هونجا تونجا هونجا هاباي
٢٠١٩
عبر اتصال الإنترنت المُتقطع على متن السفينة، أقرأ بريدًا إلكترونيًّا مُرسَلًا من موطني. وأجدُ أنه حان وقتُ دفع فاتورة كهرباء منزلي، وأن خلافًا يتصاعد بشأن بعض أعمال البناء الجديدة في ساحة بناء المراكب في الشارع الذي يقع فيه منزلُ والدي. كم أنا سعيدٌ لوجودي هنا! في مواجهتنا عبر مَرفأ باجو باجو البارز توجَد أرصفة مصنع التعليب، وهي منطقة صناعية ساحلية تضم صفًّا تلوَ الآخر من سُفن صيد التونة العملاقة التي تصطف جنبًا إلى جنب، آلات لقتل الأسماك تنتمي لعصر الفضاء ذات تصميمٍ رشيق مُدهش بالنسبة إلى سفن التجارة الحديثة. تُشبه السفن الطويلة المنخفضة الصواري والمصانع الصاخبة مدينةً سرية، حيث آليات العمل الغامضة والسكان الذين كادوا يكونون غير مَرئيِّين للعالَم المحيط بهم. ألتقي أحيانًا بطواقم القوارب هنا في القرية، وهم رجال آسيويون نحيلون يرتدون الصنادل والسُّترات الواقية، ويشترون السجائر أو يضمُّون بجدية رزَم العملات لإرسالها إلى الوطن عبر مكتب ويسترن يونيون.
على الطريق، بعد مطعم ماكدونالدز وساحة المدينة، توجَد أرصفة الشحن التي تقع حدودها ذات الأسوار مباشرةً قبالة صفٍّ من الأشجار المليئة بما يبدو للوهلة الأولى غِربانًا، ولكنه في الواقع ثعالب ساموَا الطيارة؛ وهي خفافيش كبيرة الحجم ومُزعجة ستظهر قريبًا على نسخة ساموية من العملة الأمريكية من فئة ٢٥ سنتًا. تتوقَّف عائلةٌ في شاحنة صغيرة لتسمح لي باجتياز الطريق، وأسأل حارسًا بالقُرب من بوابة المحطة عن كيفية الوصول إلى مكاتب الميناء. لقد جئتُ للاستفسار عن وصول حاوية شحن ضالة تأخَّرت لأسابيع. أصبحت هذه الحاوية التي طال انتظارها عالقةً مثل طردٍ مفقود في سلسلة الخِدمات اللوجستية المعقدة التي تربط بين البر الرئيسي الأمريكي ومنطقة لا يُدرِك سوى قلةٍ من الناس بوجودها من الأساس. بدأ طردنا المفقود رحلته قبل أشهر في ماساتشوستس، معبأً بالكماليات التي تحتاجها سفينة تعمل في مياهٍ بعيدة؛ من زبدة الفول السوداني، وشرائح المجهر، وقطع غيار المُحركات، ووصلات الطاقة، والشاشات. بالإضافة إلى حلوى الخطْمِي. وكذلك صناديق الفاكهة المعلبة الثقيلة كسبائك اليورانيوم. وأيضًا ٢٠ رزمة من ورق الطابعة بمقاساتٍ غير مِترية، ونصف ميل من الحبال، و٤١ وسادة، وثلاثة قوارب نجاة، وثلاجة صغيرة، وشراع رئيسي جديد. هذه هي محتويات هذه الصناديق الفولاذية التي تظهر في جميع أنحاء العالم؛ أوعية مجهولة تُعبَّأ بأي شيءٍ يمكن أن يُوضَع بداخلها. ومن ذلك أحذية جري، أو أثاث رخيص، أو قطع جرارات، أو إسمنت مُعَبَّأ، أو آلات خياطة، أو سيارة لامبورجيني. ذات مرة، منذ زمن بعيد في البحر المتوسط، شاهد صديق لي حاوية تسقط من رافعة سفينة، فتنفتح لتكشف عن إمدادٍ مدى الحياة من أسياخ شواء الكباب.
تبدأ الحاوية المتجهة إلى ساموا الأمريكية من البر الرئيسي رحلتها على متن شاحنة مُتجهة إلى ميناء لوس أنجلوس — مدينة حاوياتٍ حقيقية — حيث ستنتظِر هي و١٠٠ ألف حاوية مماثلة حتى يتم تحميلها على سفينةٍ متجهة إلى هاواي. وبعد خمسة أيام ستصل إلى هونولولو، وستستقرُّ هناك مرة أخرى حتى يتوفر مكان على متن سفينة أخرى تُبحِر في الرِّحلات الأقل تواترًا إلى باجو باجو. وبفضل قانون غامض يعود إلى قرنٍ من الزمان يُسمَّى قانون جونز، لا يجوز نقل البضائع من ميناء أمريكي إلى آخر إلا للناقلات التي ترفع العلَم الأمريكي، مما يمنح احتكارًا للشركات الأمريكية القليلة التي لا تزال سُفنها تُبحر بين أمريكا ونقاطها الخارجية في المحيط الهادئ.
بسبب خطأ في الأوراق، فوَّت طردنا، حرفيًّا، القارب المُخصص له. كما تلعب دورًا في الأمر سلسلةٌ من الاضطرابات النظامية، التي بدأت في فبراير عندما تصدَّعت سفينة رئيسية في أسطول التجارة وانفتحت بسبب قِدمها الشديد وبدأت في تسريب النفط في خليج سان فرانسيسكو. إن سفينة إس إس «ماتسونيا» هي سفينة «نقل مشترك» (للركَّاب والبضائع) من فئة «بونثي دي ليون» العتيقة، وهي آخِر السفن الشقيقة المُتبقية لسفينة «إلفارو» المفقودة. إنها في عامِها الأخير في خدمتها المُقررة، لكن زيارتها غير المُخطَّط لها إلى حوض بناء السفن أحدثت تأثيرًا متتاليًا على جميع لوجستيات البحار الجنوبية، مما أثار الشكَّ حول ما إذا كانت حزمة الرعاية الباهظة الثمن الخاصة بنا ستصِلنا من الأساس. تختار وكيلتُنا أن تكون متفائلة. فتعِدنا قائلةً إنها ستصل يوم السبت القادم بالتأكيد، ولكن الميناء مُغلق خلال عطلة نهاية الأسبوع، إذن … يوم الاثنين.
