الفصل الحادي عشر

مثاقب الجليد

يترك البحَّارة مُقتضيات الطقس اليومية ويغوصون في عالَم المناخ عندما يضعون خططًا للرحلات المُستقبلية. ما مدى السلاسة أو الوعورة التي قد يتوقَّع المرء أن يتَّسم بها عبور ممرٌّ مُعين في مُحيط مُعين في وقتٍ مُعين من السنة؟ هل من الأفضل الإبحار بعيدًا عن الشاطئ أم البقاء بالقرب منه؟ هل ستكون الرياح التجارية، المُحرك السرمدي للسفن الشراعية، موثوقًا بها أم مُراوِغة؟ وما مدى احتمال هبوب إعصارٍ يَقلب الخطة الموضوعة بدقة رأسًا على عقِب؟ الكثير من هذه المعلومات الإحصائية موجود في مطبوعة رائعة تُسمَّى «خريطة الإرشاد»، وهي عبارة عن مجموعة من الصفحات التي تَعرِض، شهرًا بشهر، الاتجاهاتِ التاريخيةَ للرياح، ودرجة الحرارة، والجليد، والعواصف لكل منطقة من مناطق المحيط. لا يعتمد البحَّارة في إبحارهم على هذه الخرائط، ولكن رموزها المُميزة ستُخبرك بما يمكن أن تُلاقيه سفينتك بمجرد أن تترك عوَّامة المرفأ خلفك. هذا هو جوهر عِلم المناخ التطبيقي، أي استخدام متوسطات البيانات الطويلة للاسترشاد بها في القرارات، تمامًا مثل الخرائط الصادرة عن مكتب الطقس القديم التي كانت تنصح المُزارعين في ولاية آيوا بموعد زراعة الذرة.

كان مُبتكِر فكرة «خريطة الإرشاد» أمريكيًّا يُدعى ماثيو فونتين موري، وهو مُلازم عُيِّنَ عام ١٨٤٢ لإدارة مُستودع الخرائط والأجهزة الناشئ التابع للبحرية الأمريكية. بسبب إصابةٍ تعرَّض لها في حادث عربة تجرُّها الخيول وعدم قُدرته على الإبحار، وجَّه موري طاقته الهائلة في وضع سجلٍّ للرياح والتيارات لمُحيطات العالم، أي أطلس بحري لتخطيط الرِّحلات، مُستند إلى بيانات أُخِذَت على مدار سنواتٍ من سجلَّات السفن. ومثل بوفورت وفيتزروي في إنجلترا، كان موري رائدًا في توحيد الصيغة التي تُسجل بها السفن في البحر الطقسَ، مقدمًا في المقابل نُسَخًا مجانية من خرائطه لأي شخصٍ يرغب في المشاركة في نظام المُراقبة الذي وضعه. بحلول عام ١٨٦١، طوَّر مجموعة عالمية من منتجاته المميزة، شملت إصداراتٍ خاصة بالرياح الموسمية، والتيارات المحيطية، والعواصف، والأمطار، وصيد الحيتان.

استخدم قادة سفن حُمَّى الذهب في كاليفورنيا أعمال موري للتخطيط لمساراتهم وجنَوا نتائج أفضل كثيرًا بعدها؛ فبحلول عام ١٨٥٥، انخفضَ متوسط وقت رحلة الإبحار من نيويورك إلى سان فرانسيسكو بنسبةٍ قاربت الثلاثين في المائة، من ١٨٧ يومًا إلى ١٣٦ يومًا. وقد صمد الرقم القياسي لتلك الرحلة الذي بلغ ٨٩ يومًا، والذي حقَّقته السفينة الشراعية «فلاينج كلاود» في عام ١٨٥٤حتى عام ١٩٨٩. تعثَّر هذا التقدُّم الفاصل في تاريخ الإبحار في بداية الحرب الأهلية الأمريكية بسبب انشقاق موري وانضمامِه إلى الكونفدرالية، لكن خرائط الإرشاد التي وضعها استمرَّت. فلا تزال مُتوفرة في شكلٍ مُحَدَّث تُصدره الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية، وهي سليل بيروقراطي لمكتب موري القديم. تحافظ الخرائط الحديثة على مفهوم موري لتقسيم المُحيطات إلى شبكة إحداثيات، رُسِم على كل مربع من مربعاتها، التي تبتعِد فيها خطوط العرض والطول مسافة خمس درجات، شيءٌ يُسمَّى «وردة الرياح»، وهو قُرص يُمثل متوسطات الرياح للشهر المَعني. تُظهِر علامات أخرى النسبة المئوية للعواصف والهدوء في كلِّ مربع، والمسار العام وتَكرار الأعاصير، والتيارات المُحيطية، كما تُظهر في المناطق القطبية الامتداد السنوي للجليد الانجرافي والجبال الجليدية.

الدكتور كيفن وود هو باحث في مختبر البيئة البحرية للمُحيط الهادئ التابع للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي في سياتل. وهو خليفة ماثيو فونتين موري ولكن في عالم السجلَّات الرقمية، حيث يقضي أيامًا منكبًّا على إعداد سجلات السفن القديمة لعمليةٍ تُعرَف باسم «إعادة التحليل»، وهو تدبير يعتمِد على أجهزة كمبيوتر فائقة لإنتاج صور حديثة لأحداث الطقس الماضية عن طريق إدخال بيانات قديمة في أحدث نماذج التنبؤ بالطقس. تخيَّل مجموعةً من الرسومات الرقمية لإعصار جالفستون عام ١٩٠٠ أو فيضان نهر التيمز عام ١٩٢٨، وكلاهما متاحان الآن للمشاهدة مجانًا على موقع الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي الضخم. في الواقع، يمكن للمرء، باستخدام الاستفسارات الصحيحة، أن يطلُب من الخادم لقطةً لحالة الغِلاف الجوي للأرض في أي نقطةٍ زمنية منذ عام ١٨٣٦. الأمر بمثابة آلة زمن للمناخ، حيث تُستخدَم الحسابات البحتة لتعويض النقص النِّسبي في البيانات من سنواتٍ مثل عام ١٨٦١ عندما كادت عاصفة تُسمَّى إعصار إكسبيديشن أن تقضي على هجوم للبحرية الاتحادية على تحصينات الكونفدرالية في ولاية كارولينا الشمالية.

يُسمي العلماءُ هذه الطريقة «إعادة تحليل المُدخلات المتفرقة»، والتي ربما من المنطقي أن يُسميها غير المتخصِّصين «صُنع شيءٍ من لا شيء». وفيها تُعرَض صور ملونة بالكامل لأحداثٍ عمرُها قرن من الزمان بمستوًى لا يمكن لأي سجلِّ محفوظاتٍ الوصول إليه. المُدخَل الرئيسي المُستخدَم في إعادة التحليل هو ضغط السطح، وهو عبارة عن تسجيلاتٍ بارومترية لكل ساعة، يأخذها عددٌ لا يُحصى من ضباط السفن الذين يقرءون بلورة الطقس في رحلاتهم في مختلف الأزمنة والمواقع. ويبدو أن الضغط الجوي، وهو قياس بسيط وروتيني في حدِّ ذاته، قادر على أن يكون مؤشرًا على مجموعةٍ من القِيَم الأخرى في حال استخدام وحداتِ الجيجا فلوبس المناسبة.

لقد أبحرتُ مع كيفن قبل سنواتٍ على متن سفينة عالية الصواري في رحلة إلى منطقة البحر الكاريبي بعد صيفٍ طويل قضيناه في الظروف البائسة الصاخبة لإحدى ترسانات السفن بولاية ماين. بحلول شهر أكتوبر، كنا قد أزلنا أخيرًا آخِر حُبيبات الكشط بالرمل عن أسطح السفينة وانطلقنا، ونحن لا نزال مُعتمِدين على الأشرعة مع تلاشي ضوء النهار واختفاء الساحل خلفنا وسط خيوطٍ طويلة من الضباب. خلال الشهر التالي، تواكبنا المناوبات المعتادة على متن السفينة خلال ما أُدرك الآن أنها كانت رحلةً خريفية نمطية إلى الجُزر، حيث الليالي الطويلة في البداية التي صاحبها دُوار البحر وأعطال المعَدَّات. وضربة قوية من إحدى العواصف، وانجراف للسفينة تحت المطر الغزير ثم انحراف نحو الجنوب مع مرور الجبهة الباردة. هَلعٌ من إعصار، وفتراتُ هدوءٍ متقطعة شرق برمودا، وأخيرًا الرياحُ التجارية، التي يقودنا هبوبها الدافئ بسرعةٍ وفي صمتٍ لأيامٍ متتالية، لننسى معاناتنا. خلال ذلك كله، كنتُ أجد على وسادتي كل ليلة حفنة كبيرة من حُبيبات الكشط بالرمال، وهي ليست رمالًا حقيقية على الإطلاق ولكنها مُنتج شديد البشاعة يُسمَّى بلاك بيوتي، مصنوع من خَبَث السيليكا المُستخرَج من أفران الصَّهْر. لُمْتُ زميلي كيفن على هذه الخدعة المتكررة، ولكنه كما اتضح لاحقًا كان مظلومًا؛ فبعد أسابيع وجدت كُومة من بقايا هذه المادة وقد تراكمَت في منفذٍ علوي وكانت تتساقط شيئًا فشيئًا على فراشي.

من الأشياء اللافتة للنظر بشأن رفقاء السفن القدامى أنهم دائمًا يُبدون استعدادًا للرد على مكالماتك، بغض النظر عن المدة التي مرَّت عليها. وعندما أتواصل مع كيفن، أجدُه يُراجع سجلات السفن لعاصفةٍ تُسمى إعصار كوبرا، وهو إعصار حلزوني مداري أوقع خسائر فادحة بإحدى فِرق عمل البحرية الأمريكية بالقرب من الفلبين في ديسمبر عام ١٩٤٤. رَصَدَتْ إعصار كوبرا في مراحله الأولى طائرةُ أرصادٍ جوية، ولكن الأدميرال ويليام هالسي، في محاولةٍ لإبقاء سفنه في مواقعها المُحددة بأي ثمن، أمر بإرسالها مباشرةً إلى مسارٍ ما يُصنَّف اليوم على أنه عاصفة من الفئة الخامسة. كانت الخسائر جسيمة. وعلى متن حاملات الطائرات، أفلتت الطائراتُ من أربطتها ونشبت حرائق كارثية. أصبحت السفن الأصغر، التي كانت تُعاني من نقص الوقود، غير مُستقرة بشكلٍ خطير، وانقلب بعضها. في النهاية، فُقِدَ ٧٩٠ بحَّارًا وثلاثُ سفن، وتضرَّرت بشدة عشراتُ السفن الأخرى لدرجة اضطرتها إلى الانسحاب لإجراء إصلاحات. لا تزال سجلات الجيش المكتوبة بأسلوبٍ نثري موجز صادمة عند قراءتها. يقول البعض إن قوة العاصفة كانت ١٩ عقدة؛ أي أعلى بعدة درجاتٍ حتى من الإصدار الواسع النطاق لمقياس بوفورت للرياح المكوَّن من ١٦ نقطة الذي اعتمدته القوات البحرية نفسها. يُخمِّن كيفن أن هذا على الأرجح ما يُكتَب عندما يكون المرء في قَمْرة قيادة السفينة، ويتدحرج ذَهابًا وإيابًا عبر قوس بزاوية ١٤٠ درجة ويشاهد سفينته تنهار شيئًا فشيئًا، من خزائن سطح السفينة، وصناديق العتاد، وقوارب النجاة، ثم المداخن، وبراميلها الفولاذية نصف المربوطة التي تنطلِق كعجلات عصَّارة ملابس جامحة.

يشرف كيفن على القسم الأمريكي في حملةٍ لتحويل أكبر قدْر ممكن من البيانات المناخية القديمة إلى صيغةٍ رقمية لإعادة تحليلها. يُعرف هذا المشروع باسم مشروع الطقس القديم، وقد بدأ في إنجلترا وترسَّخ في الولايات المتحدة بعد أن التقى كيفن بمدير المشروع خلال مؤتمر في عام ٢٠١٠. ومنذ ذلك الحين وهو بمثابة أميرال لقواتٍ بحرية متطوِّعة ينشغل بحَّارتها على المكاتب وطاولات المطابخ بإدخال الأرقام من صفحات الكتب إلى خلايا جداول البيانات. أُدركُ أن هنا أساس كل العلوم؛ الفرز اللانهائي والدقيق للمعلومات. ثمة مَعين لا ينضب من المعلومات لأي شخصٍ يُحب التفاصيل ولدَيه مُتسع من الوقت؛ فلا تزال هناك سجلَّات عسكرية ضخمة من الحرب العالمية الثانية، مطبوعة بحروفٍ واضحة ومثالية للمُبتدئين. أما المُسجلون الأكثر خبرة فيُمكنهم الرجوع إلى السجلَّات الأكثر تعقيدًا لسفن صيد الحيتان، بصفحاتها الطويلة المُغطاة بخطوط أقلام الريشة المُتعرِّجة التي كُتِبَت في مقصوراتٍ صغيرة على بُعد أقدامٍ قليلة من فوضى الروائح الكريهة للمواقد المُتأجِّجة وقدور شحوم الحيتان.

•••

نظر كيفن أثناء دراسته العُليا في السجلَّات التي عاد بها أسطولُ السفن المُتهالكة الذي ألقى بنفسه في الهاوية غير المطروقة لغرب القطب الشمالي، خلال سنوات الاستكشاف المحمومة في القرن التاسع عشر. ومع أنه أُثبِتَ بشكلٍ أو بآخر في عهد الملكة إليزابيث الأولى أنه لا يُوجَد طريق بحري شمالي صالح للعبور بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ، فإن آلة الاستعمار البريطاني النَهِمة لم تتخلَّ قطُّ عن محاولة العثور على مثل هذا الطريق. ألقت البحرية الملكية البريطانية، التي كانت في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى مهمة بعد هزيمة نابليون عام ١٨١٥، بسفينة تلوَ الأخرى في المتاهة التي لا توجَد لها خرائط بين كندا والقطب الشمالي، وكل ذلك بحثًا عن هذا الممرِّ الشمالي الغربي الوهمي. ولم تنجح أي سفينةٍ من تلك السفن في العثور عليه.

وفي أشهُر هذه المغامرات المنكوبة، أبحر قائدٌ يُدعى جون فرانكلين من جرينلاند في صيف عام ١٨٤٥ بسفينتَين و١٢٩ رجلًا، حيث قادت أشرعته رياحُ الهَوَسِ البريطاني في أوْجِها. كانت سفينتاه، «إيريبوس» و«تيرور»، من السفن المخضرمة التي بُنِيَت خِصِّيصَى للاستكشاف القطبي، حيث كانتا مزودتَين بتعزيزاتٍ حديدية ضخمة، ودفَّاتٍ قابلة للسَّحْب، ومراوح تعمل بمحركاتٍ بخارية، وهو ما يُعادل في القرن التاسع عشر محرك السرعة الفائقة لمركبات الفضاء في روايات الخيال العلمي. كما كانتا مزودتَين بمقصوراتٍ ذات تدفئة، ومكتبة مليئة بالكتب، وطعام يكفي لثلاثِ سنواتٍ محفوظ في علب معدنية عصرية. لا بد أن أحدَهم قد قال في ذلك الوقت إن «هذه رحلة استكشافية أكبر من أن تفشل».

