المِهنة التي اخترتُها
٢٠٢٠
مضيق كوك هو الممر المائي الرئيسي الذي يقسم نيوزيلندا، وهو عبارة عن فتحةٍ تغمرها المياه، عرضها ٤٠ ميلًا ومحفورة بين سلاسل جبال الجزيرتَين الشمالية والجنوبية. في يومٍ صافٍ، يمكنك من الوسط أن تنظُر إلى أي جانبٍ وتشاهد التلال المنقسِمة إلى مرتفعاتٍ شديدة الانحدار بسبب الصدوع الجيولوجية، فوق امتدادٍ ساحلي متدرِّج لقاع المحيط القديم الذي تركته الزلازل على مدى آلاف السنين عاليًا وجافًّا. هذه هي جُزر شاكي، جنة أرضية معتدلة ومُتقدمة حتى يثور بركان أو يحدث زلزال. ومثلما يمكن مقارنة جغرافية نيوزيلندا بجغرافية كاليفورنيا، أرى في الشعب الكيوي المبتهج قدرًا كبيرًا من التشابُه مع سكان كاليفورنيا أنفسهم؛ فهم مسرورون بحظهم الطيب بالعيش في مكانٍ يمكنك فيه امتلاك شجرة الأفوكادو الخاصة بك، وهم على دراية بالصفقة الشيطانية التي أبرموها في هذه العملية.
مضيقُ كوك هو الفجوة الوحيدة في كتلة أرضية طويلة وسط المحيط الهائل، وهو مُختبر لكل ما يمكن للرياح فِعله. تهب العواصف هنا لأكثر من ١٨٠ يومًا في السنة، مما يجعله من أكثر الممرات المائية اضطرابًا التي تمرُّ بها السفن بشكلٍ منتظم على مستوى العالم. شعرتُ بالرهبة من هذا الاحتمال أثناء التخطيط لرحلتي، لذلك بحثتُ عن «دليل الطقس البحري لمضيق كوك»، وهو كتاب صغير من تأليف عالِم أرصادٍ جوية محلي يُدعى جيم هيسل. صنَّف السيد هيسل الأوجه العديدة لمضيق كوك واستخلص منها مجموعةً من السيناريوهات الأساسية لغير المُختصِّين. وانطلاقًا من شوقي للتعلُّم، تعمقتُ في قراءته لأكتشف أنه حتى في الشكل المبسَّط، رأى المؤلِّف ٣٨ حالة طقس مُحتملة لأي يومٍ في هذا الجزء المُعقَّد من المحيط. وقد شعرتُ بالذهول والحيرة في الآن نفسه، فوضعتُ كتاب السيد هيسل الرائع جانبًا وحاولتُ استحضار نموذجٍ ذهني أبسط خاصٍّ بي.
المضيق عبارة عن قُمع عملاق يعمل على تضخيم أي رياح موجودة إلى شيء أقوى بكثير، وهو تأثير مُشابه لما شهِده القبطان كوك نفسه في قناة ألينويهاها أثناء رحلته الأخيرة المشئومة إلى هاواي، ولكن على نطاقٍ أوسع ومع تقلُّب أكبر. يعني تناوب مناطق الضغط المرتفع والمنخفض التي تمرُّ عبر نيوزيلندا أنه يوجَد بشكلٍ دائم تقريبًا فَرق في الضغط الجوي بين السواحل الشرقية والغربية؛ فالرياح تندفع عبر هذه الفجوة الوحيدة في محاولة لموازنة هذا التفاوت. كان مضيقُ كوك هو المكان الذي فهمتُ فيه فهمًا تامًّا لأول مرة حقائق ظاهرة تُسمَّى «الانخفاض مع اتجاه الرياح»، وفيها، حتى في يومٍ يبدو جيدًا ظاهريًّا، ستكوِّن الرياح التي تهبُّ عبر كتلةٍ أرضية عالية منطقةَ فراغ جزئي مع اتجاه الرياح، مما يُشكِّل انحدارًا يتدفق إليه الهواء من أي اتجاهٍ ممكن. تتسبَّب الجبال التي في مهب الرياح، مثلها مثل الصخور في الأنهار، في اضطراباتٍ لا حصر لها في المناطق التي تُحيط بها.