إننا في شهر أكتوبر، وهو نقطة تحوُّل لما سيكون ربيع نصف الكرة الأرضية الجنوبي، ولانحرافٍ عميق في الرياح التجارية يدفع نطاقًا عاصفًا من الأمطار نحونا من الشرق. هناك تحذيراتٌ من العواصف منشورة الليلة، حيث تدفع القناة الطويلة لمرفأ باجو باجو البحر الهائج حتى رصيفنا، بينما تندفع السفينة مثل كلب أرديل مربوط، ويكافح أفراد الطاقم لإبقاء المصدَّات في أماكنها. نطفو في فوهة بركانٍ خامد مغمور بالمياه، وتتلألأ تلالُه الخضراء الحادة في كلِّ اتجاهٍ وتتلاشى متوارية عن الأنظار في الأفق المُلبَّد بالغيوم. يتوجَّه بعضُ أفراد الطاقم لتناول طعام الغداء، وأنضمُّ إليهم في سيارتنا في رحلةٍ قصيرة على الطريق الوحيد في الجزيرة. حَدُّ السرعة هو ٣٠ ميلًا في الساعة في كل مكانٍ في ساموَا الأمريكية، والجميع يلتزِمون به إلى حَدٍّ كبير. فلِمَ العجلة في مكانٍ طرقُه ليست طويلة؟
وبينما نمرُّ بالسيارة بمدخل الميناء، أشعرُ بالامتنان لأننا لن نُغادر اليوم. يهطل المطرُ بغزارةٍ وتتكسَّر الأمواجُ على منطقةٍ واسعة ضحلة تقع إلى الغرب مباشرةً من مدخل المرفأ الرئيسي، في دوَّامةٍ رمادية عريضة لمحيطٍ مُضطرب. تُسمى قناة الدخول إلى باجو باجو ممرَّ ناراجانسيت، وقد أخذت اسمها غير الساموي على الإطلاق من سفينة جلبت مُمثلين عن البحرية الأمريكية إلى المنطقة لإثارة المشاكل في عام ١٨٧٢. طوال ٢٥٠٠ عام، تمتعت مملكةُ ساموا، وهي واحدة من أقدم الممالك البولينيزية، بحُكمٍ ذاتي دون مضايقاتٍ حتى لفتَ موقعُها الاستراتيجي في وسط أكبر محيطٍ في العالم انتباهَ القوى البحرية في القرن التاسع عشر، حيث كان الجميعُ يطمعون في مثل هذه الأماكن ليتَّخذوها محطاتٍ لتزويد سُفنهم البخارية بالفحم. وصلت الأمور إلى ذروتها في عام ١٨٨٩، عندما توقفت المواجهة بين السفن الحربية الألمانية، والبريطانية، والأمريكية بسبب الهبوب المباغِت لأحد الأعاصير. وكعادة الطقس غير المُحابية لأحد، دمَّرت العاصفة الأساطيل الثلاثة جميعها وتابعت المُضيَّ في طريقها، وأجَّلت فعليًّا حسم مسألة الهيمنة الاستعمارية لجيلٍ آخر. احتلَّت ألمانيا الأجزاءَ الغربية من ساموا حتى الحرب العالمية الأولى واستمرَّت كجزءٍ من نيوزيلندا حتى استقلالها في عام ١٩٦٢. وظلَّت جزيرة توتويلا الشرقية وبعض الجزر الأخرى القريبة أمريكية، وتطوَّرت من معقِل عسكري إلى منطقة حُكمٍ ذاتي في منتصف القرن العشرين. تعتبر ساموا الأمريكية القطعة الوحيدة من الولايات المُتحدة الواقعة تحت خط الاستواء، باستثناء صخرةٍ صغيرة غير مأهولة بالسكان تُسمَّى جزيرة جارفيس على بُعد حوالي ١٥٠٠ ميل جنوب هاواي.
في طريق العودة إلى المدينة، نمرُّ عبر حدائق من أشجار ثمار الخبز ونخيل الموز وهي تتأرجح في مهبِّ الريح، وصفوف طويلة من نخيل جوز الهند خلفها في طبقة علوية مائلة. نتوقَّف خارج قريةٍ صغيرة وننتظر «الصا»؛ وهو حظر تجوال من أجل الصلاة التقليدية التي تُمارس هنا كلَّ مساء. يمر بجانبنا رجلٌ ضخم يرتدي ثياب «اللافالافا» (البولينيزيين) وقميصَ فريق أوكلاند ريدرز لكرة القدم الأمريكية، وهو يضرب على آلة صنجة مصنوعة من أسطوانة غاز بروبان قديمة معلَّقة بإطار خشبي. يُحيِّينا بإيماءةٍ من رأسه وهو يمضي في طريقه. بشكلٍ عام، تُترَك إدارة الأمور في الوقت الحاضر في كِلا جزأي ساموا للسامويين أنفسهم، وهم بلا شك سعداء بذلك. يرتبط القسم الأمريكي والقسم المُستقل باللغة والأصل المُشتركَين، ولكن تفصلهما اليوم الأوضاعُ السياسية الجغرافية. أخبَرني أحد الأشخاص أن الشباب من ساموا الأمريكية لديهم أعلى نسبة تجنيد في الجيش الأمريكي، وأن احتمال لعبهم في الدوري الوطني لكرة القدم الأمريكية أعلى ١٧٥ مرة من أي مجموعةٍ سكانية أخرى. أما الجزر الغربية المستقلة فتظل ضمن النطاق الثقافي لفيجي ونيوزيلندا، لذلك فهم شغوفون بلعبة الرُّجبي. أظن أنني أستمع إلى رواية مختصرة معدَّة للزوار، حيث تُختزل ثلاثة آلاف عام من التاريخ في حديث عن كراتٍ مُدبَّبة وهجماتٍ مباغتة في أرض الملعب.