كانت ثمة مهمَّة ضخمة تنتظر مشروع فرانكلين. المناطق العُليا المنقسِمة في أمريكا الشمالية كندية بالاسم فقط، لكنها في الواقع تظلُّ واحدة من أكثر الأماكن نُدرة في السكان وأقلها في الرحلات الوافدة على وجه الأرض. هنا يدفع مزيجٌ مُعقَّد من الرياح والتيارات الجليد ذَهابًا وإيابًا إلى الأبد عبر ما يُشبِه المناخل من الجُزر المتناثرة كالجلاميد بين البرِّ الرئيسي والمحيط المُتجمِّد الشمالي، حيث يغيب ضوءُ الشمس عن شواطئها الخالية من الأشجار لمعظم فترات السنة. يكاد الجليد يتجمَّد حتى يُصبح متحجرًا بسبب الدورات السنوية للذوبان وإعادة التجميد، وتُجمِّعُه الرياح في شيء يُسمى «السرب الجليدي»، وهو عبارة عن سطحٍ صلب متعرِّج يندفع جنوبًا في الشتاء ويتراجع بمعدلاتٍ شديدة البطء خلال الصيف القصير. بفضل صلابة السرب الجليدي الخرسانية، فإنه يمكنه محاصرة السفن غير المُحصَّنة وسحقها بسهولة. تشكِّل الجبال الجليدية تهديدًا إقليميًّا آخر؛ فهي كُتَل عملاقة تنفصل عن الأنهار الجليدية وتجوب القطب الشمالي مثل حاملات طائراتٍ وسط جليد البحر. وبفِعل تيارات المُحيط، تتقدَّم الجبال الجليدية بزخم كافٍ لنخر أخاديد في قاع البحر عند جنوحها. وكما أظهر التاريخ، فمِن المفجع الاصطدام بأحدها. يُبطئ السرب الجليدي الجبال الجليدية في الشتاء، ويتركها تفرُّ في الصيف عندما يتراجع جليد البحر وتُشكِّل مناطق من المياه المفتوحة نوافذ قصيرة للملاحة.

في جوٍّ احتفالي كبير أبحر فرانكلين وسفينتاه إلى هذه المتاهة واختفتا تمامًا عن الأنظار، تاركتَين وراءهما لغزًا قد يحفِّز الاستكشاف لجزءٍ كبير من القرن المُتبقي. جاء أوَّلُ الأدلة الحقيقية في ربيع عام ١٨٥٤، عندما التقى مُستكشِف اسكتلندي يُدعى جون راي بمجموعةٍ من الصيادين الإنويت في عُمق ما يُعرَف الآن بمقاطعة نونافوت التي غالبيتها من السكان الأصليين. أخبر الصيادون راي عن شتاءٍ عاصروه قبل أربع سنوات وصادفوا فيه مجموعةً من ٤٠ رجلًا إنجليزيًّا تقريبًا جَوعى يسيرون ببطءٍ وهم يتعثرون عبر الثلج. وأوضحَ قائد هذا الطاقم اليائس، الذي كان رجلًا ضخم البِنية يحمل بندقية، أنهم لاجئون من رحلة بحرية استكشافية فاشلة. كانت سفُنهم قد حاصرها الجليد، وكانوا مُتجهين جنوبًا على أمل العثور على فريسة يصطادونها. لا شك في أن السكان الأصليين، الذين يفهمون حقائق الإمدادات الغذائية في تلك المناطق القاسية، قد أومَئوا برءوسهم للبِيض من غير الإنويت إيماءةً تنمُّ عن دماثة خلُقهم ونأوا عنهم. عندما مرَّ الصيادون أنفسهم بالطريق نفسِه في ربيع العام التالي، رأوا أن البِيض المَنكوبين لم يبتعِدوا كثيرًا. ووسط الجُثث كانت هناك علاماتٌ على أن بعضهم لجأ بيأسٍ إلى الملاذ الأخير وهو أكل لحوم البشر في أيامِهم الأخيرة. وإلى جانب العظام كانت هناك الأشياء التي شعر الرجال الضائعون بأن مِن الضروري حملها وهم ماضون في طريقهم؛ من علب أقلام رصاص من خشب الأبنوس، وساعات جيب ذهبية، وأوانٍ فِضية إنجليزية منقوشة.

أصبح البحثُ عن فرانكلين نسخةً من العصر الفيكتوري من برنامج الفضاء. وبحلول الوقت الذي تَكَشَّفَ فيه تمامًا مصيرُ السير جون، كانت سلسلةٌ من الرحلات الاستكشافية المُضنية قد ملأت خريطة القطب الشمالي الفارغة، وأثبتت أنه كان من الممكن نظريًّا على الأقل، وإن لم يكن مُستحسنًا، عبور شمال كندا عن طريق الماء. ولكنَّ هذا لم يتحقَّق إلا في عام ١٩٠٦ على يدِ النرويجي روال أموندسن في سفينةٍ صغيرة تُسمَّى يوا. لم يكن الأمر سهلًا. مضى روال وأفراد طاقمه بحذَر في طريقهم عبر سلسلةٍ من الممرَّات الجانبية الضحلة التي لم يكن بإمكان أي سفينةٍ كبيرة أن تمرَّ بها، بالقُرب من ساحل البر الرئيسي. وقد أمضوا شتاءَين مُحاصَرِين بالجليد قبل أن يظهروا أخيرًا في مكانٍ ما شمال ألاسكا. ثم شرع أموندسن نفسُه في رحلة تزلُّج لمسافة ٥٠٠ ميل (٨٠٤ كيلومترات تقريبًا) لإرسال أنباءِ نجاحِه عبر التلغراف، مُعلنًا أن الإنجاز التاريخي الذي حقَّقه كان إنجازًا في تحدِّي ظروف الشتاء القاسية بقدْر كونه إنجازًا ملاحيًّا. وبعد ٤٠ عامًا أخرى، تمكَّن كنديٌّ يُدعى هنري لارسن (وهو نرويجي آخر في الحقيقة) من اجتياز الطريق نفسه خلال موسم واحد فقط بسفينةٍ صغيرة مُتعدِّدة الصواري مكَّنته من عبور المياه الضحلة والمناورة بعيدًا عن الساحل لتفادي السرب الجليدي.

كان كيفن وود حريصًا في أبحاثه على معرفة ما إذا كانت المصاعب التي واجهتها هذه النفوس المُنقادة إلى الاستكشاف يمكن أن تكون — كما ظن الكثيرون — مرتبطةً مناخيًّا بما يُعتبر «العصر الجليدي الصغير» في أوروبا، وهي فترة من الشتاء القارس استمرَّت بشكلٍ مُتقطع لعدة قرون بدءًا من حوالي سنة ١٤٠٠ ميلادية. يمكن إرجاع السبب في فشل المُستعمرات الإسكندنافية في جرينلاند وهزيمة نابليون في روسيا إلى العصر الجليدي الصغير. راجعَ كيفن سجلاتِ ٤٤ رحلةً استكشافية إجمالًا، من مجلداتٍ مليئة بالأسماء التي مِن المؤكَّد أنها ستأسِر لُبَّ أي شخصٍ سبق له أن نظر إلى خريطة القطب الشمالي. وبتصفُّح هذه الصفحات البالِغة الأهمية، توصَّل كيفن إلى بعض الاستنتاجات غير المسبوقة، ومنها أنه بالمقارنة بسجلِّ البيانات الأكبر، فإن القطب الشمالي في عصر فرانكلين كان يبدو مشابهًا تمامًا لما كان عليه في الأزمنة اللاحقة، على الأقل حتى عام ٢٠٠٠. على الرغم من أن أوروبا في القرن التاسع عشر ربما كانت شديدةَ البرودة، فقد كانت ظروف الجليد في القطب الشمالي الكندي متوسطة. ومع أن الممرَّ الشمالي الغربي نفسه أصبح رمزًا عالميًّا للمساعي الفاشلة، لاحظ كيفن أن العديد من المُستكشِفين البريطانيين كانوا قد اقتربوا اقترابًا مُحفِّزًا من النجاح وسط إخفاقاتهم؛ فلم يكن يفصل بعضهم عن النجاح سوى مائة ميل. لو كان ملَّاحو القرن التاسع عشر يملكون نظامَ تحديد المواقع العالمي ومُحركات الديزل ربما كانوا سيُحققون نتائج أفضل.

•••

في رحلاتي أيام الشباب إلى جرينلاند، سمحتُ لنفسي بالشعور ببعضٍ من الإثارة لكوني تربطني قرابةٌ مع هؤلاء المُستكشِفين الأوائل لهذه الأماكن الخلابة. كان من الصعب أثناء الإبحار وسط كل تلك الصخور والجليد التفكير في أن المكان قد بدا مختلفًا في أي وقتٍ مضى. غادرنا ماين في أواخر شهر يونيو، وهي مرحلة أظهرت خرائط الملاحة فيها أن تراجُع الجليد البحري الصيفي سيكون على الأرجح جاريًا على قدَمٍ وساق. بعد توقُّفٍ قصير في نيوفاوندلاند، أبحرنا شمالًا مباشرةً، صعودًا إلى خطِّ الزَّوال ٥٣ على طريقٍ مُصمَّم لنقلنا بعيدًا للغاية عن ساحل لابرادور، حيث يُبقي تيارٌ بارد على الجليد لفترةٍ أطول عادةً. على مدار التاريخ، أُدرِج احتمالُ حدوث عواصف على طول هذا الطريق بنسبة مُنخفضة في يوليو — بين اثنين وستة في المائة — على الرغم من أننا سرعان ما سنتوصَّل إلى دليلٍ على أن النُّدرة لا تعني مُطلقًا الاستحالة. بينما كانت الريح تعصف والمطر ينهمر بشدة، كنت أتأمَّل في هذا الدرس المُستفاد من الإحصاءات مُلاحظًا المُحيط الهادئ وقد خطر في بالي أن ثمة احتمالًا أن تكون بعض البيانات قد فُقِدَت. تُرى كم عاصفة تهب هنا ولا يوجَد مَن يرصدها؟

من موقع رسوِّ سفينتنا بعد العاصفة، مضينا في طريقنا صعودًا إلى ساحلٍ باللونَين الأبيض والأسود من الجبال المكسوة بالثلوج، وكان الجليد متناثرًا في المياه التي كانت تُخفيها بانتظام شرائحُ طويلة من الضباب. حلَّ محلَّ الليل شفقُ الصيف القطبي الخافت، وهو شفقٌ مشحون بالطاقة جعل النوم يُجافينا وصار معه تحديد الوقت أمرًا صعبًا. ظل أفراد الطاقم مُستيقظين في جميع الأوقات، مُنفصلين عن الزمن ويحدوهم أملُ الوصول إلى وجهتهم بعد رحلةٍ طويلة وشاقة. كانت الحيتان في كل مكان، إلى جانب الفُقمات اليقظة وطيور الفلمار، وهي طيور بحرية قصيرة الأجنحة ذات ريشٍ سميك يساعدها على الاحتفاظ بالحرارة. كنَّا نقترِب من نوك عاصمة جرينلاند، وكانت قناة معروفة على الخرائط تسري قُرب الشاطئ عبر كوكورنه، وهو أرخبيلٌ صخري عريض متناثر في البحر المحيط كبازلاء مسكوبة. على جانبَي سفينتنا بين الجُزر لم يكن هناك سوى فراغ أبيض على الخريطة، وكأنها تُشير إلى مكانٍ لم يزُره أحدٌ على الإطلاق. يبدو أن هذا يشير إلى أن هناك بعض العمل الذي يتعيَّن على المُستكشِفين إنجازه.

قال لي مدير المرفأ المتعاون: «هذه خرائط دنماركية. إنها أفضل الخرائط في العالم. فكلُّ شيءٍ فيها موجود في المكان الذي تُعيِّنه فيه بالضبط. وإن لم ترَ شيئًا … فليس هناك شيء آخر يمكنه مساعدتك.»

وأضاف مُعقِّبًا، بعد أن خطرت على باله فكرة أخرى: «حسنًا، ليس لدينا عوامات ملاحية أيضًا … بسبب الجليد، كما تعلم …»

مكثنا مدة ثلاثة أيام تقريبًا في نوك، وهي إحدى مدن منطقة القطب الشمالي الحديثة بامتياز، حيث المباني السكنية الخرسانية الرمادية والميناء النظيف، وحاويات الشحن المكدَّسة في صفوف من المربعات بجوار المستودعات على الرصيف. في ضوء النهار الصيفي الذي لا ينتهي، كانت الأمهات الشابَّات يدفعنَ عربات الأطفال الرُّضَّع أمام مرسانا في الساعة الرابعة صباحًا وكانت سيارات الأجرة تدور حول ساحة المدينة كما لو كانت في كوبنهاجن. لا يوجَد مكان في الواقع يمكنك الذهاب إليه بالسيارة من نوك، أو مِن أيٍّ من المُستوطنات الرئيسية الأخرى التي يبلُغ عددها ١٢ مستوطنة تقريبًا في جرينلاند، لكن هذا لم يوقِف المد المُتصاعد من المركبات. تذكرتُ قرى الصيد التي أعرفها من موطني، حيث الأرصفة الصغيرة المزدحمة بالشاحنات الجديدة والباحات الخلفية المليئة بسابقاتها الصَّدِئة. لا تزال وسيلة السفر الرئيسية بين القرى لسكان جرينلاند هي القوارب الصغيرة، أو الزلاجات التي تجرُّها الكلاب في فصل الشتاء، وهو الوقت الذي ينتظره الجميع بفارغ الصبر حيث تتجمَّد الخلجان وتتحول إلى طرُقٍ سريعة تُمكِّنهم من هذا الأمر. في المدن الشمالية وجدنا عدد الكلاب يفوق عدد السكان، وقد كانت كلابًا ضخمةً ووحشية، لا تصلح للتربية في المنزل، وكانت تُقيَّد خارج كل منزل، وفي الجوار تُخزَّن معَدَّاتُ الزلَّاجات الخاصة بها.

وفَّر لنا مدير المرفأ مكانًا على طول الرصيف بين حشدٍ من قوارب الصيد، التي لم يكن يمكث كلٌّ منها في الميناء سوى فترةٍ وجيزة بما يسمح بتفريغ ما اصطادته وإعادة التزوُّد بالوقود قبل العودة إلى العمل. كان أخي، طاهي السفينة، يغوص حتى مرفقَيه في كُومةٍ من الجمبري الذي حصلنا عليه من السفينة التي بجانبنا في بادرة ترحيبٍ مميزة. صحِبَني قبطانُ تلك السفينة إلى غرفة القيادة الخاصة به، وقد كانت مساحة صغيرة مليئة بالأجهزة الإلكترونية وخريطة تفتقد إلى القدر الكبير من التفصيل تمامًا مثل خريطتنا.

