الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي، فكانت نصيبي في الشراء.
صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتي: مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود اللامكان، علامتها مقاطع الوقت الذي رتَّبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقُّب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب … من الثواني يتألف الزمان، ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجًا.
فيا لهول ثواني الزمان! ويا لهول نبضات قلب الإنسان! بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتتفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية، وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران، وتفتح صدرها مُرحِّبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرًا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغى فتدوي رعود المدافع في الفضاء، وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح. ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندكُّ عروش، وتنتصب عروش، تُدمَّر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، يتجندل أفراد وتفنى مجاميع، فترتدي الأقوام سواد الألوان وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو، بين الثانية والثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار؛ دماء منبعثة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية. بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أسس العمر، وانفعالات تشخص لمرورها ذرات الكيان. اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام، قنوط ورجاء، سعادة وشقاء، هتاف الروح المسلمة ولهاث الروح المودعة.
•••
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء؛ فأنت غادرة خائنة هاجرة كالزمان، يا ابنة الزمان!
كم من ساعٍ طيباتٍ وقعت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! أبتسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين، وأتنهد حيالك يوم الأسى فأحسبك تتنهدين وتحزنين، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة: «أنت الصديقة التي لا تخون.» ولما مزقت سمعي أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة: «أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين.» ولما أذابني الجهل بدعواه، والغرور بسخافته، نظرت إليك قائلة: «أنت عالِمَةٌ لذلك تصمتين.»
وكنتِ تعزيتي.
وكنت زماني، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عني، وأقل اهتمامك بي! في النهار، كنت تطوقين ساعدي فيوجعه أثر سلسلتك، وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة التلطيف. وفي المساء، كنت تستريحين بجوار وسادتي، فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي المساء، كنت أول عين أشاهدها، وأول روح أستجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين.
وها قد هجرتني. فقدتك وفقدتني، فسيري بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخًا له، فانقلبي أفعًى لسَّاعة ولا تبرحي مُفرِغة فيه سُمَّك حتى تصرعيه قتيلًا.
… لكن لا! لا، ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم لو كنت تعلمين، وهم أخلق بالرحمة من الأخيار الصالحين؛ فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرًا، بل غادري تلك اليد المسكينة، واسقُطي في طريق أب فقيرٍ صالح؛ لتكوني نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية. زيِّني يدًا شوهت خشونة الخدمة جمالها، ونامي على زند الفتاة الغريبة بدلال القبلة والتحبُّب! نامي هناك وأسعدي، ولو ساعة، قلبًا بائسًا يحسب السعادة في الغنى!
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر، يا ساعتي الصغيرة المحبوبة، اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكري واحفظي ما تعرفين.
ولكن ألست ابنة الزمان الذي ننسب إليه في ضعفنا كل شيء، وهو في قوته لا يبالي بشيء؟ ترى بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟ إنما علاماتك مداد قد تحجَّر، وعقربك أصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى، وأنت آلة ليس إلا، وإن كنت آلة الآلات المثلى.
أنت ابنة الزمان الناسي.
وأنت مثله لا تذكرين!