الفصل الرابع

الإعصار الأفعواني

الطقس حارٌّ ومُشمِس الآن على سطح السفينة في منتصف النهار، بدرجةٍ تدفعك إلى الظلِّ إن كان خيارًا متاحًا أمامك. عادت الرياح التجارية، ثابتةً من الجنوب الشرقي مباشرةً، والسفينة تنزلِق على سطح الماء كما لو كانت تسير على قضبان سكة حديدية. بعضُ الليالي جافَّة ومرصَّعة بالنجوم، والأمسيات مُفعَمة بالحيوية، ويظهر الأفق فيها بلون قِشر البطِّيخ. وكوكبة ذراع الجبار مُمدَّدة فوق رءوسنا، تدور في قوسٍ عظيم. نعبر خط الاستواء بالقُرب من خطِّ طول ١٣٢ درجة غربًا، بعد منتصف ليل ١٧ ديسمبر مباشرةً. شمالًا على طول خط الزوال لدَينا، رقعة الأرض التالية هي كولومبيا البريطانية. وجنوبًا تقع القارة القطبية الجنوبية. ومما يُثير الدهشة أنَّ خطَّ العرض، على نظام تحديد المواقع الخاص بالسفينة، يظهر لفترة وجيزة بالرقم ٠٠٫٠٠٠ °٠٠.

يُعرَف البحَّارة الذين عبروا خط الاستواء باسم «البحَّارة المُحنَّكين». إنه شرَف لم يكن البحَّار في الماضي يحظى به إلا بعد طقس عبور مُعين، يتضمَّن عادةً تمثيل أحد البحَّارة للملك نِبتون (إله الماء والبحر في الميثولوجيا الرومانية)، وقَصة شعرٍ قصيرة، ووابل من الإساءة المُتناوبة على يدِ بحَّارة مُحنَّكين احتُفِل بهم مُسبقًا. في مجموعتنا، ومع أنه يوجَد حاليًّا نفور عام من إساءة المعاملة إلا أنه لا تزال هناك رغبة إنسانية متأصِّلة تتمثَّل في الشعور بتحقيق إنجازٍ من خلال اجتياز تلك الطقوس. لذلك نتَّفق على ألا نستخدِم القطران أو الريش أو عجَّة البيض الفاسد في هذا الاحتفال. وعندما يظهر نِبتون، يبدو مريبًا وقريبَ الشَّبَه من كبير العلماء. يواجِه الأفراد الجُدد تحديًا يتمثل في التوبيخ المُعتدل، وشِباك الصيد المُبلَّلة، ووابل من مياه خراطيم إطفاء الحرائق، وعشاء احتفالي من دقيق الشوفان البارد، وكل ذلك يُقابَل بمقاومةٍ خفيفة من العناصر المارقة في قسم الهندسة. لا نأتي بمَن يقصُّ شعر الطلاب، بل هم مَن يجلبون أدوات القصِّ ويقصُّون شعرهم بأنفسهم. وسرعان ما يبدو الطاقم بأكملِه في مظهرٍ فوضوي مثل المُعجبين بفرقة رامونيس لموسيقى البانك روك في عرض عام ١٩٧٧.

بعد ذلك، يُعقَد اجتماعٌ قصير في مقصورتي لمناقشة تفاصيل الغَد، وهو اليوم الذي سيتغيَّر روتينُه ليتحول إلى حملة تنظيفٍ شامل للسفينة. «اليوم الميداني» هو الاسم الذي نُطلقه على هذه الحملات الأسبوعية، وهو الاسم الذي ظننتُه تسميةً خاصَّةً بنا حتى أخبرَني أحدُهم أنه في الواقع مصطلحٌ عسكري يرجع إلى الوقت الذي كانت فيه وحداتُ المشاة تُنظف معَدَّاتها وتصطفُّ في الخارج للتفتيش. نضع خُططنا وسط مقاطعاتٍ مُستمرة من عالِم يجلس بالقُرب منَّا ومعه جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به، يتصفح صورًا مجهرية التُقِطَت لبعض العوالق. الأشياءُ التي يراها في هذا العالَم المُصغَّر مثيرةٌ للاهتمام لدرجةٍ تجعله يرغب في مشاركتها معنا.

