سجل السفينة
يأتيني حيث أقف صوت ساعة السفينة وقد بدأت تدق. دقَّات متكررة رنانة، دقة لكل نصف ساعة مرَّت منذ بدأت المناوبة. وعندما يتلاشى صوتُ الدقات تظهر الضابطة البحرية الثانية على السَّطح الخلفي للسفينة ومعها لوح كتابة وقلَم رَصاص، وتستأذن في تجاوزي وتقِف في مواجهة الرياح، مُحدِّقةً في الفراغ أمامها. ثم ترفع بصرَها إلى السماء، وتدور حول نفسها دورةً غير مُكتملة بتوازُنٍ حدسي كالراقصات، وتضع بضع علاماتٍ على ورقة ذات سطور مربعة. وفي طريق عودتها إلى غرفة الخرائط، تنظر إلى البوصلة وتفتح غطاء صندوقٍ ضيق بجوار السُّلَّم. قد يتساءل المرء: أهو بيت للطيور؟ لكنه في الواقع يحتوي مقياس درجة حرارة. تختفي عن ناظري، لكني أسمعُ بعد لحظةٍ صوتَ قرْعٍ آخر، أغلظ من صوت دقات الساعة، إنها تنقُر بطرَف قلمِها إطار البارومتر.
تأتي هَبَّة رياح فتميل السفينة قليلًا، ويُدير قائد الدفة عجلة القيادة نصف دورة لضبطها. لا ينبِس أحد ببنت شَفة. يتساقط مطر خفيف كأنما هو قادم من كلِّ الاتجاهات في آنٍ واحد فيشوِّش الضوء، يبدو أقرب إلى رذاذ مِرَشَّةٍ منه إلى مطر حقيقي. تتبخَّر فوقنا السحب التي تُشبه شِلَّات الخيط المفكوكة في اتجاه الرياح، ويسطع من خلفها شعاع من ضوء الشمس يسقط على صفحة البحر كضوءِ كشَّافٍ يتحرك ببطء. تعود الضابطة الآن. إنها تحمل كوبًا من الشاي بين يدَيها اللتَين يُغطيهما قُفَّاز، وتضع القلَم خلف أُذنها، وتنظر إليَّ في عينيَّ مُستفهمةً وهي تُميل رأسها بمقدار خمس درجات.
أقولُ لها: «لا أظنُّ أننا بحاجةٍ إلى إجراء تغييراتٍ في الأشرعة الآن. هذه الأمطار ليست إلا بقايا الهبَّات التي ضربتنا قبل الإفطار. نحن على الأرجح على ما يُرام حتى لو اشتدَّت الرياح قليلًا. يُسعدني مراقبة الوضع هنا إذا كنتِ تُريدين النزول وإكمال إفطاركِ.»
إنه مجرد صباح عادي قُبالة ساحل نيوزيلندا، حيث يمكن أن تُختبر فصول العام الأربعة في ساعة واحدة. بعد دقائق قليلة، صرتُ أنا وقائد الدفة وحدَنا مرةً أخرى، وأتاني حفيفُ صفحاتِ سجلِّ السفينة أثناء إتمام تدوين البيانات التي تُسجَّل فيه كلَّ ساعة. هنا، شمال مدينة أوكلاند، تُشكِّل سلسلة من الجزر البحرية خليج هوراكي، وهو مساحة من المياه المُحاطة جزئيًّا باليابسة تمتدُّ مسافة أربعين ميلًا تقريبًا قبل أن تنتهي في المحيط المفتوح، وعند نقطة التحوُّل هذه دائمًا ما تتكوَّن سلسلة من الأمواج المُمتدة القادمة من المحيط الهادئ، والتي تُعَد مؤشرًا على تقلُّبات جوية بعيدة حتى عندما يكون الطقس معتدلًا حيث نحن. اليوم يُرسل إعصار حلزوني استوائي، يهبُّ بالقُرب من ساموَا، أمواجًا انسيابية تُشبه الروابي، ارتفاعها متران باتجاهنا من الشمال الشرقي. يسقط عليها ضوءُ الشمس وترفع مؤخرة السفينة وهي تمرُّ بحركة هادئة وسَلِسة، لكنها تهزُّ المعَدَّات وتجعل من الصعب على بعضنا القراءة أو العمل بالأسفل.
على الجانب الغربي منَّا تمتدُّ في الأفق التلال المُسننة لشبه الجزيرة العُليا التابعة لنيوزيلندا. تُعرَف هذه المنطقة في اللغة المحلية الكِيوِية اختصارًا باسم «نورثلاند»، وهي على الأرجح أول قطعةٍ من اليابسة رآها الملاحون البولينيزيون عند وصولهم إلى المكان الذي سمَّوه فيما بعد «أوتياروا»، أي أرض السحابة البيضاء المُمتدة. وهو اسم على مُسمًّى، إذ كانت السحب الركامية التي بدأت تتكوَّن نتيجةً لصعود الهواء الرطب لأعلى كما تقتضي طبيعة التضاريس، تُكلِّل التلال هذا الصباح في صفوفٍ متقطعة. وبحلول عصر هذا اليوم كان تكوُّنها قد اكتمل، فصارت تُشكل ستارًا يمتدُّ على مرمى البصر. في خطوط العرض الوسطى الدافئة هذه، تلتقي تياراتُ المياه الاستوائية الدافئة المُتعرِّجة العميقة بتياراتٍ أبرد قادمة من الجنوب، غنية بالمُغذيات التي ارتفعت إلى السطح، والتي تُغذي مجموعاتٍ لا حصر لها من الطحالب البحرية الغنية بالزيوت، مثل ثمار أفوكادو صغيرة أو قطرات صغيرة من دُهن لحم الخنزير المُقدَّد. تقوم شبكة غذائية كاملة على هذه الطحالب الدهنية. تتجمَّع الطيور البحرية فوق أسراب الأسماك الصغيرة التي تقتات على تلك الطحالب، بينما تأتي أسماك القرش في الليل لتقتات على الحبَّار في المساحة التي تُضيئها أنوارُ سفينتنا.
بحلول الظهيرة يُصبح الجوُّ معتدلًا وجافًّا وشاعريًّا. ذلك أحد الأطوار العديدة التي تتبدَّل على المحيط في فصل الصيف، والتي تُكوِّنها المرتفعات الجوية الواسعة النطاق التي تتقدَّم ببطءٍ من الغرب عبر كتلة اليابسة لنيوزيلندا. يكون الطقس بديعًا في المناطق المُتأثرة بها، حتى إنه يُذَكِّر المرء بطقس جنوب كاليفورنيا. قد يتذكَّر المرء جنوب كاليفورنيا أيضًا حين يُفكر في مثالب الطقس الذي يظلُّ مشمسًا لفترةٍ أطول من اللازم. في صيف نصف الكرة الأرضية الجنوبي لعام ٢٠٢٠، يشهد شمال نيوزيلندا موجةَ جفافٍ تستمرُّ أربعين يومًا. على بُعد ألف ميل غربًا عبر بحر تَسْمان تعاني أستراليا من حرائق غاباتٍ مروِّعة، حيث جفَّت الأرض بسبب تتابُع الأيام المُشمسة لمدة طويلة. لم تَطُل الحرائق أوتياروا حتى الآن، ولكنها تُعاني من الجفاف الشديد الذي نراه بوضوح، حتى من حيث نحن الآن في البحر؛ إذ جفَّ العشب الأخضر واصفرَّ لونه.
