الفصل الثاني

المبادئ الأولى

يقول سائقي بالإسبانية: «رحلة سعيدة.»

يضع الأجرة في جيبِه ويمدُّ يدَه ليرفع صوت الراديو، رامقًا مرآته بنظرةٍ خاطفة لمعرفة حركة المرور.

تنتظِر السفينة بجوارنا على رصيف الميناء، حيث تبدو مُتعارضةً مع روح العصر بأشرعتها المربعة الشكل التي يسهل ملاحظتها وسط جذوع النخل بالقُرب من الواجهة البحرية وصواري اليخوت المصنوعة من الألومنيوم. أومئ لوجوهٍ شِبه مألوفة وأضع حقائبي على سُلَّم السفينة، وهو ما اعتدتُ فِعله منذ كنتُ في العشرينيات من عمري، وما زال ينتابني الشعور البسيط نفسه بدُوار أوَّلي. وتبدأ رحلة جديدة.

يبلُغ طول سفينة «روبرت سي سيمانز» ٤٢ مترًا، وهي سفينة لتعليم الإبحار مَبنية من الفولاذ، ومرخَّصة لحمل طاقمٍ مُكوَّن من ٣٨ فردًا في أيٍّ من مُحيطات العالم. جانِباها العلويَّان باللون الأبيض، وشواخِصها سمراء ضاربة إلى الصُّفرة، ومعَداتها في حالةٍ جيدة باستثناء غشاء القِدَم المُميِّز للسفن الكثيرة الإبحار. اسمُها مكتوب على لوحتَي مقدمة السفينة، وهما لوحتان خشبيَّتان مرتفعتان تُفقَدان من وقتٍ لآخر في البحر بسبب الطقس السيئ. كان روبرت سيمانز نفسه نجمًا في العصر الذهبي لهندسة الفضاء الجوي، إذ كان مديرًا في وكالة ناسا أثناء برنامج أبولُّو، وقائدًا للقوات الجوية فيما بعد. عندما مُنِحَت عائلته أموالًا لبناء سفينة تكريمًا له، مُخصَّصة للبحث العلمي والتعليم، ذُكِر أنه قال: «حسنًا، ولكن لا تسمُّوها على اسمي.» ولكن هيهات؛ فكثيرًا ما ينتصِر المرء في نقاشاته مع الرؤساء، ولكن لا يسَعُه إقناع أفراد عائلته بوجهةِ نظره الخاصة.

تعمل سفينة «سيمانز» وسفينةٌ شقيقةٌ أخرى معًا تحت راية «جمعية تعليم البحار»، وهي مُنظمة بحثية صغيرة مقرُّها قِبلة العلوم، «وودز هول» بماساتشوستس. لديَّ حُجَيرة مكتب تعمُّها الفوضى هناك، في نهاية الرَّدهة من بهوٍ مليء بالخرائط ونماذج السفن وبعض الفصول الدراسية، حيث نُعِد الطلَّاب لتجرِبتهم الأولى في البحر، كما لو كان ذلك الأمر مُمكنًا حقًّا. شَغَل عملي مع الجمعية فترةً كبيرةً من حياتي في البحر، وهي مِهنة ساحرة، وإن لم تكن مُربحة. على مرِّ السنين، سافرتُ بحقيبة البحر الضخمة أميالًا لا حصرَ لها للعمل على سفينة أو أخرى، حيث أصعَدُ على متنِها لأنضمَّ إلى طقوس المغادرة التي طالما تكرَّرَت.

تسألني والدتي: «هل ستُغادر في رحلة قريبًا؟ تُرى ستكون إلى المحيط الأطلنطي أم المحيط الهادئ؟»

«دعِيني أُلقِ نظرةً على تذكِرتي.»

•••

إنه أفضل أوقات اليوم في مدينة بويرتو فالارتا، قبل شروق الشمس مباشرة، عندما تكتسي الجبال المُحيطة بالمدينة بإضاءةٍ خلفية برتقالية اللون وتكون بقية السماء باللون الأزرق الداكن. عند بوابة المحطة، لا تزال إحدى لوحات إعلانات الفيديو تتلألأ، خلفَ نباتاتٍ مُظلَّلة كما لو كانت جزءًا من ميدان التايمز عند خطِّ عرضٍ مُنخفض. تضاعَف حجم حوض الميناء منذ زيارتي الأخيرة، حيث اقتُلِعَت أشجار المانجروف ضمن الصفقة الشيطانية للمدينة مع صناعة السفن السياحية. توجَد الآن ثلاثة أرصفة كبيرة الحجم، مُحاطة بقِطَع أنيقة من العشب المُشذَّب والأسفلت الناعم. كما تُوجَد أماكن بيع بالتجزئة مَبنية حديثًا بالقُرب من الميناء لاستخراج الأموال من الركاب أثناء تجوُّلهم في المكان؛ مركز تسوُّق «جاليرياس فالارتا». ومقهى «هارد روك». ومطعم «دِني». يأمل الميناء أن يجذب هذا الازدهارُ في البناء خطوطَ الرحلات البحرية لاستخدام «بويرتو فالارتا» قاعدة لها، مما يؤدي إلى زيادة حركة المرور والإيرادات أضعافًا غير معلومة حتى الآن. يستشعِر المرءُ هاجسًا بأن «بويرتو فالارتا» تمرُّ بتحوُّل مماثل لما حدث في منطقة «وايكيكي» الشاطئية الشهيرة في هونولولو، على بُعد بوصاتٍ معدودة من المكسيك التي سبقت في وجودها تأسيس تلك المنطقة. في تلك المدينة يتحرك راعيَا بقرٍ مكسيكيَّان مُغبَّران ببطءٍ وحذَر على ظهرَي جوادَيهما عبر فوضى المكان، ويعقلان ركوبتَيهما خارج مَتجرٍ للبقالة، في مُهمةٍ روتينية ما برِحا يقومان بها قبل فترة طويلة من بدءِ هذا كله.

تنتظر القبطانة التي جئتُ لأحلَّ محلها على متن السفينة، وقد حزمت حقائبها وربطت ألواحَ ركوب الأمواج الخاصة بها بالفعل على سطح سيارتها المستأجرة. سنكون هنا معًا لمدة يومٍ واحد، غير أن المُهمة الثقيلة لتسليم السفينة التي تبلُغ قيمتها ثمانية ملايين دولار وطاقمها — وهو ما يُسميه قبطان آخر أعرفه: «مجال النفوذ» — تتم بسرعة مُذهلة. تصفُّح سريع للأوراق، ومناقشة مشكلة بسيطة في المولِّد رقم اثنين. وتقرير عن المَئونَة المُقرر وصولها اليوم: طعام يكفي شهرَين لأربعين شخصًا، كلهم سيأكلون بنَهم بمجرد تعافيهم من دُوار البحر. نفتح الخزينة بهيبةٍ ونَعُدُّ النقود. هناك خمسة آلاف دولار أمريكي، وبعض البيزوهات المكسيكية، ومجموعة مُتنوعة من عملات الجُزُر الملوَّنة في ظرفٍ مهترئ، وتَعِد بأماكن عجيبة قد نذهب إليها. وصندوق من أمبولات المورفين أتمنَّى ألا يُفتَح أبدًا. على متن السفن، كما هو الحال في الشركات، نوابُ الرؤساء هم مَن يضطلعون بالعمل الحقيقي؛ الضابط البحري الأول، وكبير المهندسين، والمُضيف. يُحصي القبطان الأموال، ويملأ النماذج، ويتحمَّل مسئولية انتظار ما هو غير متوقَّع.

لحُسن حظِّنا أننا في وقتِنا الحاضر لا نشهد الكثير مما هو غير مُتوقَّع. تصِل منتجاتنا في شاحنة، وهي منتجات بقيمة ثلاثة آلاف دولار، من تفَّاح، ومانجو، وفاصوليا طويلة، وكوسة خضراء مُستديرة، تتدحرج على العُشب كرءوس الغِيلان. يجب أن نحتفِظ بكل هذا لأطولِ فترةٍ ممكنة خلال رحلتنا، وأن نحرص على عدم فساد كل ثمرة فلفل وكمثرى، وكل حُزمةٍ من الجزر بنشرِها حتى تجفَّ ثم تغليفها كلٍّ على حِدَةٍ بورق الصحف. من الجميل رؤية قوس قزح المؤقت لألوان الفواكه والخضراوات المصفوفة، والذي يُثير فضول المارة دائمًا. تتفحَّص المُضيفة لوح كتابتها وتتجاذب أطراف الحديث بالإسبانية مع عامل الرصيف الذي توقَّف لمعرفة ما يحدُث بالضبط.

«مرحبًا يا فتاة! ماذا تفعلون؟»

«القبطان يريد طبق سلطةٍ كبيرًا جدًّا اليوم.»

«أوه حسنًا! فلتُواصِلوا ما تفعلون.»

يدقُّ شخص بجوار الصاري الرئيسي على الفولاذ بصوتٍ عالٍ بأداة كهربائية، فيتطاير وابل من الشرَر باتجاه منضدة تقديم السلطة المؤقتة على رصيف الميناء. لا أدري أية مُهمة يؤدُّونها من بين آلاف المهام في قائمتنا. تُمثل عملية المغادرة لكل سفينةٍ أحجيةً مكونةً من أجزاء مهمة، يجِب إكمالها جميعًا أو التخلِّي عنها بحلول الموعد النهائي الصارم للغاية؛ وهو يوم الإبحار. الوقود. والماء. وبطاريات تشغيل جديدة للمُحرك الرئيسي، وستُّون غطاء وسادةٍ جديدًا، ومائة دستة من البيض. يحتاج علماء المحيطات إلى أقلامٍ خشبية زرقاء، والتي يبدو أنها لا توجَد في «بويرتو فالارتا».