•••
عندما تصِل حاوية الشحن الخاصة بنا أخيرًا، يكون الأمر أشبه بيوم عيد الميلاد المجيد، بل أفضل منه، حيث يُوضَع أمامنا صندوق هدايا كبير مفتوح على مصراعَيه ويتابع أفراد الطاقم بفرح وصول الإمدادات التي طال انتظارها. أفكرُ مرة أخرى في لعبة الرُّجبي. في قلب التجمهُر يقف بينيكولو، وهو عالِمٌ شابٌّ من إدارة البيئة في تونجا انضم إلينا استعدادًا لمغادرتنا القادمة. يتمتع بينيكولو بشخصية ودودة ولكن مع تحفظ لا إرادي مع الغرباء، وهي سمة يعوضها بنشاط يجعله يبدو في كل مكان في آنٍ واحد، فدائمًا ما تجده بجانبك يساعدك على رفع الطرف الآخر من أي شيءٍ تحاول حملَه. تحسَّن الطقسُ الآن. غدًا نتَّجه جنوبًا إلى تونجا ثم إلى فيجي، وكلُّ ميناء منهما يمثل خطوةً في قوسِنا الملاحي الطويل إلى أوكلاند. إنه طريقٌ مُصمَّم لإبعادنا عن المناطق المدارية قبل بداية موسم الأعاصير. أتخيَّلُ الحوض الشاسع القريب لحوض تجمُّع المياه الدافئة في غرب المحيط الهادئ، وأفكرُ مرة أخرى في السفن الحربية الاستعمارية التي كانت هنا قبل أكثر من قرنٍ مضى، متشوِّقة للقتال وغافلة عن الخطر الذي ينتظرها من قوًى أكبر وأقل تحيزًا.
نحن في وقتٍ ما قبل المغادرة الذي لا مجال فيه للخطأ، حيث تتكدس التفاصيل الأخيرة معًا مثل مسافرين عند أبواب دوَّارة. ينشغِل أفرادُ الطاقم بالشراع الرئيسي الجديد؛ فهو كبير كخيمة سيرك، ويتدلَّى بطيَّاتٍ فوق سطح السفينة الرُّبعي بينما يُثنَى ويُرفَع ببطءٍ على ذراعه. يُفرِغ بينيكولو ومعاونان صندوقًا تلوَ الآخر من المؤن، وألاحظ وجود ضاغط هواءٍ مُشغَّل على الرصيف، بجوار خرطوم أسود مَعقود يؤدي إلى المرفأ. على السطح، يفرغ عمودٌ مُتحرك من الفقاعات نفسَه على طول خطِّ الماء الخاص بنا مثل اندفاعاتٍ من بخَّاخة صودا.
قبل السماح لنا بالدخول إلى نيوزيلندا، يجب أولًا أن نُنظِّف قاع السفينة، حيث تُعتبر السفن شريكًا خفيًّا في الآفات الكبرى الناتجة عن نقل الأنواع الأحيائية الغازِيَة. إذ تسبح الأسماك التي تتطفَّل على السفن بسعادةٍ في مياه البحر التي تحمِلها العديدُ من السفن في صورة مياه الصابورة، بينما تلتصِق مجموعة من الكائنات الحيوية الأقل لفتًا للأنظار بهياكل السُّفن ومراوحها. منذ عام ٢٠٠٤، يُطلَب من السفن ضخُّ مياه الصابورة الخاصة بها في البحر عند كلِّ حدود دولية والتزوُّد بالمياه المحلية مكانها، وبذلك يُمنَع ثعبان البحر الفرنسي، على سبيل المثال، من التسلُّل إلى رحلة لتربية صغاره المشاغِبين في موانئ بورنيو التي لا تتوقع وجود مثل هذه الكائنات. وقد حوَّلت المنظمة البحرية الدولية انتباهَها الآن إلى عالَم من الكائنات الأكثر استقرارًا من البرنقيلات، والديدان، والطحالب، التي ربما لا يمكن تمييزها بالعين غير المُدربة، ولكنها لا تزال تشكِّل خطرًا على النُّظم البيئية إذا أُطلِقَت في الأماكن غير الملائمة. يُعتبَر الشعب الكيوي، الذي يحمي بحقٍّ جزيرته الفردوسية، من أوائل المُتبنِّين لتلك المعايير الجديدة، ويؤكِّد بطريقته المرحة على أنه يجب الآن على جميع البحَّارة الأجانب تنظيف سُفنهم منعًا لنمو الكائنات — بفرك قاع السفينة أو طلائها — قبل موعد وصولها بثلاثين يومًا على الأكثر.
تخرج حلقةُ خرطوم من الميناء مثل صنارة صيد تُلقى للوراء. وفي نهايتها تقف شابَّة ترتدي بدلة غوص، وهَالة شعرها المُبلل يُنصِّفها حزامُ قناع الغوص. تخرج من الماء على سُلَّمٍ من الألومنيوم مُستنِد إلى الرصيف، في مشهدٍ أشبَه بأميرة من القراصنة تخرج من مملكةٍ مائية مَخفية. وبطريقةٍ جذَّابة، وإن كانت مُتحفظة، ترفع صندوق أدواتها وتجاهد لوضع الخرطوم في شاحنةٍ صغيرة بحركاتٍ ماهرة قبل أن تلتفِت إليَّ وتتحدَّث لأول مرة.
تقول: «انتهَينا يا قبطان. سيعود والدي لاحقًا ومعه مقاطع الفيديو. والفاتورة.»
مقاطع الفيديو تحت الماء هي الدليل النهائي على أننا طهَّرنا قاع السفينة من الكائنات الضارة من الفروع الدُّنيا لعالَم الحيوان.
أقول: «شكرًا على مساعدتكم لنا في هذا. أعلم أنكم مشغولون.»
تمدُّ القرصانة يدَها نحو سجائرها. وتقول: «أجل.»
ثم تنطلق مبتعدةً بشاحنتها، وكأنها من كبار رجال الأعمال في هذه التجارة الفريدة. أتخيلُ شاليهًا في بلدة بانف، أو ربما مجرد صفٍّ من براميل الوقود في سقيفة للقوارب، مليئة بالأوراق النقدية من فئة المائة دولار.
أسأل زوجتي: «كيف يعرف الناسُ أنني القبطان وأنا لم أقدِّم نفسي بعد؟»
تقول: «هذا أمر سهل. إنها الطريقة التي يقف بها القباطنة. كما لو أنهم لا يفعلون شيئًا ومع ذلك يبدون أكثر انشغالًا من أي شخصٍ آخر.»