سألني: «هل أنت ذاهبٌ شمالًا بحذاءِ الساحل؟»

«نعم.»

«جيد! جميل جدًّا. هذه … (وأشار بعيدًا خارج النوافذ إلى امتداد نوك المتواضِع) ليست جرينلاند الحقيقية. ولكن إذا واجهتك عاصفة في الطريق … (أمسَكَ بقلم رصاص وأشار إلى طرفِ شِبه جزيرةٍ لا يوجَد عليها اسم في الخريطة) فهنا مكان جيد للإقامة فيه.»

لم تُظهر الخريطة شيئًا، ولا حتى إشارة إلى ميناءٍ أو قرية.

ثم قال وقد شعر بتردُّدي: «أها! أجل …» وقَطَعَ من دفترٍ ورقةً ورَسَم … نهاية موضع، وعلامتَي X كبيرتَين — على الأرجح صخرتَين — وخطًّا متقطِّعًا بينهما.

وقال: «هنا! عبر هذا الطريق. إقامة جيدة. رحلة آمنة!»

تصافحنا ونزلتُ السُّلَّم عائدًا إلى سفينتي، والورقة التي تحتوي على نصيحته الثمينة مطوية في جيبي كجواز سفر. لم نَزُر هذا الميناء الخفي قط، ولكن بعد سنواتٍ عثرتُ على الرسم، ما زال مدسوسًا في دفتر يوميات. لقد غمرَنا كلُّ مَن قابلناه بهذا القدْر من الكرم، الذي تمثَّل عادةً في تقديم الطعام أو مشاركة بعض المعارف المحلية. بعد أيام قليلة في مستودعٍ للوقود على الساحل، أحضرتُ للمشرف المُتجهِّم فنجانًا من القهوة، فاستفاقَ وكأنما قد عادت إليه الحياة، وبسطَ خرائطه وأشار إلى مدخلٍ طويل فارغ إلى مرفأ صغير على شكل هلال؛ كان قريتَه القديمة، التي صارت مهجورة الآن. قال: «يجب أن تذهبوا إلى هناك.» وهذا ما فعلناه، حيث مَضينا شمالًا في خليج هادئ تنتشر عليه الجبال الجليدية حتى تجاوزنا ببطءٍ شريطًا رمليًّا مُنحنيًا إلى المرسى الذي وصفه. كانت لا تزال هناك هياكل بعض المنازل القديمة على طول الشاطئ. وبجانب أحدِها ظهرت فجأة حفنة لا يمكن توقُّعها من زهور الخَشخاش التي تركت حوضها ونمت مع اتجاه الرياح في عمودٍ من الألوان المبهرة.

فوق الدائرة القطبية الشمالية مباشرةً تقع نقطةُ انطلاق أسطول فرانكلين، وهي عبارة عن تجويفٍ ساحلي عريض يقع على دائرة عرض ٧٠. خليج ديسكو يُماثل في حجمه ولاية كونتيكت، وتحميه تلك الكتلة الداكنة للجزيرة الحاجزة التي تحمل الاسم نفسه، وتنتشِر فيه الجبال الجليدية التي نشأت بالانفصال عن جاكوبشافن إسبراي، أكبر وأسرع نهر جليدي من بين عشرات الأنهار الجليدية التي تصرِف غطاء جرينلاند الجليدي إلى البحر. يطفو ٣٥ مليار طن من الجليد سنويًّا بعيدًا عن نهر جاكوبشافن إسبراي الجليدي وحدَه. سأنتقل إلى الوقت الحاضر لأُقدِّم مثالًا على مدى ضخامة هذه الكتل الجليدية: عندما جنحت سفينةُ الحاويات الشهيرة «إيفرجيفن» في قناة السويس عام ٢٠٢١، تباطأ تدفق التجارة العالمية تباطؤًا ملحوظًا وأدرك العالم الحجمَ الهائل الذي وصلت إليه مثل هذه السفن. بقُدرة استيعاب «إيفرجيفن» التي تبلغ مائة ألف طن، كان بإمكانها نقل تلك الكتل التي تنشأ عن نهر جاكوبشافن الجليدي في ٣٥٠ ألف رحلة تقريبًا.

في الصيف، يقع خليجُ ديسكو لفتراتٍ طويلة تحت قبة هادئة من الضغط العالي، في مشهدٍ يسوده الهدوءُ على النقيض تمامًا من الصعوبات التي يتطلبها الوصول إليه. ذلك المشهد يشمل مياهًا هادئةً، وسماءً صافيةً، وأسرابًا لا تُحصى من الجبال الجليدية التي تُشبه المناطيد التي تظهر كأشباحٍ عائمة وهي تمر. وفي بعض الأحيان، يتصدَّع أحدُها وينقلب مصحوبًا بصوت حطامٍ مدوٍّ وموجة خضراء ملتفَّة، وتنجرف الأجزاء المُنفصلة بعيدًا مع اندفاع المياه. في حالات المد القصوى، تطفو جبال جليدية جديدة من منفذ النهر الجليدي بوفرة كبيرة، وتتعذَّر الملاحة في الخليج. عندئذٍ يجب الانتظار، بإرساء السفينة بالقُرب من أحد رءوس البر أو ربطها في المرفأ الصغير في مدينة إيلوليسات القريبة، جنبًا إلى جنبٍ مع أي سفينةٍ أخرى تنوي الانتظار بالطريقة نفسها. هنا على الرصيف، شاهدتُ تلالًا جليديةً صغيرة تطفو حول المرفأ، وهي كُتَل جليدية بحجمٍ تُشَبِّهه دورية مراقبة الجليد الدولية تَشبيهًا جيدًا بآلة بيانو كبيرة. وكانت إحدى تلك الكُتَل الجليدية قد انفصلت وعامت مع المد مصطدمةً برفق أثناء مرورها بخط القوارب الراسية في المرسى. أمامنا، كان أفراد طاقم سفينة لجَرِّ شِباك الصيد يُبعدونها، دون استعجال، عن سفينتهم بأقطابٍ طويلة، ويتوقفون كلَّ دقيقة تقريبًا ليأخذوا أنفاسًا من سجائرهم. في وسط مشهدٍ كهذا، زارتنا ذات مرة مجموعة من العلماء الأمريكيين الذين كانوا يمرُّون بالمدينة بعد أسابيع قضَوها في العمل الميداني في المناطق الداخلية. شاركناهم القهوة بينما أخبرونا عن مشروعهم لجمع عيناتٍ من قلب الغطاء الجليدي الداخلي الهائل في جرينلاند. وشرحوا السجلَّات التي يحملها الجليد، والنظائر الكيميائية، والغازات المحصورة، وجزيئات الغبار التي ستفتح نافذةً زمنية على أحداث المناخ في الماضي، وتُمثل معاييرَ للاعتراف المُتنامي بوجود زيادةٍ في درجة الحرارة العالمية يتسبَّب فيها الإنسان.

كانت هذه أول نظرة حقيقية لي على التطبيق العملي لعلم تغيُّر المناخ، وإدراك أن الدفء غير المُتوقَّع في مواسم الطقس الأخيرة في موطني يمكن أن يكون جزءًا من شيءٍ أكثر عالمية. أتذكَّر في ذلك الوقت أنني شعرتُ بالارتياب بعض الشيء. فوق التل مباشرةً من المدينة كان يوجَد النهر الجليدي، وكان ركام جباله المُتجمِّدة يتحرك ببطءٍ ولكن بلا هوادة نحو البحر، بأحجامٍ تفوق أحجام أية تضاريس أرضية. بدا لي من المُستبعَد، إن لم يكن مستحيلًا، أن يتمكَّن الاحترار من مكانٍ مثل هذا. أغلقَ أحدُ زوَّارنا معطفه الواقي من المطر واستدار مغادرًا. لاحظتُ أن الرياح كانت قد اشتدَّت لدرجةٍ رفعتْ جانبَي القُبعة عن أذنَيه. ووقفتُ أودِّعه وأنا لا أعلم أنني أقِف على أعتاب حقبةٍ جديدة.

أتذكَّر أنني قلتُ له: «أتمنى لك حظًّا سعيدًا في عملك. لا يزال الجو يبدو لي باردًا جدًّا هنا.»

•••

حقيقةُ الأمر أن الممر الشمالي الغربي هو في الواقع «ممرات» شمالية غربية. ويوجَد في الواقع ما يصل إلى سبعة طرق ممكنة عبر أرخبيل القطب الشمالي، لكل منها تحدياته الملاحية الخاصة ورهن لعامل الخطر الدائم المُتمثل في جليد البحر. ينشر باحث يُدعى آر كي هيدلاند في معهد سكوت للبحوث القطبية في كامبريدج حصرًا إجماليًّا دوريًّا لجميع السفن التي عبرت حتى الآن أحدَ هذه المسارات بنجاح. ولا تزال القائمة قصيرة. فحتى عام ٢٠٢٠، لم يتحقَّق سوى ٣٢٥ عبورًا للممر الشمالي الغربي منذ عبور أموندسن له أول مرة في عام ١٩٠٦. بإمكانك أن تشهد مرور هذا العدد من السفن في يومٍ واحد لو توقَّفتَ لتُحصيها عند مضيق جبل طارق.

لم يشهد الممرُّ الشمالي الغربي العبور الأول لسفينة تجارية إلا في عام ١٩٦٩، حيث دفعَ اكتشافُ النفط على المنحدَر الشمالي لألاسكا شركة همبل للنفط (إكسون حاليًّا) لإرسال ناقلة نفط عملاقة مُعدَّلة تُسمى «مانهاتن» في رحلة ذَهاب وإياب من نيويورك إلى خليج برودهو. وكان الهدف من الرحلة معرفة ما إذا كان من المُجدي اقتصاديًّا نقلُ النفط الآلاسكي الخام إلى الأسواق عبر طريقٍ بحري شمالي. وكانت الإجابة المُختصرة هي لا. فقد كانت هناك قضايا دبلوماسية متعلقة بمزاعم كندا بأن الطريق يقع ضِمن مياهها الإقليمية، بالإضافة إلى تساؤلاتٍ بيئية حول مخاطر نقل حمولاتٍ خطرة عبر منطقةٍ برِّية بِكر، لكن خلاصة القول ببساطة أن المهمة كانت صعبةً للغاية. واجهت «مانهاتن» خلال رحلتها الخارجية التحديات نفسها التي عانى منها الجميع من فرانكلين إلى أموندسن. فقد اصطدمت مباشرةً بتيار الجليد الذي يسدُّ الطريق المباشر غربًا واضطُرت في النهاية إلى الانحراف إلى تضاريس جغرافية معقدة بالقرب من البر الرئيسي. وتبِعَتها كاسحة الجليد الكندية «جون إيه ماكدونالد» مثل كلب رعي، واضطُرت في النهاية إلى التقدُّم وتحرير «مانهاتن» التي علقت بسبب لوح جليدي واحد بلغ عرضُه عدة أميال وسُمكه ٢٠ قدمًا. كان هذا في أواخر الصيف، حيث تصِل تركيزاتُ الجليد إلى أقل مستوًى لها على مدار السنة. وبعد رحلةٍ أخرى في أبريل التالي لاختبار السفينة في ظروف الشتاء، صُرِف النظر عن المشروع وبدأ العمل على بناء خط أنابيب ألاسكا بعد ذلك بفترة وجيزة. فقد اعتُبِر مَدُّ ٨٠٠ ميل من الأنابيب عبر سلسلتَين جبليتَين في القطب الشمالي حلًّا أسهل لنقل النفط من الملاحة المُنتظمة عبر الممرِّ الشمالي الغربي. بعد انقضاء عام المجد ﻟ «مانهاتن»، عادت إلى مسيرتها الروتينية كناقلة نفط عادية، تجوب المحيطات غير المتجمِّدة في العالم لنقل النفط الخام حتى جنحت إلى اليابسة في اليابان بسبب إعصار عام ١٩٨٧ وبيعت خردة.

وَفقًا لقائمة هيدلاند، كانت «مانهاتن» ستُصبح المركبة العاشرة التي تعبر الممر، على الرغم من أنها استدارت عند بارو، ألاسكا — أي قبل الوصول فعليًّا إلى المحيط الهادئ — ولذلك لم تكن مؤهلة رسميًّا لهذا الشرف. وفي السنوات التي تلت محاولة عبور «مانهاتن»، بين عامَي ١٩٧٠ و١٩٩٠، انطلقت ٣٠ رحلة أخرى إجمالًا، معظمها لسفن أبحاث وكاسحات جليد، ولكنها ضمَّت أيضًا لأول مرةٍ سفينة ركَّاب وبضعة يخوت، وهي قواربُ صغيرة يقودها رجالٌ ونساء لا يدفعهم لخوض غمار القطب الشمالي سوى حُب المغامرة. خلال تسعينيات القرن العشرين، كان متوسط عدد الرحلات السنوية ثلاثًا، بما في ذلك ظهور سفينتَي الرحلات السياحية «هانسيتيك» و«فرونتير سبيرت»، وكلٌّ منهما كانت علامة بارزة على ما هو آتٍ. أبحر كيفن وود نفسُه في الممر الشمالي الغربي على متن كاسحة الجليد التابعة لخفر السواحل الأمريكي «هيلي» في عام ٢٠٠٣، في رحلةٍ تمَّت دون أية مشاكل ولم تُضطر لإجراء الكثير من عمليات كسح الجليد. وعلى الرغم من سهولة الأمر، فقد كان مترددًا في ذلك الوقت في القول بأن ظروف جليد البحر قد تقلصت إلى مستوياتٍ أقل بكثير من مستويات التغيُّر الطبيعي. ففي نهاية المطاف، كانت أجزاءٌ من القطب الشمالي قد شهدت ارتفاعًا سابقًا في درجات الحرارة خلال العصر الحديث عندما تلت فترةً مدتُها ٢٠ عامًا من قلة الجليد بين عامَي ١٩٢٠ و١٩٤٠ عودةٌ إلى فتراتٍ أبرد بكثير.