يوجِّه التصدُّع الطولي لتضاريس نيوزيلندا الهواءَ إلى أنهارٍ تموج بعد ذلك بسرعةٍ كبيرة في أي مكانٍ تلتقي فيه اليابسة بالمياه. تقع ويلينجتون، التي تُعتبر عاصمةً بهيجة فيما عدا ذلك، في أسفل أحد هذه الأخاديد التكتونية. شاهدتُ هنا ذات مرة حاويات شحن تنجرف من الرصيف إلى المياه وكأنها علب فاكهة فارغة من الكرتون، حيث كانت تتمايل على السطح الرغوي بينما كنتُ أحاولُ ألا أُفكر حتى في حالة الطقس خارج المرفأ. يقع خليج باليسر شرق ويلينجتون مباشرةً، وهو مدخل عريض تُحيط به رءوس يابسة مذهلة. يبدو المكان جذابًا حتى تُدرك أنه لا يوجَد شيء هناك؛ فلا رصيف، ولا قرية، ولا أي أمارة على نشاطٍ بحري. تقول إرشاداتُ الإبحار: «يُفضَّل تجنُّب هذه المنطقة»، مما يؤكِّد ما اكتشفته السفينة «روبرت سي سيمانز» بنفسها قبل عدة سنواتٍ عندما دخلَت المكان وصدَّتها على الفور هَبَّةٌ قوية من رياحٍ آتية من جهة الشمال. وتمزَّق شِراعها الوحيد — وهو شراع زمام صغير مُصمَّم لتحمُّل أي شيء — إلى خِرَق صغيرة.
شهدت ويلينجتون حادثَ غرقٍ مروعًا لسفينة في عام ١٩٦٨، عندما جنحت العبَّارة «واهين» على اليابسة أثناء دخولها الميناء في ظروفٍ إعصارية. على الرغم من حجم العبَّارة «واهين» الذي يُضاهي حجم سفينةٍ تعمل على خطٍّ ملاحي مُنتظم، بلغت سرعة العاصفة التي أطاحت بالعبَّارة «واهين» ١٠٠ عقدة وأدارتها جانبًا في منتصف القناة، مما أدى إلى جنوحها وانقلابها على بُعد يارداتٍ قليلة من الشاطئ. لقِيَ ٥٢ من رُكابها حتفَهم وسط محاولات الإنقاذ. حدث هذا في أبريل — أوائل الخريف — عبر سلسلة ظروف لم أجد صعوبةً كبيرة في تصوُّرها. كان إعصار حلزوني مداري قد انحدر جنوبًا إلى الفجوة بين نمطَي ضغطٍ مرتفع مُتحركَين، وحُمِّل بجرعة كبيرة من الهواء القطبي من جبهةٍ باردة تندفع شمالًا على طول المسار نفسه. كانت عاصفة شديدة الضراوة، على الرغم من شيوعها بما فيه الكفاية لإبقائي حذرًا بينما نقترِب من ويلينجتون في فترة الاعتدال الخريفي. هذه هي القوى غير المتوازنة التي تجعل موسم الخريف شديد الخطورة في جميع أنحاء العالم؛ حيث تمتلئ المناطق المدارية بالحرارة والرطوبة بعد أيام الصيف الطويل الساطعة، ويزداد القطبان برودةً بسرعةٍ في ظلِّ قِصَر النهار. تنتظِر الفروق الهائلة الحل في العواصف التي تلي ذلك.
يسأل المتدربون أحيانًا: «لماذا لا نستخدِم النِّسَب المئوية بدلًا من الكسور؟»
وتكون إجابتي: «هذا قد يشجِّع على أحكامٍ فردية غير مرغوب فيها.»
عادت الرياح من الجنوب الآن بعد بضعة أيامٍ من الهدوء النسبي، حاملةً معها برودةً رَطْبة دفعت الجميع، باستثناء مَن هم في المناوبة في الطوابق السفلية للسفينة، للبحث عن بدائل أدفأ. أجلسُ في مقصورتي، أتصفَّح تقارير الطقس وأتناول العرقسوس من آخِر عدة أكياس اشتريتُها في أوكلاند. لم يتَّضح بعدُ ما إذا كان إمدادي منه سيكفي. أتناول الوجبات الخفيفة باستمرارٍ في البحر، وأبحث مثل حيوان المرموط عن أي شيءٍ قريب وكأن الطعام الوفير من مطبخنا غير كافٍ بطريقةٍ ما. وأعودُ إلى الوطن نحيفًا بغرابة، ربما بِسبَب حرق السعرات الحرارية الناتج عن الإجهاد، أو على الأرجح بسبب صعودي ونزولي سُلَّم الحانة ١٠ آلاف مرة من أجل الحصول على القهوة.