•••
تقع تونجا على بُعد ٣٠٠ ميل جنوب ساموَا، حيث تُشكِّل الرياح التجارية طريقًا سريعًا للملَّاحين بين هذَين الأرخبيلَين الواقعَين في قلب المحيط الهادئ. مع اتجاه الرياح، يمضي قاربٌ شراعي أصغر في نفس اتجاهنا، ويتأرجح في التموُّج الذي خلَّفته عواصفُ الأيام القليلة الماضية. على مسافةٍ أبعد في عُرض البحر سفينةٌ لصيد سمك التونة، تشقُّ طريقها عائدةً إلى الديار وسط سُحبٍ من الرذاذ، وبخلاف ذلك لا يوجَد شيء؛ صباح مشرق مع القليل من السُّحب، والهواء جافٌّ على غير المتوقَّع بعد موجة الرطوبة المركزة التي مرَّت للتو. أُبدي إعجابي ببياض شراعنا الرئيسي الجديد المُدهش وسط السماء الزرقاء بينما أتجوَّل لتفقُّد الأربطة ومناقشة الخُطط مع أفراد مُتنوِّعين من طاقم السفينة. مع هبوب الرياح على عَرْض السفينة، تسير وكأنها تعمل بنظام تشغيلٍ آلي. يمكن لقائد دفَّة ماهر ترك عجلة القيادة دون لمسِها لعدة دقائق في كل مرة، حيث تستقرُّ قوة الأشرعة في توازُنٍ سلس على طول السفينة.
تتكوَّن تونجا من مجموعةٍ من قِمَم الجبال شِبه الغارقة، وهي تقع عند الشقِّ الشمالي الشرقي لسلسلة تحت الماء تمتدُّ لمسافة ١٥٠٠ ميل عائدةً إلى نيوزيلندا. على طول هذا الشقِّ الكبير، تغوص صفيحة المحيط الهادئ تحت الصفيحة الأسترالية، مما يُشكِّل خندقًا مغمورًا بعُمق سبعة أميال مع كتلةٍ متلاطمة من الصهارة في أعقابها، تتفجَّر ببطءٍ لتُشكِّل تضاريس جغرافية جديدة. في الطرف الشمالي من هذا المُلتقى، تتحرك ألواحُ القشرة الأرضية متجاورةً بمعدل غير طبيعي يبلغ ٢٤ سنتيمترًا في السنة، وهو أسرع مرةً ونصفًا مما يحدث في أي مكانٍ آخر على الأرض. في إحدى ليالي عام ٢٠١٩، تسبَّبت كتلةٌ عائمةٌ من الحجر الخفَّاف — حصًى عائم ناتج عن النشاط البركاني تحت الماء — يبلغ عرضُها سبعة أميال في إيقاف زوجَين يُبحران بقاربهما إلى فيجي بالقُرب من هنا. تُظهِر صورهما قاربًا شراعيًّا صغيرًا متوقفًا وسط ما يبدو أنه لوحٌ ضخم من الخرسانة، ولا تظهر مياه في الأفق.
تمكَّن الزوجان من تحرير نفسَيهما بنجاح في الوقت المناسب، وسرعان ما أشار العلماءُ إلى أن هذه ليست ظاهرة نادرة على الإطلاق؛ ربما تُشكِّل خطرًا ملاحيًّا ولكنها أيضًا آلية طبيعية لانتشار الأنواع عبر المُحيطات. تطفو الصخور من تونجا إلى أستراليا، وهي تجمع تراكمًا بطيئًا للكائنات الحية على طول طريقها. في هذه الحالة، لا تتدخل أي سلطة للتأكد من تنظيف هذا الحصى البحري من الكائنات العالقة قبل الوصول، وتركض سرطاناتُ البحر بسعادة إلى شواطئ موطنها الجديد على الحاجز المَرجاني العظيم. وبصرف النظر عن معجزات الطبيعة، فإن فكرة الإبحار باندفاع والاصطدام برصيفٍ عائم أمر مُقلق. في مخيلتي أسمعُ أجهزة الإنذار تُصدِر صوتَ صفير، وصوتَ خطواتٍ على السُّلَّم، وشخص يسحب الستارة ليُخبرني أن مولداتنا قد توقفت. يُحييني المهندس ويودُّ أن يُخبرني بأن أنابيب مياه البحر لدَينا مليئة بصخور صغيرة للغاية. في جزءٍ آخر من دماغي، أقلِّب صفحة. ولا أرى أيَّ طريقةٍ لوضع تدريبٍ لهذا الغرَض.
من تونجا، سنبحر تدريجيًّا خارج المناطق المدارية، غربًا عبر فيجي ثم جنوبًا باتجاه نيوزيلندا. على خريطة الطقس العالمية، يُطلَق بصفةٍ عامة على خطوط العرض التي نتَّجه إليها اسم أرض «الرياح الغربية»، ولكن كما رأينا، فإن جنوب غرب المُحيط الهادئ أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير؛ حيث يُسيطر عليه مزيجٌ من أنظمة الضغط المرتفع والمنخفض المهاجرة والمعهودة في خطوط العرض الوسطى في جميع أنحاء العالم. بطريقتي المُعتادة في عقد المقارنات، أطلبُ من الطلاب أن يفكروا في نيوزيلندا كما لو كانت كاليفورنيا جنوبية؛ أحد طرفَيها مُشمس وشِبه مداري، والآخر عاصف ورطب ولا يُصبح دافئًا تمامًا أبدًا. هذا صحيح، وإن كان مبسطًا إلى حَدٍّ ما؛ لأنه دون التأثير المُحقق للاستقرار من القارات المجاورة نادرًا ما تكون هناك فترة حقيقية من التوازن المُستقر. قد تُشَبَّه أوكلاند بسان دييجو، لكن أي شخصٍ من كاليفورنيا يُضطَر للانتقال إليها سيشعر بالإحباط بسبب كثرة الرياح والأمطار.
هناك اختلافٌ آخر سيُلاحظه أهل الشمال في الجنوب وهو أن كل شيءٍ في نصف الكرة الجنوبي يدور في الاتجاه المعاكس. إذ يعمل تأثيرُ كوريوليس على توجيه الرياح إلى اليسار، وليس إلى اليمين، مما يعني أن الصور التي رافقتك طوال حياتك ستنقلب فجأة رأسًا على عقب. تدور أنماط الضغط المنخفض (المنخفضات الحوضية والجوية، والأعاصير وما إلى ذلك) مع اتجاه عقارب الساعة، بينما تدور نظيراتها ذات الضغط المرتفع في الاتجاه المعاكس. وتهب الجبهات الباردة من أسفل الخريطة بدلًا من نزولها من الأعلى. التغييرُ منطقيٌّ علميًّا ولكنه مُزعج لأي شخصٍ تدرَّب في العالم الشمالي. تنعكس أسس توجيهية أخرى أيضًا في الرحلات البحرية الطويلة عبر المحيط، من عبور خط التاريخ الدولي حيث يصبح اليوم فجأةً غدًا، أو عبور خط الاستواء حيث يبدأ مقياس خطِّ العرض على خريطتك فجأةً في العَدِّ في الاتجاه المعاكس، ولكن انعكاس تأثير كوريوليس يظهر بشكلٍ ملموس أكثر. تخيَّل أمريكيًّا يصل إلى مطار لندن-هيثرو لأول مرة على الإطلاق وانطلاقه على الجانب الأيسر من الطريق السريع بسيارته المُستأجرة.