بعد إمعان النظر فيما حدث يتَّضح أن شيئًا مختلفًا تمامًا كان يجري على قدَم وساقٍ بحلول عام ٢٠٠٣. ففي الفترة ما بين عامَي ٢٠٠١ و٢٠١٠، بلغ عدد الرحلات التي استُكمِلَت عبر أرخبيل القطب الشمالي ٧٠ رحلة، أي أكثر من ضعف إجمالي العدد في السنوات العشر السابقة على تلك الفترة. وفي عام ٢٠١٣، نقلت ناقلة البضائع «نورديك أوريون» ٧٠ ألف طنٍّ من الفحم من مدينة فانكوفر في كندا إلى فنلندا، لتُصبح أول سفينة شحن محمَّلة بالكامل تجتاز هذا الطريق. وإلى جانب سفن الأشغال والمغامرين المُنفردين، ظهرت الآن سفنُ الأثرياء والمشاهير، مثل قارب «ديوني سكاي» البالغ طوله ٤٦ مترًا ويخت بول ألين العملاق «أوكتوبوس» البالغ طوله ١٢٨ مترًا. وبين عامَي ٢٠١٠ و٢٠٢٠، عبرت ١٨٠ مركبة، بما في ذلك سفينة الرحلات السياحية «كريستال سيرينتي» التي تتَّسع لألف مسافر وأسطول فعلي من اليخوت شمل مُجددًا اليخت الضخم «أوكتوبوس»، بالإضافة إلى «كاميكسثا» و«إنفينيتي» و«ثور»، والمُفضل لديَّ «أبْشَنك». إذا مثَّلنا الأمر بيانيًّا، فسنجد أن مُنحنى عدد السفن كل عامٍ على مدى قرنَين سيتحول تحولًا جذريًّا من خطٍّ أفقي (ثابت) إلى خطٍّ عمودي (مُتزايد باطرادٍ بالغ). تجاوز عدد السفن التي عبرت أرخبيل القطب الشمالي خلال العقد الماضي عدد جميع السفن التي عبرته في التاريخ السابق بأكمله. في غضون ٢٥ عامًا فقط أصبح الممرُّ الشمالي الغربي، الذي كان يُعرف سابقًا بأنه مقبرة للعديد من السفن، طريقًا للتجارة والسفر الترفيهي على حافة مُحيطٍ باتَ فجأة صالحًا للملاحة.

يشغل كيفن وود منصبَ كبير علماءِ مشروعٍ آخر يُسمَّى مشروع احترار القطب الشمالي، والذي يركِّز على قياس جليد البحر وتدفُّق الطاقة في بحر تشوكشي، وهو جزءٌ هامشي من المُحيط المتجمِّد الشمالي تحدُّه كتلتا اليابسة البارزتان ألاسكا وسيبيريا. ويُعتبر بحر تشوكشي، الذي يتميز باتساعه وعُمقه الضحل نسبيًّا، مُنظِّمًا مهمًّا لامتصاص حرارة الشمس في القطب الشمالي، لكن الانتشار غير المُنتظم لقطع الجليد فيه يجعل من الصعب جمع البيانات عنه. يُمثِّل سطح البحر، غير المُستقر بدرجةٍ تعيق ثباتَ الأجهزة، صعوبةً ملاحية، ويصعب فيه استخدام العوَّامات التقليدية ومصفوفات أجهزة الاستشعار. لمواجهة هذا التحدِّي، يقوم العلماءُ برحلات استطلاع جوية عن قُرب باستخدام طائراتٍ تابعة للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي، ويلقون بمجموعة ذكية من الأجهزة عبر أنبوبٍ في بطن الطائرة، وتشمل تلك الأجهزة جهازًا يُسمى المراقب المجهري المستقل المُطلَق جوًّا. يعمل هذا الجهاز، الذي يُعَدُّ من عجائب عصر بطاريات الليثيوم، كعوامة ذات تعويم قابل للتحكم فيه وتقوم بعمليات غوص متتالية عبر عمود الماء لقياس حرارة المياه وملوحتها، وإرسال بياناتها عبر الأقمار الصناعية في كل مرة تطفو فيها على السطح.

تدعم نتائجُ مشروع احترار القطب الشمالي وجهةَ نظر المشروع حول الاتجاه الموضَّح في ورقة نتائج آر كيه هيدلاند، ومفاده أن جليد البحر يتلاشى الآن بوتيرةٍ أسرع من أي وقتٍ مضى في عصر القياسات العلمية. ووَفقًا للمركز الوطني لبيانات الثلج والجليد، وُجِد أن إجمالي مساحة الجليد في سبتمبر ٢٠٢٠ كانت أقل بنسبة ٤٠ بالمائة من متوسطها السنوي منذ عام ١٩٨٠، وهو ما يمثِّل نقصًا تدريجيًّا بمقدار ٥٠ ألف ميل مربع سنويًّا. تخيَّل اختفاءَ مساحةٍ تُعادل ولاية ألاباما سنويًّا من اليابسة الأمريكية. حتى الجليد المُتبقي مختلفٌ عما كان عليه في السابق. فإلى جانب المساحة الإجمالية المتقلِّصة، يجلب كلَّ عام نسبةً أصغر من الجليد «المتعدِّد السنوات» الأكثر صلابة ونسبةً أعلى من جليد السنة الأولى، الذي يكون أكثر ليونةً وأكثر عُرضةً للذوبان مع ازدياد طول أيام الصيف وارتفاع درجة حرارتها. يترك السِّرب الجليدي المتلاشي وراءه مياهًا بحرية مفتوحة، وهي مساحة أكثر كفاءة بتِسع مرات في امتصاص الطاقة الشمسية. تتجمَّد الخلجان والمواني في وقتٍ لاحق من العام، أو لا تتجمَّد على الإطلاق. قلةُ الجليد تعني المزيد من الحرارة. والمزيدُ من الحرارة يعني قلة الجليد. توجَد الآن مساحة من المياه المفتوحة في القطب الشمالي أكبر مما شاهده أيُّ شخصٍ في يومٍ من الأيام. ومع تراجُع الطرق السريعة الشتوية للعربات التي تجرُّها الكلاب، يُقلل سائقو تلك العربات الآن في الشمال من عدد الحيوانات التي يربونها. يشهد عدد الكلاب في جرينلاند انخفاضًا حادًّا، حيث يتناسب منحنى انخفاضه عكسيًّا مع ارتفاع حركة المرور البحرية في الممر الشمالي الغربي. فقد انخفضَ عددُ الكلاب من ٥٥ ألفًا في عام ١٩٩٤ إلى ١٥ ألفًا فقط بحلول عام ٢٠٢٠.

يبلغ عرضُ هضبة جرينلاند الوسطى العريضة ٥٠٠ ميل ويبلغ ارتفاعها ميلَين، وقد تكوَّنت أغلبُ أجزائها من جليد الأنهار الجليدية الناتج عن آلاف السنين من تساقط الثلوج وتراكمها باطراد في القطب الشمالي. وحدة الكتلة المفضَّلة لدى علماء الجليد هي «الجيجا طن»، وتعادل مليار طن. وهذا يعادل ١٠ آلاف سفينة بحجم سفينة «إيفرجيفن». استعرضت دراسة نُشِرت عام ٢٠١٩ في مجلة «نيتشر» بياناتٍ من الغطاء الجليدي بأكمله وخَلُصت إلى أن جرينلاند فقدت أربعة آلاف جيجا طن تقريبًا من الجليد منذ عام ١٩٩٢، بمعدل ارتفع خمسة أضعاف على مدى فترة أخذ العينات. في المُجمل كان العَقد من عام ٢٠١٠ إلى عام ٢٠٢٠ سلسلةً من السنوات القياسية في ذوبان جليد الأنهار الجليدية في القطب الشمالي، حيث اختفى ٣٠٠ مليار طن تقريبًا في البحر كل صيف. وهذا يعادل ثلاثة ملايين سفينة بحجم سفينة «إيفرجيفن» محمَّلة بالكامل.

شهدت السنواتُ العشر الأخيرة أيضًا رقمًا قياسيًّا في حركة السفن في الممر «الشمالي الشرقي» — وهو ممرٌ مائي يُعرَف على نحوٍ أكثر شيوعًا باسم طريق البحر الشمالي — الذي يربط أوروبا بالمحيط الهادئ عبر قبة سيبيريا. تنقل ناقلاتُ النفط الحديثة حاليًّا شحناتٍ من الغاز الطبيعي المُسال على طول هذا المسار من أفريقيا إلى آسيا، بأعدادٍ ارتفعت بأكثر من ثلاثة أمثال منذ عام ٢٠١٨. لم يكن من المُمكن في السابق تصوُّر وجود طريق قطبي شامل، ولكنه أصبح الآن أمرًا يلوح في الأفق؛ وهو عبارة عن خطٍّ مستقيم عبر قمة العالم من المتوقَّع أن يُصبح خاليًا من الجليد معظم أوقات السنة بحلول عام ٢٠٦٠. تقف الأساطيل الوطنية للدول القطبية في مراحل مختلفة من الاستعداد لدعم مصالحها في هذا المحيط القطبي الذي أصبح صالحًا للملاحة فجأة، حيث سيتطلَّب الأمر وجود سفنٍ عسكرية قادرة على اختراق الجليد للإشراف على التدفق المتزايد للرحلات.

حاليًّا ينشغل الكنديون، الذين اعتادوا على الملاحة في الجليد، ببناءِ مجموعة جديدة رائعة من السفن الحربية المسلحة لمراقبة أرخبيل القطب الشمالي، ذلك المكان الذي لا يزال وضعه الإقليمي غير محسومٍ فيما يتعلَّق بالشحن البحري الدولي. هل يُشبه الممر الشمالي الغربي القناة الإنجليزية أم قناة بنما؟ يعتمد ذلك على مَن تطرح عليه هذا السؤال. فكما هو الحال مع معظم الظروف التي تنطوي على البرد والمُعاناة، لا أحدَ يضاهي الروس في مجال كسح الجليد، وهو مجالٌ سيطروا عليه إلى حَدٍّ كبير منذ نشأته. يمتلك الروس ما يزيد على ٤٠ سفينة من كاسحات الجليد، بما في ذلك السفن النووية التي لا تواجِه التحدِّي اللوجستي المُتمثل في إعادة التزوُّد بالوقود وتتمتع بإمداداتٍ غير محدودة من الماء الساخن لحمَّامات البخار الخاصة بها. أما الأسطول العسكري الأمريكي، الذي ليس في مقدمة الركب حاليًّا، فيمتلك اليوم من كاسحات الجليد القطبية العدد نفسه الذي يمتلكه من السفن الشراعية، وهو اثنتان. من المُتوقع أن تظلَّ سفينة خفر السواحل الأمريكية المهيبة «بولار ستار»، التي أُطلِقت عام ١٩٧٦، قيد التشغيل حتى عام ٢٠٢٧، حيث ستحلُّ محلَّها واحدةٌ من سُفن الدورية الأمنية القطبية الثلاث الجديدة، وهي سُفن لا تزال حاليًّا قيد الإعداد على الورق ضمن ميزانيات الكونجرس. في تحوُّل مفاجئ نوعًا ما، ستُجهَّز سُفن الدورية الأمنية القطبية الجديدة كما ذكرت التقاريرُ بأنظمة أيجيس القتالية، وهي مجموعة تَحكُّم بالأسلحة نُشِرَت لأول مرة على طرَّادات سلاح البحرية الأمريكية. تتشارك «بولار ستار» الرصيفَ في سياتل مع كاسحة الجليد المتوسطة الحجم «هيلي»، التي تمكَّنت عام ٢٠١٥ على الرغم من حجمها المتوسط من أن تكون أول سفينة سطح أمريكية تصل إلى القطب الشمالي دون مساعدة من سُفن أخرى. تعطَّلت سفينة «هيلي»، التي بُنِيَت في الأساس لتكون سفينة أبحاث، بسبب حريق في غرفة المحرك قبالة سواحل ألاسكا عام ٢٠٢٠، مما اضطر خفر السواحل إلى إلغاء عمليات القطب الشمالي تمامًا في ذلك العام.

•••

فوق حوض الاستحمام في حمَّامي صورةٌ لقارب تجديفٍ وسط بحيرة، يميل ميلًا ملحوظًا تحت ضغط شراع واحد. الماء بلون جرسٍ نحاسي باهت، ينعكس لأعلى باتجاه السماء المُلبَّدة بالغيوم بطريقة تجعل الصورة بأكملها تكاد تُعطي انطباعًا جيولوجيًّا، مثل طبقاتٍ رسوبية، جميعها بدرجاتٍ لونية متدرِّجة خافتة ومأخوذة من لوحٍ لوني واحد. مياهٌ خضراء، وسماءٌ خضراء شاحبة، ورمالٌ كالعظم المُرقَّط. يظهر من بعيد أفقٌ ضبابي داكن، وهو شاطئ البحيرة البعيد، حيث تظهر أشجار النخيل الطويلة في صورة ظلِّية. هناك شعور بالزوال وعدم الاكتمال في الصورة، مثل لوحة ألوانٍ مائية حديثة لم تجف بعد. يتخيَّل الناسُ المُحيط الهادئ في مناظر شديدة التبايُن من الأراضي الخضراء والمحيط المتلألئ، ولكن في الحقيقة هذا ما يبدو عليه تمامًا الكثير من أجزائه، رطبٌ وضبابي ولا يكاد يمكنك رؤيته.

المكانُ في هذه الصورة هو جزيرة تابوايران المَرجانية الحلقية، وهي حلقةٌ صغيرة من الأرض على بُعد ألف ميل جنوب هاواي. نظرًا إلى عرضها الذي يبلغ ستة أميال وارتفاعها البالِغ سبعة أقدام فوق مستوى سطح البحر، ستُمحى بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر في غضون أجيالٍ قليلة من حياة البشر، كحَبَّة قَذًى في طرْف عين المحيط الدامعة المُغْرَورِقة. يعيش اليوم ما يقرُب من ألفَي شخص في هذه البقعة التي يصعب تصديق إمكانية العيش فيها، ويستمتعون بوفرة المكان النائي حيث ثمار جوز الهند المجانية والشعاب المرجانية التي لا تزال تعجُّ بالأسماك. عندما يرتفع مستوى المياه، سينتقلون جميعًا للعيش في مكانٍ آخر.

تقع جزيرة كيريتيماتي، أو جزيرة عيد الميلاد المجيد، على بُعد ١٥٠ ميلًا جنوب تابوايران، تحديدًا في منتصف الطريق بين هاواي وتاهيتي. إنه مكان أكثر جفافًا بكثير، وربما يقع مباشرةً فيما وراء الأمطار المستمرة لنطاق التقارُب بين المدارَين. عندما زار الكابتن كوك هذه المنطقة من الرمال والشُّجيرات التي تُشبه المقلاة المحروقة في ٢٤ ديسمبر ١٧٧٧، كانت خالية، ولكن علم الآثار يُظهر أن البولينيزيين كانوا هنا أيضًا في وقتٍ ما؛ ربما كانوا يتوقَّفون في منتصف رحلتهم إلى الشواطئ الأكثر خضرةً في هاواي. تُعَد كيريتيماتي واحدة من أكبر الجزر المرجانية الحلقية في العالم، وهي عبارة عن مسطبة عريضة من المَرجان تجثم فوق القبة الحجرية لبركان غارق. عادةً لا تتمتع الجزر المرجانية الحلقية بمساحةٍ كبيرة من اليابسة، ولكن هنا جفَّت البحيرة وتحولت إلى متاهة واسعة من البرك المالحة ومسطحاتٍ من الأراضي التي أصبحت صُلبةً بفِعل أشعة الشمس. عند النظر إلى المكان من الفضاء، تجدُه يُشبه إلى حَدٍّ مُذهل قطعةً من لحم الخنزير. عند طرف الجنوب الشرقي، حيث ما يُشبه الساق في قطعة لحم الخنزير، تمتد الأرض الجافة عبر الجزيرة بأكملها، وتنمو النباتات المُتشابكة حتى ارتفاعٍ يصِل إلى مستوى الصدر لتُغطي المشهد بأكمله. تُشبه الأرض هنا في انبساطها تمامًا أراضي هولندا.