يقف واحدٌ مِمَّن في مدخل المقصورة.
«هل ستكفيك كَمية العرقسوس حتى ويلينجتون؟»
إنها المُضيفة، أكثر زائريَّ المُعتادين للإبلاغ بأمورٍ غير مُتعلقة بالمِلاحة.
«سنرى.»
لقد حان الوقت للحديث مرةً أخرى حول شراء المؤن، حيث تُمثل كل محطة رسوٍّ فرصةً لملء مَخزننا، الذي يُستنزَف دائمًا، من السعرات الحرارية المُخزَّنة. بالهدوء المتفائل لشخصٍ في مؤتمر صحفي أو إتمام صفقة أحد العقارات، تجد سابرينا مكانًا آمنًا على الأريكة وتُحوِّل رُكبتَيها إلى مكتبٍ لتَسند عليهما لوح الكتابة. هذه هي رحلتنا الرابعة معًا، أو ربما الخامسة. تحت قيادتها، يُحقق المطبخ أمورًا غير معقولة يومًا بعد يوم، حيث يُحضِّر وجباتٍ لأربعين شخصًا من موقدٍ هائج وثلاجات تعمُّها الفوضى. يخرج الخبز من الأفران وكأنه قد جُلب من باريس. أسمعُ أصواتًا مرتفعة على سطح السفينة فوقنا ثم صوتَ ضربةٍ قوية لموجةٍ غير متزامنة. هناك صوتُ قرقرة وصفحة متموِّجة من الماء عبر فتحة سقف المقصورة. وقطرات مياه في مكان ما ورذاذ على الأرضية.
تُراجِع سابرينا آخِر العناصر الموجودة في قائمتها وتقِف للمغادرة، مُمسكةً بأحد رفوف الكتب للحفاظ على توازُنها.
وتسأل: «أتُمانعَ إذا أبقيتُ العشاء في المطبخ، كي يأتي الناس ويخدموا أنفسهم؟ يُسعدني أن أجهز صواني الطعام، ولكني أشكُّ في بقائها على الطاولات للوقت الكافي حتى يتمكَّن الجميع من تناول الطعام منها.»
أقولُ لها: «لا أرى بأسًا في ذلك. أنتِ أدرى من أي أحد.»
قد يُفاجئكَ الطقسُ، كما هو الحال مع جدار الرياح الشهير الذي يُحوِّل يومًا هادئًا إلى عاصفةٍ مفاجئة. كما قد يتطوَّر الوضعُ تدريجيًّا، بحيث تُصبح كل ساعة أسوأ قليلًا من سابقتها حتى تجد نفسك فجأة تشقُّ طريقك عبر أمواجٍ متلاطمة يبلُغ ارتفاعُها ستةَ أمتار، وتخرج من غرفة الخرائط لتُدرك أن كل ما يمكنك رؤيته هو الماء إلا إذا نظرتَ لأعلى مباشرةً. وها هي الآن، بجميع المقاييس، عاصفة أخرى، وهي الثانية التي نتعرَّض لها في غضون أسبوع، لكنها ليست من النوع الذي نال الكثير من الاهتمام في التوقُّعات. يبدو الطقسُ المحلي في الوقت الحالي في الواقع جميلًا، على الورق. استقرَّت قُبة من الضغط المرتفع بقوة فوق نيوزيلندا، مما شَكَّل على الشاطئ أجواءً رائعة شبيهة بأجواء أواخر الصيف. لا شك في أن سكان أوكلاند يروون حدائقهم ويُحمِّلون سياراتهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع على الشاطئ، ولكن هنا، على بعد ٢٠٠ ميل على حافة الإعصار العكسي، نقِف على حافة منحدَر جوي ونتلقَّى رياحًا باردةً في وجوهنا بينما يدور الهواءُ المُتشعِّب بعيدًا ويعود نحو تونجا.