ومِن ثَمَّ، يُقاطعنا فيقول: «انظروا إلى هذا.»

في وهج الشاشة الشفَّاف يطفو شيءٌ من شأنه أن يُطاردك في أحلامك لو زاد طوله على ١٢ ملِّيمترًا. قشريات الفرونيما المُزدوِجة الأرجل من العوالق السيئة التي تحصل على غذائها عن طريق غزو أسراب القناديل الأنبوبية المعروفة باسم السالبيات، حيث تخترق قشورها المُجوَّفة وتستولي عليها كحاضنات، تنمو فيها يرقاتها في دفقاتٍ قبل أن تنبثق لتبدأ الدورة من جديد. يُقال إن هذه الحيوانات ذات الرأس الشبيه بالبَلطَة، والمُحاطة بالكتلة النابضة المُتمثلة في صغارها داخل القشرة الفارغة للعائل، كانت مصدر الإلهام لريدلي سكوت في فيلمِه «كائن فضائي» (إليان). لا يبدو أن لدى أي أحدٍ معلوماتٍ أكيدة، ولكن مما يبعث على الراحة كثيرًا معرفة أن حجمها في حياتها على كوكب الأرض لا يتعدى حجم مِمْحاة قلم رصاص.

يجمع أفرادُ الطاقم ملاحظاتهم ويَهمُّون بالمغادرة، بينما ينتقل العالِم إلى شريحةٍ أخرى ويُدوِّر جهاز الكمبيوتر الخاص به مرةً أخرى لعرض صورةٍ أخيرة لفوضى العوالق. أعود إلى مكتبي، وأنظر باهتمامٍ فاتر إلى الهوامش القطبية لأحدث خرائط الطقس لدَينا، حيث تبدو الأشياء مختلفةً كثيرًا عما هي عليه هنا في موقِعنا. في أقصى الجنوب، الذي لا تتخلَّله قارات، يقع المحيط الجنوبي، وهو الامتداد القريب من القطب الجنوبي للرياح الغربية الباردة الذائعة الصِّيت في المعارف والتقاليد البحرية. هنا تُوجَد رياح الأربعينيات الهادرة، والخمسينيات الغاضبة، والستينيات الصارخة، التي سُمِّيت نسبةً إلى خطوط العرض التي تهبُّ فيها، ولا يزال هذا أسرع طريق للإبحار حول العالم، إذا كان كل ما يُهمك هو العودة إلى حيث بدأت. في نصف الكرة الشمالي، تشغل اليابسة حيزًا أكبر من المياه، فيُعرقل سلاسة الملاحة الظهورُ المُتكرِّر للتضاريس. وتُصبح أنماط الغِلاف الجوي الصافية عبارة عن حشدٍ فوضوي من الكتل الهوائية، التي تستحضِر رمزيتُها إلى الأذهان شبكةَ عنكبوتٍ أو زجاجَ سيارةٍ أماميًّا مكسورًا. ثمة فوضى من سيبيريا إلى سان فرانسيسكو. وتحت هذا الخط يوجَد تنافسٌ ديناميكي مُعقَّد بين الكتلة الهوائية الدافئة المُستقرَّة لمرتفع شمال المحيط الهادئ وهواءٌ شِبه قُطبي صاخب، مما يؤدي إلى تكوين سلسلةٍ من الدوَّامات التي تشكِّل العواصف والهدوء في المناطق المعتدلة. إن ما تُظهره المراجع العلمية على أنه شريطٌ أنيق من الرياح الغربية هو في الواقع فوضى، موجة مَدٍّ وجَزر من الاضطرابات اللامُتناهية على طول الخطِّ الفاصل بين تياراتٍ هوائية شديدة الاختلاف.

نحن محظوظون بوجودنا حيث نحن اليوم. مثل زملائي في السفينة، وجدتُ عملًا شتويًّا في المناطق الاستوائية، وأُدرك جيدًا ما يحدث في أماكن أخرى بينما أتجوَّل مرتديًا صندلًا صيفيًّا. في آخِر يومٍ لنا في بويرتو فالارتا، اتصلَ بي أخي من سياتل، بينما كان مُحتميًا في أحد المقاهي أثناء دفع العواصف بصفائح من المطر البارد عبر لسان بيوجت ساوند وحتى الوجه الغربي لسلسلة جبال كاسكيد. إنه يعمل طاهيًا، ويَعول أُسرةً ويُحقق أملَ والِدَينا أيًّا ما كان في توجيه أبنائهما إلى مِهَنٍ تقليدية.

