الفصل العاشر

ولائم بحرية من الماضي

في سوق تاهيتي، تتكدس أسماك التونة الطازجة الكاملة بالقرب من أحد المداخل، في هيئة أهرام براقة تُشبه قذائف المدفعية بجوار بطارية مدفع. تحوم رائحة الفانيليا حول الطاولات المزدحمة حيث يعرض الباعة سِلعهم من خُضَر وفاكهة وزجاجات مونوي؛ وهو زيتٌ عطري شفاف مستخرج من جوز الهند يتحول على الفور إلى مادة صُلبة بيضاء عندما أُحضره إلى منزلي في ماين. في بعض الأيام النادرة في ذروة الصيف يعود إلى حالته السائلة، فتنادي عليَّ زوجتي لأشهدَ ذلك.

تقول مبتهجةً: «أسرِع! لقد عُدنا إلى تاهيتي.»

في الطابق العلوي فوق أكشاك السمك، يمارس وشَّام يُدعى إفرايما عمله الفريد على سيلٍ مستمر من أفراد طاقمنا، الذين حجز بعضهم مواعيدَ لدَيه قبل أسابيع. تُعتبر تاهيتي هي الميناءُ الوحيد الذي نرسو فيه خلال رحلتنا حيث يطلُب الموظفون استقطاع بعض الوقت من أيام عملهم لحجز مواعيد لدقِّ الوشوم. ويُلبَّى لهم طلبهم. فكيف يمكن لتشحيم الرافعات أو تقشير الطلاء أن يضاهي جاذبية الحصول على وشمٍ جديد؟ وبمجرد دق أفراد الطاقم للوشوم، يعودون إلى عملهم ليُشكلوا بذلك امتدادًا لسلالة عريقة من البحَّارة الذين حملوا على أجسادهم بصماتٍ من مغامراتٍ خاضوها في المحيط الهادئ. يقع ستوديو إفرايما في تجويف عميق، بعد متاجر مليئة بالقمصان المزهرة والحُلِّي المصنوعة من اللؤلؤ الأسود. لا توجَد ألوان صارخة على الجدران، ولا كتالوجات لجماجم مُشتعلة وقلوب تنزف ليختار منها زبائنه. بل يبدأ كلَّ تصميم بمحادثةٍ تقتصر مع أولئك الذين لا يُجيدون الفرنسية أو الماركيزية على استفساراتٍ متقطعة، أو إيماءاتٍ، أو ربما بالإشارة إلى رسمٍ دقَّه فردٌ آخر من أفراد الطاقم.

فيقول أحدهم مثلًا بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «مثل وشمها. شريط على الذراع، وسُلَحْفاة بحرية في المنتصف. كيف تُنطَق كلمة «سلحفاة» بالفرنسية؟»

«تُوغْتي.»

«شكرًا، حسنًا! سُلَحْفاة إذا سمحت … ومِرساة أيضًا. كيف تُنطَق كلمة مِرساة بالفرنسية؟»

«أَنكُغ.»

فيستجيب إفرايما لطلباتهم. أتساءل: هل مكَّنته النقود التي تكسَّبها منَّا حتى الآن من إلحاق أبنائه بالجامعة. بعد أن يرسم سريعًا بالقلم على الجلد مباشرةً، يبدأ في العمل. ولا تظهر التصميماتُ الفعلية إلا عندما يبدأ الحبر في التدفُّق، فتتكوَّن زخارف كبيرة مدمجة بتفاصيل مأخوذة من مخزونٍ دارج لموضوعاتٍ تقليدية. يرسم إفرايما بالحبر صورًا ظِلِّية جريئة لعناصر رُوحانية مطعَّمة بزركشاتٍ كسرية تُشبه نقوش الكنائس التي رأيناها في نوكو هيفا، ومن هذه العناصر سمكة شيطان البحر. وكذلك طائر الفِرقاطة بذيلٍ مُمتد، يراقب زورقًا شراعيًّا. يكون إفرايما في حالة من الاسترخاء أثناء عملِه بيدَيه الكبيرتَين الماهرتَين. وتصدح في المكان موسيقى تُشبه بعض الشيء موسيقى الريجي مع كلماتٍ فرنسية، ويُومئ برأسه انسجامًا مع الإيقاع وهو يمدُّ يدَه إلى وعاءِ الحبر بطرف إبرته. الموسيقى جذابة، ولا تنتهي، حيث تتكرَّر الأغنية ثلاثَ مراتٍ وأنا هناك.

إننا في شهر يناير من عام ٢٠١٣، وهذه زيارتي الثالثة بهذه السفينة إلى تاهيتي. تتلاقى المباني المحيطة بالمَرفأ مع المياه في متاهةٍ من أرصفة الشحن والصيد، وفي خلفيتها وسطُ المدينة المترامي الأطراف. كما تلوح كتلة الجزيرة الخضراء في الخلف، حيث تصعد الطرقُ والمباني إلى المشهد الطبيعي الأخضر حتى تُصبح الأرض شديدة الانحدار فتتعذَّر مواصلة الصعود عليها. يهطل المطر بغزارة وينهمر فوق أسطح المنازل مثل الفُشار. وتصبح الشوارع أنهارًا بلون القهوة، المُتناثرة على شكل ستائر رملية بفِعل السيارات المارة. يرن الهاتفُ ويضع إفرايما أدواته جانبًا ليرد. على مقربة في الخارج، يتدفَّق تصريف المياه من مصرفٍ لا نراه مارًّا بنافذتنا، وينطلِق نحو الأرض مثل ثعبان مذعور.

عند العودة إلى السفينة، كان أفرادُ الطاقم قد فقدوا الأمل في أداء أي عمل. ننصب بعضَ المظلات التي نصنعها ارتجالًا من القماش المُشمَّع في محاولةٍ يائسة للحفاظ على سطح السفينة من البلَل قدْر الإمكان. ولكن المظلات تمتلئ على آخِرها بالمياه، وتحتفظ بها كالبالونات ثم تُفرغها دفعةً واحدة في شلالاتٍ عاتية وقوية بما يكفي لإيقاظنا في الليل. هذا ليس مجرد مطر، بل جدار هائل من الماء شهدناه أمس عندما كنا نشقُّ طريقنا بحذرٍ نحو الميناء. إلى الجنوب، كانت جبال جزيرة موريا الخضراء الضبابية مُحاطة بأمواج متلاطمة، ثم فجأة لم نعُد نرى أيَّ شيءٍ، انعدمت الرؤية تمامًا وسط فيضانٍ مرتفع لدرجة أنه من الممكن أن يملأ فنجان قهوتك وأنت واقفٌ تُراقبه. كنا نقترِب من مَدخل الميناء — أو هكذا أخبرتنا الخريطة — لكن كل شيءٍ بدا متشابهًا في جميع الاتجاهات. هذه المرة لم يكن هناك أيُّ أثرٍ على الإطلاق لراكبي الأمواج، أو منشآت الواجهة البحرية، أو أي شيءٍ عدا ما يُشبه ستارة رمادية رقيقة مُعلقة فيما وراء الدَّقَل المائل (عمود ضخم ‫منبثق من مقدمة السفينة). كان الجو على الأقل هادئًا‬‬ بلا رياحٍ على الإطلاق وكأن السماء قد حولت كلَّ طاقتها في هذه اللحظة إلى ماء. حاول أحدُ الأشخاص في غرفة الخرائط عبثًا إجراء تعديلاتٍ على أجهزة الرادار في محاولةٍ لرؤية أي شيءٍ أيًّا كان، ومَدَّ يدَه نحو السماعة حيث بدأ يسمع صوتًا من جهاز اللاسلكي.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

«إلى السفينة «روبرت سي سيمانز»، بإمكانكم الدخول. مرحبًا بكم مرة أخرى في تاهيتي.»

