غابة السُّحُب
على بُعد مائة ميل شمال خط الاستواء، اجتاحتنا عاصفة قوية في المناوبة المسائية. كنت قد وضعتُ للتوِّ كتابي جانبًا وخلدتُ إلى النوم عندما أظهر توهُّج ضوء المقصورة طيفًا؛ إذ كان الضابط المُعاون قد أرسل أحد المُتدرِّبين ليُخبرني بظهور خطٍّ من السحاب الكثيف في الاتجاه الذي تأتينا منه الرياح، وبأنه ربما قد حان الوقت لخفض الأشرعة.
عندما أخرجُ إلى سطح السفينة، أجدُ الظلام حالكًا، والهواء ثقيلًا وناعمًا، يكاد لا تُميزه درجة حرارة مُعينة. اشتدَّت الرياح وتبِعتها السفينة بزخم متضافر يُذكِّرني على نحوٍ غريب بالتزلُّج على الجليد، بتلك اللحظات التي تُوجِّه فيها أطرافك إلى أسفل التل وتُدرك فجأة الأثر الهائل للجاذبية. وبينما كنتُ أُمعِن النظر حولي لأتعرف على الوجوه، أضاءَ وميضٌ من البرق السماءَ خلفَنا، كاشفًا عن جدارٍ شديد الانحدار من السُّحب ذي قِمَم متعرِّجة تنحسر بعيدًا بالأعلى. يكاد الأفق يبدو أكثر قتامةً أسفلها. انجذبَ طائر بحري من نوعٍ ما، ربما كان طائر الأطيش، إلى أضواء سفينتنا وراح يُجارينا في مواجهة الرياح، إذ يرفرف ظلُّه الطويل عبر الشراع الرئيسي مثل رسوم الزُّويتروب المُتحركة. يشرع شخص ما في الحديث.
«مرحبًا أيها القبطان؛ يبدو أن ثمة بعض الإثارة في الطريق. ما رأيك؟ لقد جعلتُ فريقي يقف على أُهْبة الاستعداد لخفض الشراع العلوي، والحبال الرئيسية جاهزة للسحب.»
إنه جيريمي، الذي يُمكنني أن أتوقَّع من لهجته أنه هادئ جدًّا وكأنه يُقدم لي الخبز المحمص على مائدة الإفطار.
نادرًا ما يقضي البحَّارة وقتًا في النقاش في مثل هذه المواقف. أمسكتُ بالدفَّة بينما يقود جيريمي المناوبة إلى الأمام لخفض الأشرعة، ويختفي الأفراد في الظلام إلى مواقعهم المُحددة مسبقًا، صفوف من الحبال بأسماء غريبة لا بدَّ لهم أن يعثروا عليها الآن في الظلام؛ لذلك تُستخدَم مِلفات الحبال بوجهٍ خاصٍّ لتجنُّب تشابكها الكارثي المُحتمَل. تعمُّ المكانَ مناقشاتٌ بأصواتٍ صارخة، وموجة من النشاط، وبمجرد انتهاء العمل ينهمِر وابلٌ مفاجئ من الأمطار التي ساقتْها الرياح، فتَميل السفينةُ عن موضعها بمقدار سبع أو ثماني درجات، على الرغم من طيِّ نصف أشرعتها للحفاظ على سلامتها. أُوجِّهُ السفينة للإبقاء على الرياح خلفنا، وأرى البحر من حولنا وقد سكنَ موجُه، حيث انهمرت عليه الأمطار وهبَّ تيارٌ ثقيل من الهواء البارد. تدور عواصف صغيرة من رذاذ الماء الناتج عن قِمَم الأمواج المُتقطعة. يسألني أحدُ أفراد الطاقم عن تقديري لشدة هبوبها، ولستُ متأكدًا، على الرغم من أننا سنرى بعد ذلك أن مقياس سرعة الرياح قد سجَّل ذروة عاصفةٍ مقدارها ٥٢ عقدة، أي أكثر قليلًا من ضِعف السرعة التي كنا قد بدأنا إبحارنا بها. عندما تصل المناوبة إلى الجزء الخلفي للسفينة، يظهر وميضٌ آخر من البرق، صفعة من الرعد فوقَنا مباشرةً مثل قذيفة مدفعية.
بعد ١٥ دقيقة في قلب العاصفة، تهدأ الرياح، وتُعاود النجوم الظهور عندما يبتعِد خطُّ العاصفة مع اتجاه الرياح. يتدحرج كوب قهوةٍ في يأسٍ بعد أن كسرته الرياح ويسقط في بالوعة السفينة وسط بعض الحطام العشوائي الآخر. أصبحت نظارتي عديمة الفائدة، والماء يقطُر من ياقة معطفي الواقي إلى قميصي القصير الأكمام. يتجمَّع أفراد المناوبة مرة أخرى ويبدءون في التخطيط للمهمة الأساسية المُتمثلة في استئناف الإبحار، الذي سيشرعون فيه مع الفريق القادم في غضون ساعة، بينما الآن ينفضون الماء عن المعَدَّات المُبلَّلة، والبرق يومِض على هيئة شوكاتٍ هائلة في الأفق.
تُمثل العواصف الرعدية تجليًا عنيفًا للطاقة الكامنة في حركة الماء والحرارة في الغِلاف الجوي. وتبدأ بالحَمل الحراري، الذي هو أمرٌ شائع في المناطق الاستوائية حيث يطفو الهواء الرطب الدافئ الوفير ويرتفع عاليًا إلى طبقاتٍ أبرد. تنتمي السُّحب المتكوِّنة من هذه العملية إلى فئة السُّحب الركامية، بعضها ثائر، كما رأينا للتو، ولكن بعضها الآخر لطيف، إذ يتَّخذ شكلَ أعمدة من الصوف تتشكَّل في الأيام المعتدِلة عندما تُكوِّن الشمس بُقعًا من الدفء بالقرب من السطح. يعتمد تطوُّر هذه التكوينات اللطيفة إلى أخرى عنيفة على العوامل المكوِّنة لحالة الطقس. إن المحرك الفعلي لنمو السُّحب هو ما يُسميه خبراءُ الطقس «عدم الاستقرار»، وهو فَرق الكثافة النسبي بين الطرود الهوائية المُتراكِمة فوق بعضها. إذا طفا هواء دافئ بالقُرب من السطح إلى مكان أبرد بكثير، يصبح أكثر طفوًا ويرتفع أسرع. تتوقَّف النتائج على التبايُن في درجات الحرارة. تتحوَّل السحابة الركامية، التي يتَّسع نطاقها نحو الأعلى عبر الهواء الجاف البارد في حال وفرة الدفء والرطوبة أسفلَها، إلى ما يُشبِه المدخنة الجوية. يُسحَب الهواء في الأسفل ثم يرتفع للأعلى، وتُعزِّز طفوَه الدفعاتُ الدورية للحرارة الناتجة عن التكاثف. يهطل المطر من الأعلى، ويسحب الهواء البارد إلى الأسفل خلفه. ويؤدي الاحتكاك بين الجزيئات إلى فصل الإلكترونات، مما يؤدي إلى تشكيل جهودٍ استاتيكية تُفرَّغ على هيئة برق.