قدَّم لي مُوَجِّهٌ يُدعى مارك شوارتز في هيئة الأرصاد الجوية النيوزيلندية تحليلًا ثاقبًا حول السبب الذي يجعل هذه الأيام التي تبدو شديدة الهدوء على الخريطة ليست هادئةً بالضرورة للجميع؛ فالهواء المُستقر الكثيف لنمط الضغط المرتفع يمكنه أن يضغط الهواءَ تحتَه مثل غطاء القِدر، ويجعله يدور بعيدًا عند الحواف وعبر فجواتٍ في تضاريس الساحل بسرعة مضاعفة. ويعمل الهواءُ الهابط مثل سقف نفَق، بينما تُشكِّل أي يابسةٍ في الطريق جدارًا. تتضمَّن بعض أعمال الاستشارات التي يُقدمها مارك دعمًا للتنبؤ بالطقس لإطلاق الصواريخ، على الساحل الشرقي للجزيرة الشمالية في مكانٍ يُسمى ماهيا. الرياحُ مشكلة كبيرة هنا، خاصة «رياح القص»، وهي التغيُّر المفاجئ في السرعة بين طبقات الهواء المُختلفة. ورياحُ القص القوية تعني عدم إمكانية الإبحار. تخيَّل أنك تركض بسرعةٍ تفوق سرعة الصوت وأنت تُوازِن مِقبض مكنسة على أطراف أصابعك، كما يقول مارك. هذا هو علم الصواريخ، وهو أمر مُعقد للغاية.
أصبحت رحلتنا الآن إلى ويلينجتون رحلةً طويلة وشاقة، هدفًا نسعى إليه في جهد مُتواصل، ونضبط مسارنا بحيث نتخبَّط ونتجاوز أكبر الأمواج بضرباتٍ عرضية، وتنحبس الأنفاسُ عندما يتصادف أن نواجِه إحداها وجهًا لوجه. نتقدَّم ببطءٍ، بسرعة المشي. بل أبطأ. كنتُ على مدار الأيام القليلة الماضية، وأنا عالق في سريري، أقرأ كتابًا عن معركة الأطلنطي. تُناضل السفن التجارية القادمة من أمريكا الشمالية للوصول إلى إنجلترا عبر أسابيع من العواصف لا نهاية لها، بينما تُطاردها أسرابٌ من الغوَّاصات. أفكرُ في أنها واجهت كل ما نُواجهه، بالإضافة إلى الطوربيدات.
ينصح «دليل الطقس البحري لمضيق كوك» بعدم الاقتراب من المضيق في العواصف الجنوبية، عندما تتَّحد تضاريس الأرض والتيارات المَدِّية الهائلة لخلق بعض أسوأ الظروف الجوية. غير أن الفترة القصيرة الفاصلة بعد ذلك قد تُوفر أفضل فرصة على الإطلاق؛ إذ تمثل فترة من الهدوء القصير الذي يعقب كلَّ عاصفة. في السنوات الماضية، كنت فقط أتخيلُ هذا، ولكن بينما نشق طريقنا إلى الشاطئ بعد يوم واحد، يتحوَّل البحر نفسه مجددًا إلى حالة من الهدوء غير المعهود. وتظهر جبال الجزيرة الجنوبية، التي تُذكِّرنا بسلسلة جبال سييرا نيفادا، مضاءةً من الخلف بخطوط واضحة عند غروب الشمس. تُلقي ويلينجتون، التي لا تزال على بُعد ٥٠ ميلًا، بتوهُّجها الخافت على الأفق المقابل. ربما يكون هذا هو مينائي المفضَّل على الإطلاق، وهو عبارة عن مدينة جبلية بها مقاهٍ ومتنزهات خضراء يسير فيها السكان المحليون بخُطًى واسعة، وينحنون بثباتٍ في مواجهة رياح يبدو أنها لا تتوقف مُطلقًا. الليلة، إذن، هي ليلة غير معتادة على نحوٍ مذهل؛ فهي هادئة بما يكفي لصيد الأسماك بشباكنا المليئة بالعوالق ومشاهدة الدلافين وهي تسحب وراءها آثارًا من الإضاءة الحيوية عبر التموج الذي تُحدثه مقدمة السفينة.
يقف بجواري عند السور كبيرُ العلماء، الذي ربما يكون في رحلته الأربعين والمعاناة ليست غريبةً عليه، بينما تتلاشى الجبال أخيرًا في الغسق. ويُنظِّم أفراد فريق المعمل المعَدَّات لمزيدٍ من صيد العوالق، ولا تزال حركاتهم حَذِرة كما لو أن الأمواج قد تعود فجأة.
يقول كبيرُ العلماء: «أظن أن هذا هو أقسى أسبوع أمضيتُه في البحر على الإطلاق.»
فأقول: «إنها المِهنة التي اخترتَها.»