كان هذا ضابطَ مراقبة المرفأ، الودود كعادته ولكن حماسته كانت أقلَّ من المعتاد بقدْرٍ ملحوظ. عاد الضابط الرئيسي من مقدمة السفينة للحديث، وبدا وكأنه سار للتوِّ تحت شلال.

سألني: «ما الذي تريد فعله؟»

فكرتُ قليلًا. كان المطر يهطل بغزارة لم أرها من قبل في حياتي. إلى متى يمكن أن يستمر هذا؟ راودتني تساؤلات. ما كَمية الماء التي يمكن أن يحتوي عليها الغِلاف الجوي الواحد؟

قلتُ له: «لندخل نصفَ ميلٍ آخر. وإذا لم نتمكَّن من رؤية العلامات من تلك المسافة، فسنتوقَّف وننتظر.»

«حسنًا.»

خطا بضع خطواتٍ عائدًا إلى موقعه في مقدمة السفينة، وكل ما ذكره هو أن اليوم كان مُشمسًا ودافئًا. تحركنا بالسفينة ببطءٍ. خفَّ المطر من فيضان إلى مجرد سيل، وظهر حاجِز الأمواج ببطءٍ إلى اليسار كلطخةٍ على زجاج سيارة أمامي مُبلل. دخلنا إلى حوض المرفأ لنجد أن الجميع فيما يبدو كانوا ينتظرون الفرصةَ نفسها بالضبط للتحرُّك بسفنهم. كان هناك زورق قَطْر يمرُّ أمامنا، ويخت يُغيِّر رصيفه، وعبَّارة الصباح المُتجهة إلى موريا تغادر الرصيف بالهدوء المعتاد الذي تتميز به العبَّارات. لقد كان المشهد أشبَهَ بازدحامٍ مروري باريسي حيث السيارات الضخمة وثرثرة أجهزة الراديو بينما يُتابع الجميع خططهم الملاحية الخاصة.

•••

بعد ثلاثة أيام من زيارتي لإفرايما، لا يزال المطر يهطل وسط أنباءٍ عن توقع تكوُّن إعصار حلزوني مداري بالقرب من ساموَا وتوجُّهه نحونا خلال الساعات الثماني والأربعين القادمة. يسألني أحدُ الأشخاص: «أين تقع ساموَا؟» ننتظر في سيارة خارج مكتب الميناء، ومن دون أن تكون لدَينا خريطة لنرجع لها، لم يكن هذا سؤالًا يمكن الرد عليه بإجابة مباشرة.

أقول: «على بُعد ١٥٠٠ ميل تقريبًا إلى الغرب من هنا.»

أظن أن هذه المنطقة أشبه بأميالٍ من محيط دافئ بين النجوم مترامي الأطراف، عالَم صغير واحد من بين العديد من العوالم الأخرى في قلب جُزر بولينيزيا الأشبه بمجرةٍ مترامية الأطراف. ساموَا وجزر كوك وتونجا، كلُّها أماكن يسهل الوصول إليها من هنا عبر الرياح التجارية. إلى الغرب أكثر، بعد الحدود الإثنية لبولينيزيا، تقع فيجي، بالقُرب من خطِّ طول نيوزيلندا وهي أول مكانٍ كبير بما يكفي لرصده على معظم الخرائط دون الحاجة إلى عدسة مكبرة. تُغطي هذا الحيز برمَّته منطقةُ الْتقاء جنوب المحيط الهادئ، وهي امتدادٌ متفرع من نقطة التقاءٍ بين المدارَين ذات حجم وتأثير كبيرَين بما يكفي لتحْمِل اسمًا خاصًّا بها. لا بأسَ من الاعتراف بأنك لم تسمع من قبل بمنطقة التقاءِ جنوب المحيط الهادئ، ولكن إذا كنتَ تعيش في هذا الامتداد الكبير من الجُزر والمياه المعروف باسم أوقيانوسيا، فسيكون لها تأثير كبير على خطط تحركاتك. فهنا، تحتشد الرياحُ التجارية الرطبة في غرب المحيط الهادئ الدافئ، وتتأثر بالتحرُّكات الموسمية للهواء الأسترالي والهواء الخارج من أنماط الضغط المُرتفع المهاجرة بالقُرب من نيوزيلندا. خلال الفترات النشطة، تتحول المنطقة إلى مُستنقَع من الحَمل الحراري، ومَفْرَخة للعواصف حيث تندمج مجموعاتُ الرياح لتُشكِّل أنماطًا جوية أكبر، من منخفضاتٍ، وعواصف مدارية، والعديد من الأعاصير القوية في كل صيفٍ جنوبي.

تدور الأعاصير الحلزونية في اتجاه حركة عقارب الساعة في نصف الكرة الجنوبي. وبذلك ستكون العواصف المدارية القادمة من الغرب مصحوبةً برياح شمالية على جانبها القريب، ما يجعلها مُهيأة تمامًا في حالتنا لإحداث فوضى عارمة في مرفأ تاهيتي الرئيسي المفتوح. من السابق لأوانه أن نشعر بالقلق؛ كلَّا، هذا ليس صحيحًا. فأنا في الواقع، خلف وجه القائد الهادئ الذي أتظاهر به، أشعرُ بقلقٍ عميق، وبرعشة الخوف القصيرة التي أظن أن جميع القباطنة يشعرون بها عند رؤية الخط المُتقطع لمسار عاصفةٍ تتَّجه نحوهم. هذه العاصفة تحديدًا هي «إعصار جاري الحلزوني»، ومن المتوقع أن تصل إلى قوة إعصارٍ مداري في منتصف طريقها تقريبًا من ساموَا إلى تاهيتي. يتحرك إعصار جاري ببطءٍ في الوقت الحالي، وربما يكون الآن على بُعد ثلاثة أيام.

عندما أعود إلى السفينة، يأتيني أحدُ العلماء طالبًا المال لشراء ثمار القشدة الشائكة من السوق. وهي ثمرةٌ فريدة من نوعها، لا تظهر إلا ظهورًا عابرًا وسط وفرة القلقاس والبابايا، وتُشبه قشرتُها الخضراء الخشنة جلودَ التماسيح. أُعطي أوامر دائمة بشرائها فور رؤيتها. على سطح السفينة، زاد حِمل مياه الأمطار على المظلة، فسقطت ناشرةً رذاذًا صاخبًا. أفتحُ خزانة السفينة وأتخيَّل مدينة بابيتي تحت تأثير إعصارٍ حلزوني مداري، حيث تجتاح العاصفةُ حواجز الأمواج ويتحول المرفأ إلى محيطٍ مليءٍ بالحطام. وأتخيَّل الأمواج وهي تهب على الحديقة بجانبنا، حيث تتجمَّع العائلاتُ حول عربات الطعام لتناول الكريب والسمك النِّيء المُتبَّل بالليمون وحليب جوز الهند كلَّ مساء. لا أود أن أشهد أيًّا من ذلك.