يرتفع ذلك البرج السحابي المستمر في التمدُّد إلى أعلى حتى تقطعَه الرياح المرتفعة مُشكِّلًا حاجزًا، ويُثبِّط تقدُّمَه الرأسي التأثيرُ المتبادَل مع طبقة الستراتوسفير المُستقرة. يؤدي التقارب بين الهواء الدافئ والبارد المتدفق إلى تمديد قاعدة السحابة لتُشبه قدم حيوانٍ رخوي عملاق تتحرك ببطءٍ في الأفق. يُسمَّى هذا النوع من السُّحب بالمُزن الركامي، والمُزن يعني السحاب المُمطر. من عموم القول، قد يُسمِّي البحَّارة هذا النوع من السُّحُب ركامًا رعديًّا أو عاصفة، وقد يُسمُّونه «تورمينتا» إذا كانوا يتحدثون الإسبانية. قد تكون العاصفة مجرد مرحلة متقدمة لسحابة ممطرة تشهد تزايدًا في الحجم في فترة ما بعد الظهيرة، أو مجرد عامل داخلي في حدثٍ جوي أكبر بكثير. تكتسح الجبهاتُ الباردة خطوطًا طويلة من العواصف الرعدية عبر الأفق مثل ستائر المسرح المهيبة. يمتصُّ كلٌّ من موجات الهواء الاستوائية، والأخاديد الجوية، والرياح الموسمية، والأعاصير الحلزونية الرطوبة الساخنة على السطح وتدفعها عاليًا في موجاتٍ كبيرة مُمتدة. يراقِب علماء الأرصاد الجوية هذه الثَّوَرانات عبر الأقمار الصناعية ويقدِّرون ارتفاعها باستخدام التصوير بالأشعة تحت الحمراء؛ فكلَّما ارتفعت السُّحب صارت أبرد، وتَظهر أبردُ البُقَع في فيلم التصوير أطولَ السحب على الإطلاق، وهي الأماكن التي تكون فيها طاقة الحَمل الحراري في ذروتها.
بغضِّ النظر عن التسمية، العواصف الرعدية ظاهرة تستوجِب الحذر نظرًا إلى المخاطر التي قد يتعرَّض لها سطح المياه على إثرها. في فبراير من عام ٢٠١٠، اجتاحت عاصفةٌ قبالة سواحل البرازيل السفينة العالية الصواري «كونكورديا»، وفي أثناء ذلك ظلَّت عَصَفات الريح تصطدِم بها حتى غمرَتها المياه عبر فتحاتها وغرِقت في القاع. فرَّ جميع أفراد الطاقم إلى قوارب النجاة وأنقذتهم سفينتان تجاريَّتان بعد مرور ٣٦ ساعة. لا يزال الجدل قائمًا حول الخطأ الذي حدث في ذلك اليوم. وخَلَص تقرير رسمي أصدره مجلس سلامة النقل الكندي بعد ١٨ شهرًا إلى أن السفينة لم تستعدَّ جيدًا تحسبًا لما كان — حسب رأي المجلس — ظروفًا خطرة ولكنها مُعتادة؛ فخلال فترة نشاط العاصفة المتوقَّعة، كانت العديد من أشرعة السفينة مرفوعة، ولم يكن لدَيهم العدد الكافي من الأشخاص لاتخاذ ردِّ الفعل اللازم، كما لم يكن الكثير من فتحات السفينة مُغلقًا. كان القبطان أحدَ زملائي، ويقول إنَّ ما ضرب السفينة لم يكن عاصفةً معتادة بل «عَصفًا» (أو انفجارًا جزئيًّا)، وهو هبوب مفاجئ للريح ليس جانبيًّا، ولكن «لأسفل»، بزاوية تزيد على ٤٥ درجة على السطح. هذا يعني أن سفينته كانت عرضةً لزيادة قوة الانحدار أثناء ميلِها، حيث زاد من دفعها عاصفة هبَّت بزوايا شِبه قائمة على مستوى أشرعتها المائل.
كنتُ قد رأيتُ شيئًا كهذا بنفسي ذات مرة، غرب جُزر الأَزُور في رحلة عبر المحيط الأطلنطي في فصل الخريف. كنتُ الضابط البحري الثاني في تلك الرحلة، وكنتُ في خضمِّ إحدى مهام البحَّارة أعلى الصاري عندما مرَّت فوقنا سحابة داكنة، ورأيتُ خطًّا من الرذاذ الدوَّامي يأتي متموِّجًا عبر الماء في اتجاهنا. وبعد ثوانٍ ضربتنا عاصفة هواءٍ بارد شديدةٌ بدا أنها قادمة من جميع الاتجاهات دفعةً واحدة. كان لا يزال أكبر أشرعتنا المُربعة منصوبًا، وشاهدتُ حِباله كلها تنفكُّ معًا مُحدِثة ضجةً ليتحوَّل الشراع إلى علَم ضخم مُرفرِف، سيطرنا عليه بأعجوبة قبل أن يتقطَّع إربًا. أتذكَّر أنني قفزتُ للإمساك بحبلٍ مشدود وانزلقتُ من فوق الصاري كما لو كنتُ شخصية جاك سبارو في سلسلة أفلام «قراصنة الكاريبي» في قفزةٍ بطولية من ذلك النوع المُتَّسم بالحماقة، والذي كان محلَّ احتفاءٍ فيما مضى، والذي كنتَ ستُقدِمُ عليه لو كنتَ في الخامسة والعشرين من عمرك في ذلك الوقت.
ليس من الصعب فهم أصول ظاهرة العَصف إذا كان بإمكانك تصوُّر بِنية العاصفة الرعدية. يرتفع الهواءُ الدافئ عموديًّا لأعلى، بينما يعاود الهواءُ البارد الذي ثلَّجه المطر الهبوطَ إلى الأرض وينتثِر في شكل مروحةٍ كبيرة خلف الهواء الدافئ. وحسب موقعك من نطاق انتثاره، قد ترى زيادةً مفاجئة في الرياح من أي اتجاهٍ تقريبًا، أفقيًّا أو شِبه عمودي. لا تولِّد جميعُ العواصف الرعدية رياحًا هابطة قوية، وليس جميع الرياح الهابطة بالقوة الكافية لأن تُوصَف بأنها عصف، غير أن تأثيراتها عندما تحدُث قد تكون عنيفة. تشرح هيئة الأرصاد الجوية الوطنية الأمريكية كيف يمكن لكتلة من الهواء البارد والماء أن تظلَّ عالقةً عاليًا في سحابة حتى تضعف التيارات الصاعدة ويسقط الجزء البارد دفعةً واحدةً مثل القنبُلة. يوجد مقطع فيديو على موقع الهيئة على الإنترنت يُظهر ما يُشبه كرة بولينج عملاقة من الرياح والأمطار — ربما يبلُغ عرضها ميلًا — تسقط من سحابةٍ بحركة بطيئة وتنفجِر على السطح. حدث شيءٌ كهذا في عام ٢٠٠٧ بالقُرب من منزلي في ماين، حيث حوَّلت ٢٠ دقيقة من الفوضى التامَّة قريةَ كاستين ذات المناظر الخلابة إلى ما يُشبه منطقة حرب. تحطمت أشجارُ دَردار عمرُها قرن من الزمان وأصبحت مجرد عيدان خشبية، وانهارت الأسطح، وأُطيح بمحميةٍ محلية من غابات الراتينج كما لو أنَّ غضب الربِّ قد حلَّ عليها. كنتُ قد شاهدتُ من قبل ضررًا كهذا يحلُّ بقِمَم التلال في نيوفاوندلاند وتساءلتُ عن السبب. والآن عرفته.