تتجاور هذه الجُزر المَرجانية الحلقية في سلسلة جُزر لاين، وهي واحدة من أبعد الأماكن النائية التي يعيش فيها البشر حاليًّا. كان المُستوطنون الأوائل لجُزر لاين مجموعةً من المزارعين والصيادين، وتَلَتْهُم حاميات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. في عام ١٩٥٦، وصل فوجٌ جديد من المهندسين البريطانيين إلى كيريتيماتي وشرعوا بجِدٍّ في تحسين الطرق، ومهابط الطائرات، وأجزاء أخرى من البِنية التحتية، وكانوا يأخذون استراحةً من عملهم لمشاهدة بعض أكبر انفجارات القنابل الهيدروجينية التي جرى تفجيرها على الإطلاق، وهي الانفجارات الأخيرة في سلسلة جنونية سبقت حظر التجارِب الجوية في عام ١٩٦٣. بمرور الوقت غادر الأجانبُ وأصبحت معسكراتهم قرًى، أُطلِقَت عليها أسماء تعكس روح الدعابة التي يتَّسم بها سكان الجزيرة الجدد: لندن، وباريس، وبولندا، وبانانا، وهي مستوطناتٌ أنيقة من كُتَل خرسانية وسَعف نخيل، مُقامة على ظلال ماضٍ غريب ومُروِّع.

عند الظهر بقرية لندن يكون الجو شديد الجفاف والحرارة. أنا الآن في طريقي إلى المدينة مع ديفيد لانجستون، طبيب الجزيرة، جاثمًا على ظهر دراجة نارية شحنها بنفسه قطعةً قطعةً في صناديق من نيوزيلندا. وُلِدَ ديفيد هنا، وهو ابنُ خبيرٍ زراعي بريطاني جاءَ منذ زمنٍ بعيد وقرَّر البقاء. بالنظر خلفي أستطيع أن أرى السفينة راسيةً في المرسى، وخيطًا رفيعًا من الدخان يتصاعد من عادم المولِّد. سفينتنا هي أول سفينةٍ تصِل إلى هنا منذ ثلاثة أسابيع. على طول الطريق يوجَد الكثير من الأطفال، الذين يبدون غير مُتجانسين في أزياءٍ مدرسية أنيقة على الطراز الإنجليزي وهم يُسرعون إلى منازلهم عبر العُشب وأَجَمات النخيل.

يوجَد الآن خمسةُ آلاف شخصٍ تقريبًا في جزيرة كيريتيماتي، أغلبهم، مثلهم مثل سكان تابويران، منقولون من سلسلة جُزر جيلبرت على بُعد ٢٥٠٠ ميل غربًا. وعلى الرغم من انتشار جزر جيلبرت وجزر لاين على نطاقٍ واسع، فهي تُشكِّل مقاطعاتٍ متحدة تابعة لكيريباتي، وهي دولة ناشئة تحررت من الأراضي البريطانية في المُحيط الهادئ عام ١٩٧٤. تشمل كيريباتي أيضًا جُزر فينيكس التي يسكنها عددٌ قليل من السكان، وهي آخِر وجهةٍ معروفة لأميليا إيرهارت، الكاتِبة والرائدة في الطيران الأمريكي. إنها الدولة الوحيدة على وجه الأرض التي تقع في أجزاء الكرة الأرضية الأربعة. وتقع العاصمة القومية والمُستوطنات الرئيسية لكيريباتي في جزيرة تاراوا المرجانية الحلقية، وهي مكانٌ ارتبط اسمه دوليًّا بمعركةٍ دامية بين قوات مشاة البحرية اليابانية والأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية. تاراوا اليوم أكثر جزيرة مكتظة بالسكان في العالم، حيث يشغل ما يقرُب من ٤٠ ألف شخص مساحةً لا تتجاوز بضعة أفدنة. ولتخفيف هذا الازدحام، تنقل الحكومةُ باستمرارٍ مجموعاتٍ من السكان إلى أماكن أكثر اتساعًا مثل كيريتيماتي وتابويران، حيث يَبنون منازل مسقوفة بالجريد ويحاولون جاهدين زراعة الحدائق في التربة الرقيقة.

تبلُغ مساحةُ اليابسة في كيريباتي ٣٠٠ ميل مربع تقريبًا، تنتشِر عبر ٣٫٥ ملايين ميل مربع من المحيط. وهذا يعني أن نسبة الأرض إلى المياه هي ٠٫٠٠٠٠٩. يبلغ متوسطُ ارتفاع الجزر الثلاث والثلاثين خمسةَ أقدام تقريبًا، مما يجعلها بمثابة ناقوس خطر على ارتفاع مستوى سطح البحر. لو وضعتَها جميعًا بعضها فوق بعض رأسيًّا مثل الفطائر المُحلَّاة، فسوف ينتهي بك الأمر إلى كُومة لا يتجاوز ارتفاعها ٢٠٠ قدم. في شتاءِ عامَي ٢٠١٤ و٢٠١٥ اجتاحت الفيضاناتُ تاراوا. ودمَّرت المياه الحدائق وجرفت المنازل وأجبرت السكان على إخلاء مستشفى المدينة. كانت المدود الفلكية المرتفعة وظاهرة إلنينو من العوامل المُسببة لذلك، لكن ارتفاع مستوى سطح البحر على مستوى العالم أدى إلى تقليص هامش تاراوا من الأراضي الجافة إلى الصفر.

هنري جينثي هو أمريكي يعيش في كيريتيماتي، وبينما نمضي بالسيارة في طريقنا معًا في مناطقها غير المأهولة، تتصاعد حولنا مجموعاتُ الطيور البحرية المُعشِّشَة كأوراق تذروها الرياح. يُخبرني هنري أنَّ حفر بئرٍ آمنة هنا يزداد صعوبة؛ لا شكَّ أن ذلك يرجع من ناحيةٍ إلى استخدام المزيد من الناس للمياه، ولكن أيضًا بسبب ما يَعتَقِد أنه تغيُّر في توازن الموائع الساكنة بين المحيط والبؤرة الرقيقة للمياه العذبة التي تدعم الحياة على الجزيرة. يُعاني جوز الهند، وهو المحصول النقدي الوحيد في البلاد، تحت ضغوطٍ مزدوجة من الإفراط في الحصاد وزيادة انتشار الملوحة.

وكما هو الحال مع القصَّة القديمة التي تقفز فيها الضفادع عند وضعها في الماء الحار مباشرةً بينما تتكيَّف مع حرارة الماء إذا زادت بالتدريج، يبدو أن السكَّان المحليِّين يفتقرون إلى الشعور المشترك بوجود مشكلة.

بيرسي، والِد ديفيد لانجستون، هو رجلٌ إنجليزي نحيف يرتدي نظَّارةً مُربعة وسروالًا قصيرًا فَضفاضًا، وهو أحدُ رعايا التاج البريطاني الذين تركوا الوطن للأبد. إنه لا يعتقد في مسألة ارتفاع مستوى سطح البحر.

يقول بيرسي: «الجزيرة لا تغرَق. ومستوى سطح البحر لا يرتفع. أترى هذه البحيرة هنا؟ لقد اعتدْنا على صيد سمك البوري هناك والآن أصبحت المساحة بأكملِها أرضًا جافة. إذا كان ثمة تغيُّر يحدث، فهو أن مساحة الجزيرة تزداد.»

يرى بيرسي أن مزاعم ارتفاع مستوى سطح البحر لا تستند إلى ما عليه واقعُ الأمر بل إلى الرغبة في الحصول على أموال المساعدات في مكانٍ يعاني باستمرار من نقص الموارد. هناك العديد من الكنائس في كيريتيماتي، وتأثيرها على الرأي العام واضح أيضًا.

يقول أحدُ الأشخاص: «الإله سيُقرر ما إذا كانت هذه الجُزر ستبقى أم ستزول.»

•••

في عام ٢٠١٤ اضطر رئيسُ كيريباتي، أنوتي تونج، بسبب موقع بلاده الجغرافي إلى لعب دور ريادي، حيث أنفقَ سبعة ملايين دولار على قطعة كبيرة من الأرض في فيجي الجبلية ليقطنها مواطنوه في حال اختفاءِ جزرهم المرجانية. تُسمَّى هذه الأرض ناتوافاتو، وهي مِلكية حرة تبلغ مساحتها ٥٥٠٠ فدان في جزيرة فانوا ليفو اشتُرِيَت من الكنيسة الأنجليكانية. وهي عبارة عن مزيج من الحقول، والغابات الجبلية، ومستنقعات المانجروف، ويعيش فيها حاليًّا أحفاد مجموعة لاجئة أخرى، من سكان جزر سليمان الذين جُلِبوا إلى فيجي كعبيد في أواخر القرن التاسع عشر. ومنذ ذلك الحين، أجَّلت الحكومة اللاحقة خُطط تونج الجريئة، في تحوُّل نحو الإنكار الصاخب المُعتاد جدًّا في عصرنا الحالي. في آخِر مرة تحرَّيتُ فيها الأمر، كانت هناك أخبار عن مشروعٍ وشيك لتطوير بعض الأراضي في ناتوافاتو من أجل الزراعة واستخداماتٍ أخرى غير مُحددة. لا يُوجَد حتى الآن تشريعٌ يجري العمل عليه — سواء في فيجي أو كيريباتي — لتنظيم موعد الهجرة الرسمية وكيفيتها.

وفي هذه الأثناء، يستمر مستوى المياه في الارتفاع. تُقدِّر الإدارة الوطنية للمحيطات والغِلاف الجوي أن متوسط مستويات سطح البحر العالمية ارتفع بما يقرب من ٣٫٥ بوصاتٍ على مدى الخمسة والعشرين عامًا التي سبقت عام ٢٠٢٠. وهذا يعني ثُمن بوصة في السنة، وهو ما يبدو قليلًا حتى تُجري حساباتك وتكتشف أنه يزيد قليلًا عن قدم كاملة لكل قرن. فكما يقولون في الادخار، قليلٌ من هنا وقليلٌ من هناك، وسرعان ما ستجمع الكثير من الأموال. ارتفع متوسط درجة حرارة كوكب الأرض ١٫٢ درجة مئوية تقريبًا خلال الفترة بين ١٨٨٠ و٢٠٢٠. ويتركَّز معظم الارتفاع، بدرجةٍ كاملة، في الفترة منذ عام ١٩٥٠. كما ترتفع درجاتُ حرارة المحيطات أيضًا، وإن كان ذلك ببطءٍ أكبر، بسبب السعة الحرارية الهائلة للمياه. ومع ذلك، فإن كَمية الحرارة الكلية المُخزَّنة في المحيطات قد زادت زيادة هائلة. يُقَدِّر العلماءُ أن المحيطات مجتمعةً تمتصُّ من الطاقة الزائدة ما يعادل طاقة قنبلة أو قنبلتَين ذرِّيتَين «في الثانية» من الأرض التي تزداد دفئًا على مدار السنوات السبعين الماضية. ومثل الهواء تقريبًا، يأخذ الماءُ حيزًا أكبر عندما يكون دافئًا، وبما أن المحيطات محاطة عند أطرافها بخطوط الشاطئ القارية، فإن المنفذ الوحيد للمياه الدافئة هو الصعود لأعلى. وهذا يُسمَّى «الارتفاع الحراري»، ويُفسر ما يقرب من ٣٠ في المائة من التغيُّر في مستويات سطح البحر الذي تسبَّب فيه الاحترار. أما الباقي فيعود ببساطةٍ إلى الذوبان، حيث يتحوَّل جليد الأنهار الجليدية إلى سائلٍ ويُصرَف في البحر.

وبعيدًا في المناطق الداخلية لجزيرة عيد الميلاد المجيد، لا تزال هناك مساحاتٌ واسعة من الأراضي الجافة، في الوقت الحالي. لقد قضينا صباحنا بالكامل في القيادة حول الطريق الدائري المُعبَّد واستكشاف الطرق الفرعية حيث تلمع أحواضُ الملح تحت أشعة الشمس الحارقة. يُرينا هنري حقل إيون، وهو واحد من ثلاثة مَدارج بُنيَت للطائرات العسكرية المُهمَلة الآن تحت أشعة الشمس، في منتصف الطريق إلى الطرف الجنوبي الشرقي للجزيرة. وهو مَهبِط للطائرات بطول ميلَين صُمِّمَ لتَحمُّل قاذفات قنابل من طراز فولكان مُحمَّلة بأسلحة نووية. اليوم، تتكدَّس على حدوده طيور الأخبل البحرية الصاخبة والنباتات الزاحفة، ولكن مركزه لا يزال نظيفًا وخاليًا، مما يُغري بالقيادة بسرعاتٍ مُتهورة بينما تتلاشى خطوط المَهبِط البيضاء الباهتة.

على الطريق نتباطأ إلى سرعةٍ أكثر أمانًا ونتوقَّف للاستراحة. يتجول بعضُ أفراد مجموعتنا لتصوير الطيور، بينما أُقلِّب في دفتر ملاحظاتي، وينعس هنري وقد رفع قدمَيه على باب الركَّاب. أسمعُ طنينًا من بعيد، ضوضاء سرعان ما تكشف عن دراجة نارية صغيرة يركبها اثنان من صيادي الأسماك ومعَدَّاتهما، تدخل إلى مجال الرؤية على الطريق متمايلةً في هدوء. ألمحُ ذيلًا فِضيًّا لسمكةٍ كبيرة بارزة بزاوية من حقيبة ظهر مفتوحة. الطريق واسع، لكنهما اصطدما مباشرةً بحركة بطيئة بباب الشاحنة المفتوح قبل أن ينحرفا إلى داخل الأدغال. لم يُصَب أحد بأذًى.

يستيقظ هنري لفترة وجيزة. ويلمس قبعته بإيماءة إدراك.

يقول: «أيها السيدان.»

دون أن ينبسا ببنت شفة يستجمعان شتات نفسَيهما وينطلِقان بعيدًا بدرَّاجتِهما.