عملة تاهيتي هي الفرنك البولينيزي، وهي عملة جميلة مطبوعة على أوراقٍ نقدية متعددة الألوان تزينها صور السلاحف البحرية، والأسماك الطائرة، والقوارب الشراعية. أَعُدُّ كُومة من الأوراق الجديدة من صندوق النقود وأُعطيها إلى عالِم المُحيطات معنا على متن السفينة.

وأقولُ له: «أسرِع بالعودة من السوق. فقد نغادر قريبًا.»

•••

يحتل جنوب المحيط الهادئ مرتبةً متوسطة بين أحواض الأعاصير في العالم، متراجعًا كثيرًا عن شمال غرب المحيط الهادئ، حيث تُشكِّل أعاصيرُ التايفون المحلية ثُلث الأعاصير المدارية التي تتكوَّن سنويًّا على الكوكب. وتُعرف هذه العواصف جنوب خط الاستواء باسم «الأعاصير الحلزونية»، وعلى الرغم من أنها عادةً ما تكون أصغر حجمًا وأقلَّ تَكرارًا، فإن سلوكها غير مُنتظم على نحوٍ مُثير للقلق. نشأتُ وأنا أشاهد الأعاصير في شمال المحيط الأطلنطي، حيث أتعرَّف على تحركاتها عبر الصوت الهادئ لإذاعة المركز الوطني للأعاصير. المركز الوطني للأعاصير برجُ مراقبةٍ حقيقي للعواصف، ويتَّسم بالثرثرة، وإن لم يكن عليمًا بكل ما يجري. أما هنا في جنوب المُحيط الهادئ الشاسع، فإن توقُّع مسارات الأعاصير تشترك فيه خِدماتُ الأرصاد الجوية في فيجي ونيوزيلندا، ذات الكفاءة، ولكنها الأقل شهرة إعلاميًّا، وتُشبه مساراتُ العواصف — لأي شخصٍ على دراية بالمسارات السلسة شبه الجيبية لأعاصير المحيط الأطلنطي — آثارَ أقدام الأغنام أثناء رعْيِها.

تتشكَّل أعاصيرُ جنوب المحيط الهادئ وسط عدم الاستقرار في منطقة الْتقاء جنوب المحيط الهادئ، وغالبًا ما تتبع محورها إلى الجنوب الشرقي، وفي بعض الأحيان تعود أدراجَها قبل أن تندفع نحو التدفُّق الغربي السائد في خطوط العرض العُليا. في فبراير عام ٢٠١٦، تَشكَّل إعصارُ وينستون بالقُرب من جُزر سليمان. وتحرَّك نحو الجنوب ثم الشرق ليضرب تونجا مرتَين، ثم عادَ باتجاه فيجي مُسجِّلًا أقوى عاصفة تهبُّ على اليابسة على الإطلاق في نصف الكرة الجنوبي. بعد أن أودى إعصارُ وينستون بحياة ٤٥ شخصًا وألحقَ أضرارًا بقيمة مليار ونصف مليار دولار في جزيرة فيتي ليفو، تقدَّم جنوبًا مرة أخرى ثم غربًا ليختفي في النهاية بالقرب من أستراليا. وفي فبراير ٢٠١٨، تشكَّل إعصار جيتا بالقُرب من جزيرة فانواتو، وانجرفَ انجرافًا غير متوقَّع لمسافة ألف ميل شرقًا، حيث لامسَ ساموا قبل أن يدور للخلف ليضرب تونجا. كنتُ قد تابعتُ إعصار جيتا ببعض القلق وهو يواصل مساره غربًا، ويقترِب من أستراليا قبل أن يعود أدراجه نحو نيوزيلندا، حيث كانت سفينتي مُخبأة بعيدًا في أحد المداخل ومُحكمة الربط بشبكةٍ من حبال الأرصفة. في النهاية، جلب جيتا رياحًا وأمطارًا غزيرة إلى الشريط الساحلي جنوب موقعنا، لكنه لم يتسبَّب لنا في أي كرب، باستثناء عصر أحد الأيام الذي شهد عواصف مُظلمة وأثار لدَينا قدرًا كبيرًا من الانفعال والتوتر.

•••

يُعتبر شهر يناير الفترة المطيرة في السنة في بولينيزيا الفرنسية، إلا أن كمية الأمطار هذا العام تفُوق المعتاد بكثير. كما يُعَدُّ شهر يناير أيضًا موسمًا للأعاصير الاستوائية، غير أنه من النادر أن تصِل العواصف إلى أقصى الشرق حتى تاهيتي، التي تقع تقريبًا على خطِّ الطول نفسه الذي تقع عليه هاواي. ولكن بالنسبة إلينا، بدأت الأمور تُشير إلى أن هذا العام قد لا يكون عاديًّا. على خرائط المناخ، يتَّجه رقم مرجعي غير مألوف يُسمَّى مؤشر إلنينو المُحيطي إلى الدخول في المجال الإيجابي، واستجابةً لذلك يناقش خبراءُ الأرصاد الجوية احتمالَ حدوث ظاهرة إلنينو في المُستقبل القريب.

ظاهرة إلنينو هي ذروة تقلُّبٍ يستمر لعدة سنواتٍ عبر المحيط الهادئ المداري، مدفوعًا بتفاعُل مشترك بين المحيط والغِلاف الجوي. تخيَّلْ مياهًا تتدفَّق ذَهابًا وإيابًا في حوض للاستحمام. في هذه الحالة، يُمثل حوضُ الاستحمام أكبر محيط على كوكب الأرض، حيث تقع أمريكا الجنوبية في أحد طرفَيه وغينيا الجديدة في الطرف الآخر. تبلغ هذه المسافة ثمانية آلاف ميل بحري — أي ثُلث محيط الكوكب — وهي منطقة تقلُّ فيها اليابسة الجافة عن مساحة ولاية نيو هامبشير الأمريكية. في الظروف العادية، تتَّجه التيارات الدافئة في المحيط الهادئ غربًا بفِعل الرياح التجارية، لتجتاز بولينيزيا طوليًّا وتصطدِم في النهاية بالأرخبيل الكثيف المُمتد بين أستراليا وتايلاند. بسبب تأخُّر المياه في رِحلتها هنا، تتباطأ سرعتُها وتتعرَّض للتسخين الشديد تحت أشعة الشمس. هذه المنطقة هي تجمُّع المياه الدافئة في غرب المُحيط الهادئ، فهي أكثر بُقَع المحيطات دفئًا على وجه الأرض، حيث تصل درجات حرارة سطحها إلى ٣٠ درجة مئوية. إنها كتلة كبيرة من المياه الدافئة تتراكم بشكلٍ أسرع وهو ما يُمكِّنها من العودة للانبساط مرةً أخرى. تُظهِر قياسات الأقمار الصناعية أنَّ سطح تجمُّع المياه الدافئة يمكن أن يرتفع حتى ٧٠ سنتيمترًا فوق متوسط مستوى سطح البحر في شرق المحيط الهادئ. في السنوات العادية، يؤدي التبخُّر فوق هذه البركة الضخمة الفائقة الحرارة إلى رفع كَمياتٍ هائلة من بخار الماء إلى الغِلاف الجوي، مما يؤدي إلى هطول أمطارٍ تروي الغابات الخضراء في جزيرة بورنيو وتدعم المحاصيل الغذائية في جنوب شرق آسيا. بعد فقدان الهواء للرطوبة، يُحمَل عاليًا للعودة إلى الشرق، حيث يصبح أبردَ وأكثر جفافًا بشكل مُطرد قبل أن يستقر في نهاية المطاف مرة أخرى على الأرض.