تتكوَّن أعمدة الضغط المرتفع في الغِلاف الجوي فوق المساحة الواسعة لبحر تسمان، وتنجرف ببطءٍ شرقًا عبر نيوزيلندا وقُدمًا إلى بولينيزيا. في «حزمة خدمة مِيتْ للبحَّارة»، وهي عبارة عن مَرجع موجز عن الطقس في جنوب غرب المحيط الهادئ، يُطلِق عالِم الأرصاد الجوية النيوزيلندي بوب ماك دافيت على هذه الظاهرة اسم «الأعاصير العكسية المُتنقلة»، والذي يبدو لي وكأنه اسم فرقة موسيقية ولكنه في الواقع يُشير إلى الطبيعة غير الثابتة لهذه الظواهر مقارنةً بنظيراتها المُستقرة في المحيطات الأخرى. تحتشد الحدودُ العُليا للأعاصير العكسية المُتنقلة في المناطق المدارية، مُسبِّبةً اضطراباتٍ حيث يحلُّ هواؤها البارد الجاف محل تيار الرياح التجارية الدافئة والرطبة. وعلى طول هذه الهوامش تنشأ «مناطق القَرع»، وهي ضغطات مفاجئة لتدرج الضغط يمكن أن تزيد من سرعة الرياح التجارية إلى قوة العاصفة بمؤشراتٍ خفيفة فحسب على خريطة الطقس.
الاستراتيجية العامة للبحَّارة في موقعنا هي مغادرة المناطق المدارية مباشرةً بعد مرور مرتفع مُتنقل، على أمل ركوب الرياح الشمالية في أعقابه. على الأقل تلك هي الخطة. تبعُد نيوزيلندا ألف ميل عن فيجي، وهي رحلة طويلة بما يكفي ليحدث فيها أيُّ شيءٍ. يمكن لمَن يقومون برحلاتٍ بحرية على متن اليخوت الاستعانة بالخبراء والانتظار حتى تتوفر الظروف الجوية المثالية. وفي حالة سفينة مثل سفينتنا، التي عليها الالتزام بجدولٍ زمني باستثناءِ بعض الظروف القهرية، فلا يزال هناك بعض التعاليم الشفهية المُفيدة. يُوصي العارفون بتلك الأمور بالإبحار جنوبًا وغربًا أكثر مما تراه ضروريًّا، وذلك باتجاه نقطةٍ تقع على بُعد ٢٠٠ ميل تقريبًا شمال الطرف الأعلى لنيوزيلندا. بمجرد أن تُصبح الرياح التجارية الأكثر قابليةً للتنبؤ خلف السفينة، يحافظ الوصول إلى هنا على الأقل على خياراتك، على افتراضِ أن أيَّ رياحٍ قادمة ستكون من مكانٍ ما في الغرب.
هذه هي تجربتي الأولى على هذا المسار، على الرغم من أنني قطعتُ نصفَه في الاتجاه المعاكس قبل عامٍ واحد فقط، في رحلة بحرية طويلة من أوكلاند إلى مكانٍ يُسمَّى جزيرة راول، وهي محمية طبيعية لم يُسمَح لنا بالرسو فيها لكننا أجرينا محادثةً لا سلكية مُمتعة لمدة ١٥ دقيقة مع حارس مُتنزَّه يُدعى أوسكار. لقد شكرَنا على الاتصال وحرصَ على أن يُخبرنا عن أشجار الأفوكادو والينابيع الساخنة التي تنتشر في جنته الخاصة. مع رياح قوية على عَرْض السفينة، استدَرْنا حول المخروط الحاد لجزيرة راول مثل عوَّامة سباق وأعدنا الانطلاق بالطريقة نفسِها التي أتينا بها، مُبحرين من تجمُّع صغير لأشعة الشمس إلى سُحُب كثيفة ملبَّدة بالغيوم القاتمة. طوال الليل، كانت الرياح تشتدُّ مع اقتراب نظام ضغط مُنخفض من الغرب، وقد أبحرنا بسرعة كالصاروخ، ثماني عُقَد، ثم تِسع عُقَد، ثم عشر عُقَد، وهي سرعة غير معهودة لسفينة شراعية فولاذية ثقيلة. كان القاع تحتنا على بُعد أميال، ورسم جهاز السونار صورةً لجُرفٍ سحيقٍ عندما عبرنا حافة خندق تونجا. لقد كان شعورًا مزعجًا على نحوٍ غريب، كما لو أن العُمق الشديد سيُحدث فرقًا بطريقةٍ أو بأخرى إذا ساءت الأمور.
•••
إن مملكة تونجا هي أقدم مستوطنة معروفة في غرب بولينيزيا، حيث يعود تاريخ مواقع القرى التي تم تحديدها من خلال قطع الفَخَّار والحمض النووي للمقابر إلى عام ٨٠٠ قبل الميلاد. كانت هذه طليعة السكان من البحَّارة الذين هاجروا جنوبًا وشرقًا خارج آسيا ليستوطنوا في نهاية المَطاف جنوب المحيط الهادئ بأكملِه. على الخرائط، تستحضر خطوط تمدُّدهم المتقاطعة إلى الذهن لوحةً فنية ذات خطوطٍ مشعَّة، تتزايد تعقيدًا كلما اتسعت رقعتُها. يتحدث التونجانيون اللغة الإنجليزية وهم مسيحيون مُتدينون لكنهم حافظوا على استقلالهم السياسي طوال تاريخهم، في ملكية أصلية دائمة في محيطٍ تُشَكِّل كلُ جزيرةٍ أخرى فيه مستعمرةً حاليةً أو سابقة.
