مقدمة
مضيق ديفيس
١٩٩٤
ليس ثمة ليل في صيف القطب الشمالي، بل مجرد وهج بارد وخافت، يُكافح للخروج من تحت الأفق ثم يتبدَّد شيئًا فشيئًا في السماء، ويلامس سطحَ البحر الأسود ضبابٌ كثيفٌ كما لو كان زفيرًا يهبُّ من ثلَّاجةِ تجميدٍ أفقية. في الساعة الثانية والربع صباحًا ينزل إلينا الضابط البحري الثالث مُرتديًا ثيابًا تكفيه للسير في الفضاء، ومعه أخبار جديدة عن حالة الطقس. كنَّا مُنطلِقين كنَورسٍ مُحلقٍ عندما ذهبتُ للنوم. ولكن الرياح التي ظلَّت تهبُّ ثابتة من الجنوب الغربي خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، بدأت الآن تخف، وشرعَتْ في تحويل اتجاهها. انخفضت قراءة البارومتر (مقياس الضغط الجوي) من ١٠١٦ إلى ٩٩٤ مِلِّيبار، ويبدو أنها في طريقها إلى الانخفاض أكثر. بدا فجأةً أنه الوقت المناسب لتقليل مدى الأشرعة. يأتي أفراد المناوبة التالية على سطح السفينة، فينضمُّون إلينا ونخفض مساحة الأشرعة إلى النصف تقريبًا، فنُبقي فقط على شراع أمامي صغير، والشراع الأمامي السُّفلي، وشراع عواصف.
يتنهَّد النسيم تنهيدةً أخيرة ثم يتوقف، ويُصبح الهواء شديد البرودة. يُتِم أفراد المناوبة المُنتهية عملَهم، ويلوِّحون لنا بفتور، ويغادرون إلى أَسِرَّتهم. ثم تهبُّ ريح لطيفة من الشمال. ولكنها تتحول بعد ساعة إلى ريح عاصفة. فنُنزِل الشراع الأمامي السُّفلي. وينحل شراع العواصف من مِغلاقه، ويظلُّ يلوِّح غاضبًا في أرجاء سطح مؤخرة السفينة حتى ننزله هو كذلك. بحلول موعد الإفطار، تُصبح قوة الرياح ١٠ — قوة العاصفة على مقياس بوفورت — دافعةً برذاذٍ من الماء البارد ينهمر على السطح المكشوف وكأنه طلقاتُ بنادق صيد الطيور.
من غير المُجدي الآن التفكير في إحراز أي تقدم. نُشغِّل المحرِّك ببطءٍ في اتجاه الدفع إلى الأمام لتجنُّب أن تجرفنا الرياح فتجعلنا نتقهقر في مسارنا. أُدير الدَّفة في مواجهة الرياح، وبفِعل قوة دفع المروحة والقوة الموازنة التي يبذلها الشراع المُتبقي، تجثم سَكُّونتنا الصغيرة (مركبنا الشراعي المُتعدِّد الصواري) مثل بطةٍ غواصة، تعلو وتهبط في قوسٍ يمتدُّ مسافة ٣٠ قدمًا، وبدأ الموج يرتفع في مواجهة عَرْض السفينة (أقصى اتساع لها) مباشرة. وفي ضوء السماء الخافت يتحوَّل لون المياه من الأسود إلى الرمادي، تتخلَّله خطوط بيضاء خَطَّتها العاصفة. درجة حرارة الهواء ٣٨ درجة فهرنهايت (٣ درجات مئوية)، أبرد قليلًا من مياه البحر. تعوي الرياح. يصعُب أن تُبقي عينَيك مفتوحتَين، وأتمنَّى لو كان معي قناع غوص.
يزداد البحر اضطرابًا مع انعكاس اتجاه الرياح، وتشبُّ أمواج خضراء عالية فوق سطح السفينة وتنزلِق من تحتنا ويتماوج المركب. تسحبنا الموجة إلى قاعها. وترتفع الموجة التالية عموديًّا من جانبنا، كما لو كانت لوحًا زجاجيًّا في معرض للأحياء المائية. أنظر فيها فألمح أشكالًا داكنة مُفاجئة تتحرك من ورائها؛ إنه قطيع من الحيتان الملَّاحة، ثدييات فاحمة السواد يزن الواحد منها طِنَّين، تسبح نحوي على مستوى النظر مباشرة. أنحني لأتفاداها. يرتفع المركب إلى قمة الموجة وتقفز الحيتان مخترقةً السطح في الموضع الذي كنَّا فيه للتو، كما لو أنها تؤدي استعراضًا في مُتنزَّه «سي وورلد» للحياة البحرية. تتحرك في الهواء في تناغُم لتُشكِّل قوسًا بهيجًا، ثم تختفي أسفل مؤخرة المركب.
