عند قدمي أبي الهول
الأفق واسع واسع، والليل عميق عميق، وأنوار المساكن وأضواء الشهب في أحشاء الدُّجى جراح وحروق، وأصوات المدينة تحدث عن أوصاب المدينة جاهلة ما عداها؛ لذلك جئت ناديك أنشد اختلاء وراء تلال فصلت بين عمران البشر الضاج المقيد، وعمرانك المستقل في حضن السكوت غير المتناهي.
تتتالى على البسيطة شعوبٌ ودولٌ تأتي بالأديان والشرائع واللغات والعادات، وتتبارى في محق عمل الأجيال زلازل وبراكين وصواعق وأوبئة وثورات وزعازع وطوفانات، وأنت هنا رابض أمام أهرام انتصبت في وجه الفضاء تنقض أحكام الفناء، والهياكل تلقي بين يديك حديث الدهر بألفاظ الحجر والصوان، وتعززه بصور الأرباب والملوك والكماة.
وكأن ما نزل بها من العاديات بعض تلك الصور المنيلة خطابها بلاغته وروعته.
ههنا تربض فريدًا على وثير الرمال في مملكتك الفيحاء؛ مملكة الكتمان والجلال والإيماء، وعظمة القياصرة حديثة النعمة، ودميمة حيال عظمتك المجردة الرفيعة. والإنسان المتطاول الشغوف بهتك الأستار يدخل أيوان وحدتك السَّني، ولكنك في غيبوبتك غير منظور لهذه الأشباح الفانية، وغير ملموس لهذه الأيدي الذبابية المتنقلة على مخالبك ومنكبيك تلهيًا واستقصاءً.
غير أن الإنسان ليس بالمتلهي المستقصي فحسب، بل هو خصوصًا الدنف المتألم. يتناوله من الكون قهرًا دوَّار الفواجع والنوائب، فيدرك أن الثبات العام منسوج من الوجل والاضطراب، وأن البقاء الظاهر مصنوعٌ من التغير والتحول. يدرك مأساة الكفاح بين الحرية والقدر، يدرك أن عجاجات القوى تضيع جزافًا في شلَّال الذراري والأنسال الجارف الآلهة والمحاربين والشارعين والقديسين والأنبياء والقتلة والقتلى سواسية. يرى التعاسة على طريق العروش، والصوالجة والتيجان تختلط بقيود المجرمين. يرى الأعراس والجنازات والمواليد والوفيات يتخللها العوز والبطر، والمرض والعافية، والخيانة والأمانة، والدعوى والتطيُّر، والضلال والهدى. وإزاء ما يفطره ويعذب سواه يظل الكون على ما هو، والخلائق والأشياء تتوثب فيه وتتولد كالمياه الرهوة الرجراجة، وكل ما خال منها وشيكًا كان نهاية تعقبها بدايةً، وأنقاضًا تستوي عليها الأسس.
وإذ يزفر طالبًا للحوادث تفسيرًا يقال له: «هذه هي الحياة!» «ما هذا إلا الحياة.» «لا تكون الحياة إلا كذا.» نعم، يا أبا الأهوال الساهي، إزاء الهِبة والحرمان، والوفاء والغدر، والبياض والسواد، والفخار والمذلة، والغلبة والاندحار، إزاء كل مسرة وكل توجع، التفسير واحدٌ لا يتغير! إننا نفسر الحياة بالحياة، ونداوي داء الحياة بمصل الحياة، ونهرب من الحياة لنجدنا والحياة وجهًا لوجه.
•••
وأنا صورة من ملايين صور الحياة نهضتُ أتفهَّم الحياة كما نهض جميع أولئك المساكين. وكما وقفتَ قديمًا على طريق طيبة تلقي الأسئلة على العابرين، وقفت أسأل أبناء السبيل عن معنى الحياة، فقال أحدهم: «هي صدر الأم.»
فالتصقت بصدر أمي فإذا أنا منه في عش دفء وحرارة، وحصن مناعة وأمان، لا ترعبني الرياح العاصفة، والرعود الداوية، والبروق الملعلعة، والسيول المتدفقة. ومرَّ يوم، فضاق بي صدر أمي، وعدت إلى موقفي أسأل: «ما هي الحياة؟»
فأجاب مجيب: «هي الدين والتقوى.»