جلستُ تحت مظلَّة حانةٍ للعصائر ألتمسُ بعض الظلِّ بينما كنَّا نتحدَّث، وأخذتُ أُراقب سائحَين يرتدِيان ملابس السباحة ويمرَّان بالمكان بدرَّاجة مزدوجة.

سألني: «كيف حال الطقس لديك؟»

قلت له: «الأفضل ألَّا تسأل.»

في ولاية ماين، في الوقت نفسه تقريبًا، كان والدي يُزيل الثلوج من الطريق الخاص لمنزله وسط عاصفةٍ هَبَّتْ من سماء زرقاء صافية، مكافحًا ألا تُطيح به العاصفة إلى قارعة الطريق. سرعان ما ستتجاوز الجبهة الباردة المُصاحبة لهذا النمط نفسه سفينتنا الأخرى في جُزر البهاما، على بُعد ١٥٠٠ ميل جنوبًا. في أواخر ليلةٍ شبه استوائية رطبة وحارة، حاصرَهم جدارٌ شاهق من السُّحب السوداء من الغرب، يتحرَّك بسرعة ٣٥ عقدة ويمتدُّ من أفقٍ إلى آخر. هطلت أمطارٌ غزيرة، وبعد ساعةٍ هَبَّت عاصفة شمالية غربية جرفتهم بعيدًا عن الشاطئ، وفجأة أصبح الهواءُ جافًّا وباردًا بدرجةٍ تستدعي ارتداءَ سُتراتٍ واقية من المطر.

هنا، في خضمِّ الرياح التجارية، نُبحر مستمتعِين بالدفء وغير مُبالين بمثل هذه المِحَن البعيدة.

•••

الأعاصيرُ الحلزونية هي دواماتٌ جوية تحيط بمنطقةٍ ذات ضغط منخفض على السطح. ويُطلَق عليها أحيانًا «تقاربات»؛ لأنها تنطوي جميعًا بطريقةٍ ما على تدفُّق إلى الداخل، نحو مكانٍ يرتفع فيه الهواء. تكره الطبيعة الفراغ. فيتوجَّه تدفُّقُ التقارُب بفِعل تأثير كوريوليس، بحيث تدور الأعاصيرُ الحلزونية في كل نصفٍ من الكرة الأرضية كما يدور كوكبُ الأرض إذا نظرنا إليه من القطب، أي عكس اتجاه عقارب الساعة في الشمال، ومع اتجاه عقارب الساعة في الجنوب. مصطلح الإعصار الحلزوني في اللغة الإنجليزية نفسه cyclone مشتقٌّ من الكلمة اليونانية kyklōma، وتعني عجلة، أو أفعى ملتفَّة، ويبدو أن أول من استخدَمه في سياق الأرصاد الجوية كان قبطانًا بريطانيًّا من الهند الشرقية يُدعى هنري بيدنجتون. سعى بيدنجتون، مثل بوفورت وغيره من روَّاد وفطاحلة الطقس البحري الأوائل، إلى استخدام مصطلحاتٍ معيارية يمكن تناقُلها عالميًّا بدلًا من مجموعة الأوصاف المحلية المُتفرقة. قد تكون الرياح الحالية «شمالية شرقية»، أو «سومطرية»، أو «إعصارًا حلزونيًّا استوائيًّا»، ولكنها تُعزَى جميعها بشكلٍ عامٍّ إلى وجود دوران شديد للضغط المُنخفض في الغِلاف الجوي.