•••

تُظهِر السجلَّات الجيولوجية أن مناخنا قد مرَّ بالعديد من الدورات الطويلة من الاحترار والبرودة، على مدى العصور منذ أن تخطى كوكب الأرض مرحلة كونه مجرد كرةٍ صُلبة كبيرة في طور الانصهار والتشكُّل. يشمل هذا التطوُّر نمطًا متكررًا من العصور الجليدية، وهي فتراتٌ يُغطي فيها الجليد القطبَين ونوباتٌ طويلة من البرد تتناوب مع فتراتٍ دافئة قصيرة. كان أقدم عصرٍ جليدي تمكَّنا من معرفته هو العصر الهيوروني، والذي كان منذ ما يقرب من مليارَي سنة في الوقت الذي انتشر فيه الأكسجين لأول مرةٍ في الغِلاف الجوي. وثمة إشارات، وإن كانت محلَّ شك، إلى أنَّ الغطاء الجليدي كان يصِل في وقتٍ من الأوقات إلى المناطق الاستوائية خلال فترة ما يُسمَّى بالعصر البارد، أو فترة «كرة الأرض الثلجية». وَفقًا للزمن الجيولوجي، فإن العصور الجليدية فتراتٌ قصيرة؛ بضعة ملايين من السنين من البرودة تفصل بينها فتراتٌ أطول بكثيرٍ من الظروف المعتدلة والموحدة. صَدِّق أو لا تُصدِّق، نحن الآن وَفقًا للتصنيف العلمي في عصر جليدي يُسمى بالعصر الرباعي، والذي بدأ منذ حوالي مليونَي سنة ونصف. تُظهر سجلَّات المناخ نمطًا داخل العصر الرباعي لفتراتٍ أدفأ وفتراتٍ أبرد، مع فتراتٍ طويلة من التجلُّد تفصلها فتراتٌ بين جليدية أكثر دفئًا تمتد لما يقرب من ٢٠ ألف سنة. نحن نستمتع حاليًّا بإحدى هذه الفترات الدافئة — حقبة الهولوسين — التي بدأت منذ حوالي ١٠ آلاف سنة، وتزامنت تقريبًا مع ظهور الزراعة والمستوطنات البشرية الطويلة الأمد.

خلال فترةٍ أدفأ منذ ١٣٠ ألف عام تُسمَّى فترة الإيميان، كانت أفراسُ النهر تتجوَّل في أنهار أوروبا. انتهى هذا عندما اندفع الجليد جنوبًا مرة أخرى، عائدًا إلى القارة الآسيوية وقارة أمريكا الشمالية. هاجرت أفراسُ النهر، وأصبح الجوُّ قارس البرودة. وصل الجليد جنوبًا حتى سينسيناتي. وترك نُقرًا في صخور سنترال بارك في نيويورك وحفر لسانًا منحرفًا من الحصى في تلال كيب كود ونانتوكيت. وفَّرت مناطقُ واسعة من المروج والغابات موائل لحيوانات المَسْتُودُون، وحيوانات الكسلان العملاقة، والنمور ذات الأسنان السيخية. كان يُوجَد بشَر في هذه الفترة أيضًا، ولكن بأعداد قليلة. تُفيد التقديرات بأن معظم سكان الأرض من البشر في عام ١٠٠٠٠٠ قبل الميلاد كان من المُمكن تجميعهم في ملعب كرة قدَم كبير. في بداية العصر الرباعي الجليدي، منذ مليونَي سنة ونصف، بدأت أشكال أسلاف البشر المُبكرة تظهر فيما يُعرف الآن بقارة أفريقيا. وقد استغرق منهم الأمر مليونَي سنة أخرى قبل أن يستخدِموا النار في الطهي.

تتكوَّن الأنهار الجليدية من الجليد المتراكِم عامًا بعد عام والذي نجا من هجمات الذوبان، والتعرية بفِعل الرياح، و«التسامي»، وهو التحوُّل المباشر للجليد إلى بخار الماء. بمرور الوقت، تُصبح كتلة بلورات الجليد أكثف حيث تضغط الجاذبية الفراغات فيما بينها. وتظلُّ فقاعاتُ الهواء الصغيرة محصورة في الحُبَيبات، لذلك إذا وضعتَ قطعةً من الجليد في كوب من الماء، فستفور مثل الصودا. في الفترات الدافئة، لا يتراكم الثلج بالسرعة الكافية ليُعادل كَمية الذوبان، ما يؤدي إلى تراجُع مساحة الأنهار الجليدية. خلال فتراتِ البرد الطويلة، تكبر الأنهار الجليدية وتتمدَّد مثل أنهارٍ بطيئة الحركة جدًّا. وتجرف الوديان والتضاريس، مما يُلحق أضرارًا جسيمة في طريق حركتها البطيئة. حفرت الأنهار الجليدية البحيرات العظمى، وبنت مضايق النرويج، وتركت وراءها «صخورًا مجروفة»، وهي صخور بحجم مرآب للسيارات تنتشِر عبر المشهد الطبيعي للغابات الشمالية مثل كويكبات عالقة.

ظهر مفهوم العصور الجليدية في الأذهان في القرن التاسع عشر، حيث كان العلماء في أوروبا يُجاهدون لإدراك أن ثمة قوًى تاريخيةً كانت تعمل على تحريك الصخور الكبيرة في الوديان الجبلية لبلادهم. وأرجعوا السبب إلى الأنهار الجليدية. كانت كُتَل الجليد الكبيرة تجثم ثقيلةً بين القِمَم العالية والممرَّات الجبلية في جبال الألب، ومن عينات الصخور أصبح من الواضح أن هذه البطانة الكاشطة المحفوظة بالجليد اجتازت المشهد الطبيعي عدة مراتٍ على مَرِّ الزمن. يُنسَب مصطلح «العصر الجليدي» نفسه إلى عالِم نبات ألماني يُدعى كارل فريدريش شيمبر، الذي قَدَّمَ المصطلح في عام ١٨٣٧ لوصف مفهوم التجلُّد الدوري. سار عمل شيمبر جنبًا إلى جنبٍ مع عمل العديد من المُعاصرين له، من بينهم الدنماركي ينس إسمارك، الذي كان أول مَن اقترح احتمال وجود صلةٍ بين تغيُّر المناخ والتغيُّرات في مدار الأرض. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كانت قد تراكمت أدلة كافية لدعم العدول عن النموذج القديم للأرض التي تزداد برودةً باستمرار لصالح نظرية جديدة عن التغيُّر المُتبادل بين فتراتٍ دافئة وأخرى باردة.

•••

سيَترُك تحديدُ سبب هذه التغييرات وتوقيتُها الكثيرَ للأجيال القادمة من العلماء ليعملوا عليه. أمضى مهندس كرواتي يُدعى ميلوتين ميلانكوفيتش وقتًا كبيرًا في أوائل القرن العشرين في العمل على نماذج لإظهار الارتباط بين العصور الجليدية وثلاثة متغيراتٍ معروفة في عَلاقة الأرض بالشمس، وهي مدارنا الإهليلَجي المتغير، والميل الطويل في دوران الكوكب، والتغيير الدوري «للميل المحوري»، وهو الزاوية النسبية بين محور الأرض ومستوى النظام الشمسي. للوهلة الأولى يبدو ميلانكوفيتش، العالِم في مجال الخرسانة المسلحة الجديد، رائدًا غير متوقع للقواعد المؤسِّسة لعلم المناخ، ولكن هذا كان في عصر أينشتاين، ذلك العصر الذي كان موظفو براءات الاختراع يعودون فيه إلى منازلهم من وظائفهم اليومية ويشرعون في كشف أسرار الكون باستخدام الأقلام الرصاص والورق. من بين إنجازاته، تمكَّن ميلانكوفيتش من التنبُّؤ بالمناخ على القمر. وقد مضى خمسون عامًا أخرى قبل أن يتمكَّن أحدٌ من الذَّهاب إلى هناك للتحقُّق من ذلك، لكن الوقت أثبت أن تنبؤاته كانت دقيقةً دقةً مُذهلة.

•••

كان العلماءُ الذين زارونا في جرينلاند جزءًا مما يُسمَّى بمشروع «جيسب-٢» (مشروع غطاء جليد جرينلاند ٢)، وهو جهدٌ مشترك بين منظمات متعددة من أجل أن يجمع في النهاية سجلًّا مستمرًّا محفوظًا في عيناتٍ لُبِّية جليدية للمناخ في الماضي يمتد إلى ١١٠ آلاف عام. بالنسبة إلى علماء الجليد، فإن العينة اللُّبِّية الجليدية تُشبه جذع الشجرة، حيث تكشف كلُّ طبقة سنوية جزءًا خاصًّا بها من الماضي. ولكن الغطاء الجليدي في جرينلاند أكثر سُمكًا من أي شجرة، وكان التحدِّي الأول لفريق مشروع غطاء جليد جرينلاند ٢ هو تحديد كل طبقةٍ بدقة، أي جميع الطبقات البالِغ عددُها ١١٠ آلاف طبقة. فثمة طبقة لكلِّ سنة. وهذا يعني أكثر من مجرد عدٍّ للحلَقات، وفي النهاية تطلَّب الأمر إجراءَ مجموعةٍ من القياسات للتأكُّد من زمن انتهاء العام وبدء العام التالي. احتوت كلُّ طبقةٍ على سجلٍّ جوي مُحتبس للعام الذي ترسَّبت فيه، وبمجرد تحديد الجدول الزمني، شرع الباحثون في قياس كيفية تغيُّر الأشياء على مرِّ الزمن. كانت تركيزاتُ ملح البحر والغبار بمثابة مؤشراتٍ لظروف الرياح في فترةٍ معينة؛ حيث يصل الملح في جرينلاند إلى الغطاء الجليدي عبر الرياح الجنوبية القادمة من المحيط الأطلنطي أو الرياح الشرقية التي يدفعها نظام ضغطٍ مُنخفض مُتكرر بالقرب من أيسلندا. ويُنقَل الغبار الأرضي الغني بالكالسيوم (المعروف أيضًا بالتراب) غالبًا بواسطة الرياح الغربية القارِّية. في الفترات الباردة، يُنتِج تيارٌ نفَّاث قطبي قوي ظروفًا أكثر عصفًا على السطح، وصَيفًا أقصر ونموًّا أقل للنبات لحماية اليابسة من التعرية.

بالنسبة إلى علماء فريق مشروع غطاء جليد جرينلاند ٢، كانت مُستويات الغازات والهباء الجوي من عامٍ لآخر قابلة للقياس في الجليد، إما كمواد مُذابة في الماء نفسه أو محصورة كفقاعات غازية في كل طبقةٍ من اللُّب. كان تحليل العوامل والمُركَّبات دقيقًا بما يكفي لتحديد الدقائق الناتجة عن التجارِب النووية بعد الحرب وحادث مفاعل تشيرنوبيل في عام ١٩٨٦. كانت مهمةً شاقة وبطولية، أجرى معظمَها على أرض الواقع أشخاصٌ يرتدون الملابس الواقية من التجمُّد ومُجهزون بالمعَدَّات القطبية لمكافحة انخفاض درجة حرارة الجسم. وكانت مكافأتهم على ذلك أن استخلصوا جدولًا زمنيًّا لبيانات الغِلاف الجوي لأكثر من ١٠٠ ألف عام، بدقةٍ تفصيلية لم يسبق رؤيتها من قبل.

قطعَتْ سجلاتُ الجليد، مثل العينات اللُّبِّية الجليدية لفريق مشروع غطاء جليد جرينلاند ٢، شوطًا طويلًا في تأكيد الصِّلة بين دورات ميلانكوفيتش وتغيُّر المناخ، على الرغم من أن العديد من العصور الدافئة الطويلة عبر التاريخ تُظهِر أن الدورات الشمسية وحدَها لا تكفي لضمان عصورٍ جليدية منتظمة. في نهاية المطاف، جابت الديناصورات الأرض في أجواءٍ دافئة ومُريحة لمدة مائة مليون سنة. وربما كانت هناك أشجار نخيل في القطب الشمالي. وقد اتضح أن هناك عوامل مؤثرة أخرى تتحكَّم أيضًا في المناخ. بفِعل حركة الصفائح التكتونية، تنجرِف القارات على سطح الأرض، وتتحرك بسرعةٍ تُماثِل سرعة نمو أظافر الإنسان. وحيث إن التيارات المُحيطية هي المحرك الرئيسي للحرارة بين خطوط العرض، فإن موقع اليابسة سيؤثر كثيرًا في تحديد المناطق الدافئة وغير الدافئة. يحدُّ الوضع الحالي بشكلٍ كبير من تبادُل الحرارة، مع وجود مُحيطٍ متجمِّد مغلق وتكويناتٍ قارية كبيرة تمتدُّ من الشمال إلى الجنوب. تزامنت بدايةُ التجلُّد الرباعي الحديث جيولوجيًّا مع إغلاق برزخ بنما، والذي أغلق الباب فعليًّا أمام حركة المياه الدافئة بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ. منذ فترةٍ أطول بكثير، بدأت حقبة الحياة الوسطى الدافئة الخالية من الجليد مع تكدُّس مُعظم تضاريس الأرض في كتلةٍ أرضية عملاقة واحدة تُسمَّى بانجايا، وهو ما سمحَ للمحيطات المُتبقية بحُريةٍ أكبر في تدوير الحرارة بانتظام. كانت بانجايا نفسها دافئة وجافة، لا سيَّما في المناطق الداخلية الشاسعة التي كانت معزولةً عن رطوبة المحيطات، في وضعٍ شبيه بأستراليا. تغيَّرت الأمور في بداية العصر الجوراسي، حيث تصدَّعت القارة العُظمى ووفَّرت الخطوط الساحلية الجديدة مَدخلًا لهواء المحيطات الرطب. كانت سنوات ازدهار الديناصورات هذه لا تزال دافئة، لكنها كانت أكثرَ أمطارًا حيث وَجَد الهواءُ البحري الرطب مساراتٍ جديدةً نحو الشاطئ.

كما تعلَّم معظمُنا من التاريخ الحديث، فإن التوازن الكيميائي للغِلاف الجوي هو عامل محوري مُهم آخر في مسألة المناخ. تُحبَس الحرارة في الغِلاف الجوي بواسطة غازات الدفيئة، التي تمتصُّ جزيئاتها الأشعة تحت الحمراء الخارجة من الأرض وتؤخِّرها في طريق عودتها إلى الفضاء. تعمل غازات الدفيئة مُجتمعةً على إبقاء متوسط درجة حرارة الأرض في حدود ٦٠ درجة فهرنهايت، وهو أدفأ بكثيرٍ مما كانت ستُصبح عليه دونها. يُدرج ما يُسمى بتأثير الدفيئة بحقٍّ ضمن قضايانا المُلحَّة الحالية، ولكن من المُهم أن نتذكَّر أنه في غيابه التام سيظل متوسط درجة الحرارة على كوكبنا في حدود ما يقرب من سالب ١٠ درجات فهرنهايت، مما يعني برودةً شديدة للمياه السائلة، التي تُمثل المكوِّن الرئيسي للحياة كما نعرفها. غازات الدفيئة الرئيسية هي ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز، وبخار الماء. وعلى الرغم من كلِّ ما نسمعه عنها، فهي نادرة جدًّا. إذ يُوجَد ثاني أكسيد الكربون اليوم بتركيزاتٍ تبلُغ ٤٢٠ جزءًا من المليون تقريبًا (أي ٠٫٠٤٢ في المائة)، وقد تكوَّنت في الغالب بسبب البراكين حتى بدأ البشر في حرق الوقود الأحفوري منذ عدة قرون. لرؤية مثال على ما يمكن أن يفعله الكثير من ثاني أكسيد الكربون، يكفي فحسبُ النظر إلى كوكب الزُّهرة، حيث يتكوَّن ٩٧ في المائة من الغِلاف الجوي من ثاني أكسيد الكربون، وتبلُغ درجة حرارة السطح ٨٧٢ درجة فهرنهايت.