تقع مسئولية العديد من هذه التفاصيل على عاتق وكيلِنا، الذي يُعرِّج علينا أثناء تحميل الباذنجان على متن السفينة. الوكلاء هم منظمو عالَم الملاحة البحرية، الضليعون في تسهيل التواصُل بين مجتمع السفن المُتعدِّد اللُّغات والآليات المحلية للمواني التي يزورونها، من مسئولي الجمارك، ومديري المواني، وعمَّال الشحن والتفريغ، والفنيين، والبائعين. في بعض المواني لن يُسمح لك بالعمل دون وكيل، وقد تندَم على عدم الاستعانة بوكيلٍ في بعضها الآخر. إنها مهنة قديمة وعشائرية، مجتمع مُغلق تمامًا. يرتدي رجُلُنا «ديفيد» في جزيرة «ماديرا» البرتغالية بدلةً إيطالية ويجلب السيجار وشراب البراندي إلى السفينة على سبيل المكافأة. هنا، على حافة الصحراء المكسيكية، يظهر الوكيل «خوان» على دراجة هوندا نارية طويلة، وقد كتب لقبَه «رجُل الورق» على صندوق الدراجة الخلفي. نُرحِّب به ونشاركه قائمة أعمال اليوم. أُسلِّمه جوازاتِ سفر الطاقم كي يُرسِلها إلى مكتب الهجرة، ويَعُدُّ الكُومة الثمينة مرتَين قبل أن ينطلق على دراجتِه البخارية المُزمجِرة في سحابة من العادم الأزرق.

بعد يوم، غادرنا الرصيف مع بزوغ أول ضوء للشمس، ورسَونا قُبالة الشاطئ لإجراء التدريبات، وهو التزام آخر مُحدَّد المدة في روتين السفن المغادِرة. بحلولِ وقت العصر سيهُبُّ نسيم بحري بفِعل الهواء الدافئ المُتصاعد من الأرض، لكن السماء الآن صافية صفاءَ الزجاج. يشق اثنان من المُجدِّفين في أحد قوارب سباقات التجديف طريقهما باكرًا عبر القناة كبَقِّ الماء المتزحلِق، ويختفي خلفهما خطٌّ رفيع من التموُّجات والبِرَك. ويحوِّم على السطح بالقُرب منا سِرب من أسماك الشِّفنين العُقابيِّ، وهي أسماك غريبة بحجم كعكة «الوافِل» ذات ذيولٍ تُشبه السياط.

تنتظر أيَّ سفينة في البحر مجموعةٌ قاتمةٌ من الكوارِث المُحتمَلة، والتي ستواجَه جميعُها في بيئة المحيط المعزولة التي تخلو من سُبل المساعدة: اندلاع الحرائق. أو الفيضانات. أو سقوط أحد أفراد الطاقم من فوق السفينة. البحَّارة هم أول المُستجيبين لِما يتعرَّضون له من حوادث، وهم رجال إنقاذ أنفسِهم، وإذا فشلت كل محاولاتهم لإنقاذ السفينة، يجِب عليهم إدارة عملية إجلائهم من السفينة المنكوبة. أشرح ذلك للمتدرِّبين، بهدف توضيح خطورة الأمر كلِّه دون إثارة الذُّعر بصوتي الذي وصفَه أحدُهم ذات مرة بالصوت المازِح المنطوي على الجدِّية. وفي صُلب تنظيم هذه الحالات الطارئة يوجَد ما يُسمَّى بقائمة المراكز، وهي وثيقة تُقسِّم مجموعة التهديدات إلى مصفوفةٍ سهلة تُخصِّص لكل شخصٍ مهمة؛ بدءًا من القائد الرئيسي وحتى المبتدئ المُستجِد. فالانشغال بالعمل يستأصِل الذُّعر من النفوس. نُطلق جرس الإنذار ونراجِع استجاباتنا المُخطط لها. أتحققُ من أجهزة اللاسلكي مع الضابط البحري الثالث بينما يسحب طالبان خرطومَ إطفاءٍ طويلًا كالثعبان نحو السياج وينتظران وصول الماء إلى فوهته. على السطح الأوسط للسفينة يُدرَّب فريق على رفع قارب الإنقاذ وإطلاقه. وأخيرًا، يحتشد أفراد المناوبة حول طوَّافات النجاة، التي تُجهَّز في حاوياتٍ خاصة لإطلاقها آليًّا إذا نفد الوقت لإطلاقها يدويًّا. يرتدي الجميع بدْلات غطس ضخمة ويستجيبون كلٌّ في دوره عند سماع اسمه في الكشف. إننا قريبون جدًّا من نزلاء أحد الفنادق بمسافة يمكنهم معها التجديفُ في قوارب «الكاياك» والقدوم لرؤيتنا. يسأل بعضهم عمَّا إذا كنَّا بحاجة للمساعدة.

يأتي كبير المهندسين لإخبارنا بمخاوفه بشأن حالة مِضخَّة إطفاء الحريق الثانية بالسفينة. استخدام حَشِيَّة (طوق لمنع التسرُّب) جديدة قد يحُلُّ المشكلة، لكنه سيُخبرني عندما يصل إلى قرار. كما أنه يشعر بالفضول بشأن مُهمته في قائمة المراكز، هل يجِب عليه هو والضابط الأول العمل معًا في فريق إخماد الحرائق، أم يعمل كلٌّ على حِدة تحسبًا لحدوث ما لا تُحمَد عُقباه؟ قد يوفر هذا المرونة في حالة حدوث شيءٍ شديد الخطورة، مثل حريق بسبب الوقود في غرفة المُحرك. يظهر ديفيد بملامح إنجليزية حادَّة وشِبه وسيمة وكُومة من الشعر الناعم الداكن اللون المُتدلِّي وقد ارتدى قميص أكسفورد رثًّا، كما لو كان تجسيدًا للمُستكشِف إدموند هيلاري، أو ربما المُمثل هيو جرانت لو عاش في ظروفٍ أصعب. الطقس حارٌّ الآن، ويمكنني أن أسمع في مكان ما في الخلفية موسيقى المارياتشي المكسيكية تُعزَف على الشاطئ.

المهندسون هم أهم الأشخاص في البحر، حتى على متن السفن الشراعية. وأُعطي المرتبة الثانية في الأهمية للطهاة؛ لأنك في حقيقة الأمر يُمكنك أن تعيش لفترةٍ أطول على شطائر زبدة الفول السوداني مما قد تعيشه في مكانٍ بمحطة طاقة مُعطَّلة أو أنبوب صرفٍ صحِّي مكسور. إن ضرورة النهوض في أي ساعة من اليوم لإصلاح الأعطال تستلزِم مجموعة فريدة من الأشخاص من ذوي المعرفة الموسوعية، وهو ما يُثير إعجابي على الرغم من كونه أمرًا مُتوقعًا مِمَّن في مثل مِهنتهم. يُلقي ديفيد محاضراتٍ عن التاريخ الروسي أثناء تفكيكه للمُحركات الخارجية (محركات مؤخرة السفينة)، تتخلَّلها قصص عن أيام أسوأ بكثيرٍ عاشها أشخاص آخرون في وظائفهم. في مِهنة سابقة، شاهد ذات مرة زورقَ قَطرٍ ينقلب ويغرَق حينما كان ينعطف ليُحاذي رصيف الميناء. كان الطاقم قد نَسِي إغلاق صمامٍ مُهم، وأدى ارتفاع الوقود الناتج عن ذلك بين الخزانات إلى هلاك أفراده. جاء لقب ديفيد، «ديف رجل المخاطر»، من قصةٍ أخرى تتعلق بحبيبةٍ قديمة لم أكن قد سمعتُ بها بعد.

كان لدى العامِلين بالمطبخ أسئلة أيضًا. فقد كانت هناك كعكة مع قهوة الصباح، على الأرجح كانت ستختفي إن لم نتعجَّل. هل أوشكنا على الانتهاء أم نريد أن يحتفظوا لنا بقطعةٍ من الكعكة؟ بعد تنبيهي على النحو الواجب، عُدت إلى البهو، وكانت صور المُعجَّنات وحرائق غرفة المُحرك تتصارع في رأسي، ومن المُستحيل التوفيق بينها.

بحلول وقت العصر، نشرع في الإبحار، وقد اكتست المساحات الفارغة في الصواري بقِطَع متكافئة من القماش الأبيض المشدود بإحكام، والسفينة تميل بخفَّةٍ وسط نسيم مُعتدل. ويبدأ تموُّج المحيط الهادئ الطويل في التأثير على حركتنا، وسرعان ما يُنبهنا إلى أي قصورٍ في خُطتنا للتستيف (رصِّ البضائع وترتيبها). تهتز عشوائيًّا بعض الأشياء التي يصعُب تحديد موقِعها في المقصورة المجاورة لي. يأتي خادم السفينة للتأكُّد من أن المخزن مُؤمَّن بالكامل للإبحار، حيث لُفَّت علب المكرونة وأكياس الدقيق بالبلاستيك ورُبِطَت بإحكام؛ آلاف العلب مرصوصة معًا مثل حجارة الأرصفة. هذا عمل مُهم. في عام ٢٠٠٢ قبالة جزيرة لونج آيلاند، بدأت المياه تتدفَّق إلى المركب الشراعي المُتعدِّد الصواري «إرنستينا» عبر شَقٍّ في بدَن المركب وكاد يغرَق، وتفاقم الوضع عندما انسدَّت مِضخَّاته. تُرى مَن الجاني؟ انسكبت رقائق الشوكولاتة من حاويتها وسقطت في جوف المركب. وجهت القبطانة سفينتَها بحسمٍ نحو المياه الضحلة، مُدركةً أن الجنوح المُتعمَّد بالمركب والذي سينجم عنه ارتطام السفينة بقاع البحر قد يكون ضروريًّا لمنع وقوع كارثة مُحقَّقة؛ وتُعَد هذه إحدى الحالات النادرة التي يُعتبر فيها ترك سفينتك تلمس القاع مهارةً ملاحيةً جيدة.