يواجِه الطيارون تهديدًا كبيرًا جراء هذه الأحداث. تُطالَب الطائرات التجارية في وقتنا الحاضر بأن تكون على متنها أجهزة رادار دوبلر، المُتخصِّص في الكشف عن رياح القص المُرتبطة بالعواصف الرعدية. ولعلَّ أبرز ما حفَّز هذا الابتكار حادثُ الرحلة ١٩١ لخطوط دلتا الجوية عام ١٩٨٥، حيث تحطَّمت طائرة لوكهيد إل-١٠١١ عند اقترابها من دالاس بعد تحليقها عبر ما تبيَّن لاحقًا أنه كان انفجارًا جزئيًّا. في البداية، ضربت رياحٌ خلفية مفاجئة الطائرة ذات الهيكل العريض وأفقدتها سرعتها الجوية؛ ثم دفعتها هبَّةٌ مفاجئة من أعلى على الأرض على بُعد ميلٍ واحد فقط من مدرج المطار. بفضل التضافر الناجح بين العمل والابتكار، أصبحت مثل هذه الأحداث نادرة الحدوث الآن في المطارات التجارية الحديثة، حيث يستخدِم مراقبو الرِّحلات مُدخَلاتٍ مُتعددة من أجهزة الرادار للتعرُّف على نمط رياح العَصف الشبيه بنمَط انسكاب اللبن المخفوق، ومن ثَمَّ تحذير الطائرات المُوشكة على الهبوط. في مؤتمر عُقِد مؤخرًا في قاعة مليئة بالطيارين وخبراء الأرصاد الجوية، علمتُ كيف تقلَّص عددُ الوَفَيات الناتج عن أحداث العَصف إلى ما يقرُب من الصفر على مدار العقود الثلاثة الماضية. يُعَدُّ ذلك نجاحًا في مجال السلامة العامة يُعادل نجاح الوسائد الهوائية.
يعمل صديقي مايكل طيارًا في شركة فيديكس للشحن، ويقول إنه من المُعتاد الآن أن يحمِل كَمية إضافية من الوقود على متن الطائرة بجانب طرودِه عند توقُّع أحداث رياح تستوجِب الإفلات منها.
يقول: «كثيرًا ما تجعل العواصف الرعدية الصيفية التي تمرُّ عبر منطقة الغرب الأوسط الأمريكية هذه الظاهرة تحدِّيًا يوميًّا عند الإقلاع والهبوط في مطاراتٍ كبرى مثل دالاس فورت وورث، وهيوستن جورج بوش إنتركونتيننتال، وشيكاجو أوهير الدولي، وممفيس الدولي، إلخ …» وواصلَ، ساردًا أسماءَ المطارات كما لو كانت أسماءَ شوارع مألوفة. «يمكن قول الشيء نفسه على مدار العام عن مطارات ألباكركي، وسولت ليك سيتي، ودنفر، نظرًا إلى قربها من الجبال التي تتدفَّق فوقها كتلُ الهواء وتتسبَّب في دواماتٍ هوائية حولها. ولكن حتى أطول الرِّحلات الجوية لا يُمكنها التنبُّؤ بالطقس لأكثر من ١٤ إلى ١٦ ساعة، لذلك نُقلع مُتَّجهين إلى مناطق النشاط الجوي المعلوم، لكننا نحمل كَميةً إضافية من الوقود لتُوفِّر لنا خياراتٍ أخرى، مثل تغيير المسار أو الدوران قليلًا في وضع الانتظار، أو مجرد ترك المجال الجوي الحالي وتحويل المسار إلى مجال جوي بديل.»
وبفضل الطائرات السريعة ومعجزة رادار دوبلر، يستطيع الطيارون تأخير عمليات الإقلاع، أو إعادة محاولات الهبوط، أو ببساطة تغيير الوجهة. بسبب بطء حركة السفن مقارنةً بسرعة تغيُّر الطقس ونظرًا إلى تجهيزها بمُعداتٍ أبسط مقارنةً بالطائرات، فإن طواقم السفن مُلزَمة بدرجةٍ أكبر بمتابعة التغيُّرات الجوية والاستعداد لمواجهتها عند حدوثها. تفتقِر الرادارات البحرية إلى القدرة المباشرة على قياس الريح، لكنها ما زالت تستطيع رصد تساقُط الأمطار على سطح المياه، وهو مؤشر تقريبي على ما يحدُث في الغِلاف الجوي بالأعلى. قد تُشير نطاقاتُ الأمطار السريعة الحركة إلى وجود رياحٍ أقوى، كما أن الخطوط الحادة الحواف في الصدى الراداري قد تُنذر بمخاطر مُماثلة. تظهر الحدود الأمامية على شاشة الرادار على هيئة خطوطٍ مُستقيمة، بينما قد يُشير وجود فجوة فارغة مفاجئة وسط نطاقٍ كثيف من الأمطار إلى هبَّة هواء بارد هابط. أو قد لا يُظهِر الرادار أيَّ شيءٍ على الإطلاق. إنه عِلم غير دقيق. وفي بعض الأحيان يكون أفضل ضمان لك هو مجرد النظر حولك والتفاعُل مع ما تراه. يمكن أن يكون الانتفاخ النازل من قاعدة السحابة، والذي يُسمَّى «الماماتوس»، مؤشرًا مُحتملًا على هجمةٍ وشيكة لتقلُّباتٍ جوية قوية. دائمًا ما أقول للطاقم ألا يُغفلوا أبدًا ما تراه أعيُنهم خارج نوافذ السفينة. غير أن عينَيك لا ترى شيئًا في ليلةٍ مُمطرة ومظلمة. يمكنك أن تنظُر من النافذة كما تريد، لكن هذا لن يُنبئك سوى بالقليل.
تتحمَّل السفن التي تعمل بالمُحركات قدرًا أكبر من الضربات الحادة القصيرة للرياح المفاجئة، ولكن السفن الشراعية المُصمَّمة خِصِّيصَى لتجميع الرياح يجب أن تتوخَّى قدرًا أكبر من الحذَر. تحطمت السفينة الشراعية ذات الصارِيَين «ألباتروس»، التي كانت مملوكةً للكاتب والمُغامر إرنست كيه جان، وغرِقت في خليج المِكسيك بسبب عَصفٍ في حادث أُحيِيَت ذِكراه (وإن لم يُروَ بتفصيلٍ دقيق) في فيلم «عاصفة بيضاء» (وايت سكوال). وقد غرق المركب الشراعي الأمريكي المُتعدِّد الصواري «برايد أوف بالتيمور» شمال بورتوريكو في عام ١٩٨٦ وفَقد أربعةُ أشخاصٍ أرواحَهم، في حادثٍ مُشابهٍ إلى حَدٍّ ما لغرق السفينة «كونكورديا»، تضمَّن مرور جبهة هوائية قوية عبر المياه الاستوائية الدافئة بالقُرب من حافة قارية.
يتعامل معظم البحَّارة مع العواصف والعواصف الرعدية بقدْرٍ كبير من الحذَر، لكن هذا لا يعني أن أطقم هذه السفن لم تفعل الشيء نفسه. أبحرتُ ذات مرةٍ مع ضابط في القوات البحرية عَمِلَ على متن غوَّاصة نووية. تحدَّث عن التدريبات التي أجرَوها من أجل «الإيقاف الفوري» للمُفاعِل في حالاتِ الطوارئ، وهي عملية تقنية لم أستوعِبها تمامًا قط، باستثناء أنني أظنُّ أن لها نظيرًا مثاليًّا في عالمي الذي يعمل بطاقة الرياح: افصِل الطاقة قبل أن يقتُلك. أَنزِل جميع أشرعتك بأسرع ما يمكن، وابدأ بأكبرِها. هذه هي التعاليم على أي حال. ومع أنني متأكِّد من أنه الحال مع المُفاعلات النووية، فهناك فروق دقيقة حسب كلِّ موقف. عادةً ما نُنزل الأشرعة الكبيرة أولًا، أو ربما بعد إنزال الأشرعة الأعلى، والتي يكون تأثيرها على مَيل السفينة أكبر. قد يكون الأشخاص ذوو الخبرة في القوارب الصغيرة مُعتادِين على توجيه قواربهم نحوَ الرياح لتقصير الأشرعة، ولكن على متن سفينةٍ كبيرة بعيدة عن الشاطئ، كثيرًا ما يُفعَل العكس تمامًا، حيث تُوجِّه السفينة بحيث تبقى الرياح خلفك. وهذا ما يُسمَّى «ابتعاد»؛ فمع وجود الرياح خلفك، تبدو الأمور أهدأ، ويُصبح القارب في وضع أكثر استقامة. يوفر هذا الهدوء الافتراضي الوقتَ اللازم لتنظيم الأشخاص وإنزال الأشرعة. تبدو بعض العواصف أقلَّ خطورةً من غيرها، وربما في تلك الحالات لن تصِل إلى حَدِّ الإيقاف التامِّ للمُفاعل وستترك بعض الأشرعة كما هي.