يجيب: «إممم.» تُعتبر هذه جُملةً كاملة لشخص من فنلندا.
انتقل جان بعيدًا عن إسكندنافيا لممارسة مهنة خبير في عِلم دراسة المحيطات الحيوية. نحن في العمر نفسه تمامًا لكننا أنهَينا دراستنا الجامعية في سنواتٍ مختلفة بسبب خدمته العسكرية الإلزامية، وهي الفترة التي تضمَّنت تعلُّم التزلُّج والرماية وسط تدريبات الذخيرة الحية في منطقة لابلاند خلال فصل الشتاء. الفنلنديون جادُّون بشأن البقاء على استعدادٍ لمحاربة الروس. كانت حياته اللاحقة في الخارج مدفوعة، على حَدِّ قوله، بالفضول، وربما بشغف، أشبعه منذ أمدٍ طويل، بالأماكن ذات المناخات الباردة. خلفنا، تبحث الضابطةُ الثانية في مخزن المؤن، وهو مخزن صغير خلف محطة القيادة حيث تُخَزَّن معَدَّات الرسو الخاصة بنا. هذه عادةً مهمة صباحية، ولكن بعد الاهتزاز الذي كابدناه على متن السفينة، ثمَّة شكٌّ حول ترتيب معداتنا؛ فمن المُحتمل أن تكون حلقات حبال السفينة الضخمة، والمصدات المطاطية الثقيلة، والصناديق المليئة بالأجهزة مُلقاة الآن في فوضى عارمة.
قالت للتو، وهي تُنهي شرب الشاي وتنزل في الفتحة: «سأتعاملُ مع هذا الأمر قبل أن يتحول إلى مشكلة.» أفكرُ في أن هذا هو فنُّ الملاحة، لأي شخصٍ يريد مثالًا عليه، حيث الغريزة القهرية لإحباط المصائب مسبقًا، ومن ثَم حِرمانها من فرصة التحوُّل إلى شيءٍ أكبر غير معروف، كبيرًا كان أم صغيرًا.
•••
تقع هيئة الأرصاد الجوية النيوزيلندية في مبنًى زجاجي مربع الشكل على حافة حديقة نباتية، وتطل على حوض مرفأ ويلينجتون الواسع. لولا مجموعة كبيرة من هوائيات السطح، لاختلط عليك الأمر بينه وبين مقر بنك. قبل عدة سنواتٍ، بينما كانت السفينة محتجَزة بسبب موجةٍ من الطقس الشديد السوء، طرقَ أفراد طاقمنا بابهم وطلبوا الدخول لإجراء جولة.
قِيل لنا: «أوه، لا، نحن لا نُقدم جولاتٍ، أيها الرفيق. نحن مجرد مجموعة من المهووسين بالعِلم الذين ينظرون إلى شاشات الكمبيوتر على أي حال. لن تجِد نفسك مُهتمًّا بما نفعل.»
حسنًا، لقد كانوا مُخطئين فيما قالوا.
موظفو هيئة الأرصاد الجوية طاقم مرح، جُلِبوا من صفوف مهندسي الطيران وفيزيائيي الجسيمات في الجامعات المحلية. إنهم مجموعة من الأشخاص الذين لا تُرهبهم الرياضيات. لا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك، فلدَيهم عمَل شاق يقومون به لفَهم الأحوال البهلوانية للغِلاف الجوي الذي يعيشون في نطاقه، ذلك الهواء المداري الرطب الذي يندفع للأسفل من الشمال، ويصطدم بعواصف هائلة شديدة البرودة قبالة المحيط الجنوبي ودفعاتٍ عرضية من البرد القارس من القارة القطبية الجنوبية. إلى الغرب، تمتدُّ المساحة الجافة الشاسعة لأستراليا لتُلقي بهوائها الشديد الحرارة عبر بحر تَسمان، حيث يُصبح لطيفًا ورطبًا قبل أن يصطدم بالجبال الشاهقة في الجزيرة الجنوبية. يمكن أن يحدُث أي شيءٍ تقريبًا في أي يومٍ من أيام السنة. إذا كنتَ تُبحر في نيوزيلندا، فستتبع تنبؤًا ساحليًّا لمدة ثلاثة أيام، يُجدَّد كل ١٢ ساعة ولا يتكرر مرتَين على التوالي. لدى الهيئة بعضُ الثقة في تنبؤاتها التي تصِل إلى ٧٢ ساعة، ولكن كما أخبرَني أحدُ أفرادها ذات مرة في إشارة جانبية، فإنه من الأفضل قضاء الوقت في مشاهدة الرُّجبي في الحانة عن التكهُّن بتنبُّؤاتٍ أبعدَ من ذلك.