يساهم كلُّ هذا في خلْق اختلافاتٍ كبيرة في المناخ بين جانبَي حوض المحيط الهادئ. يكون جنوبُ غرب المحيط الهادئ رطبًا وغائمًا معظم السنة، بينما تميل الأجزاءُ الشرقية إلى الجفاف والصفاء. وتتميز مساحةٌ كبيرة من الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية بطبيعةٍ قاحلة، تشبه إلى حدٍّ كبير باجا كاليفورنيا أو جنوب غرب أفريقيا. هنا، تعمل الرياح التجارية على دفع مياه البحر بعيدًا عن الشاطئ، حيث يحلُّ محلَّها تيارٌ بارد غني بالمُغذيات يتدفَّق من أسفل عبر ظاهرة التيارات الصاعدة. هذا هو مصدر اللسان البارد الذي صادفناه في طريقنا إلى نوكو هيفا في عام ٢٠٠٧، حيث ينتشر تياره الغني بالمُغذيات بعيدًا عن الشاطئ ليُغذِّي مصايد الأسماك الوفيرة في بيرو وشيلي.

على مدار عدة سنواتٍ، كان صيادو الأسماك البِيروفيون دائمًا في حيرة من سبب تراجُع الرياح التجارية وارتفاع درجة حرارة المياه الساحلية واختفاء أسماكهم مع انهيار دورة التيارات الصاعدة. نفقت الطيور البحرية بأعدادٍ كبيرة. وعلى اليابسة، جلبت الرياحُ الغربية الرطبة الأمطار إلى الصحراء، حتى وصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن الفيضانات صارت تُمثِّل مشكلة. كانت ذروة هذه الظاهرة تقع عادةً في أواخِر العام، في عيد الميلاد المجيد تقريبًا، ولهذا السبب أطلقوا عليها اسم «إلنينو» (أي الطفل)، نسبةً إلى المسيح الطفل.

كما يتَّضح، تنشأ ظاهرة إلنينو نتيجة لتراجعٍ دوريٍّ لتجمُّع المياه الدافئة في غرب المحيط الهادئ، وغالبًا ما يسبقها عام أو عامان من الرياح التجارية التي تكون أقوى من المعدل الطبيعي. بعبارة بسيطة، هناك حَدٌّ لكَمية المياه الدافئة التي يمكن تكدُّسها في مكانٍ واحد، وفي النهاية يميل كل شيءٍ إلى الرجوع من الطريق الذي جاءَ منه. تعمل على تنظيم هذه الدورة مجموعةٌ مُعقَّدة من العوامل المحيطية والجوية — وسرعان ما تتعقَّد المعادلات الرياضية — لكن النتيجة هي امتداد طبقةٍ من المياه الدافئة عائدة إلى وسط المُحيط الهادئ وشرقه. هذا يعني هطول المزيد من الأمطار في أماكن مُعينة، وبالنسبة إلى بيرو يعني اضطرابًا في النظم البيئية الساحلية الحيوية لمصايد الأسماك. تؤدي إعادة توزيع كَمياتٍ هائلة من الطاقة والرطوبة إلى تأثيرٍ تموُّجي عالمي على دورة الغِلاف الجوي، وهذا هو سبب اهتمام بقية دول العالم بهذا الحدث. قد تجلب السنة التي تشهد ظاهرة إلنينو الجفافَ إلى إندونيسيا، والأعاصيرَ إلى تاهيتي، والفيضاناتَ إلى كاليفورنيا، ومجموعةً أخرى من الآثار التي تزداد صعوبةُ تحديدها تدريجيًّا كلما ابتعدْنا عن السبب الأصلي.

هناك ظاهرةٌ عكسية لظاهرة إلنينو تُسمى «النينا» (الفتاة باللغة الإسبانية). في سنوات وقوع ظاهرة النينا، تدفع الرياح التجارية القوية للغاية تجمُّع المياه الدافئة إلى الغرب أكثر من المُعتاد، وتزيد من التيارات الصاعدة قبالة سواحل أمريكا الجنوبية. يُصبح لسان المياه الصاعدة مُتمددًا، حيث يمتدُّ على طول خط الاستواء ويؤدي إلى ظروفٍ مناخية لا تُشبه ظروف خط الاستواء على الإطلاق. لم نكن نعلَم هذا في ذلك الوقت، ولكن ما شهدناه من برودةٍ أثناء عبورنا على متن السفينة «روبرت سي سيمانز» في عام ٢٠٠٧ اتضح أنه كان نتيجةً لإحدى سنوات «النينا»، وهو تفسير وافٍ — وإن لم يكن مُرضيًا — لارتدائنا القُبعات والقفازات حتى مع اقتراب خطِّ العرض من الصفر.

يرتبط الجانب الجوي من ظاهرة إلنينو بما يُسمَّى «دوران ووكر»، وهو مجموعة من خلايا الحَمل الحراري فوق المحيط الهادئ تدفعها الاختلافات في درجات حرارة البحر والهواء على طول خط الاستواء. تخلق مجاورة الهواء البارد بالقُرب من أمريكا الجنوبية، والهواء الدافئ فوق تجمُّع المياه الدافئة في غرب المحيط الهادئ، فرقَ ضغطٍ من الشرق إلى الغرب بين بيرو وأوقيانوسيا. ينزل الهواء البارد الكثيف من جبال الأنديز وتحمله الرياح التجارية غربًا، مما يؤدي إلى تراكُم الحرارة وبخار الماء على طول الطريق. فوق تجمع المياه الدافئة، يرفعه الحَمل الحراري عاليًا، ويُطلق الرطوبة أثناء صعوده. وعاليًا في طبقة التروبوسفير، ينزلق الهواء المرتفع بعد ذلك عائدًا إلى الشرق، ويبرد وينخفض في النهاية عائدًا إلى السطح. سيُظهِر مُخطط الطقس القياسي للمحيط الهادئ المداري ظروفًا جافة ومستقرة في الشرق، وكتلة ثابتة من السُّحب المُحملة بالأمطار في الغرب، حيث يُضَخ الهواء بانتظامٍ للأعلى. يظل ضغط السطح فوق تجمع المياه الدافئة منخفضًا دائمًا، وهي آليةُ تغذيةٍ راجعة إيجابية تُعزز من هبوب الرياح التجارية بقوة أكبر.

في فترات ظاهرة إلنينو، يهبط تجمُّع المياه الدافئة المليء بالمياه شرقًا وتتحرَّك خلايا دوران ووكر لتتبُّع حركة المياه الدافئة. يشهد وسط المحيط الهادئ المزيد من الأمطار، ويصبح الدوران بأكملِه أقلَّ قوة، حيث ينخفض التبايُن في درجة الحرارة والضغط بين الشرق والغرب. تُصبح تاهيتي رطبة، وتقل أعداد سمك البَلَم في بيرو، ومع غياب الركيزة الغربية المُمطرة لخلية ووكر الموجودة في الأعلى، تجفُّ إندونيسيا مثل الخوخ المُجفَّف. من العلامات الأخرى على ظاهرة إلنينو شذوذ الرياح، حيث تتلاشى الرياح التجارية وقد تنعكِس فعليًّا؛ فتهبُّ من الغرب بدلًا من الشرق بسبب خلل آلية عملِها الطبيعية.