لا تزال تسمية الأعاصير الحلزونية مربكة؛ لأنها تشمل العديد من أشكال الأعاصير وغالبًا ما تُستخدَم استخدامًا غير دقيق. كما تُستخدَم مجموعة متنوِّعة من المرادفات القريبة: «نمط الضغط المنخفض»، و«المنخفض الجوي»، و«الاضطراب الجوي»، و«نطاق جوي منخفض الضغط»، وجميعها مصطلحاتٌ لمنطقة يسحب فيها الضغطُ المنخفض على السطح الهواءَ ويُرسله إلى الأعلى. يتمدَّد الهواءُ الصاعد، ويبرد، ويطلِق الرطوبة عبر عملية التكاثف. وتتكوَّن السُّحب. ويسقط المطر والثلج على الأرض. تُسمَّى هذه بالسِّمات «الإحداقية» (الشاملة)، وهو توصيفٌ يُشير إلى حجمها ومُدتها. وتُقاس بمئات الأميال وتستغرق أيامًا لتأخذ مجراها. وتتضمن الأنظمة المناخية الواسعة النطاق عناصر فرعية أصغر وأكثر ديناميكية إلى جانب أنماط أبطأ تستغرق فتراتِ تكوُّنٍ أطول.

تُصنَّف الأعاصير إلى عائلتَين رئيسيتَين حسب مَنشئها. في خطوط العرْض الوسطى، تنشأ عن اختلاف الكثافة بين الهواء الدافئ والبارد حدودٌ غير مُستقرة تؤدي إلى تكوُّن الأعاصير الحلزونية «خارج المدارية» أو «الموجية». هذه هي العواصف الشتوية المُعتادة، فإذا كنتَ تعيش في أمريكا الشمالية، أو أوروبا، أو تشيلي، فهذه السِّمات هي المسئولة عن معظم أحوال الطقس في هذه المناطق. على مسافة أقرب إلى خطِّ الاستواء، تتكوَّن «الأعاصير الحلزونية المدارية» في الهواء الذي يكون دائمًا دافئًا ورطبًا، ويُحركه الامتصاصُ السريع لرطوبة المُحيطات في أشدِّ أوقات السنة حرارة.

تبدأ معظم الأعاصير الحلزونية خارج المدارية على طول «الجبهة القطبية»، وهي الحدود الدائمة تقريبًا بين المناطق القطبية والمُعتدلة لكل نصفٍ من نصفَي الكرة الأرضية الشمالي والجنوبي. ويحدُث تغيرٌ سريع في كثافة الغِلاف الجوي عند هذه النقطة. تذكَّر أن الهواء الدافئ أخفُّ من الهواء البارد، وكثيرًا ما يحمِل كميةً أكبر من بخار الماء، مما يؤدي إلى خفض كثافته بشكلٍ أكبر. ويتبع «التيارُ النفاث»، وهو ممرٌّ مرتفع ومنحرِف للرياح الغربية، الجبهةَ القطبية على ارتفاع ١٠ كيلومتراتٍ تقريبًا. على الرغم من اسمها، فإن الجبهة عادة ما تكون بعيدةً عن القطب. فقد تصل إلى فلوريدا في الشتاء وتختفي في المناطق القطبية في كندا بحلول شهر يوليو. أما نظيرتها في القطب الآخر، فتجلب العواصفَ إلى نيوزيلندا في شهر يونيو. قد تكون الجبهة مُستقيمة مثل الشارع أو مُتعرِّجة مثل طريقٍ لرعي الأغنام. وقد تنقسم إلى فروع، أو تتعرَّج عائدة إلى نفسها لتترك في أعقابها بحيراتٍ معزولة من الهواء البارد. النظرُ إلى الجبهة من أحد القطبَين أو الآخر أكثرُ ما يكشف عن طبيعتها؛ فبالنظر إليها من موقِعنا هذا نجدها تتأرجح في مسارها حول الكرة الأرضية في دائرة مُتذبذبة، كمادةٍ مُنَكِّهة تُسكَب فوق مثلجاتِ الآيس كريم. وثمة نمَط واضح للقِمَم والقيعان، وهو مُنحنياتٌ جيبية طويلة تُسمى «موجات روسبي»، التي تتقدَّم ببطءٍ من الغرب إلى الشرق. ويؤدي الاضطرابُ على طول هذه الحدود إلى الاختلاط، وبذلك يتشكَّل الطقس. يهبط جزءٌ من الهواء القطبي الكثيف باتجاه خط الاستواء، ويطفو الهواءُ الدافئ فوقه، ويندفع المزيدُ من الهواء إلى السطح. تتكاثف السُّحب مع برودة الهواء الصاعد. يجعل تأثيرُ كوريوليس كلَّ شيءٍ يدور، ويتولَّد من ذلك إعصارٌ حلزوني.