ثمة الكثير من الطعام بلا شك. ففي المُجمِّدات وفي كل خزانة متاحة يُكدَّس ٢٠٠ رطل من الدجاج، و٢٠ علبة من الطماطم المعلَّبة، و٤٠ برطمانًا من المربى. بالإضافة إلى ٥٠٠ قطعة من خبز تورتيلا الذُّرة، و٥٠ كيلو من الزبد، وكمية غير محددة من الآيس كريم. سيتناول هذا الطعام ١٣ فردًا من أفراد الطاقم و٢٤ طالبًا جامعيًّا، معظمهم في الوقت الحالي مُصابون بإعياءٍ ويجاهدون كي يفهموا أي شيءٍ يسمعونه:

«ارفعوا الشراع الرئيسي! أمسكوا بحبل الرفع، قفوا بجوار حِبالكم وأشرعتكم!»

«ألقوا حبل الإنزال وأبقوا أقدامَكم بعيدة عن طرف الحبل!»

«أيقظوا أفراد المناوبة النائمين لتناول طعام الغداء، ولا تنسَوا تحديد وضع المركب لفترة الظهيرة!»

يسارعون للمساعدة في ذهولٍ وحماس، وعلى وجوههم أمارات تدلُّ على حواسِّهم المُثقَلة وطبقات واقي الشمس اللامعة التي وضعوها لتوِّهِم. وحتى في هذه اللحظات المبكرة، يطلُب ضباط المناوبة من الطلاب توجيه الدفة والإبحار، والبقاء مُتيقِّظين، وفحص الآلات، وجميعها مهام بالِغة الأهمية لسلامة السفينة. تلك هي طبيعة سفن التدريب.

تنحسر الأرض خلفنا بسرعة رياحٍ عالية تبلُغ خمس عُقَد. يمكن رؤية مبنًى مكوَّن من ١٠ طوابق من مسافة ١٢ ميلًا تقريبًا في يومٍ صافٍ، وبحلول منتصف وقت العصر تُصبح الفنادق الواقعة على امتداد الشاطئ مجرد نقاطٍ متلألئة في الأفق. وبعد ساعة أخرى تختفي، ليختفي بذلك آخِر المعالم الأرضية التي لن نراها لمدة شهر. إننا نُبحر صوب الجنوب الغربي، مُتجِهين من البرِّ الرئيسي المكسيكي مباشرةً أسفل النتوء في نهاية ولاية باها كاليفورنيا. أول يابسة سنصِل إليها ستكون جزيرة نوكو هِيفا، في مجموعة جُزر الماركيز، وهي جزء ناءٍ بعيد من بولينيزيا الفرنسية، على بُعد ثلاثة آلاف ميل تقريبًا. وفيما بين ذلك، لا شيء سوى الماء. تهبُّ رياح خفيفة من جهة الشمال الغربي، جافَّة وشِبه باردة. السطح السُّفلي للسفينة هادئ، حيث لا يوجَد سوى طنين مراوح التهوية و«أزيز» المِرحاض الذي يُصرف ماؤه من وقتٍ لآخر. قد تُشبه سفينة «روبرت سي سيمانز» طائرة رِحلات كبيرة جدًّا وبطيئة في طريقها إلى وجهةٍ استوائية.

تَخْمُد الرياح الشمالية خلال الستِّ والثلاثين ساعة التالية، وتُصبح المياه منبسطةً كالزئبق. تنعطف طيور جَلَم الماء في أعقابنا، وتكاد أطراف أجنحتِها تلامس سطح الماء كما لو كانت يد راكبِ أمواجٍ ممدودة. إن الطيور التي ترتبط لدى معظم الناس بالمحيط، مثل طيور النَّورس، والخَرشَنة، والبجع، والزَّقزاق، هي في الواقع حيوانات ساحلية. يسكن عالم البحر المفتوح جماعاتٌ حيوية مختلفة، أنواع تقضي حياتها في البحر، ومن المستبعَد أن تُقابلها إلا إذا ذهبتَ بعيدًا عن الشاطئ أو تجرأت على مواجهة جلبة إحدى مُستعمرات التعشيش النائية. هذه هي طيور جَلَم الماء، والنَّوء، والأخبل، وطيور القطرس الضخمة، التي تُشبه النوارس في مظهرها الخارجي حتى اللحظة التي تطير فيها بالقُرب منك وتُدرك أن عرض أجنحتها يبلغ ثمانية أقدام.

بحلول يومِنا الثالث في البحر، يصبح الطقس رطبًا، وسرعان ما يغدو الصباح دافئًا إذ تظهر أكوام طويلة من السُّحب في السماء. تهبُّ ريح الآن من الشرق، متقطعةً في البداية ولكن سرعتها تصِل بحلول وقت العشاء إلى ١٥ عقدة، بقوة أربعة على مقياس بوفورت. سطح البحر عبارة عن فسيفساء من الأمواج المُعتدلة مع ظهور رُقَع من الزبد عشوائيًّا عند قِمَمها. تزداد سرعة السفينة تدريجيًّا، بإيقاع حركةٍ سَلِس، خمس عُقَد ثم ستٍّ ثم سبعٍ. يمكننا أن نرفع المزيد من الأشرعة وننطلق أسرع، لكننا لا نفعل ذلك في هذا الوقت المُبكر. فلا شيء أكثر إثارةً للقلق من أشرعةٍ مفرودة أكثر من اللازم في ليلةٍ ظلماء، بينما لا يزال المُتدربون يتعلَّمون خطواتهم الأولى. ستُرافقنا هذه الريح غدًا، أنا واثق من ذلك.

•••

هنا على حدود المنطقة الاستوائية، انضممنا إلى تيار سَحْبِ مُحركٍ كوكبيٍّ هائل، يدفعنا تدفُّق الحرارة بالقُرب من خط استواء الأرض. إذا كنت قد ذهبت إلى المناطق الاستوائية، فلا شكَّ أنك لاحظت هذه الرياح التي تهبُّ دافئةً من الشرق ونادرًا ما تسكن. تميل أشجار النخيل معًا في الاتجاه نفسه، ويُفضل المُستوطنون الجانبَ الغربي من الجبال، حيث يكون الجوُّ أهدأ والأمطار أقلَّ هطولًا. هذه هي الرياح التجارية، التي جرفت، على مرِّ القرون، أعدادًا كبيرة من البحَّارة عبر خطوط العرض الواسعة؛ فأول يابسة وصل إليها كولومبوس في أمريكا كانت جُزر الباهاما، ليس لأنه كان يبحث عنها تحديدًا، وإنما لأنها كانت هناك، مباشرةً مع اتجاه الرياح التي حملت أسطولَه في موقعٍ وصفَه البحَّارة فيما بعد بأنه «في الجانب المَحمي من الرياح». وإلى أن حلَّ البخار محلَّ الأشرعة، كانت أي رحلةٍ طويلة غربًا تبدأ عادةً بالعبور إلى المناطق الاستوائية، في حزامٍ من النسائم المعتدلة لحمل السفينة بسهولةٍ نحو وجهتها.

تدفئ الأرض غِلافها الجوي من الأسفل مثل مقلاة تطهو فطيرة، فتنبعث منها الحرارة التي امتصَّها الكوكب من ضوء الشمس. الرياح هي نتاج التفاوتات الأساسية في هذه العملية، القصور الراسخ الذي تعمل قوى الطبيعة دون توقُّف على تعويضه. يُصبح الطقس دافئًا في المناطق الاستوائية ويظلُّ كذلك بسبب موقعها شِبه المتعامد على أشعة الشمس. في الواقع، تتعرَّض المناطق الواقعة بين خطَّي عرض ٣٧، لنقل تقريبًا من سان فرانسيسكو إلى أوكلاند، لحرارةٍ زائدة، وتمتصُّ طاقة أكبر مما يُمكنها إطلاقه. يتناقص تعامد المناطق الواقعة على خطوط العرض الأعلى على أشعة الشمس، حيث يُغير المَيل المحوري للأرض مكان الشمس في السماء على مدار العام، مما يؤدي إلى تبايُنٍ كبير بين الفصول. لذلك يُعاني قاطنو نيويورك من فواتير بمبالغ باهظة لكلٍّ من أجهزة التدفئة ومُكيِّفات الهواء، وفي توفير مساحاتِ تخزينٍ كبيرة لكميات الملابس الضخمة التي لا بدَّ أنهم يتركونها مُعلقة دون أن يرتدوها من مارس إلى أكتوبر. ويظلُّ القطبان باردَين غالبًا، حيث تُقلل الزوايا المُنخفضة لوصول الضوء من كثافة الأشعة الواصلة إلى السطح. وذلك عندما تُشرق الشمس أصلًا، وهو ما لا يحدُث في أجزاءٍ كبيرة من شتاء كِلا القطبَين.

تهتزُّ جزيئاتُ الهواء الدافئ بسرعة أكبر، ومن ثَمَّ يشغل حيزًا أكبر. ويُصبح الهواء المُسخَّن أقلَّ كثافةً ويميل إلى الارتفاع، مما يحثُّ على أن يحلَّ محله هواء أبرد وأكثر كثافة. يُعرف هذا الرفع الطافي للهواء الدافئ باسم «الحَمْل الحراري»، ويُسمَّى تدفق الهواء الأبرد الأكثر كثافة إلى الفراغ الناتج ﺑ «التقارُب». يمكنك مشاهدة كلتا الظاهرتَين وأنت مرتاح في منزلك من خلال تجرِبة بسيطة: افتح الباب الأمامي في يومٍ شتوي واشعر باندفاع الهواء البارد إلى داخل المنزل مع ارتفاع الهواء الدافئ العزيز بعيدًا نحو السقف. إذا كان لديك بارومتر حسَّاس ربما يُمكنك أيضًا قياس انخفاضٍ في الضغط مع صعود الهواء الدافئ المُحيط بك. ثم افتح بعض النوافذ ودَع الهواء يندفع منها إلى الداخل في اتجاهاتٍ مُتعدِّدة، لتحصل على تصوُّر تقريبي أوضح لكيفية حدوث ذلك في الغِلاف الجوي، الذي هو مكان غير مُقيَّد بالأبواب والنوافذ.