حان وقت احتساء القهوة. سطح المركب مُطوَّق بحبال السلامة على غرار حلبات المصارعة، لإبعاد الناس عن السياج. أثِب إلى الأمام نحو فتحة مطبخ السفينة، وأُزامِن حركتي بحيث أدلِف إليه بأقصى درجات الرشاقة المُمكنة. في الأسفل يسود هدوء مُذهل. أفراد الطاقم نائمون في أسرَّتهم، متوسِّدين تروسًا احتياطية. يجلس شخصٌ واحد إلى طاولة المقصورة، يتناول قالبًا من شوكولاتة سنيكرز متأملًا شاخصًا ببصرِه في الفراغ. إنه بوب طبيبُ السفينة، وهو طبيب أسرة شِبه متقاعد ومحبوب للغاية، من المدينة الساحلية الصغيرة التي أعيش فيها في ولاية ماين. يُشبه بعض الشيء المُمثل بيرت لانكستر. وقد علمتُ أنه كان ضابطًا على متن زورق دورية طوربيدي في المُحيط الهادئ قبل الْتحاقه بكلية الطب، ومنذ ذلك الحين افتقدَ ركوب البحر معظم حياته. وقد تلقيتُ تعليماتٍ صارمةً بشأن إعادته إلى الوطن على قيد الحياة.
أجد كوبًا نظيفًا وأملؤه من التُّرمس، وأتوقف قليلًا لأتساءل كيف أقحمتُ نفسي في هذا الأمر. إنه سؤال جيد. البحَّارة المُحترفون يشبهون الطيارين التجاريين بعض الشيء؛ كلاهما عامل تشغيل مرخَّص في صناعة النقل، يحمل أوراق اعتمادٍ حصدها بمزيج من الخبرة العملية واجتياز الاختبارات القياسية. غير أن الملاحة البحرية في عصر الطائرات النفاثة تُعَد مسارًا مِهنيًّا أقل شيوعًا ووضوحًا، خاصةً لدى الأمريكيين. ترك معظم أصدقائي في الكلية المهنة للعمل في القانون، أو الطب، أو الأوساط الأكاديمية. ولأني غير مُهتم بمثل هذه الأمور، ما زلتُ أُبحر حتى باتت الهواية مهنة، وها أنا الآن مسئول عن سفينة خشبية قديمة و١٦ نَفْسًا، بينما يضربنا المطر البارد من الجانب ويرتفع الموج من حولنا مثل جبال رمادية شامخة.
اتضح أنه لا يوجد شيء يجعلك تهتم بالطقس كالعمل على متن سفينة شراعية. لا تحتاج السفن ذات المُحركات إلى الرياح لتُحركها إلى حيث تريد، رغم ذلك تُدرك طواقمها أن ظروف الطقس القاسية من شأنها أن تفسد خُططهم. أما لمَن يفضلون وسائل النقل الشراعي الأكثر شاعرية، فالطقس هو كلُّ شيء. أن تفهم الطقس يعني أن تنجح في الوصول إلى وجهتك وتعرف متى ينبغي ألا تُحاول بلوغها. وعلى الأقل تُضفي تلك المعرفة بُعدًا من الوضوح على الأيام البائسة التي تقضيها وسط ظروف الطقس القاسية التي لا يسعك فعل أي شيءٍ حيالها.
تُحرِّك حفنةٌ من المبادئ العلمية الأساسية ظروفَ الطقس، مهما بلغت من التعقيد؛ فالغِلاف الجوي هو خليط من الغازات التي تتعرَّض للتسخين بمعدلاتٍ مختلفة بفِعل الإشعاع الشمسي، وهو محكوم بالقوانين الفيزيائية التي تُنظم العَلاقة بين الضغط والحرارة. والطقس ما هو إلا حركة الغِلاف الجوي، في دورة ثلاثية الأبعاد، تُوازِن الاختلالات عن طريق إعادة توزيع الطاقة في جميع أنحاء الكرة الأرضية. يدور هذا الخليط بفِعل الزخم الدوراني لكوكب الأرض ويقترِن بدورة المياه التي تُدوِّر باستمرار الحرارة والرطوبة في أرجائه. يفهم العلماء ذلك كلَّه من الناحية الوصفية منذ وقتٍ طويل، غير أننا لم نتمكَّن من رصد عمليات الغِلاف الجوي آنيًّا إلا في عصر جمع البيانات الحديث، عصر الطائرات، والأقمار الصناعية، والحواسيب العملاقة.
عند وضع خطة رحلة السفينة، تُكتب في أعلى كل صفحةٍ منها الأحوالُ المتوقَّعة للرياح والبحار. تتغير الأحوال، وتُكيَّف عليها الخطة. تعتمد إدارة العمليات اليومية على متن السفن على جمع المعلومات ومعالجتها باستمرار. ماذا نرى؟ ماذا يقول خبراء الأرصاد الجوية؟ ماذا حدث في الرحلة الأخيرة؟ تراكم الخبرات هو ما يُحوِّل المبتدِئين إلى خبراء. يروي البحارة حكاياتٍ عن الطقس على سبيل التسلية، غير أن حكاياتهم هذه تخدم في نهاية المطاف غرضًا أسمى، وهو زيادة المعرفة المتراكمة، وتعزيز الفهم المشترك لبيئةٍ معقدة وخطيرة.