لا شكَّ في أن هذه الرياح الغربية ساعدت القوارب الشراعية على الوصول إلى الأطراف البعيدة لبولينيزيا خلال ذروة رحلات المُحيط الهادئ، وذلك قبل قرونٍ من بدء التوسُّع البحري الأوروبي. لنأخذ على سبيل المثال جزيرة تونجاريفا المَرجانية الحلَقية؛ فيما يُعرف الآن بجزُر كوك الشمالية، على بُعد ٦٠٠ ميل تحت خط الاستواء، ويبدو أنها في وسط مكانٍ مجهول، باستثناء أنه يتصادف أيضًا أن تونجاريفا تقع على خطٍّ أفقي مثالي بين جُزر سليمان غربًا وجُزر الماركيز شرقًا. كلُّ ما يفصل بينها مجرد آلاف الأميال من المُحيط الخاوي، والتي يسهل اجتيازها إذا كانت الرياح في صالحك ويمكنك تتبُّع خط العرض الخاص بك. يروي أندرو كرو في كتابه «مسار الطيور» قصةً عن بحَّارة برتغاليين زاروا هذا المكان عام ١٦٠٦ ووجدوا فيه مجتمعًا مزدهرًا يعيش في منازل مَبنية جيدًا وقواربهم الثقيلة راسية على الشاطئ، في انتظار الظروف المناسبة للإبحار بلا شك.

fig4
شكل ١٠-١: دوران ووكر في المُحيط الهادئ في ظروف مناخية محايدة.
fig5
شكل ١٠-٢: دوران ووكر في المحيط الهادئ في سنوات ظاهرة إلنينو، مع تحرك منطقة الحَمل الحراري الرئيسية شرقًا نحو بولينيزيا الفرنسية. وفي ظل هذه الظروف، قد تحل رياح غربية متقطعة محل الرياح التجارية المُعتادة، مما يوفر فرصةً للإبحار شرقًا في المناطق المدارية حيث يؤدي هبوط الهواء فوق أوقيانوسيا إلى انهيار أنماط الرياح المعتادة.

تستحضر مثل هذه القصص في مُخيلتي صورًا حية عما يبدو عليه الأمر في الواقع. فالبولينيزيون، الذين كانوا على درايةٍ بموقعهم في عالَم من المياه والجزر، كانوا يعرفون بالتأكيد الظواهر المناخية المؤقتة، التي تتواتر بمعدل يُتيح لكل جيلٍ لاحق من البحَّارة أن يُعايشها معايشةً مباشرة. أتخيل رجلَين على الشاطئ قبل ٥٠٠ عام. ربما يُراقبان الرياح الشرقية وهي تبدأ في التلاشي، أو يلاحظان طيورًا جديدة تتفحَّص الشُّجيرات وتحلِّق فوق الشعاب المرجانية. تغيَّر لونُ السماء قليلًا، وانعكس ذلك على سطح البحيرة المتموِّج.

يقول أحدهما: «لا بد أن الوقت سيحين قريبًا. هل أوشكتَ على تحميل قاربك؟»

يرد الآخر: «كدتُ أنتهي. أخذَ صهري أدوات حديقتي، لكنه وعدَ بإعادتها بحلول الغد.»

انطلق سكانُ جُزر المحيط الهادئ الأوائل من الغرب، حيث تحركوا ببطءٍ في البداية على طول التضاريس المُنحدرة في جنوب شرق آسيا ووصلوا في النهاية إلى أماكن بعيدة مثل أمريكا، أو على الأقل بالقُرب منها. كان لدى سكان الجُزر خرائط رسموها بأنفسهم في أذهانهم، مرتبطة بتصوراتٍ مختلفة حول المناطق المُتصلة والمنفصلة. وإن انتشار آثارهم الباقية التي خلَّفوها على طول مساراتهم ذَهابًا وإيابًا؛ من أدوات، وأسماء أماكن، وأنواع محاصيل، وحمض نووي، يعكس نمطًا مُتكررًا للتنقُّل عبر هذه الطرق. إذ ينبت أحد نباتات تاهيتي في نيوزيلندا. ويُعثَر على فأس حجري من هاواي في نوكو هيفا. ربما لم تُفقَد إلى الأبد أدوات الحديقة التي أخذها أفراد العائلة في رحلات القوارب.

خطرت لي لأول مرةٍ فكرةُ زيارة تونجاريفا كوِجهةٍ محتملة، وذلك في وقتٍ متأخر من إحدى الليالي التي ربما لا تزال تتصدر قائمة أكثر المواقف رعبًا التي مررتُ بها في مسيرتي المهنية. كان أحد مُعاوِنيَّ على متن السفينة مريضًا وفي حالة حرجة، وكانت السفينة في منتصف الطريق من هاواي إلى بورا بورا. وعلى الهاتف عبر القمر الصناعي، سمعتُ صوتًا مشوشًا، ضعيفًا ولكنه حريص على المساعدة:

«نعم، يا «روبرت سي سيمانز»، أيُّ مهبط للطائرات أقرب إليكم؟»

يُعَدُّ وصف «الأقرب» أمرًا نسبيًّا في مثل هذه اللحظات. على هامش الخريطة، وعلى بُعد ٤٥٠ ميلًا فقط، كانت هناك تونجاريفا، وهي مكان لم أكن قد ذهبتُ إليه قطُّ أو حتى فكرتُ فيه حتى ذلك الحين. تُرى مَن سنجده هناك؟ راودَتني التساؤلات. في النهاية، لم نذهب إلى هناك لكن طيف هذا الموقع الذي لفت انتباهي للحظاتٍ وجيزة لا يزال محفورًا في ذاكرتي. تخيَّل أنك تقود سيارتك ليلًا عبر وسط أمريكا المُقفر، ربما في كانساس. ويُحيط بك ظلامٌ دامس باستثناء مجموعةٍ من الأضواء المارة على مكان مرتفَع بعيد. يُومِض أحد المؤشرات على لوحة القيادة وتنظر باتجاه الأضواء، متسائلًا للحظة وجيزة عمَّن يعيشون هناك وعمَّا إذا كان يمكنهم مساعدتك.

•••

لم يكن لدى السِّير جيلبرت ووكر أيُّ معرفة بالمحيط الهادئ عندما تولَّى وظيفة في إدارة الأرصاد الجوية الهندية في عام ١٩٠٤. كان ووكر عالِم رياضيات ولم يكن خبيرًا في الأرصاد الجوية، لكن أسلافه أدركوا ببصيرتهم أن الرياضيات ستكون ضروريةً لفهم السبب وراء تطوُّر الرياح الموسمية الآسيوية على نحوٍ كارثي خلال عدة سنواتٍ في أواخر القرن التاسع عشر. هذه هي الرياح الموسمية نفسها التي جلبت السفن الشراعية العربية ذَهابًا وإيابًا بين زَنجَبار وكَلكتا، في دورةٍ موسمية للرياح بين البيئتَين القارية والبحرية في جنوب آسيا. في الربيع والصيف، يسخُن الهواء فوق اليابسة ويرتفع. وهذا يسمح للهواء المُحيطي الرطب بالانزلاق للأسفل، جالبًا الأمطار إلى مناطق كانت ستصبح قاحلةً في معظم أوقات السنة لولا ذلك. تضرب الرياح الموسمية ولاية أريزونا أيضًا، ولكن بجرعاتٍ ضئيلة جدًّا مقارنة بالرياح الموسمية في آسيا، حيث تعتمِد قارة بأكملها على الأمطار الموسمية لدعم زراعتها. وعندما لم يحدُث ذلك في عام ١٨٧٧، كانت النتيجة مجاعة كارثية.