يمكن للهواء الدافئ أن يحمِل المزيد من بخار الماء؛ لأن عملية التبخُّر تعتمِد اعتمادًا مباشرًا على وجود مصدر للحرارة. ومع ارتفاع درجة حرارة الماء، تتسارع جزيئاته، ويرتدُّ جزءٌ أكبر منه إلى الحالة الغازية. الماء H2O هو أخف غازات الغِلاف الجوي، وهو ما يعني أن الهواء الرطب أقل كثافة — ربما على عكس ما هو مُتوقَّع — من الهواء الجاف في درجة الحرارة نفسها. تُعرف حركة الماء عبر مراحله الثلاث علميًّا ﺑ «دورة الماء»؛ حيث يتبخَّر الماء السائل من المحيط ويُحمَل في هيئته غير المرئية عبر الهواء، حتى يتكثف ويعود إلى السطح في شكلِ مطرٍ أو ثلج. يذوب الثلج ويصبُّ في البحر أو يتحوَّل مباشرةً إلى بخار في عملية تُسمَّى «التسامي».

تنتقِل الطاقة الحرارية حول العالم عبر هذه العمليات مُجتمعة. يُصبح الهواء الرطب الدافئ طافيًا ويرتفع، مُتمددًا كالبالون ويُطلق الحرارة عندما تتكثف حمولته من الماء فتتحوَّل مرةً أخرى من بخارٍ إلى الحالة السائلة. تزداد كثافة الهواء البارد ويهبط، ويتقارب نحو المساحات التي يتركها الهواء الدافئ المُتصاعِد. يتحرك الهواء أفقيًّا عبر تدرُّجاتٍ في الضغط، من الأعلى إلى الأدنى، وهي ظاهرة تُعرف علميًّا باسم «الانتقال الأفقي»، غير أن معظم الناس يظنُّونها رياحًا. إنها عملية دورية، لا تتأثر بمساحة المكان، فهي عملية تستمرُّ ما دام هناك مصدر للطاقة. وعادةً ما ينتج عن الحَمْل الحراري تكوُّن السُّحب الصيفية المُنتفخة. وكذلك تنتج الأعاصير.

في أعماق المناطق الاستوائية، يرتفع على الأرض الهواء الأدفأ والأكثر رطوبة، وتحلُّ محلَّه رياح تتقارَب باستمرار مِن نصفَي الكرة الأرضية المُتعاكسَين. تصطدم الكُتَل الهوائية مثل الصفائح القارية لتُشكِّل ما يُشبه سلسلةً من الجبال في الغِلاف الجوي. هذا هو «نطاق التقارُب بين المدارَين»، وهي سمة يُمكنك اعتبارها خط الاستواء الحراري للكوكب. إنها منطقة ذات ضغطٍ جوي مُنخفض دائمًا، يُمكن رؤيتها من الفضاء على شكل مُحيط مُتقطع وشاهق من السُّحب، المُرتفعة للغاية لدرجة أنه يتعين على الطائرات في بعض الأحيان الطيران عبرها، وليس فوقها. هذا الحزام العظيم يتضاءل ويتناقَص، ويرتحِل بين القارات وينجرف مع الفصول. نطاق التقارُب بين المدارَين هو المكان الذي يتَّسم بهطول الأمطار أكثر من غيره، ويمكنك اقتفاء آثاره على الخرائط من خلال البحث عن المساحات الخضراء الداكنة للغابات الاستوائية المَطيرة. أطلق البحَّارة في البحر قديمًا على هذه المنطقة النشطة والتي لا يمكن التنبؤ بها اسم «منطقة الركود»، لكن هذا الاسم مُضلِّل. فكما سنرى، لا يوجَد على الإطلاق شيءٌ يتَّسم بالركود حقًّا في هذه المنطقة.

يكوِّن الهواءُ السطحي المُتدفِّق نحو نطاق التقارب بين المدارَين الرياحَ التجارية، وتعتمِد قوَّتها من موسمٍ إلى آخر على مدى اختلاف درجات الحرارة بين خطوط العرض. فقد تهبُّ الرياح التجارية لطيفة، أو قد تكون عاصفة، خصوصًا في فصل الشتاء، عندما يكون الهواء القُطبي في أبرد حالاته وتكون تدرُّجات الضغط الناتجة حادة. يتحدث سكان جُزر الكاريبي عن «رياح عيد الميلاد المجيد»، وهي فترة من الإبحار النَّشِط التي يمكن التنبؤ بها، والتي قد تستمرُّ في شهر يناير. هي أيضًا ذروة موسم استئجار اليخوت أثناء العطلات، مما يؤدي بدوره إلى زيادة حركة الاتصالات اللاسلكية حيث يكثر التحدُّث إلى المُصطافين في قواربهم المُستأجرة، للتعامُل مع التحدِّيات الكثيرة التي قد تُواجههم أثناء رحلتهم البحرية ولا يستطيعون التعامُل معها بسبب افتقارهم إلى الخبرة.

غالبًا ما تكون سلاسل الجزر الاستوائية، التي تتكوَّن من القِمم التي تظهر فجأة للبراكين الموجودة تحت سطح البحر، مُتصلةً وكأنها حُبيبات خرز في خيط، وتضربها الرياح التجارية مثل خرطومٍ لإخماد الحرائق مُسلَّط على سياجٍ خشبي، حيث تصِل في بعض الأحيان إلى ضِعف قوَّتها الطبيعية في الفجوات. تشتهر بهذا جُزر الكناري، وكذلك جزر هاواي. كما أن قناة ألينويهاها، الواقعة بين جزيرة ماوي والجزيرة الكبيرة (هاواي)، تشهد بانتظام رياحًا تبلُغ سرعتها ٥٠ عقدة. يمكن أن تجد نفسك تُصارع للبقاء على قيد الحياة رغم كونك في عصر يومٍ مُشمِس مثالي. هذا ما حدث للكابتن كوك في فبراير من عام ١٧٧٩، عندما أبحر بعيدًا بعدما استمتع بشهرٍ من الضيافة الكريمة من السكان المحليين. لم يكن يومًا هادئًا، وعندما بدأت سفنه تتكبَّد أضرارًا جسيمة بسبب قوى الطبيعة الساحقة، تراجع كوك بحثًا عن ملاذٍ في خليج كِيالاكيكُوا، بالقُرب من مقاطعة كونا الحالية. لم تسِرِ الأمور على ما يُرام. ولم يكن أمام القبطان وجماعته البائسة سوى العودة إلى سُكان هاواي، الذين لم تُسعِدهم هذه العودة؛ فقد أقاموا لدَيهم لفترةٍ طويلة وما إن غادروهم حتى عادوا إليهم مجددًا. وسرعان ما ساءت الأمور، وفي غضون يومٍ واحد قُتِلَ كوك وأربعة من البحارة معه، وذلك في مناوشةٍ من أجل قاربٍ طويل مسروق.

فهم البحارة في الفترة التي سبقت زمن كوك أن الرياح التجارية كانت مدفوعةً بالحَمل الحراري، لكنهم لم يفهموا يقينًا سبب قدومِها من الشرق. لماذا لا تأتي من الشمال ببساطة، من القُطبَين نحو خطِّ الاستواء مباشرةً؟ يعود الفضل إلى المحامي والعالِم الإنجليزي جورج هادلي في تقديم أول تفسيرٍ صحيح، كان نسخةً مبكرة لما أصبح يُعرَف في النهاية باسم «تأثير كوريوليس». افترض هادلي أن دوران الأرض أعطى انحرافًا واضحًا لحركات الهواء عند قياسها من الأرض، بحيث عندما تتقارَب الرياح في المناطق الاستوائية، تنحرِف إلى تدفُّقٍ شرقي، على الأقل من منظور المُبحِرين بالسفن. كان هادلي مُحِقًّا. ذلك أن تأثير كوريوليس ينطبق على أي شيءٍ يتحرك بحُرية فوق سطح الأرض، ويرجع ذلك إلى حقيقة أن للأرض نفسها إطارًا مَرجعيًّا دورانيًّا. بفضل مبدأ الزخم الزاوي، تتحرَّك أي نقطةٍ بالقُرب من خط الاستواء فِعليًّا مسافةً أبعد وبسرعة أعلى، في كل لحظة، من تلك التي تكون أبعد إلى الشمال أو الجنوب. يُحفَظ هذا الزخم بحيث تتَّخذ الأشياء التي تنتقِل في الغِلاف الجوي ما يبدو للراصِد على السطح مسارًا مُنحنيًا، ينحني إلى اليمين في نصف الكرة الشمالي وإلى اليسار في جنوبه. هناك مقطع فيديو توضيحي شائع لهذه الظاهرة، حيث يُظهِر منظرًا من أعلى لطفلَين يرمِيان كرةً ذَهابًا وإيابًا على لعبة الدوَّامَة (لعبة أطفال مكوَّنة من منصة دائرية دوَّارة بمقاعد). بالنسبة إليهما، تتحرك الكرة في خطٍّ مُستقيم، بينما يَظهر مسارُها من الأعلى مُنحنيًا جدًّا، وهو مسار يتمنَّى أي لاعب بيسبول لو يبيع نصف عمرِه مقابل أن تتَّخذَ كرته التي يقذفها مثل ذلك المسار. لن يؤثر تأثير كوريوليس على إرسالك في لعبة التنس، ولكنه ينطبق على المقذوفات الصاروخية، وهو عامل رئيسي في دوران الرياح على مستوى العالم. بغضِّ النظر عما سمعتَه، لا تتأثر تجهيزاتُ الحمَّاماتِ بهذه الظاهرة. لقد زرتُ نيوزيلندا وشاهدتُ مياه المراحيض تدور في الاتجاه نفسه الذي تدور فيه في بلادي.