وكحال الطيارين، وعمال بناء الأسطح، ومُتسلِّقي الجبال، عادة ما يكون البحَّارة مهووسين بالطقس، ومشغولين به باعتباره أحد الأشياء التي يضعونها في حسبانهم يوميًّا. أدرس الطقس منذ المدرسة الثانوية، غير أني حينما أسترجع ذكرياتي أجد أن هذه العاصفة تحديدًا كانت لحظةً فارقة في عَلاقتي به؛ نقطة تحوُّل جعلتني أُدرك التشابكَ التامَّ بين مِهنتي وذلك النظام الدائم التقلُّب بطبيعته. خبرتي به تستند إلى عَلاقتي معه أكثر ممَّا تستند إلى دراستي له، طوال مسيرتي المِهنية أحاول حلَّه مثل مكعب روبيك؛ يُمثل أحد جوانبه خُطتي بينما تمثل الجوانب الخمسة الأخرى أحوال البحر والغِلاف الجوي الدائمة التقلب.
•••
بالأسفل في المقصورة، أرفع ألواح الأرضية وأنظر تحتها لأرى ما إذا كنَّا نغرَق. أعلم أن تلك مهمة شخصٍ آخر من أفراد الطاقم، ولكن عندما يضرب الطقس العاصف، لا يسع قبطانَ أي سفينة خشبية إلا أن يستحضِر في ذهنه القطع الخشبية المتلاصقة المكوِّنة لهيكل سفينته، وأن يتفقد جَمَّتها لا إراديًّا. كلَّا، نحن لا نغرَق. يتبادر إلى ذهني أن مركبنا مُصمم لتحمُّل هذا القدْر من الأحوال القاسية وإن لم نكن نحن كذلك. تلك هي الرحلة الثامنة والعشرون لسفينتنا «بودوين» إلى جرينلاند، وهي سفينة صغيرة متينة، بُنيَت لاستكشاف القطب الشمالي قديمًا عندما كان معظمه لا يزال مساحةً شاسعة غير مستكشفة من الصخور والجليد. كان الرجال يصطادون في منطقة جراند بانكس على مدار العام في سفنٍ تُشبه إلى حَدٍّ كبير هذه السفينة، مُصمَّمة لتحمُّل معظم التحديات التي يمكن أن تواجهها طواقمها. ليس ثمة ما يمكن فعله في هذه الأحوال سوى الانتظار وتحمُّل المَلل، والأمل في عدم مواجهة أية أهوال في تلك الأثناء. نُبقي أفرادًا للمُراقبة على سطح السفينة. ونتفحَّص جَمَّتها. يتناوب معظم أفراد الطاقم على نوم القيلولة. وفي وقتٍ متأخر من عصر ذلك اليوم يأتي أحدُهم ويصحبني إلى غرفة الخرائط.
يقول: «الطقس يخفِّف من حدَّته.»
في صباح اليوم التالي لم يبقَ من أثر العاصفة شيء، وسطعت الشمس وهدأ اضطرابُ البحر وإن لم يسكن الموج تمامًا. ترتفع قراءة البارومتر من أدنى درجاتها وتتسارع وتيرة ارتفاعها مع سكون الريح. يُشكِّل الطريق من مقاطعة نيوفاوندلاند إلى جزيرة جرينلاند خطًّا مستقيمًا طوله ألف ميل، يمتدُّ شمالًا عبر مساحةٍ من المحيط غير مراقبة جيدًا. كنَّا قد حصلنا على معلوماتٍ قليلة عن الطقس من بثٍّ إذاعي مُشوَّش، ومعلوماتٍ أخرى من خرائط غير دقيقة، ولكنَّنا في الغالب كنا نكتشف حالة الطقس بأنفسنا. لم نتفاجأ كثيرًا بالعاصفة، لكن استجابتنا لم تكن مدروسة بقدر ما كانت مُرتجلة. أفتقدُ الطقطقة الثابتة والباعثة على الراحة في خلفية نشرات الطقس التي تبثُّها الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي عبر الراديو في أرض الوطن.
يظلُّ الطقس هادئًا تقريبًا حتى نرى اليابسة بعد يومَين، عندما يلوح لنا أفقُ جرينلاند في الشرق، مثل جدار من الجبال السوداء، تتخلَّل الفجواتِ بينها أنهارٌ جليدية هابطة وسُحبٌ رمادية مُتدفِّقة. تتحرك شمس القطب الشمالي جانبًا عبر السماء، ثم تبزُغ عند الفجر من خلف القِمَم فيسطع نورها فجأة كما يسطع نور التَّنُّور لحظة فتح بابه. نصطفُّ جميعًا لنُحدِّق في المنظر مُرتدِين مآزرنا السميكة العازلة. عبر باب غرفة الخرائط المفتوح يأتينا صوتُ الراديو وقد دبَّت فيه الحياة. لقد التقط بثًّا محليًّا لأخبار الطقس!
بثٌّ باللغة الدَّنْماركية.