تبدو مجموعة جزر فافاو الشمالية في تونجا مثل قنديل بحر على الخريطة، أو مثل شخصية ميدوسا الأسطورية مُتمدِّدة الأذرع، مرتفعة بشكل لافت للنظر بفِعل ارتفاع التضاريس. وهذا في تناقُض حاد مع جزر تونجا الجنوبية، المسطَحة كالفطائر والواقعة على صفيحة قارية مختلفة تمامًا. ربما يكون المرفأ هنا الأفضل في جنوب المحيط الهادئ، فهو عبارة عن حوضٍ عميق من كتلة يابسة مُحاط بالتلال، ولا نتمكَّن من رؤيته إلا في دورتنا الأخيرة في القناة بعد عوامة صدئة، وعبر جدار من الأمطار وإلى أن نُصبح على الرصيف، حيث تدبُّ الحياة في الميناء في الصباح الباكر. مُفتش الجمارك الذي يأتي لمقابلتنا ودود ويُعطينا بسخاءٍ تلك الأوراق الرسمية التي تُعد، بعد المسيحية، العلامة الأكثر ديمومة للنفوذ الأوروبي على المُجتمعات النائية حول العالم. نجلسُ معًا مع فناجين من قهوة السُّفن السيئة على طاولة مقصورتي الصغيرة ونقلب جوازات السفر والإعلانات الرسمية، ويعود المطرُ ليقرع على زجاج السقف العلوي. يقف المُفتش استعدادًا للمغادرة، شاغلًا فجأة الفراغَ بيني وبين باب المقصورة.
يقول: «شكرًا جزيلًا لك أيها القبطان. تاليتالي فيفيا (انتظار سعيد)، مرحبًا بكم في تونجا.»
في قرية نيافو على الشاطئ، يقود شارع رئيسي واحد إلى أحياء من المنازل الصغيرة، في خلفيتها جوانب تلال تكسوها غابات باللون الخمري المُميَّز للتُّربة البركانية. ويبدو كل فناء من أفنية هذه المنازل في تنافُس مع الأفنية الأخرى على أنواع النباتات لمعرفة أيٍّ منها يمكن أن ينمو أسرع: القلقاس، أم ثمار الخبز، أم أشجار المانجو الضخمة، أم غابة الموز الراسخة. تنتشر الخنازير في كل مكان، ملساء ومُبتهجة في حُريتها المُقيدة. من قمَّة تلٍّ غرب المدينة، يمكن النظر جنوبًا إلى سلسلة من الجُزر التي تلتفُّ باتجاه الأفق، وتظهر نتوءاتها من المحيط مثل أطراف أصابع مُدببة. تُرِك الكابتن بلاي مع طاقمه بالقرب من هنا خلال تمرد على سفينة «باونتي» التابعة للبحرية الملكية البريطانية عام ١٨٧٩. بعد تفاعُل قصير وفتَّاك مع السكَّان الأصليين في جزيرة توفوا القريبة، لم يتوقفوا مرةً أخرى، وشقوا طريقَهم عبر الأجزاء الشمالية من فيجي، وفي النهاية إلى تيمور في إندونيسيا الحالية. أبحروا في قاربهم المفتوح مسافة ٣٥٠٠ ميل، بفضل الرياح التجارية التي تهبُّ غربًا بثبات. وبعد أن حرمَهم المُتمردون من الخرائط، رسموا خرائطهم الخاصة على طول الطريق، مُسجِّلين أولَ مسحٍ لقطعة فارغة من المحيط تُعرف الآن باسم «مياه بلاي».
قبل أربع سنواتٍ، ظهرت جزيرة جديدة بالقُرب من توفوا في عرضٍ مفاجئ للألعاب النارية، وهي عبارة عن كُومة متصاعدة من الرماد تُشكِّل برزخًا يربط بين قطعتَين أصغر من اليابسة. تعمل الريح مع البحر الآن على محو جميع هذه التضاريس الجديدة، وإن كان ذلك ببطءٍ أكبر بكثيرٍ مما كان متوقعًا في البداية. جذبَ هذا انتباه علماء الجيولوجيا في وكالة ناسا، الذين (كما علمتُ) يعتبرون البراكين البحرية أمثلةً مفيدة لدراسة تضاريس مُشابهة توجَد في مواقع أبعد، مثل كوكب المريخ. وعلى الرغم من أن ناسا وكالة لرِحلات الفضاء، فإنها تهتم أيضًا بالتصوير الفوتوغرافي، وتسعى دائمًا إلى ابتكار طرُق أفضل للتحليق فوق التضاريس الغريبة وجمع أكبر قدْر ممكن من المعلومات في هذه العملية. وعملها في ذلك المجال ليس بعيد الشَّبَه عن علم المحيطات، إلا أنه يشتمل على أمور أكثر تعقيدًا.
يقول جيم جارفين، كبيرُ العلماء في مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لناسا: «أحد العوامل المُهمة لإجراء الأبحاث العلمية من الفضاء هو الثقة في أدواتك!» وعلى الرغم من أنه ليس رائد فضاء، فهو يُذكِّرني أكثر من أي شيءٍ آخر بمدرِّس علوم مُتحمس في مدرسة في المرحلة الثانوية، من ذلك النوع المفتون بمادته العلمية والذي يستخدِم علامات التعجُّب لإنهاء جميع جُمله. قيل لنا إن جبال المريخ الجافة تُشبه إلى حَدٍّ كبير جزر المحيط الهادئ من دون الماء. وهذا يقود العلماء إلى التفكير في ارتباط مُحتمل. هل نحن، عند مراقبة الكوكب الأحمر، ننظر في الواقع إلى جُزر مهجورة لمحيط زائل؟ هل هذا هو المصير المُحتمَل للأرض إذا أدَّت مستوياتُ ثاني أكسيد الكربون المتصاعدة إلى اختلال توازنٍ حَرِج في الغِلاف الجوي؟ لذلك تسعى ناسا إلى دراسة البراكين الجزرية الناشئة، وخاصة تلك القوية بما يكفي لتستمرَّ لأكثر من بضعة أشهر. وهذا النوع الفرعي قليل في الواقع، بما في ذلك سلسلة من الانفجارات البركانية التي حدثت عام ١٩٥٨ في كيبلينهوس في جُزر الأزور، وجزيرة سورتسي الجديدة في آيسلندا، والآن هذه البقعة التي أطلق عليها التونجانيون اسم هونجا تونجا هونجا هاباي. يوضح جيم أنه من خلال إنزال فريق من العلماء على مكانٍ مثل هونجا تونجا هونجا هاباي، تتوفر فرصة لتأكيد قياسات أجهزة الاستشعار عن بُعد الموجودة على الأقمار الصناعية، ومن ثَم التأكد التام من أن ما تراه هذه الأدوات الطائرة الغريبة هو الموجود هناك في الواقع.