استعرضَ ووكر عقودًا من بياناتِ الضغط الجوي من جميع أنحاء العالم، وأشار إلى وجود أنماطٍ متميزة للتأرجُح في ضغوط السطح عبر أحواض محيطات الأرض الثلاثة الرئيسية: شمال المحيط الأطلنطي، وشمال المحيط الهادئ، والأهم على الإطلاق جنوب المحيط الهادئ، حيث لاحظ أن فترات الضغط المرتفع بشكلٍ غير طبيعي فوق أماكن مثل أستراليا تتزامن مع فترات ضغط أقل باتجاه الشرق، والعكس صحيح. علاوة على ذلك، لاحظ أن الظواهر المُتطرفة التي أطلق عليها في نهاية المطاف اسم التقلبات الجنوبية ترتبط باتجاهات هطول الأمطار ودرجة الحرارة في مجموعةٍ متنوعة من المناطق، كالهند، وتشيلي، وأمريكا الشمالية، وحتى أفريقيا. لم يحلَّ ووكر اللُّغز بأكمله، لكن الجداول الإحصائية التي وضعها للتنبُّؤ بالأمطار صمدت في وجه اختبار الزمن وكانت أول محاولةٍ كَمية للتنبؤ بالطقس على المدى الطويل على أساسٍ مناخي. تطوَّر هذا العمل في النهاية إلى مؤشر التقلبات الجنوبية، وهي أداة تنبُّؤ موحَّدة الآن لمقارنة ضغوط السطح بين مواقع في تاهيتي وأستراليا، اللتَين تُمثلان موقعَين متعارضَين لتقلُّب مناخ إلنينو. لم يجد السير جيلبرت تفسيرًا كاملًا للرياح الموسمية، ولكن اتضح أن لها ارتباطًا مباشرًا بالتقلبات الجنوبية. تؤدي الضغوط المرتفعة في غرب المحيط الهادئ خلال ظاهرة إلنينو إلى زيادة في جفاف الهواء وضَعف الرياح فوق المحيط الهندي، مما يعني بدوره قلَّة انتقال الرطوبة إلى اليابسة لتكوين الأمطار.

اشتهر جاكوب بيركنس في وقتٍ مبكر باعتباره واضِع النموذج النُّرويجي للأعاصير لعام ١٩٢٢، وهو اكتشاف أساسي ساهم في إرساء دراسة أنماط الطقس المعتدل خلال معظم القرن التالي. كان هذا الإنجاز كافيًا لأي مسيرةٍ مهنية، لكنه بعد أربعة عقود كان أيضًا أول مَن أدرك أن تقلُّبات ووكر الجنوبية كانت مقترنة بظاهرة إلنينو من خلال منظومة من التفاعُلات المباشرة. ونظرًا إلى حُب العلماء للاختصارات، صكوا مصطلح ENSO (ظاهرة إلنينو والتذبذب الجنوبي) لوصف هاتَين الظاهرتَين المُرتبطتَين. كان بيركنس مَن صاغَ مصطلح «دوران ووكر» ورأى كيف يمكن أن تعمل كآليةٍ دافعة للأنظمة المناخية في جنوب المحيط الهادئ. وقد استخدم البيانات التاريخية لتحديد مجموعة من الظروف الأساسية للمحيط الهادئ، ثم استخدم القياسات من دروة إلنينو خلال عامَي ١٩٥٧ وعام ١٩٥٨ لتوضيح كيف تزامنت الضغوطُ السطحية المرتفعة في غرب المحيط الهادئ مع غياب الرياح التجارية وتوقُّف التيارات الصاعدة قبالة بيرو. ومع عدم وجود رياح شرقية تكبحها، شقَّت بحيرة هائلة من المياه الدافئة طريقها عائدة إلى أمريكا، مما أدى إلى عامٍ بائس لصيَّادي البَلَم. وعلى النقيض من ذلك، لاحظ بيركنس أيضًا كيف يمكن أن تُسفر رياحٌ تجارية أقوى من المتوسط عن حلَقاتٍ من ظاهرة النينا من خلال ما هو في الأساس تضخيم للوضع الطبيعي، مما يُعزز التيارات الصاعدة للمياه الباردة قبالة سواحل أمريكا الجنوبية ويزيد من تراكُم الطاقة في المياه الدافئة إلى أقصى الغرب.

شهد شتاءُ عامَي ١٩٥٧ و١٩٥٨ عواصف أقوى في شمال المحيط الهادئ، إلى جانب نظام ضغط مُنخفض راسخ بعنادٍ فوق غرب روسيا. اقترح بيركنس وجود عَلاقة تأثير مباشر بين ظاهرة إلنينو وأنماط الطقس العالمية، وأرجع السبب في كلِّ هذا إلى شرق المحيط الهادئ الشديد الحرارة؛ حيث افترض أن كل تلك الطاقة الزائدة في المحيط كانت تسخِّن الغِلاف الجوي بمعدل سريع، وأن الزيادة اللاحقة في الحَمل الحراري كانت تضخُّ الهواء الدافئ الرطب إلى الأعلى في التيار النفَّاث. أدى هذا إلى تكوين أعاصير أقوى في الشمال ووجَّه تيارًا من الرطوبة الاستوائية نحو ساحل الولايات المتحدة الغربي وخليج المكسيك.

على الرغم من كل ما اكتشفه بيركنس، فقد افتقر إلى البيانات اللازمة لتحديد نقاط التحوُّل بين نصفَي دورة ظاهرة إلنينو والتذبذب الجنوبي. تحديدًا، كيف يعود الطقس إلى الوضع الطبيعي بعد انتهاء دورة إلنينو؟ ومتى سيبدأ بعد ذلك في الانحراف إلى النقيض الآخر؟ استغرقت معرفة هذه التفاصيل معظم العَقدَين التالِيَين، حيث تحسَّن فهم العلماء لكيفية انتقال الطاقة بين المحيط والغِلاف الجوي. وإلى حَدٍّ ما، كانت هناك بعض التساؤلات المشابهة لمعضلة أيهما جاء أولًا: البيضة أم الدجاجة؛ حيث إن أي نمَط للتقلُّب هو دورة مُستمرة من التراكُم والارتداد. في عام ١٩٧٥، لاحظ باحث يُدعى كلاوس وييرتكي أن أحداث إلنينو غالبًا ما تسبقها فترة من الرياح التجارية القوية و«فرط شحن» لتجمُّع المياه الدافئة في غرب المحيط الهادئ، والذي بدَوره أنتج تيارًا عكسيًّا شرقيًّا من المياه الدافئة على شكل ما يُسمى «موجة كلفين». ويمكن لكتلة المياه الدافئة هذه التي ترتدُّ نحو أمريكا الجنوبية أن تُضعِف الرياح التجارية، مما يجعل من السهل للغاية على الموجة الدافئة أن تمضي إلى الشرق. استخدم وييرتكي بياناتٍ من أجهزة قياس المدِّ والجزْر لدعم هذه النظرية القائلة بوجود ما يشبه طبقة المياه المائلة التي تتدفق ذَهابًا وإيابًا عبر المحيط، مشيرًا إلى أن ارتفاع مستوى سطح البحر قبالة بيرو يمكن أن يزيد بمقدارٍ يصل إلى ٢٠ سنتيمترًا في عام ظاهرة إلنينو. في نهاية المطاف، تتراكم كَميةٌ كافية من المياه الدافئة لإعادة شحن الرياح التجارية، ويعود النظام للتدفُّق نحو التوازن. تستغرق الدورة الكاملة في هذه العملية ما بين ستة شهور إلى ١٨ شهرًا.