ستحلُّ الأمطار في نهاية المطاف، سواءٌ من الشمال في كتلةٍ من الهواء الاستوائي الرطب أو من الجنوب نتيجةَ تكوُّن جبهةٍ هوائية باردة شتوية مباغتة، وهي دفقة من الهواء البارد القادم من خطوط العرْض الجنوبية العُليا. تهبُّ جنوب نيوزيلندا رياحٌ غربية ثابتة تتحرَّك في أرجاء الكرة الأرضية دون أن يعترِض طريقها شيء، ثم تصطدم بوسط أستراليا فتُحدِث كتلًا هوائية تتحرك حركةً متماوِجة نحو الشمال الشرقي، في اتجاهٍ شِبه متعامِد على الكتلة الجبلية المُمتدة للجزيرة الجنوبية. ومن ثَمَّ، تضرب المنطقة بسياطٍ من البرد القارس شِبه القطبي. يبلغ ارتفاع الجبال هنا ميلَين، وهي بمثابة سندان تُطرَق عليه الرياح فيُطوِّعها؛ إذ تدفع الهواء البارد إلى الأعلى ليُكوِّن أستارًا من الأمطار أثناء تقدُّم الرياح. تُشبه صور الأقمار الصناعية لتلك الظواهر ضرباتِ مِكنسة عملاقة؛ إذ تبدو مثل خطوطٍ من الغبار المحمول جوًّا تمتدُّ على نطاقٍ قاري. تقع مُدن النبيذ والصوف مثل بلينهايم ونابير في ملاذٍ مشمس شرق السلاسل الجبلية، بينما يشهد الغرب هطول أمطار واسع النطاق. في ديسمبر عام ٢٠١٩، تقطَّعت السبل بالسياح في مُتنزَّه فيوردلاند الوطني عندما ارتفعت الأمطار لبضعة أقدام فَسَدَّت الطرق الواقعة أسفل الأنهار الفائضة وسفوح التلال المنهارة. لقد كان حدثًا مناخيًّا مُتطرفًا، لكنه ليس خارجًا عن المألوف في تلك المنطقة.
من البحر، تبدو هذه الجبهات الباردة مثل كتلةٍ من السُّحب المقوَّسة، مثل موجةٍ في صورة فوتوغرافية لراكب أمواج. قبل وصول الجبهة، تكون الرياح شمالية — ومن ثَمَّ دافئة — ثم فجأة لا تُصبح كذلك. تمر الغيوم المقوَّسة من فوق رءوسنا، وقد يسود سكون مؤقَّت، ثم يأتي الهواء بسرعةٍ كبيرة من مكانٍ ما، أبرد وأشد. تُخبر شبكة من محطات الراديو الساحلية البحارة بتطوُّرات هذه الجدران المُتقدمة من الرياح أولًا بأول كي لا يواجهوا متاعب بسبب نَصبهم للشراع العلوي، أو أي متاعب أخرى لا يحسُبون حسابها. لقد أمضيتُ ثلاثة عقود أو أقل في الإبحار، لكن تظلُّ الرحلة إلى نيوزيلندا، حتى في صيفها الاعتباري، تُشعرني بإحساس الاختبار النهائي.
كما هو مُتوقَّع تبدأ النشرات الجوية الصباحية لليوم التالي تُحذِّر من العواصف. نبدأ في العمل على تأمين السفينة؛ السماء الآن مُخضَّبة بلَون كهرماني وتكسوها طبقة رقيقة من السحب، وتبدو الشمس مُحاطةً بهَالة. يواصل طائر نَوءٍ وحيدٌ الطيرانَ إلى جانبنا وهو لا يكاد يُرفرف بجناحَيه. عندما تشتدُّ الرياح سيمتلئ الهواء بالطيور التي سترتفع من سطح الماء لتستغلَّ تلك الدفقة المجَّانية المفاجئة من قوة الدفع. تركب الطيورُ الرياحَ، وتمرُّ من جانبنا مسرعةً على مستوى النظر كما لو كانت تؤكد لنا سيادتها. تحت سطح الماء ثمة أشياء لا يمكن رؤيتها إلا عندما يكون البحر هادئًا؛ دلافين، وحيتان تقتات بالقُرب من السطح، وقروش، وأسماك المُولا التي تُسمى أيضًا شمس المحيط، وهي أسماك ضخمة بحجم غطاء مُحرك سيارة. ظهرت ذات مرة سُلَحْفاة عملاقة جلدية الظهر، بعرض أربعة أقدام وزعانف مُثلثة طويلة وجفون مُتدلِّية كجفون الديناصورات. لقد رأيتُ فراخها على شاطئ في المِكسيك تتسابق نحو الأمواج، لها الهيئة نفسها ولكنها بحجم عملاتٍ فضية. ولعلَّها هذه الأشياء التي تجعل من الصعب على المرء استعادة عَلاقته بالحياة على الشاطئ. هذه الأشياء موجودة هنا طوال الوقت، لكن الأمواج تواريها.
يسأل أحدهم: «لماذا يُطلَق على هذا المكان اسم خليج الوفرة «بلِنتي»؟»
لا أتذكر تحديدًا، بخلاف أن الكابتن جيمس كوك قد أسماه في رحلته الأولى إلى نيوزيلندا، أو بالأحرى، وضع اسمًا لمكانٍ كان له حتمًا اسم آخر، أطلقه عليه السكان الأصليون. لقد جاء شعب الماوري نفسه إلى المكان بحرًا قبل خمسمائة عام، ناقِلين عائلاتهم وأمتعتهم في زوارق الواكا المزدوجة البدن من أماكن أخرى في أرخبيل بولينيزيا المُترامي الأطراف. كانت نيوزيلندا هي آخِر مكان أبحروا إليه بأعدادٍ كبيرة، وهي آخِر كتلة يابسة شاسعة على الأرض يستوطنها البشر. تُشير القصص التقليدية إلى أنهم نزلوا في مكانٍ ليس ببعيد عن موقعنا الحالي، بالقُرب من مدينة تاورانجا الحالية. يسهل تخيُّل المشهد؛ الزوارق المطروحة على الشاطئ بعد رحلةٍ طويلة ومُرعبة، تُمسك بها أوتيروا (نيوزيلاندا في اللغة الماورية) بين إبهامها العريض وسبابتها (هكذا تبدو نيوزيلاندا على الخريطة). يحمل سكان الجزيرة متاعهم إلى الشاطئ، من أدواتٍ، وثمار جوز الهند، ومجموعة من الحيوانات التي أتمَّت الرحلة على قيد الحياة. وعلى الشاطئ يجدون أشجارًا يبلُغ ارتفاعها مائتَي قدم، بالإضافة إلى طيورٍ لا تطير بحجم الألْبَكة ونسر كبير بما يكفي لاصطيادها. ويُعَدُّ هذا الجزء من الحكاية الأصعب في تخيله.
•••
يتغير الطقس في وقتٍ متأخر من بعد الظهيرة، فتتحرك رقعة مُظلمة من التموُّجات عبر المياه المنبسطة، حيث الخط المُستعرَض بين كتلتَين جويَّتَين كبيرتَين. السحب فوق رءوسنا عبارة عن كُتَل متدحرِجة أنبوبية طويلة، يتبعها شلالٌ من المطر يُشبه البخار. وفجأة يصبح الطقس أشدَّ برودة. نُقَصِّر أشرعتنا القليلة التي ما زالت مرفوعة ونُحافظ على اتجاه الرياح إلى المَيمنة، ونُسارع إلى إغلاق فتحاتِ سطح السفينة كي لا يصِل المطر إلينا. ويُطوى ذلك الصيف الخامل فجأةً في غياهب النسيان.
في غضون ساعة تهبُّ علينا عاصفةٌ — كما هو مُتوقَّع — بقوة ٤٥ عقدة قادمة من الجنوب، والبحر يرتفع إلى أكماتٍ زرقاء رمادية تعلوها أكوام رغوية هابطة. وكما حدث قبل فترةٍ طويلة في ملحمتي بالقطب الشمالي، نُبقي السفينة في حالة توقُّفٍ تامٍّ في عين الرياح، وهو أحد الخيارات القليلة المتاحة للسفن من أجل التغلُّب على الأحوال الجوية المُتطرفة في البحر. قد يعني التوقُّف، ببساطة، الانجراف، غير أن ثمةَ تقنيةً أدقَّ يمكن للسفن الشراعية اتباعها، وهي تحقيق التوازن بين الشراع والدفة للحفاظ على توقف السفينة بمَيلٍ أمام الأحوال الجوية المُتطرفة، فتعلو وتهبط مثل قطعة الفِلِّين بينما يكون كل شيءٍ مُضطربًا حولها. مع توفر مساحة كافية، يمكن للسفينة أن تربض في أمانٍ في هذا الوضع لبعض الوقت. فالسلامة لا تعني بالضرورة الراحة، والرحلة لا تزال مُرهقة، مثلها مثل قيادة مركبة نوابضها تالِفة في طرُق وعرة لعدة أيام على التوالي. الريح تعوي. لا يمكن فتح الأبواب إذ تنغلِق تلقائيًّا بعُنف، مدفوعةً بالرياح أو بقوة التدحرُج المفاجئ للسفينة. تضرب شلَّالاتٌ من المطر مياهَ البحر بغيرِ انقطاع، وتُصدر صفيرًا عبر الفتحات الموجودة بين هياكل سطح السفينة. أيُّ شيءٍ كان يبدو آمنًا في يومٍ من الأيام أصبح واهنًا فجأة، كما أن مجرد التفكير في الأخطاء المُحتمَلة أمرٌ مُرهق في حَدِّ ذاته.