زارنا جيم في منشأتنا الساحلية خلال التحضيرات لهذه الرحلة. وأمام مجموعتنا المتحمِّسة، استعرضَ بسرعة وبحماس شرائح من العام السابق، عندما أجرت السفينة «روبرت سي سيمانز» أولَ عملية استكشافية لهونجا تونجا هونجا هاباي، حيث أُطلِع طاقمها مُسبقًا وبشكلٍ مكثَّف على جميع المخاطر المحتملة للتضاريس البركانية الجديدة. لم يسقط أحدٌ في بركة من الكبريت المَغلي أو يختفِ في ينبوع مياه حارة مفاجئ، لذلك سنعود لمزيدٍ من الدراسة. كان أول إنزال ناجحًا بالفعل، حيث ملأ مكتبنا بخرائط رُسِمَت حديثًا وصور ظافرة لأطقم العمل وهي تتولى تركيب مصفوفاتٍ من أجهزة القياس على تضاريس رمادية جرداء. والْتقط قمرٌ صناعي يمر بجوار السفينة صورةً لا تُقدَّر بثمن للسفينة وهي راسية، حيث ظهرت مثل حبَّة أرز غير واضحة ولكن مميزة بجوار كتلة البركان الضخمة الداكنة. ومن بين السجلات أيضًا رؤًى أبسط، لا تقلُّ إثارة، عن وصول الحياة إلى مكانٍ جديد تمامًا؛ حيث تتسلل إلى الصور حوالق من الكروم الخضراء عبر الرمال السوداء في شبكة متراكمة من أوراق الشجر. وفأر يعدو، وبومة جاثمة. وثمرة جوز هند جرفتها الأمواج فوق علامة المدِّ العالي، وقشرتها نصف مدفونة في التربة، وبرعم نابت ينبثِق لأعلى نحو الضوء. لقد زار أشخاص آخرون هذا المكان، على الأرجح بحَّارة مارُّون وتونجانيون من الأرخبيل القريب. ومن المُمكن في بعض الأماكن أن يلاحظ المرء آثار أقدامِهم ويرى أن أحدَهم قد جمع دستة من جوزة الهند النابت ورتَّبها في صف. تتمدَّد شبكة التوسُّع البشري في الزمن الحقيقي، لتغرس بستانًا من أشجار النخيل المُستقبلية التي ستكون حاضرة للترحيب بالزائرين إذا ظلَّ هذا الشاطئ موجودًا بعد ٢٠ عامًا من الآن.
في مينائنا في نيافو، أتَشارك فنجانَ قهوة في ساعةٍ متأخِّرة من اليوم مع عالِم آخر من وكالة ناسا يُدعى دان سلايباك. يبدو دان «بالضبط» كرائد فضاء، فهو نحيل وغريب وذو شعرٍ قصير يختلط فيه اللونان الأبيض والأسود، ومُفرط التركيز على التفاصيل لدرجة أنه لا يُخصِّص الكثير من طاقته للحديث العادي. دان نظيرُ جيم جارفين في الموقع، حيث سافر إلى هنا لمقابلتنا في فافاو، وقد امتلأت أمتعته بصناديق بلاستيكية مليئة بأجهزة ثمينة. نناقش حاليًّا مكان وضع كل هذه المعَدَّات بينما يصل أفراد عائلة بينيكولو بالعشاء الذي أعدُّوه لطاقم السفينة، وهو عبارة عن قائمة طعام شهية تشمل كلَّ ما يمكن تحضيره من الأسماك، والقلقاس، ولحم الخنزير، وسرطان البحر، وجوز الهند. خلال وقت تناول الطعام، كنا ٦٠ شخصًا تقريبًا، من بينهم العديد من أفراد عشيرة «بين» المُمتدة الذين تباطَئوا على رصيف الميناء وكان لا بد من إقناعهم بالصعود واحدًا تلوَ الآخر. بفضل الطعام الذي أحضروه، كان بإمكاننا إطعام ما يصل إلى ١٠٠ شخص بسهولة، وربما يتبقَّى منه شيءٌ للإفطار.
رافقَ دان السفينة هنا قبل عام وكان متحمسًا لاحتمالية إجراء المزيد من رحلات الطائرات من دون طيار فوق جزيرة هونجا تونجا، وربما حتى في الليل لالْتقاط بصمة الجزيرة الحرارية بشكلٍ أفضل باستخدام التصوير بالأشعة تحت الحمراء. يُشير دان إلى أهمية هذا القياس في علم البراكين. يجب على المرء في هذا الفرع من العلوم أن يلاحظ الحرارة وليس الضوء فقط. أفكِّر في مدى بؤس البشر، الذين يقتصر بصرُهم على شريحةٍ رقيقة من الطيف الكهرومغناطيسي. كان القبطان جاي، قبطان السفينة في الزيارة السابقة، قائدًا ماهرًا للطائرات من دون طيار، ومن ثَم كان حليفًا قيمًا في عملية التحليق الجوي. أعترفُ لدان أن خبرتي تكمن في مجالاتٍ أخرى، وهو تعبير مُلطَّف ومُحبَّب في المجال البحري كنايةً عن شخص لا دراية له بالأمر. ما يلزم أن أُخبر به دان تاليًا هو شيء أكثر جدية، وهو أنني قد تلقَّيتُ للتوِّ أخبارًا عن حالة طارئة في وطني وأنني سأغادر على الفور. وسيُسعده أن يعرف أن القبطان الجديد هو في الواقع قائدٌ رائع للطائرات من دون طيار. مع بعض التعديلات على الجداول الزمنية، سأعاودُ الانضمام إلى السفينة بعد عيد الميلاد المجيد، ولكن في هذه الأثناء كانت خططنا الموضوعة بعنايةٍ قد عُدِّلَت بسرعة. يؤسف دان سماع ذلك ولكنه يتصرَّف برباطة جأش. ويبدو لي أنه لشخصٍ يعمل في مجال رحلات الفضاء، فإن تغييرًا في اللحظة الأخيرة لأحد أفراد الطاقم هو أقلُّ أشكال الإزعاج. فعلى كلِّ حالٍ لا توجَد صواريخ تنفجر هنا، ولا تُلغى عمليات سير في الفضاء، أو تصطدم مجسَّات لا تُقدر بثمن بسطح المريخ بسرعة صواريخ بالستية.