لقد كنا زوَّارًا مُرحَّبًا بنا في هذه الوكالة الودودة منذ اقتحامنا لها أول مرة قبل ثلاث سنوات، على الرغم من وجود أماراتٍ على تغيُّر الأمور؛ إذ يوجَد اليوم زجاجة من مُعقِّم اليدَين بجانب مكتب الاستقبال، ورسالة من مارك شوارتز تفيد بأنهم سيلتقون بنا في غرفة بالأسفل بدلًا من الطابق الرئيسي للتنبؤات. اليوم هو السادس عشر من مارس عام ٢٠٢٠. رغم التفاؤل الدائم الذي يُميز نيوزيلندا، فقد بدأت تشعر بالقلق من الأحداث التي تلحق ببقية العالم. يظهر مارك بعد لحظاتٍ لتحيتنا، إلى جانب زميلٍ من طاقم التدريب يُدعى ديفيد وبستر. يبدو الاثنان معًا مثل عازف جيتار لموسيقى الهيفي ميتال ومحاسبه، ولا يزال كلاهما غير مُصدِّق بعض الشيء لأننا اقتطعنا ساعتَين من يومِنا وصعِدنا تلةً شديدة الانحدار لزيارتهم.
يتفق ديفيد ومارك على أن هذا مكان رائع لعالِم أرصاد جوية. كان نصفُ الكرة الجنوبي — الذي تقلُّ فيه اليابسة ومن ثَمَّ يفتقر إلى محطات الأرصاد الجوية — هو العضو الأفقر في هذا العلم حتى ظهور مقياس التشتيت الذي جعل من الممكن قياس الرياح عبر الأقمار الصناعية باستخدام عمليات مسح سطح البحر بالرادار. وفجأة، أصبحت مساحاتٌ شاسعة من المُحيط جاهزة للمشاهدة، مُغطاة بهواء نظيف غير ملوَّث ولا ينقُصها شيءٌ لدراستها. يتحدث مارك معنا اليوم عن انتقال المياه في الغِلاف الجوي، مؤكِّدًا على عدم قدرة السُّحب على التكوُّن بشكلٍ فعَّال دون إمداداتٍ من الجُسيمات المحمولة جوًّا لتعمل بمثابة أنويةٍ للتكثيف. يؤكد أن الهواء النظيف تمامًا قد يتطلَّب، في الواقع، ما يصل إلى ٨٠٠ في المائة من الرطوبة لإنتاج قطرات مياه تلقائيًّا. تعتمِد عواصف المحيط الجنوبي على إمدادٍ ثابت من ملح البحر المحمول جوًّا من أجل أنوية تكثيفها، والذي اتَّضح أنه فعَّال للغاية لهذا الغرَض. تشارك في العملية أيضًا الجُسيمات الأرضية — قطع من الطين والغبار والتلوُّث من صنع الإنسان — وكذلك الكائنات البكتيرية الصغيرة. يشرح مارك، وهو يجلس مُستقيم الظهر على كرسيٍّ بلا ظهر أو ذراعَين، كيف وُجِدَت البكتيريا تنتقل بين الموائل عبر آلية رائعة؛ حيث تمتطي غبار المواد المُتحلِّلة، ويرفعها الحَمل الحراري ويسوقها بتيار هوائي وتترسَّب مع اتجاه الرياح في قطرات المطر، وعلى الأسطح الجديدة حيث يمكن للميكروبات الواصلة أن تزدهر على وسط جديد. تتنقل البكتيريا وهي تُبحر على على متن سفنها السحابية من الحقول إلى المروج، وهي بمثابة الملَّاحين الأوائل في مجالنا الحيوي.