سوف تكون الرياح التجارية هي المحرك لسفينتنا في الشهر التالي، إذ تهبُّ كالنَّفَس الثابت من فوق كتفك الأيمن وأنت تقف إلى عجلة التوجيه. ثمة شعور بانعدام الوزن عند الإبحار بهذه الطريقة، شعور يُذكِّر المرء بالطائرات الشراعية المُنزلقة أو بالونات الهواء الساخن. تلفُّ الأمواج من مؤخرة السفينة وتمرُّ بنا بسلاسة. إن تجربتنا في هذا الأمر أفضل بكثيرٍ حتى الآن مما كانت عليه تجرِبة الكابتن كوك. سيهبُّ نسيم بقوة ٢٠ عقدة بوتيرة مُنتظمة عبر المحيط المفتوح، مكوِّنًا في النهاية أمواجًا بارتفاع عشرة أقدام، وهذا الارتفاع ليس بالأمر الهيِّن في الملاحة، غير أن الأمواج حتى الآن تأخُذ نمطًا مُنتظمًا ويمكن التنبؤ بها لأن الرياح تهبُّ بانتظامٍ يومًا بعد يوم من الاتجاه نفسه بالضبط. فَكِّر في الأمر على أنه أشبَهُ بالكثبان الرملية منه بمنحدرات التزلُّج المُتعرِّجة على الجليد. تنزلق الأسماك الطائرة من أعلى قِمَم الأمواج، وتلمِس بذيولها المياه قبل أن ترتدَّ عاليًا لمسافاتٍ لا يمكن توقُّعها. وتنجذِب تلك الأسماك إلى الضوء، فتطير على متن السفينة بعد حلول الظلام، وتضرب بأجسادها سطح السفينة وكأنها حشراتُ زيزياتٍ كبيرة جنحت إلى الشاطئ. يمكنك طلب تلك الأسماك لطعام الغداء في بربادوس؛ فمَذاقها ليس سيِّئًا على الإطلاق.

•••

نُقسَّم اليوم على متن السفن إلى مناوبات، مثل الورديات في المصنع، ولكنها مُنفصلة عن أي جزءٍ آخر من التقويم التقليدي. تتناوب ثلاث فرق، إلى ما لا نهاية، على الاضطلاع بجميع الأعمال المطلوبة: الملاحة، والتعامُل مع الشراع، وتشغيل المُختبر، وإعداد وجبات الطعام، والعناية بالآلات. تَقطَع هذه الفترات الطويلة من العمل الروتيني دفقاتٌ من النشاط، بعضها مُخطَّط له والبعض الآخر ردُّ فعلٍ مع حدثٍ ما حال وقوعِه. تضم كلُّ فرقةِ مناوبةٍ على متن السفينة «روبرت سي سيمانز» ثمانية مُتدرِّبين وضابطًا وعالمًا، حيث يُمثلون جزءًا من مستعمرةٍ بشرية أكبر يتناوب عليها أفراد جُدد بين الحين والآخر. ستُّ ساعاتٍ من العمل و١٢ ساعة راحة. الدقائق تتحرك ببطءٍ شديد، بينما تمرُّ الأيام في لمح البصر. فوق سريري يقع السَّطح الرُّبعيُّ للسفينة، حيث توجد الدفة والبوصلة ومعظم أعمال المناوبة الروتينية. أسمع من خلال الكُوَّة لمحاتٍ عشوائيةً مختلَسة من المحادثات، بعضها مفيد جدًّا:

«هل اليوم هو الأحد؟»

«ليس لديَّ أدنى فكرة. ماذا سنأكل في الغداء؟»

•••

يجمع علماءُ المُحيطات العينات باستخدام الأدوات التي تُرسَل إلى سطح السفينة عبر الحبال ذات الرايات وأسلاك الرافعات الطويلة. يتعيَّن على سفينتنا أن تتوقَّف وتسكُن من أجل هذه الإجراءات، ويناقش الضابط هذا الأمر مع فريقه، المكوَّن من مجموعة شبابٍ في عمر التاسعة عشرة وجدوا أنفسهم فجأةً يُبحرون بسفينةٍ عالية الصواري إلى بولينيزيا. السفينة «روبرت سي سيمانز» مُجهَّزة كسفينة شراعية بصارِيَين، وهو تصميم قديم ذي أشرعةٍ طولية مُثلثة كبيرة للإبحار في مواجهة الرياح، وصفوف مُتراصَّة من الأشرعة المُربعة للإبحار مع النسيم القادم من مؤخرة السفينة، كما هو الحال الآن. تشرع المناوبة في المُهمة المُعقَّدة والشاقَّة المُتمثلة في الاستدارة بالسفينة في الاتجاه المعاكس. هناك أربطة للسَّحْب، حِبال تمتدُّ عاليًا لتدوير الشواخص الأفقية الطويلة المعروفة باسم العوارض. حبال سَحْب وحبال كِظامات (الكِظامة هي حلقة معدِنية في الزاوية السُّفلية الخلفية للشراع) لتقصير شراعنا العلوي، أصبحت الآن عائقًا مع إبحار السفينة في اتجاه الريح. حبال التحكُّم في الأشرعة، وحبال أركان الأشرعة، وحبال طيِّ الأشرعة، وأَزِمَّة الأشرعة. تَصدُر الأوامر إلى قائد الدفة لتغيير الاتجاه. تستمرُّ الخطوات الشبيهة بتصميم رقصات مُعقدة، حيث تعمل فرقة مِن المبتدئين وَفقًا للإيقاع الهادئ لتعليمات الخبراء. بعد خمس دقائق توقفت السفينة، طافيةً بسلاسةٍ فوق الأمواج وكأنها بطة. وتتحوَّل مجموعة من الحبال الملفوفة بدقَّة إلى ما يُشبه مصنعًا للمكرونة.

يشرف مساعِد الربان جيريمي لو على استعادة النظام، وهو مثال للكفاءة المُتَّسمة بالهدوء. أثناء خدمته في حرس السواحل، كان ضابطًا أول على متن سفينة الدورية «إيجل»، وهي واحدة من خمس سفن شراعية أطلقَتْها ألمانيا النازية كسفن تدريب، وتنازلت عنها لقوات الحلفاء بعد الحرب. تُعَدُّ سفينة «إيجل» تحفةً فنية في بناء السفن، فقد بُنِيَت في بقعةٍ من العالم وصلت فيها حرفة الإبحار إلى ذروتها، ولا يزال يمكن رؤية الإتقان الحقيقي في صنعتها. في التجمُّعات والمؤتمرات الخاصة بالسفن، أقابل أحفاد الحضارة الأوروبية الذين ورثوا هذا التميُّز في مجالَي الإبحار وبناء السفن من أجدادهم؛ الألمان بفظاظتهم المعروفة، والدنماركيين ذوي المعرفة، والهولنديين طوال القامة الذين يُمكنهم أن يبدوا كالقراصنة وعارضي الأزياء في آنٍ واحد. يجلس هؤلاء مُنعزلين عن الآخرين بتعالٍ نابع من خِبرتهم، ويخرجون في مجموعاتٍ للتدخين، ثم يعودون لينخرطوا في عداءٍ ساخر مع البحارة الآخرين الذين لا يتوقَّعون هذا العداء:

«لماذا أعددتَ الأمر هكذا؟ تعلَّم أنها ليست بالطريقة الصحيحة، بالطبع.»

«حسنًا، أجل، لا ضرَر في فعل ذلك إذا كنتَ تعرف جيدًا ما تفعله.»

«كيب هورن؟ بالطبع، ذهبنا إلى هناك العام الماضي وسنذهب مجددًا العام المقبل.»

•••

في برودة المساء يحتشد الناس على سطح السفينة لمشاهدة النجوم وهي تخرج من الشفَق، فيما يُشبه، لأول وهلة، ثقوب إبَر صغيرة، ثم سربًا بأعدادٍ لا تُحصى. تميل السماء باستمرار ليلةً بعد أخرى، لتكشف عن أجزاءٍ جديدة منها مع تغيُّر خطِّ عرض إبحارنا الذي يدفع الكوكبات النجمية القديمة تحت الأفق ويرفع أخرى جديدة عاليًا. وسرعان ما تُباغتنا لمحةٌ أولى ساحرة على كوكبة صليب الجنوب، حيث يُشير شكلها الرُّباعي المُميز إلى الأجزاء الواقعة على الجهة المقابلة من الكرة الأرضية، مباشرةً أسفل ظلِّ كوكبة الغراب. يهبط نجم الشمال أكثر، مُشكِّلًا نقطةً محورية ثابتة في السماء حتى اليوم الذي نصِل فيه إلى خطِّ الاستواء، حيث يغطس في الأفق ويختفي. في نصف الكرة الشمالي، سيُشكِّل نجم الشمال (بولاريس) دائمًا زاويةً مع الأفق مساويةً لخط العرض الذي تُوجَد أنت فيه، وهي هندسة كونية كشفها لي لأول مرةٍ عبر مخططاتٍ سحرية أستاذٌ في عِلم الفلك، وهو يرسُم على السبورة بسرعة صاروخية وسط سحابةٍ من غبار الطباشير. كان ذا شَعرٍ بُنيٍّ أشعث وسوالف مثل سوالف المُغنِّي فان موريسون، تلك السوالف التي حاولنا جميعًا أن نحظى بها ولكننا بالطبع لم نتمكَّن من ذلك.

من بين الأجرام الثلاثة آلاف التي يمكن رؤيتها في ليلةٍ صافية يوجَد ٥٧ نجمًا ملاحيًّا، رسمَ حركاتِها سلسلةٌ من علماء الفلك الإغريق والمصريين القدماء. فمِن الواضح أن أسماءها — النَّيِّر، والفكَّة، ومَنكِب الجوزاء، والعَيُّوق — لا تدلُّ على انتمائها إلى عصرنا الحاضر. في غرفة الخرائط، يرسم نظام تحديد المواقع (جي بي إس) مسارنا بصُورٍ واضحة لا يتعدى هامش الخطأ فيها بضعة أمتار، ولكن تظلُّ المهارة القديمة المُتمثلة في الملاحة السماوية جزءًا إلزاميًّا مما يجِب على البحَّارة معرفته. يعرف البحَّارة السماءَ عن ظهر قلب، ويحفظون الأقواس التي تكوِّنها الأجرام السماوية المُفيدة لهم. فيعرفون مثلًا كوكبة الدب الأكبر من نجم القائد الذي يُميزها عند طرفها. ويتتبَّعون الذيل المُنحني في نهاية الكوكبة، وعبر المساحة المفتوحة، إلى نجم السِّمَاك الرامح، في كوكبة العَوَّاء. ويواصِلون التتبُّع إلى نجم السِّمَاك الأعزل في كوكبة العذراء. في مكانٍ ما جنوب خط الاستواء عند خطوط الطول الفارغة يصبح من الممكن رؤية ما وراء كوكبة العذراء على هيئة سلسلةٍ من النقاط المشوشة، فيما يُعرف بسحابتَي ماجلان، وهما في الواقع ليستا سحابتَين على الإطلاق، بل تجمعان نجميَّان كثيفان كثافةً تفوق التصوُّر، ومَجرَّات قزمة منفصلة عن مَجرتنا. يا له من شيءٍ يُحير العقل!