بعد حلول الظلام نسمح للقليل فقط من أفراد الطاقم بالبقاء على سطح السفينة في كلِّ مرةٍ للمناوبة، في عالَم صاخب حالك تُحوِّل فيه حبال سَحْب الأشرعة المُهتزة أضواءَ قمة الصاري إلى ومضاتٍ خَفَّاقة. هذه الأحوال، حتى الآن، طقس سيئ من النوع المُعتاد، النوع الذي يُتَوَقَّع معه لسفينةٍ مثل سفينتنا أن تُبحِر دون مشاكل إذا سارت الأمور على ما يُرام وتوخَّينا الحذَر. يتناوب أفرادُ الطاقم القيام بجولاتٍ في السفينة في حركاتٍ سريعة كسرطاناتِ البحر للتأكُّد من سلامة كلِّ شيءٍ وللتعامُل مع أية مشكلة قد تطرأ. كأن ينحلَّ أحدُ الحبال ويُصبح عرضةً للانزلاق من فوق السفينة والالتفاف حول المروحة دون أن يلاحِظه أحد، أو أن يُترَك جالون من زيت السَّلَطة دون غلقه جيدًا على رفِّ المؤن، ويُصبح عرضةً للسقوط من أعلى وتحويل الغرفة بأكملها إلى ساحة تزلُّج مُميتة (وهو حادثٌ لا يقلُّ فظاعةً عن الأول). يتوق أصدقائي في موطني إلى سماع قصص البحر، غير أن حكايات الأحوال الجوية المُتطرِّفة لا تتضمَّن في معظمها سوى النَّزْر اليسير من القُدرة على التحمُّل، مع قَدْر لا بأس به من البؤس، ويقظة مُضطربة دائمة تحسبًا لأية حوادث متعاقبة.
بدلًا من الانجراف ببطءٍ مع التيار، يمكن أيضًا لطواقم السفن التي ترغب في إحكام قبضتها على الدفَّة أن تسبق الطقس السيئ؛ بحيث تُصبح الرياح خلفها، فتقلُّ شدة الرياح الظاهرية بسبب سرعة السفينة نفسها، ومن ثَمَّ يقلُّ العبء عن أفراد الطاقم والسفينة كذلك. لهذه التقنية عيوبها، وأهمُّها ما يُسمى «الاستدارة المفاجئة نحو الريح» حيث تنزلق السفينة وتتباطأ وتتجاوزها الموجة التالية. يؤدي ذلك في بعض الأحيان إلى الإطاحة بقائدَي الدفَّة من فوق ظهر السفينة، أو انخلاع المعَدَّات عن سطح السفينة وسقوطها في البحر بينما تتدفَّق المياه عبر فتحاتٍ غير مُؤمَّنة. كانت السفن الشراعية في الماضي تحمِل شحناتٍ من الحبوب في جنوب أستراليا متجهةً نحو كيب هورن، حيث تدفعها عواصف المُحيط الجنوبي المستمرة. وكانت الأمواج تجتاح تلك السفن في بعض الأحيان، وتنتزع مقصوراتِ سطحها، مما يدفع الضباط الناجين وأي ركَّاب آخرين سيِّئي الحظ للإقامة ما تبقَّى من الرحلة وسط البحارة العادِيِّين.
إننا في هذه الرحلة مُتجهون جنوبًا إلى ميناء ويلينجتون، ثم إلى كرايستشيرش، حيث من المُقرر أن يتسلَّم طاقم جديد العمل على متن السفينة ويُبحر بها عائدًا إلى تاهيتي. في رحلة مُماثلة قبل عام واحد، عَلِقَت هذه السفينة في عاصفةٍ سرعان ما اشتدَّت لتُصبح بقوة إعصار، في هبوبٍ مفاجئ مُجمِّد للأوصال جعلَ السفينة، بعد أن كانت طافيةً مُستقرة، تكاد تغوص تحت الماء. عرَفنا لاحقًا أن هذا كان على الأرجح «تيارًا نفَّاثًا لاذعًا»، وهي ظاهرة مُصاحبة لنوعٍ من العواصف يعرفه خبراءُ الأرصاد الجوية بالإعصار الحلزوني التراجُعي. ولكن هيهات أن يكون لمِثل هذه التفاصيل الرائعة معنًى في تلك اللحظة. هرعَ الطاقم لإنزال جميع الأشرعة بينما أمسكَ القبطان — الذي كان شابًّا يُدعى جاي أمستر — بعجلة القيادة بنفسه ليضع السفينة أمام الريح في أسرع وقتٍ مُمكن. ولخوفه من أن يعهد إلى أي شخصٍ آخر بالمهمة، تولَّى قيادةَ الدفة بمُفرده لمدة ست ساعاتٍ حتى تراجعت سرعة الرياح إلى ٤٠ عقدة فقط. بعد عدة أشهر سمعتُه يروي قصته لمجموعة من خبراء الأرصاد الجوية في مؤتمرٍ للطقس، كان حدثًا مثاليًّا للقائه بأصحاب الاهتمام الأكبر بقصَّته. عَمَّ التلهُّف أرجاءَ الغرفة، حيث كانت جماعة من العلماء المُتأنِّقين من جميع أنحاء العالم يحظَون بما يمكن أن يكون أول رؤيةٍ لهم للعاصفة بعينَي بحَّار، وقد انتُزعَت من خريطة الطقس وتحوَّلت إلى تجرِبة حيَّة. هذه هي الأشياء التي تُبقينا مُستيقِظين في أَسِرَّتنا ليلًا، ليست توقعات الأرصاد، بل توقُّع ما هو غير مُتوقَّع.
•••
خلال كل حدث من أحداث الطقس، سواء أكان عاصفًا أو شاعريًّا، سيخرج شخصٌ ما في كل ساعةٍ من غرفة الخرائط لتدوين المقاييس الخاصة بجميع الأحوال المحيطة. فالتاريخ، والوقت، والرياح، والأمواج، والضغط، ودرجة الحرارة، ونِسبة التغيُّم، جميعها مُحدَّدة على شبكةٍ مُنَسَّقة بقلم حبر على هيئة خطوطٍ بيانية مُتذبذبة. يدوِّن البحَّار كل شيء، مدفوعًا برغبته الشديدة في الحصول على المعلومات، في طقوسٍ ربما تعود إلى الوقت الذي أبحر فيه مصريٌّ مُغامرٌ لأول مرةٍ ومعه لوح طيني وقلَم مُستدق الطرف. تُدوَّن جميع البيانات بمقدارٍ متساوٍ من الدقة، سواء أكانت تُشير إلى عاصفة هوجاء أو صباح مشمس هادئ. استخدم البحارة هذه الطريقة عبر الزمن لتحويل المُحيط الفارغ إلى طريق للسفر والتجارة؛ إلى شيءٍ يمكن التنبؤ به، وإن لم يكن من المُمكن أبدًا معرفته معرفةً كاملة. انطلقَ ماجلان إلى المناطق الاستوائية واثقًا في أنه سيجِد رياحًا شرقيةً هناك؛ ذلك كلُّه لأن ملَّاحًا مِقدامًا آخر كان قد سبقَه إلى هناك ودوَّن ملاحظاته.
يُتيح الرصدُ المنهجي للطقس اكتسابَ الفهم الأساسي لما يحدُث وما يمكن توقع حدوثه. من أين تأتي الرياح؟ هل تتغيَّر في القوة أو الاتجاه؟ ما أحوال البحر؟ ماذا عن الغيوم؟ الغِلاف الجوي في تغيُّر مُستمر، ومعدل التغيير واتجاهه أمران في غاية الأهمية. يلاحظ البحَّار هذه الحقائق ويُجري توقعًا مدروسًا حول الكيفية التي سيُمضي بها يومه. كان هذا هو حال الرِّحلات البحرية لآلافِ السنين. لم نبدأ إلا منذ منتصف القرن العشرين — وهي الفترة التي ربما تُعادل نسبة اثنَين في المائة من عمر المِلاحة البحرية للبشر — في تكوين أية فكرة عن إمكانية الاستعانة بمُختصِّين في مجالٍ آخر لإمدادنا أولًا بأول بالمَشورة المفيدة حول الأحداث المتوقَّعة.