خارج النوافذ، يمر صفٌّ مرتفع من السُّحب الركامية عبر السماء، مُنذرًا بجبهة أخرى قادمة ستخفض درجات الحرارة إلى المستوى الذي يتطلَّب ارتداء الملابس الصوفية وستُعيد الرياح إلى قوة العاصفة بحلول المساء. وبينما نتحدَّث، تُجبر التضاريس الزاويَّة لجزيرة الجنوب لسانَ الهواء البارد الكثيف هذا على صعود الساحل، ليصِل قريبًا إلى مضيق كوك في عصفةٍ شِبه قطبية مشحونة توًّا. ينتهي فجأة يومُنا الهادئ والمُشرق الذي لم يمضِ عليه سوى ساعاتٍ قليلة. في المرفأ الذي يقع أسفلنا، تستدير سفينةٌ في الممرِّ المائي وتتَّجه عائدةً إلى البحر. اليوم فرضت نيوزيلندا حظرًا على رسوِّ سفن الرِّحلات الترفيهية وألزمت جميع المسافرين جوًّا الذين وصلوا بالحجر الصحي على أمل الحدِّ من انتشار فيروس كوفيد-١٩. لن ينجح هذا، وفي غضون ثلاثة أيام أخرى، ستُغلق الدولة بأكملها حدودها أمام غير المواطنين. تسعى ويلينجتون جاهدةً للحفاظ على طابعها المُبهج والمنعش، إلا أن وتيرة الأخبار المُزعجة القادمة من الخارج تتزايد، والهواتف لا تكفُّ عن الرنين. في طريق عودتي إلى السفينة، ألتقي بشخصٍ على رصيف المشاة يحمل حمولةً ملء ذراعَيه من ورق التواليت. وعلى غير عادة هذا الشعب، لا يُلقي التحية.
رست شمال «روبرت سي سيمانز» مباشرةً سفينةٌ فرنسيةٌ صغيرة للرحلات البحرية ألغت للتوِّ ما تبقى من رحلتها الحاليَّة. يتدفَّق ركَّابها، الذين أُجلُوا فجأة، إلى الرصيف في غضبِ وذهولِ مَن قُطِعَت إجازتهم. تتحرَّك سياراتُ الأجرة حول مُحيطها، ويتولى عُمَّال الفنادق الأوراقَ الرسمية بجوار سُلَّم السفينة. يبدو الأمر كله وكأنه بهو فندق مزدحِم وقد اختفى مَبناه. على متن سفينتنا، ينشغل المُهندسُ بالحديث إلى شركة وقود عبر هاتفه المحمول. كانوا قد وعدوه بتسليم الوقود غدًا، ولكن فجأة لم تعُد الخطة مؤكَّدة. ويأتي من مكتبنا الرئيسي وابلٌ من الرسائل الجديدة. لقد انقلبت الخُطط فجأة إلى حالةٍ من التغيُّر بعد الوصول المفاجئ لهذا الشكل الجديد والمُختلف من أحداث الطقس، ويجري الإسراع بالخدمات اللوجستية من أجل إنهاء رحلتنا مُبكرًا وإعداد السفينة لرحلةٍ عاجلة للعودة إلى الولايات المتحدة. وأُلغِيَت محطتنا الأخيرة المُقررة إلى مدينة كرايستشيرش.
عندما أجتمعُ بالمجموعة لمشاركة هذه الأخبار، لا يظهر على أفرادها الفزع بل يتحركون سريعًا لحل المشكلات، كما لو أن عقول أفراد المجموعة تُشبه الآلات التي تنتقل بسلاسة من وظيفة إلى أخرى.
يقول أحدُهم: «عُلِم. حان وقتُ تفعيل تدريب الوباء العالمي.»
أقولُ لهم: «أجل، بالضبط. ستجدونه في قائمة المهام مع جميع التدريبات الأخرى.»
يعلو صوت خدش الأقلام على ألواح الكتابة، وتظهر الاجتماعات الفرعية على الفور في عدة أركان. بعد خمس دقائق، رأيتُ عالِمَين ينقلان المعَدَّات خارج غرفة الرافعة لإفساح المجال للموجة التي باتت الآن قريبة من المعَدَّات الشخصية التي ستُغادر السفينة. يضع أحدُهم حبال إرساء إضافية استعدادًا للرياح المتصاعدة، ويأتي المهندس ليَجدني حيث توقفتُ لأُحدِّق في الفراغ.
«هل تسمح لي بدقيقة أيها القبطان؟»
هنري هو أحد أفراد خفر السواحل السابقين، قويٌّ ومهذب، ويشكِّل النقيض التام لشخصية ديف رجل المخاطر، الذي أبحرنا معه لأول مرة إلى المحيط الهادئ قبل سنوات. لا توجَد قطعة من المعَدَّات على متن السفينة لا يستطيع إعادة تركيبها في حالةٍ أفضل.
أقول له: «يومي مكوَّن من دقائق.»