يُخفَّف الهواء البحري بعملية التسخين والتبريد السريعة بسبب قُربه من المحيط، وكونه محملًا بالرطوبة من مياه البحر المُتبخرة. تنشأ الأعاصير الحلزونية خارج المدارية الأشدُّ في الخريف والشتاء عند الأطراف الشرقية للقارات، حيث يلتقي وجهًا لوجهٍ الهواءُ البارد الجاف بالهواء الرطب الأكثر اعتدالًا. تهبُّ رياحٌ شديدة البرودة من سيبيريا وفوق المحيط الهادئ. ويرتفع هواءُ المُحيط الأخف فوقها مثل الرغوة فوق مشروب القهوة، ويُمتَص المزيدُ ليحلَّ محله. يتعرَّض الهواءُ الصاعد لتبريدٍ سريع، حيث يحوِّل التكاثفُ بخارَ الماء إلى أمطارٍ وثلج. هوكايدو، الجزيرة الشمالية اليابانية، هي أكثر مكان تتساقط فيه الثلوج على وجه الأرض. يليها شمال ولاية نيويورك بفارقٍ ليس ببعيد، حيث تهبُّ رياح الشتاء قبالةَ الدرع الكندي وتُحوِّل بحيرة إيري إلى آلة عملاقة لإنتاج الثلج. قالوا لي في مكتب أحد الفنادق بالقُرب من مدينة بوفالو عندما اختفت سيارتي عن الأنظار في موقف السيارات: «إنه مجرد ثلج طفيف من تأثير البحيرة.»

تشقُّ الجبهة القطبية طريقَها إلى خطوط العرض المُنخفضة مع مُضي فصل الخريف. وتلتقي هبَّاتُ هواء القطب الشمالي مع تيارات الخليج الدافئة قبالة ولاية كارولينا الشمالية. تنشأ الأعاصير الحلزونية هنا، وسرعان ما تتوغَّل بينما تتحرك صعودًا في الماء بحذاء الساحل الشرقي. وفي غضون يومٍ أو يومَين، تضرب الرياح الشمالية الشرقية العاتية بوسطن مصحوبةً بالأمطار والثلوج بينما تنجرف أنظمة الطقس تدريجيًّا بعيدًا عن الشاطئ. ينساها الناس مؤقتًا، بينما تمضي عبر المحيط الأطلنطي، حاملةً معها الرطوبة على طول الطريق. وبحلول الوقت الذي تصِل فيه إلى اليابسة، قد تكون في قوة الأعاصير ويبلُغ نطاقُها ألف ميل. يُعَد ميناءُ كورك الأيرلندي أقصى ميناءٍ غربًا في أوروبا، وقد التُقطَت صور فوتوغرافية لقوارب الإرشاد هنا وهي تغوص بالكامل تحت الأمواج في طريقها لإرشاد السفن القادمة. وفي منصَّات الطاقة البحرية القريبة من قرية كينسيل، يبلُغ ارتفاعُ أكبر البحار المُسجَّلة كلَّ شتاءٍ أكثر من ٢٠ مترًا. ومن المُقرَّر إيقاف تشغيل هذه المنصَّات قريبًا، غير أن عمليات المحيط ستستمر بلا شك. أبحرتُ من كورك في شهر يوليو في رحلة إلى إسبانيا. حتى في فصل الصيف، تُعَد الرحلة نزولًا عبر مصبِّ نهر «لي» الأخضر إلى الاتساع المفاجئ للمحيط الأطلنطي تحولًا مذهلًا. كان يومًا هادئًا عند اقترابنا من الميناء، لكن لم يسعني إلا أن أُلاحظ مدى حذَر وتأنِّي المُرشد البحري عندما كان يستعد لنزول سُلم السفينة والتوجُّه إلى الشاطئ في قاربه، حيث كانت حقول إيره («أيرلندا» باللغة الأيرلندية) قريبة في الخلفية وكانت الأمواج في كل مكان.