•••

على ورقة مطبوعة على طاولة الخرائط توجَد «الأوامر المستديمة»، وهي تعليمات ثابتة يجِب أن يلتزِم بها أفرادُ المناوبة في كل سفينةٍ مُبحِرة. وهي تختلِف قليلًا من سفينة إلى أخرى، ولكنها تشترك في سمةٍ عامة واضحة، وهي الميل الشديد إلى الاتصال بالقبطان وإطلاعه على الأمور أولًا بأول؛ إذ يجب إخطار القبطان في حالة تغير الطقس، أو سوء الرؤية، أو تدهور حالة البحر. يجب أن يظلَّ البحَّار بعيدًا عن جميع السفن الأخرى بمسافة مُعينة، وأن يواصل مراقبته الدقيقة للأوضاع باستخدام الرادار على جميع «الأهداف»، وهو المُصطلح المناسب في الملاحة، وإن كان متناقضًا، للأشياء التي يحاول البحَّار عدم الاصطدام بها. يتعيَّن على ضابط المناوبة بالطبع الاتصال بالقبطان وإبلاغه إذا شكَّ في أي شيء، وإذا كان لا يدري يقينًا إن كان الأمر يستدعي الشكَّ حقًّا، فعدم تيقُّنه هذا كفيلٌ في حدِّ ذاته أن يُوجِب عليه الاتصال بالقبطان وإبلاغه.

يقيس الرادار مدى الأجسام البعيدة واتجاهها باستخدام نبضةٍ من الموجات الدقيقة المُرسَلة من هوائي دوَّار يتتبَّع توقيت أصدائها. إذا ظلَّ الهدف على الاتجاه نفسه بينما قلَّ مداه، فسوف يصطدم بالسفينة في النهاية. هذا هو قانون الحركة النسبية، والذي يتَّضح جليًّا في حياتنا اليومية من خلال سلوك المَركبات عند التقائها على الطرُق السريعة. تخيل أن شخصًا ما مُقبِل بسيارته صعودًا على مُنحدَر إلى يمينك، ويرفض الإبطاء من سرعته، ويزداد حجم مَركبته في النافذة حتى تلمس فجأة مقابض باب مَركبتك. هذا هو الاصطدام. لقد أصبح رادار السفن متطورًا جدًّا في قُدرته على تتبُّع السفن الأخرى، مما يوفر رسوماتٍ مفيدة وبياناتٍ تفصيلية حول مدى اقترابها وتوقيته. على الرغم من ذلك، لا تزال السفن عُرضةً للتصادم طوال الوقت، لأسبابٍ تُشبه أسباب اصطدام المَركبات على الطرق السريعة؛ كأن يكون أحد الأشخاص شاردَ الذهن، أو يسير بسرعةٍ كبيرة، أو يُركز على مساره ولا يُفسح الطريق للآخرين. المُحيط شاسع والسفن قليلة، ولكن يحدُث بطريقة ما أن تكون غالبًا أولُ سفينة تُصادفها بعد ساعاتٍ من العزلة، غالبًا في مسارٍ تصادُمي، أو يكاد يكون كذلك.

على الرغم من كل المعجزات التي يُحققها الرادار، قد يفشل في الكشف عن كلِّ شيءٍ يمكن رؤيته في مُحيطك، ربما شيء ما في هيئة سفينةٍ أخرى يكشف عن نواياها، أو وجود قارب صغير في مكانٍ بعيد ومُنعزل، ولا يمكن رؤيته إلا بفضل وميضِ اليراعات المُتجمِّعة حول ضوء قمَّة صاريه الصغير. ومن هنا تأتي الحاجة المستمرة لدى جميع السفن، المُتمثلة في الحفاظ على أقدم عنصر في الملاحة البحرية الجيدة، ألا وهو عنصر المراقبة البشرية؛ يؤدي المراقب عملَه وهو يشعر بالبرد والملَل والجوع، ولا يمكن أن يُطلَب منه مهام مُتعددة، ولا أن يُشتَّت انتباهه بأي طريقةٍ كانت. شخص يقف وسط الأجواء الصعبة ويُولِي انتباهه إلى بيئة رتيبة تنطوي — في معظم الوقت — على لا شيء. ذات مرة منذ سنواتٍ عديدة، رأى مُراقبنا قاربَ صيدٍ صغيرًا غير مضيء من طراز بانجا، في وقتٍ متأخر من إحدى الليالي وسط المياه الضحلة قُبالة هندوراس. فجأة صِرنا قريبين منهم للغاية حتى إننا رأينا ظلال رءوسهم في القارب، وبفضل مُراقبنا تمكَّنا من تغيير مسارنا بسرعة لتفاديهم، وبفضله أيضًا قد يكون أفراد طاقم الصيد لا يزالون على قيد الحياة في مكانٍ ما. في مراتٍ أخرى، كان هناك مُراقبون أقل حظًّا، أولئك الذين لاقَوا عواقب مأساوية أو تعرَّضوا للمساءلة وَفقًا للمنطق الذي لا يقبل الجدل: إذا حدث اصطدام بشيءٍ ما، فأنتَ كمُراقِب لم تؤدِّ مُهمتك في المراقبة كما يجِب. يقول المحامون: «الحال يُغني عن البيان». وفي هذه الحالات واقع الحال وهو حدوث الاصطدام يُغني عن إثبات البيان وهو الإهمال.

في أحد دفاتر الملاحظات بالقُرب من الأوامر المستديمة توجَد «الأوامر الليلية»، وهي عبارة عن مجموعةٍ مُتجددة من التعليمات يمكن لمعظم أفراد الطاقم — بمن فيهم القبطان — الرجوع إليها عندما يرقدون بسلامٍ في أسِرَّتهم. تُمثِّل الأوامر الليلية في معظمها أمرًا روتينيًّا، وستبدو لك مألوفة إذا كنتَ قد أقمت في وقتٍ من الأوقات مع شخص شديد التنظيم. ربما أكتب فيها: «وجِّه الدفة إلى اتجاه ٢٣٠ درجة. وأبلِغني إذا تغيَّر اتجاه الريح واستشِر أفرادَ المختبر بشأن سحْب الشِّباك عند منتصف الليل. يتعيَّن على مناوبة الفجر التخطيط لأخذ قياسات الزوايا بين النجوم، وعليك أن تستدعِيَني إذا كنتَ بحاجةٍ إلى المساعدة أثناء حدوث ذلك. طلبَ منَّا الطباخ عدم فتح المُجمِّد الليلة، وأوصى بأن كعكات البراونيز ستكون متاحةً للوجبات الخفيفة المتأخِّرة. لا تأكل أكثر من اثنتَين منها.»

توجَد فوق سريري فتحةٌ يمكن من خلالها رؤية مناظر مُتغيرة للسماء والمياه عندما تتحرك السفينة مع اتجاه الرياح، فيما يُشبه إلى حدٍّ كبير ما يراه المرء في زجاج الباب الأمامي لغسَّالة ملابس. زادت حركة السفينة إلى الدرجة التي لم يعُد من الممكن أن تظلَّ معها الأشياء ساكنة، فيبدأ صحن متروك على طاولة المقصورة في عبور سطحها ببطءٍ بقوة الدفع الذاتي. أمدُّ يدي لإيقافه، ورُكبتي مثبتة أسفل سطح المكتب لمنع كرسيِّي من الانزلاق. في مقصورتي، لا تزال هناك أعمال ورقية يتعيَّن إنجازها؛ مجموعة مُتشابكة من الإيصالات المُكوَّمة التي تُرِكَت على مكتبي الصغير من عمليات الشراء العشوائية التي استمرَّت لمدة أسبوع في بويرتو فالارتا. أتصوَّر أننا حتى إذا استعمرنا المريخ، فسيظلُّ هذا الروتين المكتبي ملازمًا لنا.

بعد أربعة أيام في البحر، كانت مهمة بدء الرحلة قد انتهت تقريبًا بكلِّ تفاصليها المُرهقة. تُذكِّر أجواءُ السفينة المرءَ بذلك الإحساس الذي يشعر به عندما يهمُّ بارتداء رداءٍ خارجي واقٍ سبقَ أن ارتداه كثيرًا؛ إذ يظلُّ ارتداؤه مملًّا ومزعجًا رغم كونه مألوفًا. يستغرق الأمر، منِّي أنا على الأقل، ذلك الوقت الطويل دائمًا. مغادرة الوطن التي تُشعِرني بالتوتر، ومسارُ الرحلة الضبابي، والوصولُ المفاجئ إلى مكان عملٍ مشحون بتوقُّعاتِ أنْ يُظهِر الموجودون فيه كفاءتهم. التفاصيل اللانهائية والشعور المفاجئ بالتقيُّد بروتين العمل على متن السفينة. الاضطرار إلى تناول المكرونة والجبن في وجبة العشاء بينما أنت، في الواقع، لا تُطيقها البتَّة. يسألني أصدقائي: ألا يستطيع القبطان أن يطلُب الوجبة التي يُفضلها؟ ربما، ولكن ليس بما يتعارَض مع روح التآلف والمشاركة بين أفراد الطاقم ولو بأقلِّ قدْر. من الأفضل أن يحتفظ القبطان بامتيازه لأمرٍ أكثر استحقاقًا، أيًّا ما كان. كانت تجرِبة «الذَّهاب إلى العمل» العبثيةُ هذه أكثر إزعاجًا لي عندما كنتُ أصغرَّ سنًّا، وظننتُ أنني أنا وحدي مَن يُعاني من هذا الشعور. ثم جاءتني الصحوة عرَضًا عبر ملاحظةٍ أبداها مُدرب مُخضرم انضمَّ إلى السفينة ليحلَّ محلي. كان عائدًا لتوِّه من المطار، وجلس مشوَّش الذهن بسبب الاضطراب الناتج عن فارق التوقيت بعد الرحلات الجوية الطويلة، على طاولةٍ مليئة بالأشخاص الثرثارين الذين يُسارعون لأداء مَهامِّهم في الفريق بسعادة وعلى درايةٍ تامة بها، ووضع شوكته جانبًا.