حظيت مستوياتُ ثاني أكسيد الكربون في غِلاف الأرض الجوي باهتمامٍ عالمي منذ أن بدأ عالِم يُدعى تشارلز كيلينج سلسلةً من القياسات فوق بركان مونا لوا في هاواي عام ١٩٥٧. وضعَ كيلينج أدواته ولاحظ على الفور نمطَين مُثيرَين للاهتمام، أولهما أن الرسم البياني كان مُتعرجًا، يرتفع وينخفض مثل كتابة شخصٍ أثناء ركوبه حافلةَ نقلٍ عام. اشتملت التعرُّجات على فترة نصف سنوية، وسرعان ما أدرك كيلينج وآخرون أنها نتاج عملية البناء الضوئي. في كل ربيع، كانت أشجار نصف الكرة الشمالي تستنشِق جرعةً جماعية من ثاني أكسيد الكربون، لتسقط أوراقها وتزفر ثاني أكسيد الكربون في الخريف. بإضافة البيانات من دراسات المناخ القديم، وسَّع كيلينج وفريقه مُخططهم إلى الوراء عبر الزمن ورأوا شيئًا أثار قلقَهم. عند رسم مُنحنى تركيزات ثاني أكسيد الكربون أمام مُنحنى التاريخ، ظلَّ ثابتًا نسبيًّا حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهي النقطة التي بدأ فيها استهلاك الوقود الأحفوري يتزايد بشكلٍ كبير لتوفير الطاقة للتصنيع.

ومن تلك الفترة، بدأ المُنحنى يبدو أُسيًّا على نحوٍ مثير للريبة، حيث أظهر الشكل المميز لعصا الهوكي الذي تكتسِبه القيمة عند ضربها في نفسها على فتراتٍ منتظمة. في عام ١٨٥٠، شَكَّلَ ثاني أكسيد الكربون ٢٦٠ جزءًا من المليون تقريبًا في الغِلاف الجوي. وفي عام ١٩٠٠، كان حوالي ٣٠٠ جزء من المليون. وفي عام ١٩٥٧، وهو بداية قياسات مونا لوا، كان ٣٤٠ جزءًا من المليون. بالنظر إلى الأدلة على كيفية تأثير تركيزات ثاني أكسيد الكربون على المناخات السابقة، كان هذا اتجاهًا مُقلقًا. وبحلول أوائل عام ٢٠٢١، كان الرقم يتضخَّم إلى ٤٢٠ تقريبًا، بزيادة ٦٠ في المائة عن قيمته قبل الثورة الصناعية. يُنسَب إلى كل هذه الزيادة في غازات الدفيئة ارتفاعُ درجة حرارة الأرض، والذي يُقدَّر بحوالي ١٫٢ درجة مئوية، والذي حدث على مدار العصر الصناعي، بينما ظلَّت القارات ثابتة وظلَّت التغيرات الناتجة عن مدخلات ميلانكوفيتش مستقرةً إلى حَدٍّ ما.

الأستاذ الدكتور بول مايوسكي هو مدير معهد جامعة ماين لتغيُّر المناخ، وكان قائدًا لفريق مشروع غطاء جليد جرينلاند الأصلي في جرينلاند. في عرضٍ تقديمي في يوم الأرض عام ٢٠٢١ أمام نادي سييرا كلوب في ولاية ماين، عَرَضَ مُخطط بياناتٍ للجمهور، وهو عبارة عن خطٍّ مُسنَّن طويل يحوم بالقرب من المحور السيني ثم ينطلق بسرعة الصاروخ نحو أعلى يمين الشاشة. تخيَّل معدل ضربات قلب ربان سفينة نائم بسلام ثم يستيقِظ فجأة بسبب صيحةٍ مذعورة يُطلقها أفراد المناوبة. يمثل الرسم البياني مُنحنى كيلينج، حيث يُغطي فترةً زمنية مداها ٨٥٠ ألف عام من بيانات العينات اللبِّية. ومن هذا الرسم البياني، يتَّضح جليًّا أن مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي أكبر الآن مما كانت عليه في أي وقتٍ خلال ما يقرُب من مليون سنة. بل إن ذلك بفارق كبير جدًّا. ووَفقًا للمعدل الذي نسير به، ستقترب المستويات من ٥٢٠ جزءًا من المليون بحلول عام ٢٠٦٠، أي أنها ستصِل إلى الضعف في فترةٍ تزيد قليلًا عن قرنَين.

كان التغيُّر العالمي في درجة الحرارة الناجم عن تأثير الاحترار لغازات الدفيئة وما زال أوضح في بعض الأماكن مقارنةً بأماكن أخرى. فالطقسُ بالفعل أبرد قليلًا في أجزاءٍ مُعينة من القارة القطبية، حيث تدفع الظروفُ العاصفة في المحيط الجنوبي مياهَ البحر الباردة إلى التصاعُد على طول القارة. أما في جميع الأجزاء الأخرى فالطقس أدفأ، وفي بعض الحالات يكون أدفأ بكثير. يُفضِّل علماءُ المناخ التركيز على «حالات الشذوذ»، وهي حالات الانحراف عن المتوسط القياسي بمرور الوقت. وتمثل الخرائط ذات الرموز اللونية أداةً جيدة لهذا الغرَض، وقد عرضَ الدكتور مايوسكي خريطةً للعالم تُظهِر التبايُنات في درجات الحرارة على مدى عَقدٍ من الزمان بدرجاتٍ لونية نسبية من اللون الأزرق (الأماكن الأبرد) واللون الأحمر (الأماكن الأدفأ). كوكب الأرض بأكمله تقريبًا يبدو ضِمن الطيف الأحمر، الذي يقع أغلبُه في شرق القطب الشمالي، حيث ارتفعت درجات الحرارة المتوسطة بمقدار خمس درجاتٍ مئوية منذ عام ٢٠٠٤. فثمة كتلة حمراء كبيرة تقع في مكانٍ ما شمال سيبيريا، في مساحة فارغة كبيرة كانت ذات يوم جليدًا ولكنها الآن مُحيط مفتوح معظم أجزاء السنة.

تُشير التطوُّرات العلمية الحديثة إلى أننا لسنا أول جماعةٍ حيوية تشهد فجأة مجموعة من السنوات تختلف تمامًا عن السنوات السابقة لها. في الواقع، التقلبات المناخية المفاجئة في الماضي واضحة بقوة في السجل الجيولوجي. لم تَعد العينات اللُّبِّية الجليدية لفريق مشروع غطاء جليد جرينلاند ٢ جديدة، لكنَّ تصوير العينات المحفوظة بأدوات حديثة سمح بما يُسمِّيه مايوسكي تحليلَ «مقياس العاصفة» لأحداثٍ مُعينة، وهي نسخة جيولوجية جليدية لما فعلَه مشروع «الطقس القديم» بسجلَّات السفن. وفقًا لهذا المقياس الجديد، يمكن ملاحظة حدوث القفزة الحرارية من الفترة الباردة المعروفة باسم «درياس الأصغر» إلى حقبة الهولوسين الدافئة على مدى سنواتٍ قليلة فقط، وليس على مدى عقودٍ أو قرون كما كان يُعتقَد من قبل. بفضل الحفظ في الجليد، لا تشغل مرحلة الانتقال إلى حقبة الهولوسين سوى مقطعٍ قصير من العيِّنات اللبِّية على بُعد ميل تقريبًا أسفل موقع حفر فريق مشروع غطاء جليد جرينلاند ٢، وتشمل مساحة متر من المواد التي تُمثل فترةً تبلغ ٣٢ عامًا بين ١١٦٤٣ و١١٦٧٥ عامًا مضت. وفي البيانات، تتضاءل بشكلٍ حادٍّ الأدلة الموسمية على الملح والكالسيوم المَحمولَين جوًّا — المؤشرات الجليدية للرياح البحرية والقارية — بعد فترة قصيرة من اضطرابٍ مُعين. إنها علامة بارزة على فترة جديدة من الاحترار، حيث أدى تراجُع التيار النفاث باتجاه القطب إلى صيفٍ أطول وأكثر اعتدالًا في القطب الشمالي. في ورقة بحثية عام ٢٠١٤ لمايوسكي وفريقه، تُعرَض هذه النتائج كموجَزٍ آني للطقس، يُبَث من عصر المَسْتُودُون: ثلاث سنواتٍ من ارتفاع قِيَم ذروة الرياح الغربية، وسنة انتقالية لتراجُع جليد البحر وزيادة تدفُّق الهواء البحري، ثم استراحة مفاجئة من فترات صيف الهولوسين الأطول والأكثر هدوءًا.

بإمكاني تخيُّل هذا الموجز الرائع وكأنه يُروى في أوساط مجتمعات الواجهة البحرية المعروفة بالحديث المُقتضَب، على النحو التالي:

«لقد هبَّت رياحٌ قوية خلال السنوات القليلة الماضية، لكنها سرعان ما هدأت، أليس كذلك؟»

«بلى، وبما أن الجليد يذوب بهذه الوتيرة، فمن الأفضل الحرصُ على نقل قواربكم ومنازلكم بعيدًا عن الشاطئ في أقرب وقت.»

من التفكير في الجلاميد العابرة في ممرَّات الجبال، وصل عِلم المناخ إلى درجة تقديم توصيفاتٍ للطقس موثَّقة بالتاريخ تعود إلى ١٢ ألف عامٍ مضت، وهي بمثابة حكاياتٍ تحذيرية من زمنٍ يبدو فيه تسارُع الأحداث مرآةً لخطورة ظروفنا الخاصة.

•••

يرى كيفن وود أن أحد تحديات تأسيس علم المناخ على السرديات التاريخية هو فَهم أن القياسات المُبكرة لم تكن موحدةً ولم تكن هناك وسائل لتصوير مناطق كبيرة آنيًّا. مَن الذي يمكنه أن يعرف يقينًا الصورة الكاملة لأنماط الطقس في يومٍ بعينِه من أيام عام ١٨٥٤؟ كان هذا تحديًا خاصًّا في المناطق القُطبية، حيث يمكن أن تتغير ظروف الجليد تغيرًا مفاجئًا استجابةً لتقلُّبات الرياح، مما يؤدي إلى حصار أساطيل بحرية كاملة أو تحريرها فجأة، فتطفو في مساحاتٍ واسعة مفتوحة تخلو تمامًا من الجليد، ولا يمكن معرفة إلى أين ذهب. اليوم، تتغيَّر الأسس القديمة بسرعة كبيرة لدرجة أنها لم تعد أسسًا على الإطلاق؛ إذ يشهد كل عام ارتفاعًا قياسيًّا في درجات الحرارة أو ما يقرب من ذلك، والحد الأدنى السنوي للجليد في تراجُع مستمر، والحدود الموسمية للأحداث المناخية تتغير جذريًّا. فتتجمَّد شيكاجو. وتشهد سيبيريا حرارةً شديدة. وينهار مُنحنى المناخ في كلا طرفَيه نحو عدم اليقين. في مطبخي، كلَّ ربيع، تصطف أوعيةٌ خضراء من شتلات المشاتل، حيث تنعم بالدفء والحماية حتى ١٥ مايو، وهي العتبة الرسمية للموعد الذي يكون فيه من الآمن وضع النباتات في الخارج في ولاية ماين. لن يخالف أي بستاني حكيم هذا المرسوم، مثلما لن يُبحر بحَّارٌ إلى جزر الهند الغربية قبل أواخر أكتوبر عندما يبدأ المحيط الصيفي يبرد وتنتهي أشهر ذروة الأعاصير بأمان. أو هكذا كان يُفتَرَض حتى وقتٍ قريب.

في سبتمبر ٢٠١٧، ألقى الأستاذ كيري إيمانويل محاضرةً في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حول تأثيرات الاحترار العالمي على تواتر الأعاصير الحلزونية المدارية وشدتها، حيث بدأ عرضه بعد ساعاتٍ قليلة من بدء إعصار ماريا المُرعِب بِشَقِّ طريقه عبر بورتوريكو. مَثَّلَ هذا، حسب كلمات الدكتور إيمانويل، مفارقةً مأساوية، حيث كان قد أعدَّ محاضرته عن موسم الأعاصير غير المسبوقة لهذا العام قبل أن يتحوَّل إعصارُ ماريا إلى عاصفةٍ من الفئة الخامسة شرق جُزر ويندوارد. كان عام ٢٠١٧ خارجًا عن المألوف بالنسبة إلى الأعاصير الحلزونية المدارية في المحيط الأطلنطي، حيث تصدَّر قائمة الأرقام القياسية في فئةٍ قاتمة تلو الأخرى. من بين العواصف السبع عشرة المذكورة، مثَّلت ١٠ عواصف أعاصير مدمرة، برياح مستمرة تزيد سرعتها على ٦٤ عقدة. ضربَ اثنان منها اليابسة وكانا من الفئة الخامسة، برياحٍ تزيد سرعتها على ١٤٠ عقدة. بلغت الأضرار ٣٠٠ مليار دولار وأكثر من ثلاثة آلاف حالة وفاة. وفي ٢٤ أغسطس، ضرب إعصارُ هارفي شاطئَ جزيرة سان خوسيه بتكساس وكان من الفئة الرابعة، في أُولى ثلاث ضرباتٍ له لليابسة أثناء تحرُّكه ببطءٍ شديد شمالًا على ساحل الخليج، مُبددًا طاقته الهائلة في فيضانٍ عارم. شهدت مدينة هيوستن ٤٠ بوصة من الأمطار خلال فترة أربعة أيام. ووقعت ١٠٦ حالات وفاة وخسائر مادية بقيمة ١٢٥ مليار دولار، مما جعل إعصار هارفي، عند مقارنة حجمه بحجم إعصار كاترينا الذي سبقه باثني عشر عامًا، من أكثر الكوارث الطبيعية إحداثًا للخسائر في تاريخ أمريكا.

