: «هم ذوو الأذهان المحددة التي لا تعترف بما لا تفهم، وتهزأ بكل ما لا تعترف. إنهم أحق بالإشفاق من الباكين.»
قلت: «وهناك خيالان لا يبكيان ولا يضحكان؛ رجل وامرأة يسيران جنبًا إلى جنب بخطوات هادئة بطيئة منحنيي الجبهة، وفي عيونهما تتتالى دوائر الأفكار. أتدري مَن هما؟»
فرَنا إليهما الشبحُ وقال: «هما الأرض المخصبة. هما الشعلة المقدسة. هما اللذان فهما واستفادا.»
فقلت مكتئبة: «أسفًا على الخطاب البليغ تسمعه الجماهير الغفيرة فلا يستفيد به سوى اثنين!»
فتألق وجه الشبح بنور سماوي وقال: «بل ما أنفعه خطابًا هو في هذين الروحين غلَّة للدهور، وفي هذين الفكرين مجدد للقديم، وفي هذه الأيدي مشعل يتطاير منه الشرر، فتتقد به شموس الأفلاك، وشموس الأذهان. بورك به خطابًا، بورك به!»
وغادرني الشبح وسار إلى ذينك الخيالين فنشر من كتفيه جناحين خفيين وحلَّق فوق رأسيهما يقودهما ويرعاهما.