ثم قال: «جميعنا يكرَه هذا الجانب.»

•••

مهمَّتنا الرئيسية التالية هي تحديد الخيار الذي له الأولوية في سلسلة الخيارات المُتعلقة بالمسار الذي سنتَّخذه إلى وجهتنا البعيدة. أقصرُ مسارٍ بين نقطتَين على جسمٍ كروي هو «مسار الدائرة العظمى»، وهو قوس على طول حافة قُرص تخيُّلي يُنَصِّف الكرة الأرضية، حيث يكون موقعك ووجهتك على محيطه. كل دقيقة قوسية على الدائرة العُظمى تساوي ميلًا بحريًّا واحدًا بالضبط؛ ١/٢١٦٠٠ من محيط الكرة الأرضية. هذه هي الطريقة التي قد تُخطط بها سفينة حاوياتٍ أو طائرة لرحلة مثل رحلتنا. الأميال الأقل تعني وقتًا أقل وتكلفةَ وقودٍ أقل. غير أن الحسابات تختلف في حالة السفن الشراعية. فلا أهمية كبيرة لعدد الأميال عندما يكون على البحَّارة التفكير في الاتجاه الذي قد تهبُّ فيه الريح.

أنظرُ مع كبيرة العلماء في خرائط الطقس، حيث تُعرَض صور ضبابية طبق الأصل باللونَين الأبيض والأسود للمُحيط الهادئ مأخوذة على مستوى سطح البحر. من هذا المنظور، يظهر الكوكب كلُّه عبارة عن مياه، ولا توجَد صورة أخرى تُبين الكثير من نظرة واحدة عن جميع الأنماط التي يتحرك بها الهواء. يتمدَّد الهواء الصاعد في نطاق التقارُب بين المدارَين، ويَبرُد، ويُكوِّن سحبًا من الحرارة والماء. ومن الأعلى فوق خطِّ الاستواء يتدفَّق عائدًا في الاتجاه المعاكس، نحو القطبَين، حيث يُعانق الهواءُ الكثيف السطحَ ويكون الضغط أقلَّ في الأعلى. سرعان ما يبدأ الهواء المُنتقِل في الانخفاض، في شلَّال صغيرٍ جاف من السماء ليستقر عند خط عرض ٣٠ درجة تقريبًا، أي عند ثُلث المسافة إلى القطب. يمكن تتبُّع هذه العملية على خريطتنا عبر هذه العلامة الواضحة لمُرتفع شمال المحيط الهادئ، المُمتد من المكسيك إلى هاواي. وهو عمود بحجم مُحيط من الهواء المُنخفض، ويشهد هبوبَ رياحٍ في اتجاه عقارب الساعة عند حَدِّه الخارجي. تُرسَم تدرُّجات الضغط السطحي على الخريطة بواسطة «أيسوبارات» — خطوط تساوي الضغط الجوي — بمسافة بينيَّة أربعة ملِّيبارات. وكما هو الحال في خريطة طبوغرافية لأحد المُتنزَّهات، يعني المنحدرُ الأكثر انحدارًا مسافةً أقرب بين الخطوط، وبالتبعية المزيدَ من الرياح. يوجَد مثيل معكوس لمرتفع شمال المحيط الهادئ عبر خط الاستواء إلى الجنوب، في النصف الآخر من الكرة الأرضية، تنتج عنه رياح في عكس اتجاه عقارب الساعة عند حَدِّه الخارجي. ويوجَد بين الاثنَين حزام الرياح التجارية ونطاق التقارب بين المدارَين نفسه، اللذَين يُرسَمان في صورة زوج غير واضح من الخطوط المتعرِّجة.

هذا الدوران صعودًا وهبوطًا بين المناطق الاستوائية وخطوط العرض الوسطى يُشكِّل حلقةً جوية تُسمَّى «خلية هادلي»، وهي نمط شِبه دائم للطقس عند خط منتصف الأرض. أما أنماط الأماكن الأخرى فهي أقلُّ انتظامًا، غير أنه لا يزال لها سِماتها المميزة. ينحرف الهواء المنجرف نحو القطب من خطوط العرض الوسطى إلى نطاقٍ من الرياح الغربية المُتنقِّلة يقع بين خطَّي عرض ٣٥ درجة و٥٠ درجة. يزداد هواء القطب الشمالي كثافةً ويهبط للأسفل. يندفع جنوبًا ويُصبح رياحًا شرقية. وتنشأ حدود حادة، فيما يُعرف ﺑ «الجبهة القطبية»، بين الرياح الغربية الأدفأ والتيار القطبي البارد، مُسبِّبةً دواماتٍ مُضطربة تصبح عواصف في المناطق المعتدلة. هنا في الخريف الشمالي يقع نطاق التقارب بين المدارَين بالقُرب من خط عرض ٩ درجات شمالًا، وهو ما يزال أعلى بكثير من خط الاستواء الفعلي. ستؤثر الطريقة التي نختار بها تجاوزه على تقدُّمنا في رحلتنا بعد ذلك. تبدأ معظم السفن بالبحث عن مَنفذ في خطِّ الحَمل الحراري، وهو ما يُشبه الممرَّ الجبلي الذي سيضمن إبحارًا مُستقرًا بأقلِّ قدْر من التعطيل. في حالتنا هذه، نودُّ أيضًا تجنُّب العبور إلى الشرق أكثر من اللازم، حيث يؤدي الربع الأعلى من مرتفع جنوب المحيط الهادئ إلى تحويل الرياح في اتجاهٍ معاكس لنا. وعلى ضوء الاسم الكامل لسفينتنا «سفينة الأبحاث روبرت سي سيمانز»، فإن لدَينا اهتمامًا خاصًّا بالمياه نفسها، واهتمامًا أكبر ببعض أجزائها عن أجزاء أخرى.

من الأمور الجديرة بملاحظةٍ خاصة في هذه الرحلة «اللسان البارد»، وهي بحيرة مؤقتة وسط المُحيط تجلبها إلى السطح التياراتُ القريبة من بيرو. في سنوات الرياح التجارية النشطة، تنتشِر هذه الظاهرة بعيدًا عن الشاطئ، وينتج عنها شذوذ هائل في درجات الحرارة في المناطق الاستوائية الدافئة في العادة. تُغذي العناصر الغذائية التي يجلبها اللسان البارد كميةً هائلة من الكائنات الحية، مما يدعم شبكاتٍ غذائيةً كاملة والأنظمة الاقتصادية المُستفيدة منها، وتشمل هذه الكائنات: الكريل والبَلَم والحبَّار والتونة في كلٍّ من بيرو وتشيلي وبنما والإكوادور.

تعقِص كبيرةُ العلماء شعرَها إلى الخلف وتنحني لإلقاء نظرةٍ فاحصة. ربما تكون الدكتورة كارا لافندر هي أذكى شخصٍ أعرفه معرفةً وثيقة، وهي عالِمة مُحيطاتٍ فيزيائية، وينصبُّ اهتمامها على دراسة المحيط نفسه أكثر من عالَم الأحياء المائية، والمحيط هنا يُعَدُّ بمثابة نظيرٍ سائل للغِلاف الجوي غنيٍّ بالعمليات الحيوية من تبادلاتٍ هائلة في الطاقة والمركَّبات الذائبة. لا يُشبع شهية كارا للمُعطيات الأولية بضعةُ كائناتٍ تسبح هائمة في المحيط. بل وحدَها المعادلات الرياضية هي ما يرضيها.

يتَّسم طقس وجهتنا بالنشاط والزخم. تمتدُّ تياراتُ المحيط المُتجهة غربًا على جانبَي نطاق التقارُب بين المدارَين، مدفوعةً بالرياح التجارية في كِلا نصفَي الكرة الأرضية. وبالقُرب من محور التقارب، يُعيد تيارٌ معاكس الماءَ شرقًا، كما يشهد اللسان البارد هذا العام نشاطًا كبيرًا؛ إذ يمكن رؤية نمط دوَّاماته الشبيهة بسنون المنشار في صور الأقمار الصناعية بالأشعة تحت الحمراء التي أنزلناها على أجهزة الكمبيوتر قبل مُغادرتنا إلى وجهتنا. الأمر أشبَه بسمفونية من الديناميكا الحرارية تُعزَف في المُحيط. أَنْظُرُ إلى الخرائط وأحاولُ أن أتخيَّل السطح كما سنراه، ذلك المزيج بين الدفء والبرودة، وأكوام السُّحب، والطيور البحرية التي تدور حولها، في إشارةٍ إلى اقترابنا من مكانٍ فيه حياة. تُشير كارا بقلمِها الرصاص.

وتقول: «ذاك مكانٌ مُثيرٌ للاهتمام. أنا على يقين من أننا سنجد أشياء يَسرُّنا النظرُ إليها هناك.»

وغمغمتُ: «إمم.»

فأنا فاشِل في إخفاء لامُبالاتي.

سألتني: «هل هو بعيد أكثر من اللازم ناحية الشرق؟»

فأجبتُها: «أبعدُ ممَّا أودُّ أن أذهب. قد تهبُّ الرياح من جهة الجنوب بما لا يتناسَب بعض الشيء مع قُدرتنا على الإبحار في تلك المنطقة، إلا أن الإبحار هناك ليس بالأمر المُستحيل.»