يقول: «وقودنا في الطريق. لقد انتهَينا من أمر صيانة المُحرك ويمكننا التحرك بالسفينة في أي وقت إذا لزم الأمر.»
«ممتاز. لم أتلقَّ شيئًا بعدُ من مسئول الميناء، لذلك آملُ أن يكون وضعنا على ما يُرام في هذا الرصيف الآن.»
«أوه، وهناك وجبة خفيفة جاهزة في صالة الطعام.»
«ممتاز.»
يُحيِّيني هنري بطريقةٍ فيها لمسة من الدعابة ويستدير ليغادر.
ذات مرة، في حفل انتهاءِ إحدى الرحلات البحرية، حصلتُ على جائزة هزلية، حيث كتبوا لي على شهادةٍ مصنوعة من طبقٍ من الورق: «أفضلُ شخصٍ يزيل زائدتك الدودية في البحر باستخدام أدوات المطبخ.»
أشعرني ذلك بالإطراء، ولكني إذا احتجتُ إلى مَن يُجري ذلك على نفسي، فسأبحث بلا شك عن هنري أو شخصٍ مثله؛ فهؤلاء نوع مُتكيِّف من البشر، موطنه عالَم السُّفن. إذا وجدتُ نفسي يومًا في براثن مشكلة مستعصية تمامًا لا أرى لها حلًّا، أظن أن طاقمي من البحَّارة سيتمكَّن من حلِّها، وسيتبقى لديهم الوقت لتناول الطعام.
وجدَ بديلي، الذي يسافر قبل الموعد المُقرر، بمجهوده الخاص، مقعدًا على متن ما سيتبين لاحقًا أنها الرحلة الجوية الأمريكية الأخيرة المسموح بها إلى نيوزيلندا. عندما أتحقَّق من حالة رحلتي الجوية إلى الوطن، أجدُها مُعدَّلة برسالة مُقلِقة على موقع شركة الطيران على الإنترنت. إذ ينصحون قائلين: «اتصل بنا»، كما لو كان بإمكان المرء فعل ذلك. في مواضع أخرى على الإنترنت، تختفي الرحلات الجوية بينما أشاهدها أو أُحدِّثُ الصفحات مع ارتفاع أسعارها بشكلٍ مذهل. في ضربة حظ جامحة، تمكَّنتُ فجأة من تغيير شركة الطيران وحجز مقعد على آخِر رحلةٍ عائدة إلى أمريكا للخطوط الجوية النيوزيلندية. لم أرَ شيئًا كهذا من قبل. لقد كنت لبعض الوقت مفتونًا بفكرة الانتقال إلى ويلينجتون، لكني لم أتخيَّل الأمر هكذا.
وصل القبطانُ الجديد في صباح اليوم التالي وتصفَّحنا الأوراق على عجل. لحُسن الحظ، العديد من أفراد الطاقم الآخرين الذين وصلوا موجودون بالفعل في البلاد ويتدفَّقون على متن السفينة أثناء حديثنا، ويعكس مظهرهم آثار عطلاتهم التي قُطِعَت فجأة. بينما أستقلُّ سيارة الأجرة، لا يزال الناس يمشون في الشوارع، لكن البهجة المُميِّزة لمدينة ويلينجتون قد اختفت، فقد هُجرت الحدائق وتُركت الطاولات المرتفعة في صفوف فارغة تحت مظلات المقاهي. إنه يوم صافٍ على نحو لافت للنظر، مع نسيمٍ قوي يجعل سطح مياه المرفأ مُجعَّدًا بخطوط متموجة تُشبه النسيج المخملي، ربما يكون الطقس الأجمل منذ وصولنا. سيخضع الطاقم للحجر الصحي على متن السفينة لمدة أسبوعَين قبل المغادرة، حيث ينشغلون بقائمة لا نهاية لها من الأعمال الروتينية التي تُؤدَّى في كل سفينة. ولا يُسمَح لهم بالنزول إلا للذهاب إلى محلِّ البقالة وممارسة التمارين الفردية، وللتسلية يملئون جدار الرصيف بالجرافيتي الملوَّن باستخدام الطباشير. في يومِهم الأخير، رسم أحدُهم قلبًا كبيرًا منقوشًا بعبارة: «شكرًا لكِ يا ويلينجتون! سنعود قريبًا!» في صباح اليوم التالي رحلوا، وبدءوا رحلة الستة آلاف ميل التي ستأخُذهم إلى وطنِهم هاواي.