ترويض الأشرعة، أو تطويعها بحيث تستجيب للوضع الذي تريدها عليه في الوقت الذي تريده، هو من صميم عملية الإبحار الآمِن بالسفن. بذل المُصمِّمون المُعاصرون جهودًا حثيثة لضمان قدْر أكبر من السلامة والراحة في معَدَّات الإبحار، ولكن على متن السفن التقليدية كلُّ شيءٍ يتطلَّب تنسيقًا دقيقًا للجهد، حيث يعمل أفراد الطاقم على سحْب وإرخاء العديد من الحِبال في آنٍ واحد، وفي الوقت نفسه السيطرة على قوى الطبيعة العاتية. تكون السفن أكثر عرضةً للخطر في بداية رِحلاتها، حيث يفتقر الطاقم إلى الخبرة بالمعَدَّات وبمهارات العمل الجماعي. الأمر أشبَه بالمشاجرات الأولى في موسم كرة القدم الجديد، ولكن بعواقب أكثر خطورة بكثير. فكما هو الحال في أي جهدٍ جماعي، هناك عادةً عدد قليل من الأشخاص الذين يعرفون حقًّا ما يجري، وجماعة من الأتباع الذين ينتظرون التعليمات ولكن تعوقُهم قلة الخبرة، أو القلق، أو دُوار البحر، أو انخفاض حرارة الجسم.
على الرغم من أنه كثيرًا ما يُطلَب من البحَّارة سردُ حكاياتهم الدرامية المؤثرة مع العواصف في البحار، تتَّسم معظم الظواهر الجوية في الواقع بالرتابة وإمكانية اجتيازها، فكما هو الحال مع مُتسلِّقي الجبال الذين يجتمِعون في كهوفهم الثلجية بينما تعصف العواصف المُجمِّدة في الخارج، غالبًا ما يتبقَّى من رحلاتهم لسردِه هو تجرِبة الانتظار. غالبًا ما تكون العلامات الفارقة المحفورة في الذاكرة هي تطوُّرات التعامُل مع الأشرعة نفسها، تلك اللحظات من الإثارة التي تكون بمثابة الحِلْيات وسط السرد وتَعلَق في الأذهان لفتراتٍ طويلة. هناك على سبيل المثال قصة البحَّار المُبتدئ الذي يُهرع في الظلام للعثور على حبلٍ لم يتعلَّم عنه شيئًا إلا قبلَ أيام قليلة، مما يؤدي إلى سقوط شراعٍ خاطئ تمامًا على سطح السفينة. وقصة شراع علوي عالق — في خضمِّ عاصفة — في منتصف عملية إنزاله لأسباب مجهولة، ويأخذ في الرفرفة بعُنف حتى يتمزَّق على ارتفاع خمسين قدمًا في الهواء. وقصة ذراع الشراع الرئيسي، بحجم سارية العلَم، الذي كُسِرَ نصفَين بسبب انحرافٍ عَرَضي، ويتأرجح الآن في الفراغ مثل سلاح فنونٍ قتالية كبير للغاية.
في كل هذه الأحداث، هناك إجراءاتٌ يمكن بواسطتها السيطرة إلى حدٍّ ما على الفوضى. عندما كنتُ على متن سفينتي في صباح أحد الأيام التي كان يتساقط فيها مطر خفيف، مُتجهًا إلى مدينة قادس، ظهر فجأة عمود مياه، يدور مُنحدرًا من طبقة السحاب على بُعدٍ لا يتجاوز رُبعَ ميلٍ إلى اليمين. أعمدة المياه هي شكلٌ من أشكال الإعصار القُمعي البحري الصغير، وقد تظهر أسفل السحب الركامية التي تتكوَّن عندما يزيد الحَمل الحراري ويكون هناك مصدر للاضطراب — أو «الدوَّامية» — على السطح. تمتصُّ السُّحب السريعة التكوُّنِ الهواءَ لأعلى من تحتها، ويدور العمود الناتِج في دوَّامة ضيقة مثل متزلِّج على الجليد يؤدي حركة الدوران المِغزَلي. تُشير تقديرات قوة الرياح في أعمدة المياه إلى أنها تقع بالقُرب من أسفل مقياس القوة، المؤلَّف من خمس درجاتٍ، المُستخدَم للأعاصير القُمعية، حيث تصل سرعة بعض هبَّات الرياح إلى ٧٥ أو ٨٠ عقدة. نظرًا إلى قُطرها الصغير عادةً، الذي يبلُغ ٥٠ أو ١٠٠ ياردة، فإن هذا يجعلها مُشابهةً لإعصارٍ مُصغَّر. لا أتذكَّر عدد الأشرعة التي كنَّا قد رفعناها. الأمر المؤكَّد أنها كانت أكثرَ مما ينبغي. كان لدى الضابط الرئيسي الجديد خطَّة. أو بالأحرى، وَضَعَ خطةً من الصفر. هُرعَ ١٢ عاملًا من سُباتهم بعد الإفطار وتلقَّوا تعليماتٍ دقيقةً بالخطوات التالية. طوَينا الأشرعة المُبللة سريعًا كطيِّ الرقوق، وكنا مُستعدِّين في الوقت المناسب لمشاهدة الدوَّامة العنيفة من الرياح والمياه وهي تمرُّ خلفنا مباشرةً، في أقرب نظرةٍ رغبتُ يومًا أن أُلقِيَها على منظرٍ كهذا. كنا نرتدي الملابس الواقية من المطر من مَنبتِ رءوسنا إلى أَخمَص أقدامِنا، وكان المطر يصل إلى جلودنا.
•••
بعد ٩٠ دقيقة من استيقاظي غير المُخطط له، تُنهي الجهود المتضافِرة لمناوَبَتَين مهمةَ رفع الأشرعة مرة أخرى، لتستعيد في نصف ساعةٍ ذلك التكوين الذي لم يستغرِق منَّا سوى دقائق معدودة لفضِّه، بفضل ما أثاره الخطر الوشيك في أجسامنا من يقظةٍ وترقُّب. إلى الغرب منَّا، يعود خط العاصفة المُدبِرة إلى الظهور على فتراتٍ مُتفرقة، تضيئه ومضاتٌ من الضوء الأبيض وأصواتُ هدير رعدٍ عَرَضِيَّة، تأخَّرت كثيرًا. البرق هو بمثابة نسخة مُضخَّمة من الصدمة الكهربائية التي تُصيبك عندما تمشي في يومٍ جافٍّ فوق سجَّادة ثم تلمس المِقبض الفلزي للباب. عندما تمشي يحدُث احتكاك بين قدمَيك وسطح السجادة، فتنتقل الإلكترونات من أحد الجسمَين إلى الآخر. وينشأ عن ذلك فَرق جهد، يتعادل عند لمس المِقبض نتيجة التفريغ الكهربائي، مُحدثًا شررًا صغيرًا. يُمثِّل المُزن الركامي بأعمدته المُتسارعة من الهواء والماء محطة طاقة حقيقية للكهرباء الاستاتيكية، حيث تصِل أعداد الشحنات الكهربائية إلى مستوياتٍ هائلة لا يمكن وصفها. وقد تستمرُّ صاعقة البرق الواحدة عُشر ثانية ولكنها تحتوي على شحناتٍ تكفي لتزويد منزلك بالطاقة لمدة أسبوع، جميعها بجهدٍ كهربائي مقداره ٣٠ مليون فولت، وهو رقم هائل لا يمكن استخدامه عمليًّا. قد تُنتِج عاصفةٌ نشطةٌ ألفَ ومضةٍ في دقيقة واحدة، وذلك على شكل أقواسٍ رفيعة بدرجة حرارة تقترِب من ٥٠ ألف درجة فهرنهايت. وينشأ عن التسخين المفاجئ للغِلاف الجوي القريب موجاتُ الضغط التي نسمعها على هيئة رعد.