في سفن الأبحاث يتشارك القبطان وكبير العلماء الأهدافَ حول المكان الذي تذهب إليه السفينة؛ تتوافق تلك الأهداف أحيانًا، وتتعارَض في أحيان أخرى. وتدور بينهما مفاوضات. بَيْدَ أنه من غير المألوف أن تشهد على متن السفن التدريبية مثل هذه السفينة خِلافًا جوهريًّا، ولكن قد تُصبح الوظائف في المستويات العُليا على المحك. ذلك حيث تتدخَّل في الأمر عوامل مثل الاعتزاز بالنفس، والسعي للحصول على أموال المِنَح، والضغوط الناتجة عن قلَّة الفُرَص المتاحة في بيئةٍ دائمة التغيُّر. يُعاني علم المحيطات نقصًا في البيانات، ويعوِّل كثيرًا على تلك اللحظات العابرة التي تكون فيها سفينة في البحر في المكان المناسب ومُجهَّزة بالأدوات المناسبة. خلال مَسيرتي خُضتُ بعضَ النقاشات المُحتدِمة، ولكن نادرًا ما كانت هذه النقاشات تصِل إلى مرحلة الخلاف الحقيقي. فمن وجهة نظري، العَلاقة بين القبطان وكبير العلماء هي في جوهرها عَلاقة إثراء وتطوُّر. كم هو مُمتع أن يؤنس القبطان وحدتَه التي تفرضها عليه طبيعة عملِه بالتفاعُل عن قُرب مع عقلية متميزة، يعمل صاحبها بجدٍّ على حلِّ مشكلاتٍ مُشوِّقة، إن لم تكن ملاحية بحتة. ففي نهاية المطاف، كان فيتزروي برفقة داروين. وجيمس كوك برفقة جوزيف بانكس، والكابتن جاك أوبري برفقة دكتور ماتورين.

لا يتَّفق الجميع مع هذا الرأي. ذات مرة، عندما كنتُ آخُذ أحد الزملاء من منشأة أخرى في جولة، انتهَينا بتناول القهوة في مقصورتي.

«وسرير مَن ذلك الذي هناك؟»

«كبير العلماء.»

«أنت تمزح. هل يتقاسم القبطان مع كبير العلماء المقصورة نفسها؟»

«هذا صحيح.»

«ولكن … ذلك يعني أن عليكما أن تتبادلا أطراف الحديث.»

•••

صباح يوم السابع من ديسمبر، أصبحَتِ الرياح التجارية متقطعة، وتحوَّلت السماء إلى اللون الرمادي. مع اقتراب وقت الظهيرة، نشهد هطولًا غزيرًا للأمطار مع القليل من الرياح، وبحلول المساء نمرُّ بأعمدة السُّحُب الكبيرة المُقبَّبة، التي يُضيء الشفق جوانبها. لا تزال الرياح شرقيةً ولكنها خفيفة جدًّا، ولِما تبقَّى أمامنا من أميال عديدة نُشغِّل المحرك، مُدرِكين تمامًا إحدى الميزات التي لم تكن لدى أسلافنا من البحَّارة. بغياب الرياح، نجد أنفُسنا نتأرجح فوق تموُّج عالٍ تجلبه من الشمال عاصفة بعيدة، الأمر الذي يُذكِّرنا بأن ثمَّة طقسًا عاصفًا في مكانٍ آخر حتى ونحن ننجرِف عبر المناطق الاستوائية. الليلة التالية ليست مُستقرة؛ إذ تشهد أحزمة من الأمطار الكثيفة تتخلَّلها لمحات من سماءٍ صافية. يستدعيني الطاقم كثيرًا، غالبًا لتقييم خطورة العواصف العابرة، غير أنهم يستدعونني كذلك — مرة واحدة على الأقل — لا لشيءٍ سوى لإلقاء نظرةٍ على شيءٍ ما. قُرب منتصف الليل، يزيح الضابط المعاون ستارة مقصورتي ليستدعِيَني استدعاءً غير طارئ:

«أيها القبطان. كل شيء على ما يُرام، ولكن لا بدَّ أن ترى هذا.»

على سطح السفينة، تمرُّ كتلة شاهقة من المُزن الركامي من الخلف، فتفصل بيننا وبين القمر الذي أوشك أن يكون بدرًا. ومن تحتِها ينهمر شلال من المطر الغزير، مسقط مائي مُضَاء يبلُغ ارتفاعه ستة آلاف قدم. توقَّف أفراد المناوبة المجتمعون عن عملهم واحتشدوا عند السياج مُحَدِّقين في صمت.

لديَّ كتاب مُفضَّل، «شمالًا عن طريق الشرق»، يروي فيه مؤلِّفه روكويل كينت قصة تحطم سفينته في رحلة إلى جرينلاند عام ١٩٢٩. عندما اضطُر هو ومعاونوه للسير في المناطق النائية غير المأهولة بحثًا عن شخصٍ أو شيءٍ يمكن أن يُنقذهم من مأزقهم، تصادفَ أن مرُّوا بجدولٍ جليدي في ضوء الشفق، يتدفَّق من ارتفاعٍ كبير إلى وادٍ ساحر الجمال.

يقول: «ربما لم تُكتَب لنا الحياة إلا لنكون هنا الآن.»

•••

يستغرق عبورنا لحزام الركود الاستوائي الزاخر بالأحداث معظم يومٍ آخر، لينتهي فجأة بنفخة هواءٍ جافة عند بداية مناوبة الفجر. تتوارى خطوط السُّحب خلف التجمُّعات النجمية التي انتشرت فجأة في السماء بأكملها. في بعض الأحيان تختفي النجوم وسط ومضاتٍ خاطفة من بقايا البرق التي تجد طريقها، بطريقةٍ ما، عبر السماء التي غادرتها السُّحُب للتو. تسود حالةٌ من الفوضى السفينة الشراعية التي تعمل بقوة المُحرك، حيث تُصبح فجأة مئاتُ الأشياء التي مِن المفترَض أن تكون تحت السيطرة عُرضةً للاصطدام دون وجود ما يُؤمِّنها. تُصدِر الحبال المُرتخِية قرعًا إيقاعيًّا بينما يَهدُر المحرك طلبًا للوقود والعناية. ومن ثَمَّ نستشعر الراحة بعودة الرياح التجارية، التي تهبُّ الآن من الجنوب الشرقي وتُباغتنا ببرودتها. تُرفَع الأشرعة بفرَح مفتعَل. لقد بلغنا نقطة الارتكاز في رحلتنا؛ إذ قطعنا ١٤٠٠ ميل ولا يزال أمامنا ١٤٠٠ ميل آخر. إنها بمثابة علامة مرجعية مُهمة، وإن لم تكن ملموسة، فهدفنا الغريب لا يزال مجرد بُقعة خضراء في مخيلتنا، مثل كوكب على أطراف نظام شمسي لم يُستكشَف إلا جزئيًّا.

خلال اليوم التالي يستمر الانخفاض في درجة الحرارة، فالصباح في المناطق الاستوائية لا يبدو استوائيًّا بالتأكيد، حيث لا يُميزه سوى الضباب الرمادي الرطب الذي يَسوده. إننا على بُعد ألف ميل من أية مَعالم لليابسة، وسط أكثر المناطق في المياه الدولية بُعدًا وعُزلة. لم يكن الرادار قد التقطَ الكثير في هذه الرحلة حتى الآن. منذ مغادرتنا لبويرتو فالارتا، لم نرَ سوى ثلاث سفن، وليس ثمة أثر لأي جسمٍ صلب آخر. أثناء تناولنا لوجبة الإفطار يُبلغنا المراقب المذهول فجأة بوجود قاربٍ قريب؛ سفينة صدئة بيضاء البدن ذات مقدمة عريضة رائعة. ربما هناك سفينة أخرى تطفو على مستوى النظر بعيدًا، لكن الضباب المُنخفض والموج العميق الذي يمتدُّ لمسافة طويلة يجعل من الصعب التأكد من ذلك. نسمع دَفقةً من تمتمة قصيرة مفاجئة من جهاز اللاسلكي بلُغةٍ لا أتبيَّنها، ثم يسود الصمت. من المتوقَّع أن تتواصل السفن باللغة الإنجليزية عند مناقشة المسائل الملاحية، ولكن إذا كان هذان المُتصلان شريكَين في أحد أساطيل الصيد في المياه البعيدة، فمِن المُحتمَل أنهما يتواصلان بالأوكرانية أو الباسكية. اختفت أصواتُهما بعد ساعة.

تمتلئ شباكنا بمخلوقاتٍ رائعة: حبَّار، وقناديل، وأسماك مُضيئة صغيرة من فصيلة الأسماك الفانوسية، ووحش ذي أسنان ناتئة يُسمَّى الاسقمري الثعباني، من الواضح أننا أحبطنا سعيَه لمطاردة وجبتِه. ننشُر أدواتٍ أخرى على عُمق كبير على سلك الرافعة. يوجَد جهاز مُبتكَر يُسمَّى «الوردة»، وهو عبارة عن مجموعةٍ من الزجاجات الأُنبوبية المعدة للانغلاق في سلسلة لتعودَ بعيناتٍ ثمينة من المياه من كل طبقةٍ من طبقاتها العميقة. هذا الجهاز يُشبه قاذفة صواريخ. ونحن نُشبه مسبارًا فضائيًّا يجمع الأدلة في زجاجة تلوَ الأخرى وسط مساحةٍ شاسعة تفوق القدرة على القياس. يتجمَّع أفراد الطاقم العلمي حول معَدَّاتهم ويفرزون العينات ويقرءون من أوراق البيانات ذات الخطوط المربعة. يرتدي بعضهم قبعاتِ تزلُّج.

يشكو أحدهم قائلًا: «ظننتُ أن الطقس يكون دافئًا بالقُرب من خط الاستواء.»

تقول كارا: «تخيَّل البردَ حيوانًا أليفًا يلعقك فجأةً بلسانه. وتقبَّل ما يفعله.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