•••

يميل الهواءُ، مثل الموائع الأخرى، إلى التراصُف وليس الخلط. إذ يعلو الهواءُ الدافئ الهواءَ البارد. ويغوص الهواءُ الجاف أسفل الهواء الرطب. وقد توجَد الكتلُ الهوائية جنبًا إلى جنب في بعض الأحيان، على الرغم من أنه سرعان ما يحدث بعض الاضطراب الذي يُحتمَل أن يُخلَّ بهذا التوازُن، ومن ثَمَّ يبدأ الخلط. تتميز الأعاصيرُ الحلزونية المدارية بوجود «جبَهاتٍ»، وهي الحدود المميَّزة بين الكُتَل الهوائية المكوِّنة لها. يُمثَّل الإعصار الحلزوني خارج المداري المرسوم على خريطة الطقس على شكلِ موجة، حيث تتمركز قمَّته حول منطقةٍ ذات ضغط مُنخفض على السطح. وتُمثِّل الحافة الأمامية للموجة «الجبهة الدافئة»، وهي عبارة عن كتلةٍ رطبة من الهواء الدافئ على شكل إسفين تتقارَب في مركز منطقة الضغط المُنخفض وتُجبَر على الارتفاع بسبب الهواء البارد على جانبَيها. تُرسَم الجبهاتُ الدافئة على شكل خطٍّ مُتصل وسلسلة من النتوءات نصف الدائرية على طول الحافة الأمامية. ويُمثِّل الجزءُ الخلفيُّ من الموجة «الجبهةَ الباردة»، وهي عبارة عن جدارٍ آخِذ في التقدُّم من الهواء الجاف الكثيف يظهر على الخريطة على شكل خطٍّ مُميز من الأشكال المُسنَّنة على طول حدوده. تتحرك الجبهة الباردة أسرع من الجبهة الدافئة، وخلال أيام معدودة تنغلِق الفجوة بينهما مثل السَّحَّاب. وبمجرد إغلاق السَّحَّاب تمامًا، تكتمِل دورةُ الخلط وتتبدَّد الجبهة.

قدَّم اثنان من خبراء الطقس النُّرويجيِّين في أوائل القرن العشرين التفسيرَ الأساسيَّ للأعاصير الحلزونية خارج المدارية. وكان النَّموذج النُّرويجي أول نموذج يَستخدِم مفهوم الجبهات، وهو مصطلح مُستعار من الحرب التي كانت في ذلك الوقت قد وضعت أوزارها للتوِّ في أوروبا، ويظلُّ هذا المصطلح توصيفًا مفيدًا على الرغم من ظهوره في عصر الطائرات الثنائية السطح. كان جاكوب بيركنس وهالفور سولبرج باحثَين شابَّين في جامعة بيرجن، وهو المَوقع الذي وفَّر لهما فرصةً كبيرة لتجرِبة الطقس السيِّئ لشمال المحيط الأطلنطي عمليًّا. وتُلخِّص ورقتُهما البحثية المشهورة الآن استنتاجاتهما على النحو التالي:

يتكوَّن الإعصار الحلزوني من كتلتَين هوائيتَين مختلفتَين اختلافًا جوهريًّا؛ إحداهما باردة والأخرى ذات أصل دافئ. ويفصل بينهما سطحٌ حدودي مُميز إلى حَدٍّ ما يمرُّ عبر مركز الإعصار. في حالة المُنخفضات الجوية المُتجهة شرقًا في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، ينتقَّل الهواءُ الدافئ بفِعل تيارٍ جنوبي غربي أو غربي على الجانب الجنوبي من المُنخفَض. وعند جبهة هذا التيار يصعد الهواءُ الدافئ إسفينَ الهواء البارد، ويؤدي إلى تكوُّن هطول (مطر الجبهة الدافئة). ويتعرَّض التيار الدافئ في الوقت نفسِه على جانبَيه لهجوم الكتل الهوائية الباردة القادمة من الجزء الخلفي للمُنخفَض. وبذلك يرتفع جزءٌ من الهواء الدافئ ويتشكَّل هطول (مطر الجبهة الباردة).