واعتمادًا على نسَق الجهد الكهربائي للشحنات المختلفة، يمكن أن يضرب البرق الأرض، أو كُتَل السُّحب الأخرى، أو حتى مكانًا آخر في عمود السحابة نفسه. كان أروعُ عرْض رأيتُه على الإطلاق لهذه الظاهرة في خليج المِكسيك في أواخر فصل الشتاء، حيث تسبَّب توقُّف جبهة هوائية عن الحركة في تكوين شريطٍ طويلٍ من الهواء الدافئ الرطب فوقَنا، لمدة بَدَت وكأنها أسبوع. شهدت السماءُ الباردة كلَّ مساء ازدهارًا هائلًا فوق رءوسنا للمُزن الركامي الذي امتدَّ في خطٍّ فَضفاض على طول بقايا الحدود الأمامية. كان الجو هادئًا وجافًّا على السطح، ولكن فوقنا كان البرق يتراقَص طوال الليل مثل ومضات اللِّحام، في سطوعٍ هائل يُجبرك على إغماض عينَيك.
وأكثر ما يكون البرق شيوعًا في البيئات التي يمكن أن يرتفع فيها الهواءُ الدافئ بسرعةٍ مع وجود مصدرٍ وفير للرطوبة بالقُرب منه. فلوريدا هي عاصمة العواصف الرعدية في أمريكا الشمالية، حيث يجذب الحَملُ الحراري القوي فوق البرِّ الرئيسي الهواءَ البحري الدافئ بانتظامٍ مِن كلا جانبَي شِبه الجزيرة. وفنزويلا هي بطلة العالم في ذلك، ويرجع تفوُّقها إلى الْتقاء الرياح الكاريبية الرطبة والهواء الجبلي البارد حول بحيرة ماراكايبو، وهو الخليط الذي يُولِّد البرق بمعدَّلٍ يقترب من ٣٠٠ يوم في السنة. عندما يضرب البرق، فإنه ينجذب إلى الأجسام المُنفردة الطويلة، حيث تتراكم الشحنات الموجبة استجابةً للرءوس السالبة المُمتدَّة من قاعدة السحابة. من المعروف أن مبنى «إمباير ستيت» يتعرَّض لضربات البرق بمُعدل ٢٥ مرة في السنة تقريبًا. ومثل غيره من الهياكل الأخرى المُشابهة، لا يلحق بالمبنى أذًى عادةً، حيث ينتقل التيار إلى الأرض عبر سلسلةٍ من المُوصِّلات المُخصَّصة. تتطلَّب السفن في البحر النوع نفسه من الحماية، لذلك تُوصَّل العناصر المَعدِنية في معَدَّاتها بسطح التأريض في بدن السفينة. يحدُث هذا على نحوٍ تلقائي نوعًا ما في السفن الفولاذية، لكن القوارب المَبنية من الخشب أو الألياف الزجاجية يجب أن تتَّخذ الخطوات اللازمة لضمان حماية معَدَّاتها كما يجب. بعد أن أظهرت تجرِبة الطائرة الورقية والمفتاح الشهيرة التي أجراها بن فرانكلين أن البرق هو في الواقع كهرباء، بدأ البحَّارة في وضع سلاسل طويلة فوق السفن لهذا الغرَض. في العصر الحديث يتم ذلك عادةً باستخدام سلكٍ قوي يمتدُّ من المعَدَّات إلى شيءٍ ثقيل ومعدِني تحت الماء.
حتى عندما يتشتَّت تيارُ البرق الشديد عبر الأرض، يُمكنه أن يولِّد نبضًا كهرومغناطيسيًّا ضارًّا، وهو ما يُعَد نسخةً مصغرة جدًّا مما تسمع عنه في التفجيرات النووية. وهذا يخلُق وضعًا لا يمكن التنبؤ به عندما يتعلَّق الأمر بالمعَدَّات الإلكترونية. عندما ضرب البرق سفينتي ذات مرة بينما كانت راسيةً في برشلونة، نجا كلُّ شيءٍ باستثناء مُوالِف الهوائي الموجود في صندوقٍ بعيد عن الصاري الرئيسي. بدا كلُّ شيءٍ فيه على ما يرام، ولكن في أعماق دوائره الكهربائية (التي لا يراها إلا الفنيون) كان مُكثِّفٌ صغير قد احترقَ حتى أصبح مثل رقائق البطاطا المقرمشة. وذات مرة، على متن قارب آخر، استيقظتُ على صوت قصف رعدٍ مروِّع ووجدتُ قمة الصاري محطَّمة إلى شظايا يتصاعد منها البخار، متناثرة في أرجاء السَّطح الرُّبعيِّ للسفينة. كما دُمِّرَ شاحن بطارية وجهاز اللاسلكي الخاص بالسفينة، الأمر الذي جعله يُصدِر تشويشًا مَرِحًا ولكنه لم يُتِح لنا قط التحدُّث إلى سفينةٍ أخرى مجددًا.
يمكن للبرق أن يُلحِق أضرارًا كارثية بالأشجار، حيث تؤدي دفعة الحرارة المفاجئة إلى اندفاع عصارتها مُتفجرةً في أبخرة. عادةً لا يدوم هذا الانفجار الحراري طويلًا بما يكفي لإشعال الحرائق مباشرةً، غير أنه من الشائع أن تحترق الهياكل الخشبية بعد اشتعال النيران فيها بسبب احتراق المعَدَّات الكهربائية المُجهزَة بها. يتعرَّض آلافُ الأشخاص ذوي الحظ العاثر لضربات البرق كلَّ عام. ينجو كثيرون منهم، ولكن كثيرًا ما تتضرَّر أنسجتهم الداخلية بسبب الطاقة الكهرومغناطيسية. والأشخاص الأكثر عُرضةً للخطر هم أولئك الذين يقِفون دون حمايةٍ في المناطق المفتوحة، مثل سلاسل الجبال أو ملاعب كرة القدم. تعلمتُ في دورة المهارات الطبية للنجاة في البرية أن المرءَ قد يُصاب بصدمةٍ كهربائية من تيارٍ ينتقل عبر الأرض وكذلك عن طريق ضربة برقٍ مباشِرةً. أحيانًا ما يُنصح المُتنزِّهون الذين لا يستطيعون العثور على مأوًى بالجلوس على حقائبهم لاستخدامها كمادةٍ عازلة، وهو أمرٌ لم أُضطَرُّ إلى فعله من قبل، ولكنه يُشعرني بالتأكيد وكأنني قد تقطَّعَت بي السبل على أصغر الجُزر على وجه الأرض وأكثرها عزلة.
في رحلاتي الجوية، أتوقَّف دائمًا لإلقاء نظرة إعجاب على قَمْرَة القيادة، حيث يُعِد الطيارون بهدوءٍ أدواتِ حرفتهم الرائعة. إنهم على استعداد لمواجهة أي شيءٍ يُقابلهم بأكمام قمصانهم الأنيقة، دون الحاجة نهائيًّا لارتداء المشمَّع الواقي أو البحث عن أحذية المطر في الظلام. أمُرُّ بجانبهم وكأنني أحد الأسلاف المُحترفين البُدائيين وأتساءل عن شعورهم تجاه هذا الأمر. ليس لديهم أدنى فكرة عن الظروف القاسية للملاحة البحرية.