في عام ١٩٨٦، حقق فريقٌ في جامعة كولومبيا أول توقُّع لظاهرة إلنينو والتذبذب الجنوبي يستند إلى نموذج رياضي، وهو إنجاز تمكَّنوا من تَكراره بتوقعٍ ناجحٍ آخرَ في عام ١٩٩١. ومنذ ذلك الحين، بُذِل الكثير من الجهد لتحسين النماذج، على الرغم من أنها لا تزال علميًّا غير دقيقة. في عام ٢٠١٤، شعر العلماءُ في وكالة ناسا والإدارة الوطنية للمحيطات والغِلاف الجوي — وهما مؤسستان شريكتان في مجال التنبؤ بالمناخ — بأن درجات حرارة سطح المحيط الهادئ كانت مرتفعة بما يكفي لتنبؤٍ يُقارب اليقين ببداية ظاهرة إلنينو. وعلى الرغم من ذلك، لم تسِرْ عمليات الغِلاف الجوي حسب التوقُّعات، ولم تحدث الظاهرة. وفي عام ٢٠١٥ التالي، أعلن القائمون على وكالة ناسا عن أن ظاهرة إلنينو «أكبر من أن تفشل» تلوح في الأفق، وهذه المرة كانوا على حَقٍّ؛ فقد حدثت الظاهرة وحقَّقت معظم الأرقام القياسية السابقة أو تجاوزتها.

على الرغم من هذه التحذيرات المُبكرة — ربما بسبب التنبؤات الفاشلة في العام السابق — واجهت وكالة الأرصاد الجوية الإندونيسية صعوبة في إيصال رسالتها إلى المزارِعين بشأن الحاجة إلى توخِّي الحذَر في حقولهم. يُعتبر موسم الجفاف هو الوقت التقليدي لحرْق الشجيرات في مزارع النخيل، وفي عام ٢٠١٥ زاد الحريق عن الحد، حيث تحوَّلت عمليات الحرق المُحكَمَة إلى حرائق كبيرة في ظلِّ الجفاف.

تنتشِر اضطرابات إلنينو هبوطًا على شكل سلسلة من التموُّجات في تدفق الغِلاف الجوي بأكمله. أظهرت الفترة ما بين عامَي ١٩٥٧ و١٩٥٨ الذي اختاره بيركنس كعينةٍ نمطًا نموذجيًّا للآثار الثانوية، من أمطار غزيرة وثلوج في غرب أمريكا، وظروف دافئة في غرب المحيط الأطلنطي، وشتاءٍ أوروبي قارس حيث استقرَّ منخفَض ضغط جوي فوق روسيا لأسابيع متواصلة. تجلَّى ذلك النمط مرة أخرى في شتاءِ عامَي ٢٠١٥ و٢٠١٦ عندما شهدت منطقةُ شرق الولايات المتحدة أعاصير نادرة في شهر ديسمبر، وتعرَّض الغرب لهطولٍ غزير من الأمطار والثلوج، وضربت أوروبا سلسلةٌ من العواصف البحرية الشديدة التي جلبت كَمياتٍ استثنائية من الأمطار إلى أجزاءٍ من المملكة المتحدة وأيرلندا. ومما يدلُّ على أن الأحداث التي يُنظَر إليها عادةً على أنها ضارة أو كارثية، غالبًا ما تكون لها آثار إيجابية على بعض الناس أو المناطق، على الرغم من كونها ضارة للآخرين، ترتبِط سنواتُ إلنينو عادةً بعددٍ أقل من الأعاصير في شمال الأطلنطي، حيث تزيد تيارات الهواء النفَّاثة شبه المدارية القوية رياح القص وتميل إلى تدمير التناظُر الرأسي الذي يتطلَّبه تكوُّن العواصف المدارية.

fig6
شكل ١٠-٣: خلال السنوات العادية وسنوات ظاهرة النينا، تتسبَّب الرياح التجارية القوية في ارتفاع مستوى سطح البحر غربي المُحيط الهادئ. وتكون درجة حرارة الهواء دافئة، وينخفض ضغط الغِلاف الجوي على السطح. وتنحدِر بشدة طبقةُ التغيُّر الحراري (الطبقة الانتقالية بين المياه السطحية الدافئة والمياه العميقة الأبرد) من الشرق إلى الغرب، مع ارتفاع المياه الباردة إلى السطح قبالة سواحل أمريكا الجنوبية.
fig7
شكل ١٠-٤: في سنة إلنينو، ينخفض مستوى سطح البحر غربي المحيط الهادئ، حيث تضعف الرياح التجارية و«تندفع» المياه الدافئة عائدةً عبر المحيط الهادئ نحو أمريكا الجنوبية. ويزداد الضغط الجوي فوق أوقيانوسيا حيث تتبع منطقة الحَمل الرئيسية المياه الدافئة شرقًا فوق وسط المحيط الهادئ.

هناك الكثير من التكهُّنات حول مدى تأثر كل هذا باحترار المناخ، غير أن ظاهرة «إلنينو والتذبذب الجنوبي» ليست بالأمر الجديد تاريخيًّا. استخدم العلماء في جامعة ماين بقايا مُخلفات الولائم البحرية التي تعود لآلاف السنين في بيرو لرسم خطٍّ زمني لظاهرة إلنينو في الماضي. إذ اتضح أن الرخويات تُمثل مؤشرًا ممتازًا على حالة المناخ. فالعديد منها لا يستطيع تحمُّل تقلباتٍ كبيرة في درجة حرارة البحر، وتفتقر الرخويات ذوات الصدفتَين المتوسطة الحجم إلى القدرة على الحركة للانتقال من مكانٍ إلى آخر عندما يصبح الطقس غير مُواتٍ. نظر أفرادُ فريق جامعة ماين إلى أكوام الأصداف التي خلَّفتها المُجتمعاتُ الساحلية القديمة ولاحظوا أن أنواعًا مُعينة كانت قد اختفت بينما بقِيت سلالاتٌ أكثر تحملًا للحرارة خلال فتراتٍ مُعينة. في المناطق الداخلية، استخدموا السجلَّات الجيولوجية لحطام الفيضانات لتأكيد هذه النتائج، بينما استخدمت دراساتٌ أخرى طبقات المواد النباتية المرتفعة المحفوظة كمؤشر مُماثل. ميزت رواسبُ الفيضانات سنواتِ إلنينو، بينما أشارت طبقاتُ الخُثِّ المرتفعة إلى فتراتٍ طويلة من البرودة وظروف نمو الطحالب التي تتزامن مع فترات الحياد أو النينا.