من دواعي سرورنا أن توقُّعات الطقس تُشكِّل حاليًّا الشطر الآخر من الشراكة بين البحارة وخبراء الأرصاد الجوية، الذين أنتجوا لنا عن بُعدٍ تلك الصور الرائعة التي لولا جهودهم لظلَّت ضبابية أمام حجم الطبيعة الهائل. وعلى الخرائط التي ترسُمها أجهزة الكمبيوتر ويُعدِّلها العلماء، تُوضَع توقعاتٌ بمَوقع مظاهر الطقس، ولكن دون تحديدها بدقَّة مطلقًا. ومن ثَمَّ، لا يتمكَّن البحَّار من تصوُّر الأحوال الكاملة التي ستُبحِر فيها سفينته إلا بعد مراقبةٍ دقيقة في مكان الحدث، مثلما هو الحال عندما تُوجِّهك لافتاتُ الشوارع على خريطة المدينة التي رسمَها شخصٌ بينك وبينه مسافاتٌ بعيدة. إذا شهدتَ إعصارًا حلزونيًّا في نصف الكرة الشمالي ورأيتَ أن الرياح قادمة من الجنوب، فإنك تكون على يقينٍ من أن الجبهة الباردة لم تمرَّ بعد بموقعك، بغضِّ النظر عما تُخبرك به أحدث خريطة للطقس.
يعمل هذا المبدأ عكسيًّا لمتوقعي الأرصاد الذين يعتمدون على القياسات البشرية للتأكد من أن نماذجهم تخبرهم بالحقيقة. فهناك تدفقات متواصلة من البيانات الصادرة من الأقمار الصناعية، وعوامات الطقس، ومناطيد الرصد الجوي، ولكن لا يوجد شيء أفضل من شخص يرسِل معلوماتٍ حية عن الضغط وسرعة الرياح في موقع مُحدَّد من قلب الحدث. «لا أحدَ غيرك يعرف الطقس في موقعك»، هكذا تُحذِّرنا رسالة نصِّية تُرسلها يوميًّا هيئة الأرصاد الجوية الوطنية. ومِن ثَم تُعِدُّ ضابطتنا البحرية الثانية، ويُعِد نوَّابها الكثيرون في ساعاتٍ مختلفة، عُدَّتهم بتسجيل كلِّ تفصيلةٍ تسجيلًا دقيقًا دءوبًا على غرار الكَتَبة وموظفي السجلَّات في روايات ديكنز. المُحيطات شاسعة والسفن قليلة، وهو ما يجعل البيانات المُستمدة من السفن هي الأقْيَم على الإطلاق، لدرجة أن مكاتب الأرصاد الجوية، التي عادةً ما تكون وكالات مجهولة ولا تتفاعل مع الآخرين، قد تنتهِج نهجَ مندوبي المَبيعات في إلحاحهم إذا ما أَدرجتَ سفينتك في قوائمها لمصادر البيانات المُحتمَلة.
عند وصولنا إلى ويلينجتون، يصعد وكيل هيئة الأرصاد الجوية النيوزيلندية على متن السفينة، دون دعوته صراحةً، للتحقُّق من دقَّة قراءة البارومتر ووبَّخَنا بشأن ندرة التقارير الواردة من السفينة منذ وصولنا إلى المياه النيوزيلندية.
قال: «لدَينا طقس جدير بالملاحظة هنا أيضًا، يا رفيق.»
ولم أستطع مجادلَتَه في هذا.
تنشر الإدارة الوطنية للمحيطات والغِلاف الجوي موجزًا شهريًّا بالبيانات الواردة إليها من كلِّ سفينةٍ إجمالًا في نظام تقاريرها الطوعي. يُذكِّرني هذا بالمدرسة الإعدادية، حيث كان المُعلِّمون ينشرون بيانات التقدُّم الذي نُحرزه أسبوعيًّا على السبورة ليراها الجميع، وهي أداة تحفيزٍ تقليدية، تُفعَّل من خلال مزيجٍ من الثناء والإذلال. يُحتفَى بروَّاد الإنجاز — «السفينة التجارية «جريبي أرو»: ٧٢٠ تقريرًا!» — ويشعر المُتباطئون بالخِزي المُستحَق — «سفينة الأبحاث «روبرت سي سيمانز»: ٢١ تقريرًا». ولكي نكون مُنصفِين، تجدُر الإشارة إلى أن السفن الكبيرة تتمتَّع بميزة إضافية، حيث إن كثيرًا منها مُزوَّد بمعَدَّاتٍ لجمع البيانات وإرسالها تلقائيًّا. بينما يكون على طواقم القوارب الصغيرة تدوين البيانات وإرسالها يدويًّا خلال فترةٍ زمنية مُحددة قبل كلِّ عملية تنبؤ، وهو الزمن الذي يُعرف باسم «الساعة الإحْداقِيَّة». تقتصر هذه المهمة حاليًّا على مجرد إرسال رسالةٍ نصية قصيرة عبر الأقمار الصناعية، في حين أنها كانت لسنواتٍ عديدة تتطلَّب سلسلةً طويلة من الرموز التي تُقرأ ببطءٍ عبر جهاز اللاسلكي، كما لو أن جاسوسًا يُرسِل تقاريرَه إلى موسكو خلال الحرب الباردة.
•••
١٩ يناير. عانَينا في هذا اليوم من عاصفة شديدة، أدَّت إلى تحويل البحر إلى رذاذ موج مُضطرب.
فهمتَ الفكرة. كان بوفورت مسَّاحًا بحريًّا موهوبًا، وهو رائد النظام الشهير لخرائط البحرية البريطانية الذي يظلُّ المعيار الذهبي للملَّاحين إلى يومِنا هذا. لكن إرثه الأشهر هو المقياس المعياري لسرعة الرياح الذي يحمِل اسمَه حاليًّا، وهو عبارة عن مصفوفةٍ مكوَّنة من اثنتي عشرة طبقة تربط حالة البحر وقوة الرياح معًا كقياسٍ مُشترك. ومثل معظم الابتكارات التاريخية العظيمة، فإن مقياس الرياح الذي يحمل اسم بوفورت هو تجميع لعدة ابتكاراتٍ أكثر من كونه ابتكارًا حقيقيًّا. ربما كان يمكن أن يُطلَق عليه بدلًا من ذلك اسم مقياس «سميتون-دالريمبل-بوفورت»، لو مُنِح بعضُ أسلافِه الأقل شهرةً قدرًا مساويًا من التقدير. أيًّا كان مَن يرجع له الفضل، فهو عمل عبقري حقًّا. فمن خلال ربط سرعة الرياح بالملاحظات المرئية لسطح البحر، يُمكِّن هذا المقياس البحَّارَ من إجراء قياساتٍ قابلة للتَّكرار دون الاستعانة بأية أدوات على الإطلاق، وفي حين تتضمَّن الإصدارات الأحدث منه حسابًا رقميًّا لسرعات الرياح لتتوافَق مع الدرجات الاثنتي عشرة الأصلية، فإن مقياس بوفورت في صميمه مقياسٌ «للقوة»، وليس فقط للسرعة.