فبادرتُ أُمرِّغ جبهتي على عتبة المذبح مخفية أداة التقشف والإماتة تحت مزركش الأثواب، وأقرع صدري مستغفرة عن آثام لم أرتكبها، وذنوب لم تخطر على بالي، فناجتني الصور الصامتة في أطرها، وهمست لي الصلبان بنكال الحربة والمسامير. فمر يوم، وصدر الهيكل الذي كان لينًا عطوفًا انقلب كالمرمر صلابة وبرودة، وصارت الطقوس الدينية ترتيبًا مسرحيًّا، وأرواح البخور التي كانت تنزل عليَّ فيض الوحي والإلهام غدت مزعجة كعطور تنشرها ذوات الذوق الكثيف، فعدت إلى مكاني من السبيل سائلة: «ما هي الحياة؟»
فقال صوت الغرور: «وهل هي للفتاة غير التيه والدلال والتظرف؟»
فمضيت أساجل مرآتي فتعشقت صورتي فيها، ولم أكن أفارق تلك الصورة إلا لأبحث عما يزينها ويجملها، وكان يبكيني مشهد الباكين، فأصبحت وقد تذوقت لذة اللهو واللعب في نسل خيوط القلوب. ومر يوم، فأطل شبح الملل في عينيَّ، فعدت أسأل أبناء السبيل: «ما هي الحياة؟»
فعلا صوت الحضارة في صفير البخار وجلبة الآلات وقال: «هي الثروة، والجاه العالمي، وأبهة العمران.»
فعدوت في سبيل هذه، سوى أني لم أصرف ساعة حتى تحجَّر كياني، فعدتُ والضجر يقتلني أسأل: «ما هي الحياة؟»
سألت طويلًا وبكيت غزيرًا، وقنطت حتى طلبت الموت فانبثقت صورة من غور عنائي. لم تتكلم وإنما فهمت أن الحياة عندها. أرأيت، يا أبا الهول، النجوم راقصة؟ بلحظةٍ تململ ثابت النواميس فرقصت جميع النجوم حولي، وخشعت الكائنات سجودًا لدى مَن هو شفيعها عند ذي الجبروت، وتناقلت الموجودات صورة وجه واحد، أو فخرت بنسخ خطٍّ من خطوطه، وانتحال معنًى من معانيه، واستحدثت جميع الأشرقة نورها من تألُّق عينين اثنتين، وصارت زرقة الجو، وبهجة الربيع، وطلاوة الأمواج انعكاسًا مبهمًا ضئيلًا لتلك البسمة؛ تلك البسمة البطيئة الرقيقة النادرة، واستدعتني الألوهية إلى عرشها، فوضعت يدي ويد الباري على لولب الوجود، وقمت وإياه بإدارة حركة الأكوان. فمر يوم، فقمعت ثورة النجوم وقدمت خضوعها للنظام الأوحد، وعادت لكل كائن أهميته في الخليقة، فرجعت أسأل العابرين: «ما هي الحياة؟»
فقال صوت العلم الرزين: «أنا الحياة؛ لأني أشرح الحياة.»
فألقيت بنفسي في الخضم الزاخر أعالج العلم المادي تارةً، والفلسفة الروحانية أخرى. كم من علم خلقنا، أيها المليك، لنبحث عمَّا لا يُعلم، وكم من لغة أبدعنا لنشرح ما لا يشرح! فهداني الجهابذة إلى القوة التي يتم بها التفاعل الكوني بين الأجرام، فلا تتفلت من عناقها شمس ولا ذرة: الجاذبية، فسألت: وما هي هذه الجاذبية؟ مَن رآها؟ مَن سمعها؟ مَن لمسها؟ أهي وسيط ينتقل على تموُّج الأثير، أم هي سيَّال يتموَّج بنفسه مستقلًّا عن العناصر؟ فأجابوا: «ذاك سر الحياة، وهو مجهول.»
الحياة! مجهول! لفظتان تمثلان الانفصال والاتحاد جميعًا.
هذه الرمال التي تفرش ربوعك بطنافس ناعمة منذ أربعة آلاف سنة، يا حارس الصحراء، منذ أربعة آلاف سنة والعلم يقلِّب الذرة الواحدة منها ويديرها، ويقسمها ويجزِّئ تقسيمها. لقد نحرها بحثًا ودرسًا وتحليلًا متلمسًا علة تركيبها، واللغز المتواري وراء محلها، فسارت جهوده من مجهول إلى مجهول، ومن استفهام إلى استفهام، وما زال مثلي أنا الطفلة الغريرة يسأل: «ما هي الحياة؟ ما هي الحياة؟»
كذلك طال استجوابي للسابلة، فضحك كثيرون ومضوا؛ لأنهم لم يفهموا، والقليلون الذين وقفوا وأجابوا أرهفوا فيَّ اللجاجة والحرقة والأسى.
