أنت أيها الغريب
أنا وأنت سجينان من سجناء الحياة.
وكما يُعرَف السجناء بأرقامهم يُعرَف كلُّ حي باسمه.
وقد التقينا وسط جماعات المتفقين فيما بينهم على الضحك من سواهم حينًا، والضحك بعضهم من بعض أحيانًا.
أنا منهم وإياك غير أن شبهك بهم يسوءني؛ لأني إنما أُقلدهم لأريك وجهًا مني جديدًا، وأنت أتجاريهم بمثل قصدي، أم الهزء والاستخفاف فيك طوية وسجية؟
ولكن رغم انقباضي للنكتة منك والظرف، ورغم امتعاضي للتغافل منك والحبور، أراني وإياك على تفاهم صامت مستديم يتخللهُ تفاهم آخر يظهر في لحظات الكتمان والعبوس والتأثر.
بنظرك النافذ الهادئ تذوقتُ غبطة من له عينٌ ترقبه وتهتم به، فصرت ما ذكرتُك إلا ارتدت نفسي بثوب فضفاض من الصلاح والنبل والكرم، متمنية أن أنثر الخير والسعادة على جميع الخلائق.
لي بك ثقة موثوقة، وقلبي العتيُّ يفيض دموعًا. سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني، وأبثك شكوى أحزاني؛ أنا التي تراني طروبة طيارة.
وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفيَّ، وحنَّت رأسي منذ فجر أيامي؛ أنا التي أسير محفوفة بجناحين متوجة بإكليل.
وسأدعوك أبي وأمي متهيبة فيك سطوة الكبير وتأثير الآمر.
وسأدعوك قومي وعشيرتي؛ أنا التي أعلم أن هؤلاء ليسوا دوامًا بالمحبين.
وسأدعوك أخي وصديقي؛ أنا التي لا أخ لي ولا صديق.
وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة؛ أنا التي تتخيل فيَّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد.
وسأُبين لك افتقاري إلى العطف والحنان، ثم أبكي أمامك وأنت لا تدري.
وسأطلب منك الرأي والنصيحة عند ارتباك فكري واشتباك السبل.
وإذا أسيئ التصرف وأرتكب ذنبًا ما فسأسير إليك متواضعة واجفة في انتظار التعنيف والعقوبة.
وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك عليَّ فأتوب على يدك وأمتثل لأمرك.
وسأصلح نفسي تحت رقابتك المعنوية مُقدمةً لك عن أعمالي حسابًا؛ لأحصل على التحبيذ منك أو الاستنكار، فأسعد في الحالين.
وسأوقفك على حقيقة ما يُنسب إليَّ من آثام، فتكون لي وحدك الحكم المنصف.
وما يحسبه الناس لي فضلًا وحسنات، سأبسطه أمامك فتنبهني إلى الغلط فيه والسهو والنقصان.
ستقومني وتسامحني وتشجعني، وتحتقر المتحاملين والمتطاولين؛ لأنك تقرأ الحقيقة منقوشة على لوح جناني.
كما أكذِّب أنا وشاية منافسيك وبهتان حاسديك، ولا أصدق سوى نظرتي فيك وهي أبرُّ شاهد.
كل ذلك وأنت لا تعلم!
سأستعيد ذكرك متكلمًا في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد أحد.
وسأتسمع إلى جميع الأصوات علِّي أعثر على لهجة صوتك.
وأشرح جميع الأفكار، وأمتدح الصائب من الآراء؛ ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك.
وسأتبين في جميع الوجوه صور التعبير والمعنى لأعلم كم هي شاحبة تافهة؛ لأنها ليست صور تعبيرك ومعناك.
وسأبتسم في المرآة ابتسامتك.
في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك.
سأتصورك عليلًا لأشفيك، مصابًا لأُعزيك، مطرودًا مرذولًا لأكون لك وطنًا وأهل وطن، سجينًا لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص، ثم أبصرك متفوقًا فريدًا؛ لأفاخر بك وأركن إليك.
وسأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة؛ لتستسلم ببسالة وحرارة إلا الانفعال النبيل، وسأتخيل ألف ألف مرة إلى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو، وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق؛ لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب.
وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورًا؛ لأنك أوحيت إليَّ ما عجز دونه الآخرون.
أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم؟ أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم؟