سعى بوفورت، الذي كان هو نفسه قبطانًا، إلى شرح ما تفعله الريح بالمياه أثناء هبوبها، ومن ثَمَّ صاغ ما يُشبه دليلَ تشغيلٍ عالميًّا للسفن في البحار. تتجاوز نسختُه الأصلية نصائحَ القياس إلى تقديم المشورة المباشرة حول الأشرعة التي ينبغي أن تحمِلها السفينة مع تزايُد النسيم. عند القوة ستة، أي في منتصف المقياس بالضبط، تشرع الريح في التأثير بشدَّة على المياه، ويتمكن البحَّارة — منذ زمنٍ بوفورت — من الاسترشاد بتلك التأثيرات والحصول على توجيهاتٍ مُحددة، كأن يحصلوا مثلًا على تعليماتٍ بتقصير الأشرعة العلوية. في عام ١٨٣١، استغلَّ بوفورت نفوذه الجديد كمسَّاحٍ بحري في البحرية الملَكية لحث الكابتن روبرت فيتزروي، قبطان سفينة مسح تُسمى سفينة «البيجل» التابعة للملَكية البريطانية، على استخدام مقياسه المُميز. وبينما كان عالِم طبيعة شاب غريب الأطوار يُدعى داروين مُنكبًّا على يوميَّاته في مقصورته، أقدم فيتزروي على أول تطبيقٍ لطريقة الرصد الحديثة للطقس البحري. أمضى بوفورت الأعوام الستة التالية في إقناع قباطنة آخرين بفِعل الشيء نفسه حتى اعتمدت القواتُ البحرية المقياسَ رسميًّا لاستخدامه في جميع سفن البحرية الملَكية البريطانية. وما حدث منذ ذلك الحين معلومٌ في التاريخ.
تُقاس سرعة الريح في البحر ﺑ «العُقدة»، أو عدد الأميال البحرية في الساعة. يساوي الميل البحري ١٫١٥ ميل قانوني، أو ٦٠٨٠ قدمًا، وهي وحدة تساوي دقيقةً قوسية مَقِيسة على محيط الأرض. قوة بوفورت ٦ («نسيم قوي» تبلُغ سرعته حوالي ٢٥ عقدة) هي النقطة التي تبدأ عندها حالة الرياح والبحر عادةً في تشكيل تحدٍّ واضحٍ أمام القوارب الصغيرة. تتراوح سرعة القوة ٨، «عاصفة»، بين ٣٤ و٤٠ عقدة، وهي النقطة التي تبدأ عندَها توقُّعات الطقس البحرية في تضمين تحذيراتٍ مباشرة حول قوة الريح. من أمثلة هذه التحذيرات الناتجة عن قراءة مقياس بوفورت: «يجب إنزال الأشرعة العلوية المرتفعة»، أو بالطريقة الحديثة: «يجب توخِّي الحذَر الشديد أثناء الإبحار في الأحوال الجوية العاصفة وعدم الإبحار في تلك الأحوال إلا بالسفن البحرية المُجهَّزة جيدًا.»
يمكن تصور قوة الريح بحدود تقريبية باستخدام المعادلة القياسية للطاقة الحركية، والتي تُمثل (كما يعرف عشاق الرياضيات) دالة تربيعية أُسِّية:
- القوة ٦ : تلَف المظلات.
- القوة ٨ : تَبعثُر أثاث المقاهي في الشوارع، وعدم استطاعة المارة السير في خطوط مُستقيمة.
- القوة ١٠: تحذير بعدم الخروج من المنزل.
- القوة ١٢: الاتصال بالنجدة.
•••
تنقل الريح الطاقة إلى سطح البحر عن طريق السحب الديناميكي الهوائي، مُكوِّنةً الأمواج التي ترتفع بفِعل مجموعةٍ من العوامل المترابطة. وفي نهاية المطاف، يُصبح بإمكان الرياح الأقوى توليد أمواجٍ أكبر. من الأمور المُهمة أيضًا «المدة» (مدة هبوب الرياح) و«بُعد الموجة» (المسافة المُتصلة التي تنتقل عبرها الريح). تعكس الموانئ مفهوم بُعد الموجة لتوفير ملاذ؛ فقد تهبُّ فيها رياح شديدة، غير أن تأثيرها لا يكون كبيرًا على المياه عندما تهبُّ على مسافاتٍ قصيرة. من ناحية أخرى، فإن الريح التي تهبُّ دون عوائق على مساحاتٍ طويلة يمكن أن تؤدي إلى تكوُّن الأمواج بسرعةٍ كبيرة. فقد يؤدي هبوب ريح تبلُغ سرعتها ٤٠ عقدة على مسافة عشرة أميال من المياه إلى تكوُّن أمواجٍ ارتفاعُها سبعة أقدام، بينما إذا كان بُعد الموجة لامُتناهيًا (وهي الحالة التي تنطبق تمامًا على المُحيطات)، فيمكن أن يصِل الارتفاع إلى أربعة أمثال ذلك، ليبلغ ثمانيةً وعشرين قدمًا.
تُقاس الأمواج حسب الارتفاع، من القمة إلى القاع، و«الفترة»، وهي الزمن بالثواني بين قِمَم الأمواج المُتعاقبة. يُعطينا ضربُ قيمة فترة الموجة في ثلاثةٍ سرعةَ الموجة بالعُقَد، وهي حيلة يمكن لخبراء الأرصاد الجوية استخدامُها لمعرفة ما إذا كانت الأمواج ستستمرُّ في التكوُّن في بعض الحالات. لا تتكوَّن الأمواج إلا في وجود ريح. وبمجرد توقف الريح، تستمر الأمواج في شكل «تموُّجات»، وتحتفِظ بزخَمِها لمسافة قد تصل إلى آلاف الأميال. تنتقل الأمواج الأقوى لمسافاتٍ أبعد وتستمر لفتراتٍ أطول. يواظب راكبو الأمواج على الاستماع إلى البيانات الواردة من العوَّامات البحرية، ويُراقبون العلامات الدالة على وجود تموُّجاتٍ طويلة الأمد ستصِل إلى الشاطئ في صورة ارتداداتٍ هائلة.
تُشَكِّل حركة العواصف نفسها أحد العوامل المؤثرة الأخرى. فغالبًا ما ترتبط أنماط الطقس السريعة التغيُّر بالتحوُّلات السريعة في اتجاه الرياح، مما يعني أن الأمواج الناتجة عنها قد تكون أصغر ولكنها أكثر اضطرابًا — ومن ثَمَّ أكثر خطورة — مع تكوُّن تقاطُعات أمواج البحر. كذلك، يراقب خبراء الأرصاد بعنايةٍ حالات ما يُسمَّى «بالبُعد الموجي المتغير»، والتي تنشأ عندما تتزامن العاصفة في وتيرتها مع الأمواج التي تُكوِّنها، أي تستمر في هبوبها حتى تصل الأمواج إلى أقصى حجمٍ مُحتمل لها. يُوضَّح الارتباط التفصيلي بين سرعة الرياح وبُعدها الموجي ومدَّتها في رسمٍ بياني رائع يُسمى مُخطط «سفيردروب-مونك-بريتشنايدر» البياني للأمواج، الذي اشتُقَّ اسمُه من أسماء ثلاثة عمالقة في مجال علم المُحيطات في منتصف القرن العشرين. يحتوي هذا المُخطط البياني على الكثير من الخطوط، وهو ليس شيئًا يُمكنك الرجوع إليه سريعًا كل ساعة، غير أن العَلاقات التي يستعرِضها يسهُل تعميمُها؛ فعندما تهبُّ الرياح بقوة أكبر ولمدة أطول ولمسافة أبعد، تُصبح الأمواج أعلى وتكتسب سرعةً أكبر. في نهاية المطاف، فإن حجم الأمواج مُحدَّد بسرعتها. فعندما تتحرك الموجة بسرعة الرياح نفسها، لا يُمكنها أن تُصبح أكبر حجمًا.
من الشائع للغاية في البيئات البحرية أن تشهد عدة أنماط موجية دفعةً واحدة، حيث تختلط الأمواج التي تُكوِّنها الرياح المحلية مع التموُّجات المُتبقية من هبوبٍ سابق أو بعيدٍ للرياح. قد يصعب في كثير من الأحيان معرفة ما تراه على وجه التحديد. فقد تتجمَّع الموجات معًا في عملية تُسمَّى «التداخُل البنَّاء»، أو تُلغي إحداها الأخرى عن طريق «التداخُل الهدَّام». بعد التحولات المفاجئة للريح سرعان ما قد يُصبح نمط الأمواج عشوائيًّا. وبغضِّ النظر عن ذلك، فلا يشهد نمط الأمواج انتظامًا تامًّا على الإطلاق، وعادةً ما تُحدَّد ارتفاعات البحار بالقيمة المتوسطة للثلث الأطول من الأمواج. تُفضل بعض وكالات الأرصاد الجوية استخدام المصطلحات التصنيفية على القِيَم العددية، وقد أعجبتني كثيرًا الأوصاف البريطانية الطريفة بعض الشيء: «هادئ»، و«معتدل»، و«هائج»، و«هائج جدًّا»، و«مرتفع»، و«مرتفع جدًّا»، و… «استثنائي». ولكن نظرًا إلى معرفة خبراء الطقس بعيوب استخدام مصطلح «استثنائي»، يحاولون جاهِدين الإخطار بالحالات التي مِن المُرجَّح أن تنشأ فيها أحوال طقس مُتطرفة.
