دمعة على المُغرِّد الصامِت
ما أسرع ما تتمزق أثواب الورود! وما أتعس القلوب الشديدة التأثر!
يمر النسيم العليل على الأزهار النضرة فتتشقق بوطئه جلابيبها، وتنتثر وريقاتها. كذلك تكفي ملامسة الألم النفس المنفردة ليثير منها الأشجان، ويستقطر من محاجرها العبرات.
من الرجال من يكتفون بالمجد والوجاهة والفخر، ومن النساء من لا يفهمن الحياة إلا بالزينة والغنى وارتفاع القدر.
أما أنا فلا هذه العطايا تغرني، ولا تلك المواهب تستهويني. شيء واحد تام الجمال، في تقديري، هو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر وقسم أكبر من القلب، شيء واحد ينبه إعجابي، وهو ما كان مترفعًا عن الصغائر والدنايا؛ هو زهرة نادرة المثال، شمس الذكاء والمعرفة تحييها، ومياه العواطف العذبة ترويها.
ما أتعس القلب الحساس وما ألينه؛ لاستحكام الجراح في ثنياته!
•••
طائر صغير نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه وانحنى الليل عليه فترك من سواده قبلة في عينيه. ثم سقطت عليه يد البشر فضيقت دائرة فضائه وسجنته في قفص كان عشه في حياته ونعشه في مماته.
طائر صغير أحببته شهورًا طوالًا. غرد لكآبتي فأطربها، ناجى وحشتي فآنسها، غنَّى لقلبي فأرقصه، ونادم وحدتي فملأها ألحانًا.
امتزج ذكره بحياتي فحل عندي محل صديق لا تصلني به اللغة، ولا يقربه مني التفاهم الروحي، بل يعززه إليَّ حضوره الدائم وإن لم يبال هو بحضوري، وصوته الرخيم وإن لم يغرد إلا لأن التغريد من طبعه، وسروره الذي لا يعرف الكآبة، واصطباره على ضيق الفضاء، وقناعته بما قدر له من النور والهواء.
لما أبكتني الآلام أريته منديلي مبللًا بالدموع فأعرض عني. إنما تستدر الدموع ظلمة الأحزان كما يستدر الندى ظلام الليل، وروح الأطيار شعاع مغرد، فكيف يتفهم النور الظلام؟
ثم أشرت بيدي إلى الأثير البعيد لعلِّي أرى من طائري زفرة تنبئني عن لوعة في قلبه، ولكنه أخذ يتنقل على قضبان قفصه غير مبالٍ بي، كمن يقول: «النور لا ينظر إلى الشمس، والقلب لا يحدق في الروح؛ لأن كليهما واحد. أنا لا أنظر إلى الأثير؛ لأن فيَّ نقطة منه. إني فيه وإن بعدت عنه، كالشاعر الذي يظل محلقًا في سماء الخيال والمعاني، وإن وثق الناس من أنه يجالسهم مصغيًا إلى أحاديثهم.»
وإذا أتيته بالأزهار نازعة عنها وريقاتها، فارشة بها مهبط القفص لعلِّي أرضيه، شرع يدوسها استخفافًا متابعًا تغريده، كأنه فيلسوف لا يكترث للصغائر وإن جملت منها المظاهر، ولا يهتم إلا بما ينبه قوى البحث والتفكير في جنانه.
في الصباح، كنت أفتح عيني فيستقبل استيقاظي بالغناء، وتسيل موسيقى أنغامه على قلبي فتذيبه وتسكره معًا.
وفي النهار كنت أجلس للدرس والتحبير، فتشمئز نفسي أحيانًا من عبوس الكتب، ويثقل يراعي في يدي كأنه صولجان تنازل عن ملكه، فيأخذ كناري في الزقزقة والتغريد، وتأتي جماعة طير من الخارج فتتوحد التغاريد عند نافذتي كما تمتزج الألحان في قلب الأمواج؛ إذ ذاك تبتسم الأفكار على صفحات الكتب أمام ناظري، ويتمايل قلمي تمايل الصفصاف قرب الغدير، وتنجلي الغيوم عن صفحات نفسي، وتطرب روحي.