كلُّ هذا قاد علماء جامعة ماين إلى استنتاج أن ظاهرة إلنينو التي نُواجهها في عصرنا الحالي قد نشأت منذ ثلاثة آلاف عام تقريبًا. وقبل ذلك، يبدو أنها كانت أقل تَكرارًا، ربما بمعدل مرةٍ واحدة في حياة المرء. وقبل حوالَي ستة آلاف عام — منتصف حقبة الهولوسين الحالية تقريبًا — يبدو أن المناطق الاستوائية كانت أكثر دفئًا بشكلٍ عام، وأقل تقلبًا. تُظهر السجلات الأثرية في بيرو نمطًا يبدو أنه يعكس هذا التبايُن. إذ تُعتبر مستوطنات تلال المعابد في غرب بيرو أقدم المدن المعروفة في العالم الجديد، وقد ازدهرت في الفترة التي سبقت ظهور ظروف إلنينو الحديثة منذ ثلاثة آلاف عام تقريبًا. بعد تلك الفترة، ربما دفعتها الصفعة المزدوجة التي تلقَّتها والمُتمثلة في الفيضانات المُتكررة وتدهور صيد الأسماك إلى الانتقال إلى مكانٍ آخر. كانت آخِر مدينة من مدن تلال المعابد التي صمدت في المنطقة التي شملتها الدراسة في مكانٍ يُسمَّى مانشاي باجو، حيث وجد علماءُ الآثار أدلةً على بناء سدودٍ خلال سنواتها الأخيرة في محاولة لمواجهة آثار الفيضانات المفاجئة.

•••

على الجانب الجنوبي من تاهيتي، ننتقل بالسفينة إلى بحيرةٍ عميقة ذات قاع جيد للرسو ومساحة كبيرة للمناورة في حال اشتدت الأحوال الجوية. هنا توفر كتلةُ القبة البركانية للجزيرة مأوًى جيدًا للرياح القادمة من الشمال الغربي. وهذا هو المكان الذي أتت إليه السفن الحربية الفرنسية منذ زمنٍ بعيد، قبل بناء المرفأ التجاري في مدينة بابيتي. لا يزال بإمكانك أن تجِد مراسيها الخرسانية الضخمة على طول الشاطئ، مملوءة بالكتابات على الجدران وقوية بما يكفي لتحمُّل حاملة طائرات. أظن أننا إذا لزم الأمر يُمكننا ربط سفينتنا بإحدى تلك المراسي والانتظار في أمانٍ عند هبوب رياح شديدة. كان تابويراها أول ميناء للمياه العميقة في تاهيتي، غير أنه لم يعُد يوجَد هنا الآن إلا صفٌّ من أشجار النخيل المُمزقة وحانة متهالكة على جانب الطريق نجِدها مغلقةً كلما تفقدناها. من مرسانا في المرسى، نرى السيارات تمر مُسرعةً، وتظهر وتختفي بين الأشجار. وبجوار أنقاض ميناءٍ صغير قديم، يُخيم أفرادُ عائلةٍ محلية تحت مظلة، ويقفز أطفالها من رصيفٍ مُتهدم إلى الماء. يستمر المطر، ويتغير ببطءٍ بين رذاذٍ خفيف وهطول غزير. وبمرور الوقت، نعتادُ المطر حتى إننا لا نكاد ننتبِه إليه.

نخطِّط لبعض المشاريع، ونلعب لعبة الورق المُسمَّاة الكريبج، ونخرج لزيارة مكان ركوب الأمواج الشهير في تيهوبو، على مسافةٍ غير بعيدة على الطريق الضيق. لمدة شهرٍ من كل عام، يصبح هذا المكان أشبه بمصحَّة للمجانين، حيث يأتي راكبو الأمواج المحترفون لمواجهة الموت على أمواج الشتاء العملاقة، لكنه الآن مجرد قرية صيد. تحوم الكلاب في المكان بحذَر، ويلوِّح شخصٌ ما من تحت سقفٍ مصنوع من سعف النخيل في موقف للسيارات. بعد هذا المكان، ينتهي الطريق ولا يوجَد شيء سوى الشاطئ المُمتلئ بالأشجار لامتداد تاهيتي الشرقي غير المُعبَّد. ننتظر ٣٦ ساعة في تابويراها، وهي مدة كافية للتأكد من وجهة العاصفة. في النهاية، لا نُواجِه إعصار جاري على الإطلاق. إذ يشق طريقه شرقًا ثم جنوبًا في النهاية، حيث ينحرف نحو المحيط الجنوبي، كما تفعل أحيانًا الأعاصير البولينيزية.

بشعور أفضل تجاه المُستقبل، نُبحر مرة أخرى فيما يتَّضح أنه حلقة طويلة وممطرة عبر جزر سوسايتي الغربية: موريا، وهواهاين، وبورا بورا بقِمَمها الحجرية الجذابة، وراياتيا، التي ظنَّ البعض أنها نقطة انطلاق جولة الرحلات البحرية البولينيزية الأخيرة العظيمة منذ ألف عام. خلال كلِّ هذا، يُطاردنا المطر في موجاتٍ، ويعود بانتظام ودِقَّة كالساعة بعد كل فترةٍ خادعة من سطوع أشعة الشمس. تكون الرياح متقطعة وصاخبة مع مرور العواصف، ثم تختفي تمامًا، وتتدلَّى الأشرعة مُبتلةً ومرتخية. هناك تموُّج ثابت يندفع من عواصف بعيدة، ويمكن رؤية بروزه الطويل على المياه الهادئة حيث ترتفع الطيور البحرية العائمة وتختفي في القِمَم والوديان المتناوبة. تنضج ثمار القشدة التي اشتريناها من السوق ونلتهمها، وهي كراتٌ خضراء شائكة ذات بذور سوداء صلبة وحشوة مثل كَسترد الفانيليا. لا يمكنك العودة لتناول الفاكهة العادية بمجرد تناوُل مثل هذه الأشياء.

أراجعُ مع علماء المُحيطات في طاقمنا البيانات ونتفق على أننا بلا شك نلاحظ مؤشراتٍ تقليدية على ظاهرة إلنينو، من ارتفاعٍ لدرجاتِ حرارة الماء، وركودِ الرياح التجارية، والظروفِ الرطبة، وتهديدٍ من أعاصير شرق نطاقها الطبيعي. بعد شهر، بدأت التقارير الواردة من الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي ووكالة ناسا تُصبح غير واضحة. يقولون إنه ربما لن تحدث الظاهرة هذا العام في نهاية المطاف. تعاود الرياح التجارية الظهور، بوتيرةٍ غير مُنتظمة في البداية ثم بهبَّة دافئة ومستمرة تستعيد بها زخمها. وتتراجع مؤشراتُ المناخ المختلفة إلى المنطقة المحايدة، وتُلغى التحذيرات. يأخذ العلماء كل هذا ببساطة؛ فمِن صميم مِهنتهم إدراك أنه لا وجودَ في الواقع لما يُسمى بالمؤشر التقليدي. فمن الضروري ببساطةٍ مواءمة استنتاجات المرء مع أحدث البيانات المتاحة. ويُخبرني أحدهم أنه يوجَد بالفعل اسم لهذا النوع من الخداع بظاهرة إلنينو والتذبذب الجنوبي الذي تعرَّضنا له. ويطلق عليه العلماءُ اسم «النادا»، (أي «لا شيء»).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