سيطفو القارب المُبحِر على موجةٍ في المياه العميقة ويهبط، مُتحركًا في مسارٍ يبدو في الواقع دائريًّا إذا نظرتَ إليه من أحد جانبَيه. ولكن عندما تصِل الأمواج إلى المياه الضحلة، يختلف الوضع تمامًا. ففي هذه الحالة يؤدي الاحتكاك مع القاع إلى إبطاء الجزء السُّفلي للموجة، مما يتسبَّب في انحدار وجه الموجة ثم انهياره في النهاية. يُمثل هذا تحوُّلًا حرِجًا، كاللحظة التي يتحوَّل فيها برميلٌ من البارود إلى انفجار. عندما تتكسَّر الأمواج، يتحرك الماء نفسه، بسرعة تتناسب مع سلسلة الأمواج الأصلية. يمكن أن يحدث تبديد الطاقة هذا ببطءٍ — عندما تتَّجه موجة نحو شاطئ مُنحدر قليلًا لأعلى — أو على حين غِرة — عندما يصطدم فجأة تموج محيطي طويل بوجه شعابٍ مَرجانية. يمكنك إيقاف سيارةٍ مسرعة عن طريق جعلِها تجري ببطءٍ صعودًا على تلٍّ أو بدفعها إلى جدارٍ من الطوب. الإبحار عبر الأمواج المُتكسرة أحد أخطر الأمور التي تُواجهها السفن وأكثرها تخصُّصًا على الإطلاق، وفي بعض الأحيان تكون بعض الممرَّات المائية — وأشهرها مدخل نهر كولومبيا بين واشنطن وأوريجون — مغلقةً تمامًا بسبب حركة الأمواج عند اقترابها منها. كما يمكن أن تتكسَّر أمواج المياه العميقة في بعض الحالات، خاصة أثناء التداخُل مع سلاسل أمواج أخرى. في هذه الحالة قد يكون الخطر الذي تتعرَّض له القوارب الصغيرة مُشابهًا لما يتعرَّض له راكب الأمواج الذي يتعثر داخل الأمواج، حيث يرتطِم بأطنانٍ من المياه المتعاقبة بسرعة كبيرة.
كثيرًا ما أُسأَل عن أكبر موجةٍ شهدتُها في حياتي. بعيدًا عن عالَم ركوب البحر، شاهدتُ ذات مرة حدثًا لركوب الأمواج في «تاهيتي»، وأفضل إجابة يُمكنني أن أقولها هي: إنني لستُ متأكدًا. اعتاد أي شخصٍ يمتهن ركوب البحر أن يرى على الأرجح أمواجًا يبلُغ ارتفاعها ٢٠ قدمًا، و٣٠ قدمًا في بعض الأحيان. ثمة عدد قليل من الوقائع في الماضي التي يمكن اعتبارها أمثلةً على المنافسة على لقَب أطول موجةٍ قِيسَت على الإطلاق، غير أنه من المتعارَف عليه بوجهٍ عام أن الأمواج التي يبلغ ارتفاعها ٦٠ قدمًا ليست أمرًا غير شائع في بعض المحيطات. كما يتدخَّل بعض الاختيار الطوعي في الأمر. تُخطط السفن الشراعية وغيرها من القوارب الصغيرة للمسارات التي ستسلُكها لتجنُّب الطقس المُتطرِّف حيثما أمكن. تتميز السفن التجارية الكبيرة بقوَّتها وقُدرتها على تحمُّل جميع الظروف باستثناء أسوأها، وبناءً على ذلك فإنها غالبًا ما تواصل الإبحار بغضِّ النظر عن الطقس، وتؤتي هذه الممارسة ثمارها المرجوَّة إلا لو أُسيء تقدير الأمور في أوقاتٍ لا تحتمِل ذلك.
أتاح برنامج تلفزيون الواقع «ديديليست كاتش»، عبر لقطاته الحية لصيادي سرطان البحر الألاسكيين أثناء عملهم في بحر بيرينج، للناس في غُرَف معيشتهم الآمنة مشاهدةً فريدة من نوعها للسفن المُبحِرة في أحوالٍ مروِّعة للغاية. ربما كانت في الواقع أكثر قصص الأمواج رُعبًا التي سمعتُها في حياتي هي ما رواه لي صديقي ريك فيست، الذي كان قبطانًا لعدة قوارب في مصايد الأسماك في ألاسكا. تُعَدُّ العواصف الشتوية التي تُماثل في قوَّتها الأعاصير أمرًا شائعًا في بحر بيرينج، حيث يهبُّ الهواء البارد الشديد الجفاف عبر سيبيريا ويتجمَّع في التيارات الدافئة في غرب المُحيط الهادئ. عادةً ما كان الكابتن ريك يتعرَّض لأسوأ الأحوال في الجزء الأخير من الحدَث بعد انتهاء المرحلة الأولية من هذه الأنماط، حيث تتحوَّل الرياح إلى الشمال الغربي وتشرع في هديرٍ قوي. ربما ينتهي تساقُط الثلج في هذه اللحظات، غير أن التغيُّر في اتجاه الرياح يخلُق تقاطعًا بحريًّا خطيرًا حيث لا تُوجَد موجتان مُتماثلتان.
تتبنَّى السفن المختلفة استراتيجياتٍ مختلفة للحفاظ على سلامتها في مِثل هذه العواصف. أعرف أن النهج المُفضل لقوارب مصايد سرطان البحر المُثقلة بالوقود والمعدات هو الإبحار مباشرة في اتجاه الرياح والأمواج، وتعديل الاتجاه لمُقابلة كل موجةٍ بمقدمة القارب. عندما تهبُّ الرياح بسرعة ٧٠ عقدة، فهذا عمل لا يقدِر عليه سوى المُحترفين، ويشرح ريك ما يستلزمه الأمر بينما يسوِّي بعض شرائح السلمون على شواية شرفته. إنه في مثل عمري تقريبًا، لولا مظهر الدُّب الذي يبدو عليه كحال العديد من الصيادين المُحترفين الذين أعرفهم، ذلك النوع من الأشخاص الذين يتمتعون بالقوة والصلابة. أظن أنه بإمكانك أن تكون نحيفًا وتقضي حياتك في مطاردة الأسماك في الماء البارد، ولكن سرعان ما ستتغلَّب عليك بعض قوانين الديناميكا الحرارية.
يقول ريك: «في حالة الأمواج التي يبلغ ارتفاعها ٣٥ أو ٤٠ قدمًا، عليك أن تُوجِّه مركبك مباشرةً نحو كل موجةٍ وتمضي بأقصى سرعةٍ لضمان مواجهة وجهِ الموجة. في بعض الأحيان تتكسَّر قِمَم الأمواج، ومن ثَمَّ يتعين عليك الرجوع للخلف بأقصى سرعةٍ كي لا تصطدم بشدةٍ بكُومة رغوتها فتنكسر نوافذ غرفة القيادة بالسفينة. بعد ذلك، تنزل على رُكبتَيك وتنحني للاحتماء خلف وحدة تحكُّم غرفة القيادة. ثمة ربابنة دُفِعوا من مؤخرة غرف قيادتهم ومن فوق مراكبهم في أحداثٍ كهذه. ثم تعاود الوقوف وتقود السفينة للأمام بأقصى سرعة لتستعدَّ للموجة التالية، والتي قد تكون قادمةً من اتجاهٍ مختلف. لقد أمضيتُ ما يصل إلى ٣٦ ساعة متواصلة على الكرسيِّ أفعل ذلك، وكنتُ أطلب من الطاقم أن يُحضروا لي القهوة والشطائر كي أتمكن من المواصلة.»