يسأل دان: «هل حدث أمر كهذا من قبل؟»
أفكرُ مليًّا في هذا وأعترف أن نعم، يحدث ذلك في كثير من الأحيان، لكنني عادةً ما أكون محظوظًا. هذه هي دورات ميلانكوفيتش للحياة في البحر، حيث اللوجستيات، والطقس، والمعَدَّات، وصحتك، وصحة الآخرين من حولك. رغم طول مسيرتي المهنية، فقد حَدَثَتْ جميع حالات الطوارئ الشخصية لي حتى الآن وسفينتي راسية على الرصيف. آخِر مرة حدث ذلك كان في عام ٢٠١٢ عندما استيقظتُ ذات صباح في هونولولو وأنا أعاني من آلام في البطن وأسرعوا بي إلى المستشفى لإجراء عملية استئصال الزائدة الدودية. وبينما كنت أتماثل للشفاء في فندق في وايكيكي، جلستُ في شرفتي أرتشفُ مرق مكرونة النودلز وأشاهد السفينة تُبحر في البحر من دوني.
أعترفُ لدان أنني رغم ذلك أشعر بخيبة أملٍ شديدة.
فيقول: «نأمل أن نعود جميعًا إلى هنا مرة أخرى قريبًا.»
ما لا يُدركه أيٌّ منا في هذه اللحظة هو أننا لن نعود. ففي غضون ما يزيد عن عامَين بقليل، سيبدأ الدخان بالاندلاع من الكتلة المخروطية الشامخة لجزيرة هونجا تونجا ثم تختفي في انفجار واحد، مع ضوضاء عالية لدرجة أنها ستُسمَع في ألاسكا. وستكون هناك سحابة على شكل فِطر وبحجم إعصار، وعندما تنقشِع، لن يتبقَّى سوى حلقة غارقة من الشظايا الصخرية مثل فجوة من ضرسٍ مفقود. وفي الجُزر القريبة، ستنجرف قرًى بأكملها من جرَّاء تسونامي لاحق، وسيُغطي غبار الرماد الأرخبيل بطبقةٍ رمادية بلون مَوقدٍ فارغ.
هذا كل ما يمكن معرفته في البداية. فمع انقطاع كابل الاتصالات في تونجا بسبب الانفجار، سننتظر لأسابيع للتأكد من أن أصدقاءنا هناك بخير. وفي الوقت نفسه، ستحمل الأخبارُ إشاراتٍ عشوائية عن مكان ناءٍ وسط الكارثة؛ المرأة التي تغرَق أثناء محاولتها إنقاذ كلابها، والرجل الذي جرفته المياه إلى البحر ويسبح لمدة يوم لإنقاذ نفسه. يشعر نصف سكان الكرة الأرضية بموجةِ الضغط الناتجة عن الانفجار، حيث تُشكِّل تموُّجًا في الغِلاف الجوي أكبر من أي تموُّج أحدثه أي جهاز نووي على الإطلاق. يُصاب العلماء، الذين أُخِذوا على حين غِرَّة، بذهولٍ تام. تخيَّل إعصارًا حلزونيًّا مداريًّا يهبُّ دون سابق إنذار في الفناء الخلفي للمركز الوطني للأعاصير. يُعلِّق جيم جارفين وزملاؤه بنبرة خبراء الأرصاد الجوية الذين يُناقشون العواصف الشديدة، في احترامٍ صامت للمأساة خفَّف بحذَر من ابتهاجهم بالقوة الخالصة التي تكشف عن نفسها. لا توجَد مياه شرب نظيفة، والطائرات غير قادرة على جلب المزيد، حيث ردَمَ الحصى السامُّ ممرَّاتها. تعود تونجا في هذه اللحظة إلى الماضي، إذ تصبح فجأة مرة أخرى مكانًا لا يمكن الوصول إليه إلا بواسطة السفن. من بيتي، سأنظر إلى الثلج في يناير غير مُصدِّق لما آلَ إليه الوضع وأتذكرُ الصور من زيارة طاقمنا الأولى للمكان. الفأر، والبومة، والنباتات الجديدة، وصفَّ جوز الهند النابت، وآثار الأقدام على شاطئ لن تخطو عليه قدَم مرة أخرى، على الأقل ليس في أي وقتٍ قريب.
•••
ينبغي لأي شخصٍ يرغب في قضاء يوم طويل من السفر الجوي أن يُجرب القيام بسلسلة طويلة ومرهِقة من الرِّحلات الجوية من فافاو إلى بوسطن؛ حيث أولًا الرحلة الطويلة على متن طائرة صغيرة إلى فيجي، والطنين المُمل الرتيب الباعث على النعاس لمدة ثلاث ساعاتٍ عبر المياه التي كنتُ أظن حتى الأمس أنني سأجتازها على متن سفينة. تتحرك قِمم السُّحب، وليس قواعدها، عبر النوافذ البيضاوية والبحر بعيد في الأسفل. بعد ذلك، من فيجي إلى لوس أنجلوس، في ١١ ساعة. وست ساعات أخرى إلى بوسطن، ثم ركوب حافلة، لثلاث ساعات أخرى إلى بيتي في ماين. وبفضل معجزة خط التاريخ الدولي، سأصلُ في اليوم الذي غادرتُ فيه، حيث تتعرَّض معايير الزمان والمكان والسرعة إلى تشويهٍ يفوق الإدراك. يوم واحد، وثمانية آلاف ميل. ربما ٥٠ مرة ضِعف ما يمكن أن تقطعه السفينة في نسيمٍ قوي جيد.
بين الرحلات الجوية، أتبادل إرسال واستقبال رسائل نصية مع أهلي وأصدقائي في الوطن، وأبحث على الإنترنت عن الطعام في المطارات وساعتي البيولوجية غير مُستقرة تمامًا وتفتقر إلى أي إحساسٍ حقيقي بالوجبة التي ينبغي أن أتناولها. ستُحَل الأزمة الحالية بنجاحٍ من تلقاء نفسها على الرغم من أن العالَم، كما سنكتشِف جميعًا قريبًا، يواجِه ظروفًا تتجاوز قدرات أي خبير. ومع إغلاق الباعة لمحلَّاتهم ليلًا، أخطو بخطًى مُضطربة ويخالِجني شعورٌ أعرفه جيدًا من السفن، تلك اللحظات التي يُدرك فيها المرءُ مع اقتراب سوء الأحوال الجوية أنه قد فعل كل ما في وسعه للاستعداد، وبذل قصارى جهده لتأمين عالَمه الصغير من عواصف الحياة والنتيجة غير معروفة بعد. لم يبقَ سوى الانتظار.