وفي المساء، كان الكنار يصمت إجلالًا لقداسة الظلام، فيخفي رأسه بين جناحيه، ويجمد جمود المفكر. ساعتئذ تأتي بنات خيالي محلولة الشعر، وورد الابتسام منور على شفتيها، ومصباح الشعر متقد في يمينها، فتعقد حلقة وتدور راقصة حول أحلامي، ومنشدة أناشيدها بألحان سرية كأعماق اللجج، أناشيد عجيبة لم يسمعها إلا خيال روحي المتهادي بين أولئك العذارى الراقصات. ولم أفهمها إلا بحاسة سادسة تنبثق في قلب الشاعر في ساعات الوحدة والكآبة، بينا ملوك الجوزاء تطل في أعالي علاها ناظرة إليَّ من نافذتي المفتوحة على آفاق الليل، والكنار يرقبني بعينيه المخفيتين تحت جناحيه الذهبيين.
•••
والآن أنظر إلى القفص!
لقد صمت الطائر المغني، وجمد الشعاع المحيي، فلا ترى في القفص إلا قليلًا من الشمس المائتة!
مات الصغير الغريد، مات صغير حشاشتي!
مات عند بزوغ الفجر وقبل انقضاء الربيع، ولا يبقى في خاطري إلا أثر من ذلك اللحن المتواضع البديع. شعاع ذهبي أطل حينًا واختفى في كبد الآفاق، ابتسامة لطف أشرقت، وما لبثت أن توارت في أخفية الظلام.
نور فكر ضاء ثم اضمحل في لجج العدم، وردة أثير تنفست فعطرت وأسكرت، ثم ذبلت.
نغمة حب تموجت ساعة ثم تلاشت في هاوية السكينة.
صديق صغير غرد فأطربني، وسكن في جواري فآنسني، ولما مزق قلبي العالم بشره وصغائره غنى طائري فأنساني قبح القباحة، وجعلني أفكر في كل حسن بهي.
هذه قيثارتي فقدت أحد أوتارها فناحت بلابل أنغامها.
فما أتعس القلوب الشديدة التأثر! وما أمر الجرح الصغير الذي يفتح جراحات كبيرات!
•••
سر الوجود وسر الفناء مَن يستطيع اكتناههما؟
في كل ذرة من ذرات الكون ظمأ لارتواء خمرة الحياة، وشوق مبرح للنمو وبلوغ أكمل الحالات الممكنة. فما غاية هذا الشوق؟ ولماذا وجد ذلك الظمأ؟ إذا كان الفناء كعبة الكمال ونهايته؟
أتلاشى ما كان في طائري من أنس وإيناس؟ أضاعت نفسه الصغيرة الحلوة في الأثير كما امتزجت تغاريده بأمواج الهواء وعناصر جسمه بالتراب والماء؟ أم هو يحفظ جوهر ذاتيته ويظل هو هو في مجاهل الفضاء؟
علام وجد؟ ولماذا قضى؟
ألهذا الفناء ترقَّى نوعه حتى صار طائرًا غريدًا؟ أعاش يومًا وكان من نصيبي لكي يطربني ثم يوحشني، يزيل كآبة نفسي حينًا ثم يتركني حائرة في أمره وأمري؟
أين الحكيم يكشف لنا هذه السرائر ويزيح الستار عما في الحياة من الغوامض؟
وأنتم أيها الموتى، أطيارًا كنتم أم بشرًا، ألا تنطقون مرة واحدة لكي تُفضوا إلينا بما طوي من الأسرار وراء حجب الردى؟ ألا تهمسون في نفوسنا بالكلمة الأولى من اللغز الأزلي السرمدي الكامن في ضمير الوجود؟