كان التفسير النرويجي قويًّا بما يكفي لأن يصمد دون تعديلٍ كبير إلى أن أُضيف له ما يُسمَّى بنموذج شابيرو-كايزر للأعاصير في أواخر القرن العشرين. وكان أبرز تحسين أضافه شابيرو وكايزر هو رؤية أوضح لما يحدُث في بعض الأعاصير البحرية القوية، حيث تنقسِم الجبهاتُ الباردة والدافئة للسماح باقتحام الهواء الدافئ لقلْب العاصفة. وعند رؤية هذه العملية عبر الأقمار الصناعية، فإن أبرز ما يُميزها هو كتلةٌ سحابية على شكل فاصلةٍ كبيرة مُنحنية للخلف، تُشبه كمَّاشةَ مِطرقة، أو بالأحرى ذيلَ عقرب. وكما وجد زميلي الكابتن جاي آمستر في تجربته قبالة ساحل نيوزيلندا، فإن هذا من شأنه أن يؤدِّيَ إلى ظروفٍ قاسية عند السطح، حيث ترتفع الحرارة التي امتصَّتها العاصفة عاليًا ويصطدم الهواءُ البارد مرةً أخرى بالأرض بسرعاتٍ هائلة.

سيُلاحظ المراقبون في مسار الإعصار الموجي وجودَ نمَط محدد، بدءًا من وجود سُحب سِمحاقية عالية وناعمة في يومٍ كان صافيًا قبل ذلك. تَنتج هذه السمة المُعتادة المُميزة للطقس السيئ عن الرطوبة الصاعدة من مركز الجبهة والمُندفعة للأمام على الرياح الغربية القوية للتيار النفَّاث. بعد يومٍ أو يومَين من وصول السُّحب السِّمحاقية، يُصبح الجوُّ ملبَّدًا بالغيوم، حيث تُنذر طبقة منخفضة تدريجيًّا من السُّحب الطبقية بوصول الجبهة الدافئة. وقد يبلُغ عرضُ هذا الإسفين الرقيق من الهواء الدافئ مئاتِ الأميال، وتُصبح السُّحب أكثر انخفاضًا وأكثر كثافةً مع تقدُّمها. وسوف ترتفع درجة الحرارة والرطوبة. وقد يبدأ تساقُط المطر أو الثلج. ومع اقتراب الجبهة، ستبدأ قراءة البارومتر في الانخفاض. ويمكن الاعتماد على اتجاه الرياح للعثور على مَوقع مركز الإعصار باستخدام «قانون بويز بالوت»، الذي ينصُّ على أنك إذا واجهتَ الرياح في نصف الكرة الشمالي، فسيكون مركز الإعصار على اليمين وخلفك مباشرةً، تقريبًا كموقع الرقم أربعة في قرص الساعة من مركز عقاربها. أما إذا كان المركز إلى غربك، فستكون الرياح جنوبية، حيث يُسحَب الهواءُ الرطب الدافئ من خطوط العرْض المُنخفضة بفِعل التقارُب.

الجبهة الباردة عبارة عن موجةٍ من الهواء الجاف البارد، تندفِع لتحلَّ محلَّ الهواء الدافئ الذي دُفِع عاليًا في إعصارٍ موجي. تنشأ عن ذلك حدودٌ مفاجئة، أشبَه بالجدار منها إلى بالإسفين، وغالبًا ما تُميزها أعمدةٌ طويلة من المُزن الركامي وتحوُّل حاد للريح نحو الربع القطبي. بعد مرور الجبهة الباردة، عادةً ما تبدأ قراءاتُ البارومتر في الارتفاع ويجفُّ الهواء. وقد يُصبح الجوُّ أبرد بكثير. في بعض الأحيان تُشبه الجبهة الباردة ماسحةَ زجاج السيارات الأمامي، حيث تكون عبارة عن شريطٍ سريع الحركة يقشَع ضبابَ السماء بمسحةٍ واحدة سريعة. وفي أحيانٍ أخرى، إذا كانت الحدود الخلفية أكثر تعرُّجًا، قد ينطوي الانتقالُ على تحولاتٍ متقطعة للسُّحب وهطول للأمطار. كانت بداية مُعاناتي في الطريق إلى جرينلاند بسبب إعصارٍ موجي تقليدي، تكوَّن على طول جبهةٍ قطبية مُنتقلة موسميًّا. كنَّا في حقيقة الأمر نشعر بطقس أمريكا الشتوي في مكانٍ آخر خلال صيفها، حيث اندفع ممرٌّ واسع من العواصف شمالًا بفِعل هواء شهر يوليو الدافئ. تُولَد العواصف هنا عندما تنجرف نفثاتُ الهواء الجنوبي الرطب من ذيل تيار الخليج وتلتقي بجدارٍ بارد من هواء القطب الشمالي. بعد أن اجتذبنا القطاعُ الدافئ للعاصفة، توقَّفْنا عند السندان الحادِّ لجبهتها الباردة، وكوَّنت الرياحُ الشمالية أمواجًا عاتيةً فجأة، وفي نهاية المطاف أخلت السماءَ لاستقبال فجر اليوم التالي. كنتُ في الثامنة والعشرين من عمري حينذاك، وكنتُ قد تجاوزت، منذ فترةٍ وجيزة، عتبةَ مسيرتي المِهنية كقائد سفينة، والتي كان يَحدوني فيها الحماسُ أكثر من الخبرة. كانت قد أُتيحت لي الفرصة للإبحار على متن سفينةٍ شهيرة إلى مكانٍ غير مألوف، وقد انتهزتُها، وأنا لا أكاد أُدرك كلَّ ما قد ينطوي عليه الأمر. هكذا تبدأ المغامرات، كما سيقترح البعض. وقد يُجيب آخرون بأن المغامرات تحدُث لمَن لا يستعدُّون لها، وقد يخوضها آخرون. وكِلا الفريقَين يمكن أن يكون مُحِقًّا. في آخر رحلةِ تسوُّق قبل الإبحار، أنفقتُ ٢٠٠ دولار على الجوارب والملابس الداخلية، وأنفقتُ كل ما تبقَّى معي على قوالب شوكولاتة سنيكرز.