إنها مهمة مشوِّقة بقدْر كونها أيضًا أساسية وروتينية. نزح ريك للأعلى إلى ألاسكا في العشرينيات من عمره، بحثًا عن المال لدفع تكاليف دراسته في معهد السينما. في نمَط أُدرِكه من مسيرتي المهنية، تتحول الكفاءة الكامنة وتراكُم سنوات الخبرة الواحدة تلوَ الأخرى إلى مهنة، ضاربةً عُرض الحائط بأيةِ خُطط مِهنية سابقة. فالآن يتنافس أصحاب القوارب على توظيفه، وتعمل زوجته آن نورا طبيبةً إدارية للعيادة الطبية في ميناء داتش هاربور، وتخصُّصها هو علاج الصيادين المُصابين كي يتمكنوا من العودة سريعًا إلى عملِهم المدفوع الأجر. بعد الغداء، ندخل لنُلقي نظرة على رسومات قاربهما الجديد، وهو عبارة عن يختٍ فولاذي صغير يُشبه الصهريج يُخططان لاستخدامه في الرحلات، حيث يأخذان الضيوف للاستمتاع بمناظر ألاسكا التي لا يتمكن من رؤيتها سوى القليلين. حسب عِلمي، فإن ريك لا يزال في انتظار أن يصنع فيلمًا.
•••
في رحلتها الأولى إلى الفضاء، نظرت رائدة فضاء سالي رايد لدى وكالة ناسا خارج مركبتها وأذهلتها هشاشة الغِلاف الجوي. فقد ذكَّرتها بملمس كرة التنس الوبري. أقصى تقدير للسُّمك الإجمالي للغِلاف الجوي هو ثلاثمائة ميل، ولا يُمثل هذا القياس سوى ٠٫٠٢٥ في المائة من قطر الأرض. أي ما يُعادل سُمك قشرة ثمرة مانجو. وحتى لو أضفنا المُحيطات، التي هي القاعدة السائلة لطبقة الهواء والماء التي تجعل الحياة على الأرض مُمكنة، فلن يزيد ذلك من الأمر كثيرًا. وعلى الرغم من ذلك، فمِن العجيب أننا بطريقةٍ ما نعيش هنا مُستعمِرين لغشاءٍ رقيق وعَكِر يُتيح لنا التنفُّس ويحمل مُستقبلنا.
يبقى الغِلاف الجوي قريبًا من سطح الأرض بفِعل الجاذبية، ويتركز مُعظمه في طبقةٍ دُنيا كثيفة تُسمَّى «التروبوسفير». تحتوي طبقة التروبوسفير على ٨٠ في المائة من هواء الأرض، بالإضافة إلى معظم بخار الماء في الكوكب. وتُمثل حافته العلوية، «التروبوبوز»، أقصى حدٍّ لمعظم عمليات الطقس الأرضية. تُفضِّل الطائرات النفاثة التحليق فوق هذا الحدِّ مباشرةً في طبقة «الستراتوسفير»، حيث إن الهواء الرقيق المُستقر يجعل التنقُّل سريعًا وسلِسًا. يُشكِّل الطقس مشكلةً في بعض الأحيان في طبقة الستراتوسفير، ولكن في حالاتٍ نادرة فقط. يعتمد الارتفاع النسبي للتروبوبوز على درجة الحرارة. نظرًا إلى أن الهواء البارد أكثر كثافة من الهواء الدافئ، يزداد سُمك طبقة التروبوسفير زيادة طفيفة بمقدار أربعة أميال عند القُطبَين، وبمقدار ١٢ ميلًا بالقُرب من خط الاستواء. الجبال بوجهٍ عام أسهل في تسلُّقها في المناطق الاستوائية، حيث يُمكنك الوصول إلى ارتفاعٍ أكبر قبل نفاد الغِلاف الجوي.
أناقش هذه النقطة مع إحدى العالِمات على متن السفينة.
تقول: «آه، بالطبع. نظرية شوكولاتة «إم آند إم» بالفول السوداني.»
أشعر بالحيرة. وأُنصت بعناية.
تُتابع قائلةً: «دائمًا ما تكون الشوكولاتة في هذا النوع من الحلوى أكثر سُمكًا في بعض الأماكن عنها في أماكن أخرى.»
«حسنًا … بالضبط.»
•••
تعمل أجهزة البارومتر عن طريق قياس وزن الغِلاف الجوي فوقَنا. عند مستوى سطح البحر، ينتج عن هذا الوزن مُتوسط ضغط يبلغ ١٠١٣ ملِّيبار، أو ما يزيد قليلًا على ١٤ رطلًا لكلِّ بوصة مُربعة. و«ينخفض» الضغط عند الارتفاعات الأعلى، حيث تبقى كمية أقل من الهواء في الأعلى للضغط على البارومتر. نظرًا إلى قابلية الهواء للانضغاط، يحدُث هذا الانخفاض بمُعدل أُسِّي، بسرعةٍ كبيرة جدًّا في البداية. فإن مُتسلِّق إحدى أعلى قِمَم جبال الهيمالايا قد لا يزيد قياسُه للضغط على ٥٠٠ ملِّيبار، أي نصف القيمة السطحية القياسية. من الصعب التنفُّس في مثل هذه الأماكن؛ لأن قوة الهواء التي تضغط على رئتَيك انخفضت بنسبة ٥٠ بالمائة. يكون قياس الضغط الجوي خارج قمرة قيادة الطائرة النفاثة التي تُحلق على ارتفاع ٣٥ ألف قدم — في أدنى مستويات طبقة الستراتوسفير — ٢٠٠ ملِّيبار بالكاد، مع بقاء ما لا يزيد على خُمس كتلة الغِلاف الجوي فوقها.
اخترعَ تلميذ «جاليليو» المدعوُّ «إيفانجيلستا تورشيللي» أول بارومتر معروف في سلسلةٍ من التجارِب التي أجراها حوالي عام ١٦٤٣. صنع «تورشيللي» أنبوبًا زجاجيًّا مُجوفًا طويلًا ومُغلَقًا عند إحدى طرفَيه ومملوءًا بعضَ الشيء بعمودٍ من الزئبق، ذلك النوع من الأشياء التي كان بإمكانك صناعتها قبل دخول معايير السلامة الصناعية إلى مُختبرات العلوم. وبوضع الطرَف المفتوح في طبقٍ مملوء أيضًا بالزئبق، رأى تورشيللي أن عمود الزئبق في أنبوبه يتغيَّر ارتفاعه قليلًا من يومٍ إلى آخر، وهو ما أرجعه إلى التغيُّرات في كثافة الغِلاف الجوي، وكان مُحِقًّا في ذلك. حتى اختراع البارومتر القرصي في عام ١٨٤٤، كانت جميع الأدوات التي تلَت ذلك مُشتقَّة من فكرة تورشيللي؛ سائل — غالبًا ما يكون الزئبق — حبيس في وعاءٍ شفَّاف مفتوح من أحد طرَفيه ليسمح بدخول قوة الضغط الجوي. كان البحَّارة يتوقَّفون كل ساعةٍ لقراءة هذه الأداة الدقيقة، وهي أداة ثمينة تُعرَف في اللغة الدارجة باسم «البِلَّورة».
لا تعني قراءاتُ الضغط كلَّ ساعةٍ الكثيرَ في حدِّ ذاتها؛ وإنما ما يُهم هو أنماط التغيُّر فيها. يشير الارتفاع أو الانخفاض الحاد في قراءة البارومتر إلى وجود نمَط لتغيُّر الضغط — وهو ما يُسمَّى ﺑ «تدرُّج» الضغط — ومعه تأتي الريح. يشرح معلِّمو العلوم هذا المفهوم بإخراج الهواء من بالون، لإظهار كيف يتدفَّق الغاز من بيئة ضغطٍ أعلى إلى بيئة ضغطٍ أقلَّ حتى يتعادل فرق الضغط. عادةً ما يرتبط الضغط الجوي المُنخفض بارتفاع الهواء وما يتبَعُه من تكثيفٍ لبخار الماء في القُطيرات السحابية. لهذا السبب غالبًا ما يرتبط انخفاض قراءة البارومتر بظهور السُّحب وهطول الأمطار. والعكس صحيح، فالضغط المرتفع عادةً ما ينتج عن هواء هابط مُستقر.
