الفصل الرابع عشر

فبراير ومارس شهرٌ واحد

تنتظرني كارين في محطة الحافلات. وبينما تجتاز الحافلة ساحة الانتظار، أرصدُ سيارتها، وأرى ذروة قلنسوة سُترتها والصورة الجانبية المُميِّزة لكلبنا التيرير الاسكتلندي الجامح، والذي انتبه فجأة خلف زجاج النافذة. لا تزال هناك ثلوجٌ على الأرض، وتنبعِث من المحطة عصفةٌ قوية من الهواء الساخن الآسِن بينما نحمل حقائبنا بعيدًا عن الحافلة ونتجاوز الأبواب المنزلقة. هذا أول شيءٍ ألاحظه عند عودتي إلى الوطن من خطوط عرض أكثر اعتدالًا، ليس البرد ولكن الحرارة، والشعور بالهواء المحبوس في الأماكن المُغلقة والمُدفَّأ بواسطة المدافئ. ننطلق بالسيارة من المدينة باتجاه الشرق، حيث يُصبح الغطاء الثلجي أكثر اتساقًا وتنقشع الغيوم شيئًا فشيئًا لتظهر السماء. لا تزال منطقة شمال نيو إنجلاند بعيدةً جدًّا عن الربيع الحقيقي. ستَّتحد أسابيع التناوب بين الغيوم وأشعة الشمس، والبرودة الجافة القاسية والرطوبة المزعجة، لتشكِّل موسمها الانتقالي القصير الخاص بها، وستزدحِم شماعاتُ معاطفنا بجميع أنواع الملابس الخارجية المُمكنة. أخبرَني صديقٌ لي ذات مرة أنه من العَبث إعطاء الأشهر أسماءً مختلفة في هذا الوقت من العام. ينبغي لنا بدلًا من ذلك اعتماد مصطلح جديد مشترك، مصطلح أصدق وأقل إعطاء للأمل الكاذب. فنعطي ببساطة اسمًا واحدًا لكل من شهرَي فبراير ومارس. لم يسعني سوى أن أوافقه.

حقيبتي الضخمة محشورة خلف مقاعد سيارتنا، وتحجب الشمس. على طريقٍ خلفي متعرج بسبب الصقيع، يقع منزلنا الصغير، حيث تُشير نوافذه الأمامية العالية بتفاؤلٍ نحوَ الجنوب. في داخل المنزل، يسقط الضوء المغبَّر على رفوف الكتب والتذكارات، من منحوتاتٍ عَاجية من جرينلاند، وقطعة حفر على الخشب اشتريتُها منذ زمنٍ طويل في جُزر سيشيل. بالإضافة إلى مِكبس حالك السواد، مُستبدَل من مُحرك سفينة بعد أن دار فيها ملايين الدورات. وفي طبق من المفاتيح والنقود المعدنية على المنضدة توجَد عملاتٌ معدنية غريبة من كوبا، وكيريباتي، وجُزر الأزور. لقد بَنيتُ الغرف الأولى في هذا المكان في منتصف العشرينيات من عمري، متخيلًا أنها ستكون معسكر قاعدةٍ مُتواضعًا لبحَّار متنقل وممتلكاته القليلة. بعد ذلك بفترة وجيزة، أصبحنا اثنَين، يسكنان في مساحة مصمَّمة لشخصٍ واحد، ولكننا مع ذلك نعيش بسعادة؛ ربما بسبب تأقلُمنا مع ظروف السكن المشترك الأصغر حجمًا التي اعتدنا عليها سابقًا.

أرمي معَدَّاتي في كُومة وأضعُ الماءَ ليغلي من أجل تحضير الشاي. ينقضُّ الكلب على بعض الأشياء المتناثرة ويختفي تحت كرسي. في الأسابيع المقبلة، سأقف هنا كلَّ صباحٍ عند طاولة المطبخ، في تواصُل مع قبطانَين آخرَين يساعدان السفينة وهي تُغادر نيوزيلندا وتسارع بالعودة إلى الوطن، حيث تتَّجه أولًا شرقًا عبر رياح الأربعينيات الهادرة، ثم شمالًا عبر الرياح التجارية إلى هاواي. إنها رحلة تُقطَع فيها ستة آلاف ميل بلا توقف لتجنُّب التعقيدات المُتزايدة للرسو في الخارج. شرعت سفينتان شراعيَّتان هولنديتان، «يوربا» و«وايلد سوان»، في رحلتَين ملحميتَين متزامنتَين عبر المحيط الأطلنطي. وفاجأهما الوضعُ الراهن وهما بعيدتان عن الوطن، فاضطُرَّتا إلى سحب المراسي والإبحار مباشرةً نحو هولندا، لخوض مغامراتٍ غير مُخطَّط لها ولا تحدُث سوى مرة في العُمر.

لشهرَين كاملَين، تُبحر هذه السفن الثلاث منفردةً في عوالمها، وطواقمها في أمانٍ نِسبي بعيدًا عن الجائحة مقارنةً بأي فردٍ آخر على كوكب الأرض. أتابعُ على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي التمثيلات الديناميكية المرئية اليومية للنماذج الجوية، وأتبادلُ الرسائل مع شخصٍ في مكتبنا على اتصالٍ مع السفينة «روبرت سي سيمانز». على شاشتي، يتقلَّص المُحيط الهادئ الشاسع إلى ١١ بوصة، وتبدو الرسومات الدوَّامة للرياح كمُنحدراتٍ على نهر. أثناء مشاهدتي لذلك أشعرُ بجذب التيارات كما لو كنتُ في الكاياك الصغير الخاص بي، مُدركًا أهمية البقاء حيث يتدفَّق التيار لصالحي، وعارفًا بخطر الوقوع في براثن الانقلابات المفاجئة.

أقرأُ ما يلي في فقرة من خطة السفينة: الإبحار شرقًا والبقاء شمال أنماط الضغط المنخفض القطبية الجنوبية لضمان رياح مواتية، مع مراقبة المناطق المدارية بعناية بحثًا عن علامات على الأعاصير المتأخِّرة. في مكانٍ ما بالقُرب من جُزر أوسترال — الحدود الجنوبية النائية لبولينيزيا الفرنسية — ستستدير السفينة يسارًا وتتَّجه نحو هاواي.

من هذه الزاوية المحورية، يمرُّ المسار عبر المناطق شِبه المدارية المراوغة ويعود إلى الرياح التجارية. هنا، تنطلق «روبرت سي سيمانز» شمالًا، مثل سيارة سباق، بكامل الأشرعة، والرياح دافئة على سطحها الرُّبعي، فيما تمرُّ جُزر تواموتو المَرجانية الحلَقية المُنخفضة في خفاءٍ على جانبَيها. وتمر الأميال سريعًا، حيث يرسل الطاقم يوميًّا إجمالي المسافات المقطوعة الباعثة على البهجة: ١٥٠، ١٧٥ … ١٩٩! إنهم يخوضون الرحلة الأروع في مسيرتهم المِهنية. أما نحن، على الشاطئ في مطابخنا ومكاتبنا، فمِثل روَّاد الفضاء في غرفة التحكُّم، مسرورون بسماع هذه الأخبار، وآسفون لأننا لا نخوض المغامرة. نشعر بالامتنان لوجودنا في الوطن بينما العالَم يُبحر، نحو عاصفةٍ لم تُعَدَّ لها النماذج التوجيهية بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