•••
إن العَلاقة بين الحرارة ودرجة الحرارة عَلاقة خطِّية، ما دام لا يوجَد تغير في حالة المادة. ويُعَدُّ تسخين المياه مثالًا جيدًا على ذلك؛ يحتاج الجرام الواحد من الماء السائل إلى سُعرٍ حراري واحد ليُصبح أدفأ بمعدل درجة مئوية واحدة، ولكن عندما يبدأ الماء في التبخُّر، يحتاج كل جرامٍ إلى ٥٣٩ سعرًا حراريًّا إضافيًّا ليتحوَّل إلى مرحلته الغازية الأعلى في طاقتها. وهذا ما يُعرف ﺑ «الحرارة الكامنة»؛ لأنه عبارة عن طاقةٍ مُخزنة في حركة الجزيئات ولكنها لا تظهر في صورة تغيُّر في درجة الحرارة. وبهذه الطريقة، يعمل بخار الماء كمستودع للطاقة في الغِلاف الجوي، حيث يحتفظ بالحرارة الكامنة حتى تتحرَّر في النهاية أثناء عملية التكثُّف. ينتج عن ذلك كَمية كبيرة من الطاقة. إذ يُطلِق كيلوجرام واحد من بخار الماء ٥٤٠ ألف سعر من الحرارة عندما يتكثَّف في صورة قطرات المطر. يمكن لعاصفةٍ مُمطرة قوية تهب فوق مساحة ميلٍ مُربع واحد من الأرض أن تحوِّل ٦٠ مليون كيلوجرام من بخار الماء إلى قطرات مطر في فترة ما بعد الظهيرة، مما يُنتج طاقةً تكفي مدينةً متوسطة الحجم لمدة يومٍ كامل.
•••
لا تُسقِط معظم السُّحب أمطارًا أو ثلوجًا على الأرض؛ لأن جزيئات الماء فيها صغيرة جدًّا بحيث لا تستطيع تحمُّل إكمال الرحلة. ما يحدُث في الواقع هو نوع من أنواع الاتزان، حيث تتساقط القطرات وتتبخَّر، ولكن ليحلَّ محلَّها تكثُّف وترسُّب جديدان في كتلة السحابة. تتحوَّل السُّحب بهذه الطريقة أمام أعيُننا، حيث تظهر أجزاؤها المرئية وتختفي. وفي نهاية المطاف، قد يتجمَّع الجليد والسائل في جزيئاتٍ كبيرة بما يكفي للوصول إلى السطح، وهو اتحاد يحدُث بطريقتَين مختلفتَين: «التصادم والالتحام» — وهما تمامًا كما يوحي المُسمَّى — حيث تتصادم جزيئاتُ السائل مع بعضها حتى تُشكِّل فُقَّاعةً كبيرة بما يكفي لوصفها بأنها قطرة مطر، عادةً لا يقلُّ حجمها عن ٠٫٢ ملِّيمتر، وهو ما يعادل مائة مرة متوسِّط حجم قطرة مُقتطعة من السحابة. في السُّحب الأبرد، يُهيمن على عملية ربط الجزيئات ما يُسمَّى بعملية «بيرجيرون»، وهي آلية بديعة يتبخَّر من خلالها الماء من القطرات السائلة ويترسَّب في صورة بلورات جليد بالقُرب من السُّحب. وقد تصل هذه البلورات إلى الأرض على هيئة ثلوجٍ أو تذوب في الطريق وتسقط في هيئة أمطار.
الشيءُ المُهم الذي يجِب معرفته هو أن معظم السُّحب عبارة عن مزيجٍ غير مُنتظم من الجليد والماء السائل، حسب درجات الحرارة والرطوبة حال تكوُّنها. من المُفيد أيضًا أن نُدرك أنه ليس من الضروري أن يبدأ كلُّ هطول للأمطار رحلتَه بالحالة نفسها التي ينتهي بها. فجميع الاحتمالات مُمكنة. إذ قد يتساقط الثلج عبر طبقةٍ من الهواء الدافئ ويصِل إلى السطح على شكل أمطار. وقد يسقط المطر عبر طبقاتٍ باردة ويهبط على شكل جَمَد المطر. أما البَرَد فيتكوَّن في العواصف الرعدية، عندما تُرسِل التياراتُ الصاعدة المطرَ إلى الأجزاء المرتفعة من السحابة، حيث تتجمَّد وتتحوَّل إلى مَقذوفاتٍ جليدية قبل أن تسقط مرةً أخرى نحو الأرض. وقد تمرُّ عواصف البَرَد بعدة رحلاتٍ ذَهابًا وإيابًا في عمود السحابة، وتنمو قليلًا في كل دائرةٍ حتى تُصبح كبيرة بما يكفي لأن تُسبِّب انبعاجًا في الأسطح وتكسر الزجاج الأمامي للسيارات. في لمحةٍ عبقرية مرحة، تُصنِّف هيئة الأرصاد الجوية الوطنية حبَّات البَرَد حسب أحجامها بتشبيهها بأشياء شائعة، بدءًا من البازِلَّاء ومرورًا بكُرات الجولف وفناجين الشاي قبل أن تصِل في نهاية التصنيف إلى حجم ثمرة الجريب فروت. كانت أكبر حبةِ بَرَد سُجِّلَت على الإطلاق تزن رطلَين وكانت بحجم مُنَبِّه.
يَنتُج المطر المُتجمِّد — وهي ظاهرة رائعة وإن كانت مُزعجة — عندما تذوب قطرات الجليد أثناء هطوله وهو يهبط مارًّا عبر طبقة دافئة قبل أن يعاد تبريده بالقُرب من الأرض. ومن خلال عملية تُعرف باسم «التبريد الفائق»، قد تَبرُد قطرات الجليد الذائب لتصِل درجة حرارتها إلى ما دون نقطة التجمُّد، لكنها لا تتصلَّب فعليًّا حتى تصِل إلى السطح. عادةً ما يكون المطر المُتجمِّد حدثًا عابرًا، غير أنه في الظروف المناسبة، يمكن أن يستمر طويلًا بما يكفي لترسيب حِملٍ ضارٍّ من الجليد على الأشجار والمباني. حدثَ هذا في شمال شرق الولايات المتحدة في يناير عام ١٩٩٨، عندما صعدت طبقة من الهواء الرطب الدافئ أعلى وادي المِسيسيبي وعَلِقت فوق شريحةٍ من الهواء البارد القادم جنوبًا من كندا. تسبَّبت العاصفةُ الجليدية الناتجة في أضرارٍ بقيمة سبعة مليارات دولار وفي أكثر من أربعة ملايين حالة انقطاع في التيار الكهربائي في جميع أنحاء مُدن كيبيك، ونيويورك، ونيو إنجلاند. وقد تقوَّست أبراج خطوط الكهرباء تحت وطأةِ حِملها المُجمَّد. كنت أزورُ أهل زوجتي في فلوريدا في ذلك الوقت، لكن والدي كان سعيدًا بإخباري بكلِّ شيءٍ عن الحادث لاحقًا بينما كنا نجلس حول موقِد الحطب في منزله في انتظار عودة التيار الكهربائي. استغرق الأمرُ أسابيعَ لإصلاح الضرر. وفي البلدة، امتلأت مواقفُ سيارات الفندق حتى شهر مارس بشاحناتِ الخدمات وطواقمها، والتي كان بعضُها من مناطق بعيدة مثل تكساس.
•••
في أحد الأيام، وقتَ الغداء، أسيرُ مع زوجتي في المرج الطويل في الجهة المُقابلة لمنزلنا. نحن في أوائل الربيع، حيث موسم الطين، والأرض تعتصِر المياه المُحتجَزة في الطين فوق طبقة الصقيع. وتنحسر انجرافاتُ الثلوج الحُبَيْبِيَّة لتُظهِر بقعًا من الأرض العارية مثل قاع البحر عندما يُظهِره الجَزْر. سأُغادر إلى البحر مرة أخرى قريبًا، بعد شهرَين بَهِيجَين قَضيتُهما في المنزل مع إبريق القهوة وألف مشروع صغير. هذه هي المهنة الحقيقية والخفية لمُعظم البحَّارة.