قد يُنْبِئ ارتفاع قراءة البارومتر بالهدوء في مَوقعك، ولكن ليس دائمًا. أخبَرَني أحدُ خبراء الأرصاد الجوية في نيوزيلندا ذات مرةٍ أن أي منطقة ذات ضغطٍ مرتفع يزيد على ١٠٣٠ ملِّيبار يمكن الوثوق في هبوب رياحٍ عاصفة في مكانٍ ما على حوافها، مثلها في ذلك مثل جبلٍ شاهق مُحاط بالجروف. قال بنبرةٍ لا تخلو من بعض الارتياح: «عندما يزيد الضغط على ١٠٣٠، فهذا يعني طقسًا عاصفًا!» عادةً ما تكون أكثر تدرُّجات أنماط الضغط المُنخفِض انحدارًا بالقُرب من المركز، لذلك إذا كانت قراءة البارومتر لديك أقلَّ بكثيرٍ من ١٠٠٠ ملِّيبار، فمن المُحتمَل أن يكون الجو عاصفًا بالفعل في مكانك. على أية حال، الضغط السريع التغيُّر هو دائمًا إنذارٌ بهبوب الريح. يُصنِّف علماءُ الأرصاد الجوية بحماسٍ شديد أيَّ انخفاضٍ في الضغط ليوم واحد عن ٢٤ ملِّيبار على أنه «قنبلة طقس»، وهو إنذار أكيد لأي شخصٍ معنيٍّ بأحوال الطقس العاصف.
•••
المساحة الأخيرة في سجلِّ أحوال الطقس محجوزة للأحرُف الأولى من اسم الراصِد، مباشرةً بعد مجموعةٍ مزدوجة من الأعمدة لتسجيل نوع السُّحب في السماء وكَميَّتها. للأسف لا توجَد وسيلة سهلة القراءة لتسمية السُّحب. عادةً ما يُستخدَم نظام أشبَه بطريقة تقسيم الفطائر إلى شرائح لتقسيم السماء إلى قطاعات، وهو ما ينتج عنه تقدير تقريبي للجزء المُغطَّى بالسُّحب. بعد ذلك يأتي تحديد أنواع السُّحب. هنا يُترك للبحَّار، مثلُه في ذلك مثل مراقِب الطيور، إصدار الأحكام بناءً على ما يراه، الأمر الذي يُجريه غالبًا بعد الرجوع إلى دليلٍ مطبوع أو استشارة رفقائه. في بعض الأحيان يكون من المُفيد إجراء نقاشٍ كهذا:
«هل هذا طائر درسة قرمزي قصير الذيل؟»
«بالطبع لا! فأطراف جناحَيه مُدبَّبة ونادرًا ما يَطير على هذا الارتفاع.»
«تطرأ على السُّحب بعض التغيُّرات المميزة، الناتجة عن العوامل العامة التي تؤثر في جميع حالات الغِلاف الجوي؛ وعادةً ما تكون بمثابة مؤشراتٍ مرئية جيدة لنشاط هذه العوامل، كما هو الحال مع الحالة الذهنية أو الجسدية لشخصٍ ما.»
كان هوارد رائدًا في استخدام نظام «لينيوس» للأسماء اللاتينية لتسمية السُّحب، كما كان قد شُرِع استخدامه في سياقٍ آخر في العلوم الطبيعية. يرجع الفضل لهوارد في المجموعات التصنيفية الثلاث الرئيسية للسُّحب — «الركامية»، و«الطبقية»، و«السِّمْحاقية» — بالإضافة إلى نظام البادئات واللاحقات الذي يُتيح تصنيف الأشياء الدائمة التغيُّر بطبيعتها. تمامًا كما كان الحال مع نظام «جدولة بوفورت» لحالات الريح والبحر، تمكَّن البحَّارة فجأة من الانتقال سريعًا من التقدير الذاتي إلى التقدير المنهجي. وهكذا تحوَّلت «السماء التي (كانت تبدو أنها) تملؤها الخِراف الكبيرة وحقول السحاب الناعمة» إلى «خمسة أثمانها من السُّحب الركامية مع بعض السُّحب الطبقية»، وهي المعلومة التي أصبح بإمكان أي شخصٍ حصل على التدريب نفسه تصوُّرها وتطبيقها. بتشبيه السُّحب بالملامح البشرية للغِلاف الجوي، توصَّل هوارد إلى شيءٍ مُهم. فمثل تعبيرات الوجه، بإمكان السُّحب أن تُخبِرك عن شيءٍ بوضوحٍ تام أو تُصيب الكثيرين بالحيرة.
•••
أمامنا ستة وثلاثون ساعة قبل أن تهدأ الرياح بما يكفي لاستئناف تقدُّمنا نحو الجنوب. ويتبع السُّحبَ الطويلة للجبهة الباردة يومٌ مُلبَّد بالغيوم، وأحزمةٌ من الأمطار، ورياحٌ تتناقض تمامًا مع ما يشعُر به المرء في فصل الصيف. أتذكر أنه لا يوجَد شيء بين نيوزيلندا والقارة القطبية الجنوبية. يروي البارومتر قصةَ ما حدث، هبوط بطيء فاتِر تبِعَه ارتفاع سريع مع وصول الهبَّة الكثيفة الباردة للهواء شِبه القُطبي. خلال هذا الوقت، انجرفنا إلى الوراء مسافة خمسين ميلًا، وفقدْنا الأرض التي يُظهِرها بشكلٍ مُحبط على الخريطة المُبتلَّة الانحسارُ المُتعرِّج بالقلَم الرصاص. رسم أحد الأشخاص وجهًا عابسًا على ورقةٍ لاصقة وألصقَها بجوار مسارنا على الخريطة. لا يُنصَح بهذا النوع من الفُكاهة في الملاحة، لكن إحقاقًا للحقِّ فقد شعر الجميع بالأمر نفسِه في اليوم ونصف اليوم الأخيرَين.
هناك رسالة بريد إلكتروني على جهاز الكمبيوتر الخاص بي مِن مكتبنا الرئيسي، حيث تمكَّنوا بفضل مُعجزة الموجات الدقيقة من ملاحظة انحرافنا بفِعل الرياح من مسافة ثمانية آلاف ميل. هل كل شيءٍ على ما يُرام؟ هل يشعر الجميع أنهم بخير، وهل السفينة مُلتزمة بجدولها الزمني المُقرر؟ يريد المُخطِّطون أن يعرفوا هذه الأمور. فوق رأسي الضجيج المُنضبط لرفع الشراع الرئيسي؛ تسارعات مُحكَمة مع امتلاء قماش الشراع بالهواء وتقدُّم السفينة. أحاسيس الإبحار القديمة واضحة حتى عندما تُظهر شاشتي ذاتُ الإضاءة الخلفية أننا — على عكس البحَّارة الأصلِيِّين لهذا المحيط — الوحيدون هنا، ولكننا لم نعُد وحدَنا حقًّا. عندما أتخيَّل البولينيزيين وقفزاتهم المُغامرة عبر المحيط الهادئ، أُفكر في الرِّحلات الأحدث عهدًا التي جلبت سفينتَنا ذَهابًا وإيابًا عبر هذه المياه نفسها، وهي سفينة حديثة من الصُّلب أكثر متانةً مائة مرة، ومُتصلة بقمر صناعي، ومُحاطة بعالَم أكثر قابليةً للتنبُّؤ به وفهمه. يُخبرني أصدقائي العلماء عن جميع الأحوال التي شهِدها كلٌّ من المحيطات والمناخ منذ أن ركب البشر البحر لأول مرة، ولكن في نظر بحَّارٍ على سطح سفينة مكشوف، تظلُّ هذه التحوُّلات معلوماتٍ مجردة إلى حدٍّ كبير. وبعيدًا عن المؤشر الوامِض ولوحة المفاتيح، من الصعب ألا تشعُر في هذا المكان بعَلاقةٍ ما تربطك بجميع مَن عبروا هذا المُحيط سابقًا. لا شكَّ في أن الرحالة في المحيط الهادئ، والقباطنة المُستكشفين، والتُّجَّار، وصانعي الخرائط، جميعهم انبهروا بنفس ذلك العرض اللامُتناهي للضوء والسُّحب. ولا شكَّ أيضًا أن كثيرين منهم عانَوا في بعض الأحيان من البرد والبلَل مِثلنا، وانتابَهم ما ينتابُنا من حيرةٍ تجاه المجهول.