•••
يا وليد بابل أم السحر والتعاويذ، إلى أي حقيقة رمز بك الرامزون؟ ولماذا جعلوا بين كفيك درجات خفية تفضي إلى سرداب امتدَّ وتاه في مجاهل الأهرام؟ ولماذا أودعوا قلبك مفتاح باب الغيب حيث كان العرافون يستمعون للآلهة الهواتف؟ ولماذا لا يعرف موضع أصغرك إلا جوف منك سوى شفتيك المطبقتين على كرِّ الأعقاب؟
تفترُّ شفتاك دون كشف وإعلان، أتأكيدٌ هذه البسمة أم إيهام؟ أإشفاق على دماء المفاداة وقد أذيبت فيها الأوحال، أم لأن ما هو كائن أقلص من ظل حصاة حيال ما سيكون؟
هذا نيلك رضاب الطبيعة المحيي عُبدَ من منبعه إلى مصبه لما يظهره من أريحية ووفاء. أتدرك معنى احمراره الصيفي ومعنى خصبه؟ أتفهم معنى شكل هندسي تجلب به أهرامك الخالدة؟ أنت الذي نحتك الكلدان قبل أن يرسموا دائرة البروج، أتعلم ما إذا كانت هذه الأهرام منائر للصحراء، أم مدافن للفراعنة، أم حصون دفاع، أم مستودعات كنوز، أم مجتمع عشاق، أم محفلًا فيه يدينُ أوزريس موتاه؟ أتعلم لماذا أدرجت أوراق البردي وأسرارها الهيروغليفية طيَّ الأكفان مع الموميات في التوابيت والنواويس؟ أتعرف معنى سوسن الماء وزهرات عرائس النيل العائمة على النهر المقدس؟ نحن الجهلاء نعلم أن جميع هذه إنما هي رموزٌ إلى الحياة المتحكمة فينا. وأنت، ألم يبق لك ما يُكتسب ها هنا لتحول نظرك وتسكت سكوتًا لا ينتهي؟
أم أنت لا ترقب هناك سوى ما نرقبُ؟ أترصد حركة الأصبع الموجِّه الإبرة الممغنطة نحو الشمال تجر بعدها النُّظُم الشمسية وهيئات الكواكب؟ أم تستعرض مواكب الأنوار والظلمات، وجيوش الثوابت والسيارات، وجحافل الأمكنة والأزمنة، أم أنت تتهجأ اسم الحياة يخطُّه قلم النواميس بحروف الشموس والمذنبات والسُّدم والعوالم؟ أم يذهلك تدفق الفيض الإلهي من وراء حجب الوجود ليتكوَّن أثيرًا وهواءً ونارًا وماءً وهَيُولَى؟
نحن مثلك نترقب ونتوقع، ونتوقع ونترقب، فهل تعلم ما هذا الذي ننتظرهُ وتنتظرهُ الآفاق المنحنية علينا؟ لقد سُجنَّا في حالك الظلمات تخترقها خيوط النور حينًا بعد حين، فنهبُّ نحسبها مقدمة لتحقيق الرجيَّة، وما هي غير السراب الخدَّاع، فيزيد الظلام حلكًا، ونلبث في الانتظار مترددين.
لقد دفن نصفك في الرمال المغيرة على علاك وما زلت ترقب الشرق وتبتسم، ونحن تغزونا الكوارث، وتفتك بنا الدواهي، فنظل نترقب ونرجو.
أصحيح أن لغزك لغز الدهور، أم خلقك الإنسان رمزًا له كما خلق آلهته على صورته ومثاله؟ لقد أعطاك من الثور الخاصرتين؛ مكمن الغريزة الجوفية الرامزة إلى السكوت، ومن الأسد براثن التحمس والاستماتة الرامزة إلى الجرأة، ومن النسر الجناحين المحلقين في بعيد المدى، الرامزين إلى المعرفة، ومنه — من إنسانيته — أعطاك الرأس، مشيرًا إلى التبصُّر والإرادة المدركة المتغلبة على الغريزة والانفعال والخيال. فكيف يحصر فيك جميع هذه النزعات التي تتجاذبه، ولا يضيف إليها ما بقي؟ لماذا لا يكون ابتسامك الدائم صورة الأمل المتجدد أبدًا فيه؟ أليس إنه مثلك لأنك مثله؟ أليس إن في أعماقه أبا هول شاخصًا أبدًا في السموات العُلى، كما ظفر بفجر وشروق لبث يتوقع بزوغ كوكب جديد، وشروق شمس ساطعة؟