أقول لكارين: «ستحتاج الشاحنة إلى إطاراتٍ صيفية جديدة هذا العام.»
تخطو بمرح وسعادة عبر بركة من الوحل الجليدي وتستدير لتُجيب، وقدماها مُحصَّنتان في حذائها القديم المُحْكَم. هذا السرد للأعمال يُفيدني بقدْر ما يُفيدها؛ فهو بمثابة قائمة تذكيرٍ بشئوننا المعيشية في حالاتِ غيابي المُتكررة.
«حسنًا، هذا مُثير حقًّا.»
«أجل. يُمكنني أن أترك دفتر شيكاتي.»
«مرحى! سأنفق أموالك كلَّها على شراء الأحذية.»
«بالطبع. لا تنسَي تناولَ الطعام.»
«عُلِم. أتمنَّى ألا تستمتِع بأحداث رحلتك ولا يُعكر صفوك شيء.»
إنها تقصد بذلك نوعية الأحداث التي يستمتع بها المرء أثناء حدوثها، وليس بعد انتهائها. كالاستمتاع بفيلمٍ جيد في مقابل القفز بالحبال، على سبيل المثال.
«شكرًا لكِ.»
إنه يوم صافٍ بلا غيوم، والطائرات المُحلِّقة في السماء ترسُم خطوطًا طويلة بعوادمها، وتنحني ببطءٍ وهي تتَّجه نحو المطارات الساحلية الكبيرة إلى الجنوب منَّا. تُمثِّل هذه المسارات شكلًا من أشكال السُّحب «السِّمحاقية»، وهي عبارة عن أعمدة من بلورات الجليد يُرسِّبها بُخار الماء المُنبعِث من مُحركات الطائرات أثناء تحليقها عبر الجزء العلوي من طبقة التروبوسفير. غالبًا ما تكون إنذارًا بهطول أمطار؛ إذ تُشير إلى أن الهواء قريب من التشبُّع ومِن ثَمَّ مُهيَّأ للتحوُّل إلى سُحب وهطول للأمطار. ستنتشِر أيضًا الرطوبة المُنبعثة من الأعاصير الحلزونية والتي تحمِلها الرياح العُليا في شكل مِروحةٍ رقيقة من السُّحب السِّمحاقية، مما يؤدي إلى تكوُّن ضبابية طفيفة في السماء الخارجية، وهي أولى المؤشرات على أن تغيُّرًا قد يطرأ. تُسمَّى هذه السُّحب أحيانًا بذيل الفرس، وهو مُسمًّى مُستمَد من قول مأثور قديم للبحَّارة يدعو لتوخِّي الحذَر عند ظهورها. السُّحب السِّمحاقية هي أعلى السُّحب في السماء. إذ يبدأ ارتفاعُها من ١٦ ألف قدم تقريبًا وقد يصِل إلى ١٠ أميال. وبفضل خطوطها الغشائية الرقيقة، تكون أقربَ في شكلها إلى أقمشة السكريم الريشية منه إلى طبقات السُّحب المُعتمة. قد تُحيط حلقاتٌ ضبابية من السُّحب السِّمحاقية بالشمس أو القمر عندما يوشك الطقس على التغيُّر، وذلك في صورة هالاتٍ مُنعَكِسَة تظهر قبل أن تظهر للعِيان أيُّ لمحةٍ من سحابة.
تتشكل جبهة دافئة عندما تتسلَّل طبقة من الهواء الدافئ تدريجيًّا فوق كتلةٍ من الهواء البارد، مما ينتج عنه غطاءٌ من السُّحب في السطح البَينيِّ مثلما هو الحال عند فردِ طبقةٍ من الهلام بين شريحتَين من الخبز. ما يتكوَّن في هذه الحالة هو «السُّحب الطبقية»، وهي نتاجُ تبدُّل درجة الحرارة بين طبقتَين متداخلتَين. السُّحب الطبقية كئيبة المظهر ويسهل التعرُّف عليها، فإذا مشَيتَ في الخارج ولم تَرَ سوى طبقة رمادية بلا ملامح، فهذه سُحب طبقية. فكِّر في سياتل أو كوبنهاجن. ترتبط السُّحب الطبقية في مخيلة المرء بالظروف المُستقرَّة وغير المُلهِمة، وغالبًا ما تجلب إلى الأذهان هطولَ الأمطار أو الثلوج بمعدلاتٍ ثابتة، وقد تدنو وتزداد سُمكًا تدريجيًّا في حال اقتراب العامل المُتسبِّب فيها من موقعك.
تُعَد السُّحب التي يزيد ارتفاع قواعِدها عن ٦٥٠٠ قدم متوسطة المُستوى، فإذا كانت نتاج حَمل حراري تُعرف باسم «السُّحب الركامية المتوسطة»، وإذا كانت نتاج تشكُّل الجبهات والطبقات فتُعرَف باسم «السُّحب الطبقية المتوسطة». هناك أيضًا الركام الطبقي، وهو سُحب هجينة من النوعَين منتفخة وذات قمةٍ مسطحة تتشكَّل عندما يتباطأ الحَملُ الحراري أمام طبقةٍ ثابتة من الهواء فوقه. الضباب أيضًا من السُّحب، وهو وفقًا للتصنيف العِلمي من عائلة السُّحب الطبقية أيضًا. تشتهر ولاية ماين بالضباب، لا سيَّما في أشهُر الصيف الدافئة. كما تشتهر بالمياه الباردة، وثمَّة رابط بين الأمرَين. يأتي مُعظم هواء الصيف في نيو إنجلاند من المناطق شِبه الاستوائية، وتحمِله الرياحُ الجنوبية عند حافة مرتفَع برمودا، وتُرطِّبه مياه تيار الخليج الدافئة. يتَّجه التيار نحو أوروبا عند نقطةٍ ما جنوب شبه جزيرة كيب كود، لكن الهواء الدافئ يستمرُّ في التحرُّك شمالًا وشرقًا عبر التدفُّق البارد لمياه القطب الشمالي التي تملأ خليج ماين.
غالبًا ما يحمِل الهواءُ الدافئ الساكن فوق الماء جميعَ البخار الذي يُمكنه استيعابه تقريبًا. يصف خبراءُ الأرصاد هذه الظاهرة بأنها حالة من حالات «الرطوبة النسبية» العالية، وهي قيمة تقيس مقدار الرطوبة التي يحتوي عليها الهواء مقابل الكمية التي يُمكنه نقلُها نظريًّا؛ ٥٠ في المائة تعني نصف مُمتلئ، و١٠٠ في المائة تعني أن الهواء مُشبَّع أو بكامل طاقته الاستيعابية. سيؤدي تبريد كتلةٍ هوائية إلى ما هو أدنى من درجة حرارة مُعينة إلى ارتفاع نسبة الرطوبة النسبية فيها إلى ما يزيد على ١٠٠ في المائة، مما يُجبر الماءَ على الترسُّب في هيئة تكثُّف. وتُسمى القيمة المُحدَّدة لدرجة حرارة التكاثف هذه ﺑ «نقطة الندى». يُولِي الطيارون هذا الأمر اهتمامًا كبيرًا؛ لأنه مؤشِّر على بَدء تكوُّن السُّحب. الظروف الجافة تعني انخفاضَ درجة حرارة نقطة الندى، حيث يُمكن أن يُصبح الهواءُ الجاف أبردَ من الهواء الرطب قبل تشبُّعه. في حالاتِ تبريد الهواء الناتج عن ارتفاعه، تظهر السُّحب في الحال عندما يصبح المحيط باردًا بدرجةٍ كافية لتحفيز التكثُّف. تُمثل هذه نقطةً موحدةً لأي كتلة هوائية مُعينة، والسبب في أن قواعد السُّحب غالبًا ما تكون مسطحة. وبمصطلحاتِ الأرصاد الجوية، يُسمَّى هذا «مستوى تكاثف الرفع».