تكوَّن إعصارُ إيرما غرب جزر الرأس الأخضر مباشرةً في ٣٠ أغسطس، وهو الوقت الذي كان فيه إعصار هارفي يتبدَّد متحولًا إلى كتلةٍ من العواصف الرعدية فوق جنوب شرق الولايات المتحدة. أتذكَّر أنني كنتُ مذهولًا من صور إعصار إيرما عبر الأقمار الصناعية وهو يشقُّ طريقَه عبر المحيط الأطلنطي في دوَّامة من السُّحب الملتفَّة بإحكامٍ والمتناظرة على نحوٍ جمالي. في ٦ سبتمبر، بلغت سرعة رياح إعصار إيرما ذروتَها حيث وصلت إلى ١٥٥ عقدة، الأمر الذي جعله أقوى إعصارٍ حلزوني مداري في العالم على مدار العام. وقد ضربَ إيرما جُزر باربودا وسانت مارتن وفيرجين وسوَّاها بالأرض، قبل أن يضرب كوبا ويُفوِّت جزيرةَ كي ويست في طريقه لتدمير طرف الولايات المتحدة الأشبَهَ بمِقبض المِقلاة المعروف بولاية فلوريدا.

ازدادت قوةُ إعصار ماريا شرق جزر الأنتيل الصغرى مباشرةً في ١٦ سبتمبر، وتعمَّق بسرعة ودمَّر دولة دومينيكا المكوَّنة من جزيرة صغيرة بعد ذلك بيومَين. وحلَّ إعصارُ ماريا محلَّ إعصار إيرما كأقوى عاصفةٍ في العام، وواصل طريقه ليضرب بورتوريكو ضربةً مباشرة، حيث تُوُفِّي ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص. ولا تزال أجزاءٌ من الجزيرة دون كهرباء ومياه بعد عامَين من الحادث. حلَّت الأعاصير هارفي وإيرما وماريا في المراكز الثالث والرابع والثامن على الترتيب ضمن سلسلة من ١٠ أعاصير متتالية هبَّت في عام ٢٠١٧، وهو تسلسُل غير مسبوق في عصر مراقبة الأعاصير بالأقمار الصناعية.

يتمثَّل جزءٌ كبير من عمل كيري إيمانويل في تحديد ما إذا كانت الزيادة الأخيرة في الأحداث الجوية المدارية المُميتة جزءًا من التقلُّب الطبيعي أم أنها مرتبطة بالتغيُّرات التي يُسبِّبها الإنسان في المناخ. وهو مقتنع تمامًا بالاحتمال الثاني بعد مقارنة البيانات التاريخية بنتائج تجارِب النمذجة. فالزيادة الحديثة في غازات الدفيئة تعني أن المحيطات تحتفظ بدرجة حرارة أعلى، ومن ثَمَّ تُرسل المزيد من بخار الماء إلى الغِلاف الجوي لإثارة العواصف. وبفضل ما يُسمَّى معادلة كلاوزيوس-كلابيرون (كما يقول البروفيسور إيمانويل بطريقة العلماء غير الرسمية)، يُمكننا التنبؤ بأن زيادة درجة حرارة البحر بمِقدار درجة واحدة ستُترجَم إلى ارتفاعٍ بنسبة سبعةٍ في المائة تقريبًا في بخار الماء المحمول جوًّا فوق المُحيطات. ووَفقًا لقوانين الديناميكا الحرارية، زادت السرعة القصوى المُحتمَلة لرياح الأعاصير ستَّ عُقَد لكلِّ عَقد منذ عام ١٩٨٠. وكلُّ هذا يُترجَم إلى عواصف أكبر وأكثر رطوبة، وهو ما يبدو أن سِجل السنوات الأربعين الماضية يؤكِّده. تصِل الأعاصير في وقتنا الحاضر إلى ذروة شدَّتها عند خطوط عرْضٍ أعلى، وتحمل طاقتها إلى مناطق أبعدَ عمَّا اعتدنا اعتبارَه المناطق المدارية. وباستخدام القِيَم المتوقَّعة لقرنٍ افتراضي يبدأ في عام ١٩٩٠، فإن احتمال تعرُّض ولاية تكساس لعاصفة بقوة هارفي سيزداد على الأرجح ٢٠ ضِعفًا؛ من حدثٍ كان يقع مرة كلَّ مائة عامٍ في عام ١٩٩٠ إلى حدثٍ يقع كلَّ خمس سنواتٍ بحلول عام ٢٠٩٠.

الأمر الآخر الذي يريد كيري إيمانويل أن نُدركه هو أن أخطر ما في الأعاصير في الواقع ليس الرياح، بل المياه. لا يميل البحَّارةُ على متن السفن إلى التفكير بهذه الطريقة، لكن إيمانويل يملك البيانات التي تثبت ذلك. من بين ٥٨٩ أمريكيًّا لقُوا حتفهم بسبب الأعاصير بين عامَي ١٩٧٠ و١٩٩٩، غرق ٨٥ في المائة. وأودت الفيضانات في هندوراس من جراء إعصار ميتش بحياة ما يصِل إلى ١٠ آلاف ضحية في عام ١٩٩٨. يقول الدكتور إيمانويل إنه لا أحدَ يُرسِل مراسلًا تلفزيونيًّا للوقوف في بركة مياه أثناء تغطيته للإعصار. فأشجارُ النخيل التي تُحركها الرياح أكثر جاذبيةً للتصوير، لكن الماء هو الخطر القاتل الحقيقي. وقد أدرك سكانُ نيويورك ونيوجيرسي ذلك في عام ٢٠٢١ عندما شقَّت بقايا إعصار إيدا الواهنة طريقَها عبر جبال الأبالاش بعد أن ضربَ نيو أورلينز في ٢٩ أغسطس. ومع رياح تصِل سرعتها إلى ١٥٠ عقدة على اليابسة، أصبح إعصارُ إيدا مساويًا لإعصار لورا في العام السابق، والذي كان أقوى عاصفة تضرب لويزيانا على الإطلاق، لكن الخسائر البشرية التي أحدثها كانت أكبر في منطقة نيويورك الحضرية، حيث هطلت سبعُ بوصاتٍ من الأمطار على مُتنزَّه سنترال بارك في يومٍ واحد. فغرق الناسُ في أقبية منازلهم في منطقة كوينز. وجرفت الفيضاناتُ المفاجئة السيارات في أماكن مثل هوبوكين ومامارونيك، وهي ضاحية مليئة بالأشجار أتذكَّر أنني زرتُ فيها بعض أقاربي مع أسرتي منذ زمنٍ طويل. وقبل ذلك، في عام ٢٠٠٩، ضرب إعصارٌ أقلُّ قوة، يحمِل أيضًا اسم إيدا، خليجَ موبيل بولاية ألاباما، وكان قربه من موقع هبوب إعصار إيدا على اليابسة في عام ٢٠٢١ أمرًا مثيرًا للذهول عندما يأخذ المرءُ في الاعتبار جميع الأماكن التي يمكن أن يصِل إليها إعصار حلزوني مداري. على الأرجح لن يُستَخدَم اسم إيدا مجددًا لأي أعاصير مُستقبلية.

ينبغي للمُجتمعات الساحلية، إلى جانب استعدادها للأمطار، أن تستعد أيضًا لعُرام العواصف، الأمر الذي يُشبِّهه البروفيسور إيمانويل بتسونامي تدفعه الرياح. يمكن أن يأخذ عُرام العواصف شكل مَدٍّ بحري سريع الارتفاع — كما حدث عندما أغرق إعصارُ ساندي أنفاق مترو أنفاق مانهاتن — أو قد يهبُّ دفعةً واحدةً مثل اندفاع المياه من خَرقٍ في أحد السدود. يوجَد مقطع فيديو صادم يُصوِّر ذلك ويحظى بشعبية الآن بين المحاضرين، صُوِّر في الفلبين خلال إعصار يولاندا عام ٢٠١٣. يُظهِر الفيديو ما يُشبه جدارًا هائلًا من الماء يخرج من العَدَم ليمحو صفًّا من الهياكل الخشبية على طول واجهةٍ بحرية منكوبة، وهي لحظة صوَّرها شخصٌ نجا بطريقةٍ ما من الحدث. يتأثر عُرام عواصف مُعينة بحالة المدِّ والجَزر النسبية. في طفولتي، حُبِست أنا ووالدتي في فندقٍ ببوسطن خلال العاصفة الثلجية التي ضربت المدينة في فبراير ١٩٧٨. مكثنا هناك مدة تُقارب الأسبوع، وفي النهاية دخلنا إلى المطبخ لمساعدة الموظفين القليلين الذين كانوا لا يزالون في المبنى. خلال هذه العاصفة الشتوية التي بلغت قوة الأعاصير، وصل عُرامها مع مَدِّ القمر المُكتمل ليُكَوِّنا فيضاناتٍ بارتفاع ١٥ قدمًا فوق المعدل الطبيعي في بعض المناطق الساحلية. تسبَّبت الأمواج المتكسرة في اختفاء المنازل وجرفت شاحناتٍ مُحمَّلة إلى المحيط.

هذا النوع من المخاطر ليس جديدًا، ولكنه أصبح خطرًا مُلِحًّا، حيث أصبحت التعزيزات الساحلية عتيقة أمام ارتفاع مستوى سطح البحر وتحويل طاقات الاحترار الحراري للعواصف التي تحدث كل مائة عام إلى أحداثٍ متكررة كل عَقد. زاد عددُ سكان المناطق الساحلية في أمريكا الشمالية ثلاثة أمثال منذ عام ١٩٧٠. يُذَكِّرنا الدكتور إيمانويل بأننا غير مُستعدِّين لهذا الأمر. فالعديدُ من المؤشرات يُشير في الاتجاه الخطأ. وقرب نهاية حديثه، يعرِض خريطةً ملونة لمصبِّ نهرٍ لا اسم له، تحدُّه شبه جزيرة طويلة مليئة ببحيراتٍ مَدِّية. إنها مدينة كامبريدج، بولاية ماساتشوستس، في ظلِّ الظروف المُتوقَّعة لعُرام عاصفةٍ بارتفاع ثلاثة أقدام في عام ٢٠٧٠. يظهر جزءٌ كبير من حرَم معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باللون الأزرق، وقد غمره الماء بوضوح.

في سبتمبر ٢٠٢٠، أقف في مبنى الفصول الدراسية الرئيسي بأكاديمية ماين البحرية، وهي جامعة حكومية صغيرة حيث يستيقِظ الشباب الطموحون مبكرًا كلَّ يومٍ للتدريب على المِهن البحرية. لقد دَرَّستُ هنا بشكلٍ مُتقطع على مدار مسيرتي المهنية، واليوم يرسو طلَّابي السابقون بسُفنهم في ميناء إيفرجليدز، ويعملون في استزراع المحار في ماريلاند، ويستخرجون النفط قبالة سواحل أفريقيا. الأكاديمية عالَم انتقالي، جزء منه أشبه بالسُّفن وجزء منه أشبه بكلية، حيث يُلقَّب بعض الأساتذة بلقب «قبطان» وتُزيَّن الممرَّات المصقولة بتذكاراتٍ بحرية. بالقُرب من بعض اللوحات الشخصية ذات الإطارات، توجَد شاشة فيديو تعرِض خريطة الطقس الحالية في شمال الأطلنطي، كما لو كانت جدارية مُتغيرة باستمرار حيث لا يقلُّ عدد الأعاصير الحلزونية النشطة في الوقت الحاضر في المناطق المدارية عن خمسة. يضرب إعصار سالي فلوريدا بينما يتَّجه إعصار تيدي مُنذرًا بالسوء نحو برمودا. هبَّ إعصار فيكي، الذي مُنِح اسمَه توًّا، على غرب أفريقيا بالقرب من كتلةٍ جنينية أخرى من السُّحب والتي ستتطوَّر لتصبح إعصار ويلفرد. عندئذٍ سيكون المركز الوطني للأعاصير قد استنفدَ أسماء الأعاصير المعتادة وسيُضطر إلى اللجوء إلى استخدام الأحرف اليونانية، بدءًا من ألفا لعاصفةٍ غير عادية غرب لشبونة، وبيتا لنمَطٍ ناشئ آخر يحوم في خليج كامبيشي الدافئ. سيتَّضح خلال الأسابيع المُقبلة أننا لم نقترِب حتى من نهاية القائمة. إذ ينتظرنا موكب من الأعاصير الحلزونية، وعواصف مُميتة تحمل أسماءً مثل: جاما، ودلتا، وإبسيلون، وزيتا، وإيتا، وثيتا، وإيوتا. ستضرب العاصفة إيوتا نيكاراجوا في هيئة إعصارٍ من الفئة الخامسة بعد أسبوعَين فقط من ضربة مباشرة من إعصار إيتا. لم يُسجَّل من قبل مثلُ هذا العدد الكبير من الأعاصير الحلزونية المدارية في وقتٍ واحد، ولم تنفَد منَّا الأسماء الحقيقية لتسمية الأعاصير منذ عام ٢٠٠٥، ذلك العام الملحمي الذي شهد أعاصير إميلي، وكاترينا، وريتا، ويلما، وألفا، وبيتا، وجاما، ودلتا، وإبسيلون، وزيتا.

هل يرى البحَّارة الآن آثار تغيُّر المناخ وهم في البحر على متن سُفنهم؟ هل العواصف أسوأ؟ بالنسبة إلى العاملين في مجال البحرية، فإن حتمية التعامل مع كل عاصفة على حدة التي تفرضها عليهم طبيعةُ العمل في البحر قد تجعل من الصعب تصوُّر الأنماط الأطول أمدًا. ولكن هنا نحن، حسبما أظن، في منتصف شهر سبتمبر، حيث يتبقى شهران على نهاية موسم الأعاصير وقد استنفدنا بالفعل جميعَ الأسماء. لقد حدث هذا الأمر، الذي يُفترَض أنه لا يحدث إلا مرة واحدة في العمر، مرتَين منذ اشتريتُ السيارة التي أقودها. وسيحدث مرة أخرى في عام ٢٠٢١. أسمع في الراديو أن غابات الغرب الأمريكية الجافة تضطرِم فيها النيران من لوس أنجلوس إلى سياتل. يحمل التيار النفَّاث جزيئاتها المجهرية إلينا هنا في نيو إنجلاند، في عمود مرتفع من الغبار رَسَمَ ستارةً بلونٍ رمادي وردي عبر سماء الصباح الباكر. بينما أقودُ سيارتي، ينعطف الطريق فجأةً نحو الشرق ويظلُّ ضوء الشمس مُعَلَّقًا لفترة وجيزة، بلون الشحم، في وسط الزجاج الأمامي لسيارتي. تظهر الشمس ضخمةً وحادة الحواف ومُمتلئة، وتبدو قريبةً لدرجة أنه يُهيَّأ إليك أنه بإمكانك الوصول إليها. فأتذكَّر أن ثمة نجمًا بعيدًا هناك، أو بالأحرى فرن حراري نووي. إنه يبعد ٩٣ مليون ميل، ولكنه، مثل مَوقد حطب مُمتلئ على آخره، أصبحَ فجأةً قريبًا جدًّا بدرجةٍ لا تبعث على الارتياح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