يحتاج بدءُ التكاثف عادةً إلى سطحٍ صُلب، وتحتاج السُّحب لتكوُّنها إلى جزيئاتٍ دقيقة من الغبار والسُّخام، والملح، والطين الذي يطفو في طبقة التروبوسفير. يُمكن للهواء الشديد النقاء، ذي المستوى المُنخفِض على غير المُعتاد من الجسيمات، أن يحتفظ بالبخار بعد تجاوز نقطة التشبُّع النظرية بكثير، وهي ظاهرة ساعدت في تجارِب الأمطار الصناعية، حيث تُسقِط الطائرات بلوراتٍ دقيقة من الجليد الجاف أو يُوديد الفِضة في السُّحب لتحفيز تكوُّن الأمطار. ينجح هذا في بعض الأحيان، على الرغم من أنه بعد خمسين عامًا من الاختبارات، لا يزال غير واضحٍ بين العلماء ما إذا كان يمكن الاعتماد على العملية لإحداث فرْقٍ إجمالي كبير في هطول الأمطار.
لنَعد إلى نيو إنجلاند، ونتخيل تيارًا صيفيًّا من الهواء الجنوبي يشقُّ طريقه شمالًا عبر خليج ماين. الهواءُ دافئ ومعبَّأ بالرطوبة المُتبخرة من وسط المحيط الأطلنطي المُعتدل، ولكن عند مروره فوق مياه أبرد، يبرُد بسرعة إلى ما دون نقطة الندى. والنتيجة هي الضباب، وهو عبارة عن كتلةٍ منخفضة من قطرات السحاب كثيفة بما يكفي لحجب جميع مَعالِم العالَم من حولها. يمكن للإبحار في الضباب أن يكون تجرِبةً مروعة، لا سيَّما للمُبتدئين، لكن صفاته تُعطي دليلًا جيدًا على التفاعُل بين الرطوبة والحرارة وهو العامل الفاعل في أنماط السُّحب.
جرت أولى تجارِبي في الملاحة لوقتٍ طويل في الضباب على متن مراكب الرُّكَّاب الشراعية المُتعدِّدة الصواري في خليج بينوبسكوت، حيث غالبًا ما كنَّا نُغادر الميناء يوم الاثنين ونُبحر إلى ما يُشبه الجدار الغائم الذي يشقُّ طريقه مثل نهر من القشدة التي سُكِبَت فتدفَّقت إلى أعلى المصب. في بعض الأحيان، كان القارب الذي أمامنا يختفي وأعلامه لا تزال تُرفرِف فوق طبقة السحاب قبل أن يبتلِعنا الضباب بدَورنا. لم يستخدِم القبطان، الذي كان يتمتع بثقةٍ مُطلقة في موقع الأشياء، سوى الحساب التقديري للملاحة، والذي اعتمدَ فيه على ساعة يَدٍ، وبعض الاتجاهات الأولية، ومسارٍ موجَّهٍ بعناية نحو مكانٍ عَلِم أن بإمكانه العثور عليه. بعد فترة من الدوران وتلمُّس الطريق عبر فقَّاعة من الضوء الخافت والأصوات المنكسِرة الغريبة، كان يُطلَب منَّا أن نبحث عن شيءٍ ما، ثم تظهر عوَّامة أو رأس بَر يتمايل خارجًا من الضباب، ليُصبح قريبًا جدًّا على الفور. تعلمتُ من هذا القبطان أنه من الشائع أن نجد جوًّا صافيًا في الجانب المحجوب عن الرياح من جزيرةٍ ما، حيث تُجْلي التضاريس التي تُدفِّئها الشمس بقعةً صغيرةً من الضباب. وقد أوصانا أن نكون حَذِرين في وقت الآصال، عندما يبرد الجوُّ وتعود إمكانية تكوُّن الضباب بسرعة تفوق كثيرًا ما يتوقَّعه المرء. كان قليلًا ما يُعجَب بالآخرين، فلم يكن لدَيه الكثير من التعاطف مع أولئك الذين يواجهون مشاكل في محاولة تحرِّي الدقة الشديدة في الملاحة دون رؤيةٍ واضحة. وقد نصحني أن أستهدفَ الأشياء التي في مقدوري تفويتها. كانت هذه استراتيجية مقبولة، وإن كانت غير مثالية. فخلال العام الأخير الذي أمضيتُه على متن هذه السفينة، تسلَّلنا بعد ظُهر أحد الأيام إلى أحد الشواطئ غير الواضحة، مرورًا بعوَّامةٍ ملاحية بعيدة قليلًا بحيث صَعُب التعرُّف عليها. أرسلوني بعيدًا في قاربٍ لقراءة رقمِها، ووجدتُ أن العوامة كانت في الواقع رجلًا كبيرًا يرتدي بنطالَ تخويضٍ أخضر، ومعه جَرَّافَة للحلزونات الصدفية.
قال: «إلى أين تحسبُ أنكَ ذاهب؟»
هززتُ كتفي واستدرتُ على عقبَيَّ، وكان الضبابُ قد ابتلعَ المركب الشراعي. اتبعتُ أفضل تخمينٍ وانطلقتُ منحرفًا عن المسار بزاوية ٩٠ درجة حتى سمعتُ جرس الغداء فصححتُ مساري.
ينتشر الضباب في ولاية ماين شتاءً أيضًا، وذلك بسبب انقلابٍ شديد يجعل المحيط البارد يبدو دافئًا. فعندما يشقُّ هواءُ القطب الشمالي الشديد الجفاف طريقَه فوق الماء في أعقاب جبهةٍ باردة، قد يصِل الفارق في درجة الحرارة بين الهواء والبحر إلى ٥٠ درجة، وهو ما يكفي لأن يتصاعد البُخار من الخليج مثل حوض استحمام. تُسمَّى هذه الظاهرة «دخان البحر»، حيث تَبْرُد الرطوبة الموجودة فوق سطح سائلٍ دافئ وتتكثَّف لفترةٍ وجيزة قبل أن تتبخَّر مرة أخرى في الهواء الجافِّ المحيط. لا تسمع كثيرًا عن دخان البحر مثلما تسمع عن ضباب الصيف، ولكن لأولئك الذين يُضطرُّون إلى العمل في الماء خلال فصل الشتاء، قد يُمثل الأمر تحدِّيًا كبيرًا. غالبًا ما يتكون أيضًا «الضريب الصُّلب أو الصَّريد»، وهو طبقة صَقِيعية تتكوَّن عندما تتجمَّد قطراتُ الضباب الشديدة البرودة على الأسطح.
أخبرَني صيَّادُ جزيرة ماتينيكوس الراحِل، ديك أميس، عن محاولته للعودة إلى الديار على متن قاربه لصيد الكَرْكَند في صباح أحد الأيام في شهور يناير التي يسيطر فيها الضبابُ على الأفق حيث غطَّى الجليدُ الزجاجَ الأمامي لحجرة القيادة. لم يكن باستطاعته أن يرى الطريقَ سوى بإخراج رأسه من نافذته الجانبية، لكنَّ الجوَّ كان شديد البرودة لدرجة أنه لم يكن يتمكَّن من فِعل ذلك لأكثر من دقيقةٍ أو دقيقتَين في المرة الواحدة. وفي إحدى المرَّات كان قد سحبَ رأسه للتوِّ إلى الداخل عندما وقعَ اصطدام قوي بين قاربه وقاربٍ بجواره كان راسيًا بالقُرب من مدخل الميناء الصغير.
قال: «لم تعُد ثمة مشكلة. فبعد ذلك عرفتُ أين كنتُ بالضبط.»