•••

تغيب في المناطق الاستوائية التبايُناتُ الحادة في درجات الحرارة التي تؤثر على الطقس في أماكن مثل دولوث أو طوكيو. فهنا على خلاف ذلك، تعمل أشعةُ الشمس شِبه العمودية على تسخين الأرض باستمرار، مما يشكِّل حزامًا من الهواء الرطب الدافئ حيث تشقُّ الرياحُ التجارية طريقَها بثباتٍ نحو مناطق التقارُب الدائمة بالقُرب من خط الاستواء. وتنشأ الأعاصيرُ الحلزونية المدارية في هذه البيئة عندما تؤدي درجاتُ حرارة البحر المرتفعة إلى ظهور جيوبٍ موضعية من الضغط المُنخفض في الغِلاف الجوي. وتُكوِّن أكبرُ مراحلِه الإعصارَ الاستوائي الدوَّار، وهو القمة الأخيرة لذلك التسلسُل الهرمي الذي قد يكتمِل أو لا يكتمِل في أية ظروف مواتية. «الإعصار المداري الدوَّار» (في الإنجليزية Hurricane) هو في حدِّ ذاته مصطلح خاص بالمحيط الأطلنطي وشرق المحيط الهادئ، ويرجع إلى كلمة لدى شعب التاينو الأصلي من حوض البحر الكاريبي. إذ تقول الأسطورة إن «هوراكان» كانت إلهة الرياح الغاضبة، والتي تظهر في الأيقونات المحلية مثل درويش واسع العينَين ذي ذراعَين طويلتَين مُلتفتَين. إنها أشبه إلى حَدٍّ ما بصورة قمر صناعي لعاصفة مدارية، مما يعني ضمنًا أن التاينو في عالَم ما قبل أوروبا كان لدَيهم بالفعل فهمٌ جيد للأرصاد الجوية المحلية. يمكن تسمية العواصف المُماثلة في غرب المُحيط الهادئ بالأعاصير الحلزونية، أو أعاصير التايفون (من الكلمة الصينية «تاي فونج»)، أو الباجيو، وهي كلمة تاجالوجية من الفلبِّين التي تتعرَّض كثيرًا لتلك الأعاصير.

غالبًا ما تنشأ العواصف المدارية على شكل اضطراباتٍ في الرياح التجارية، حيث تتمدَّد منطقة الحَمل الحراري الموضعية وتبدأ في الدوران. ينجذب الهواءُ نحو المركز، ثم يُرفَع، وتحمِله بعيدًا رياحٌ عالية. يحدُث التكاثف في نطاقاتٍ دائرية مركزية كثيفة من المُزن الركامي، وتأخذ العاصفة شكل مَجرةٍ حلزونية مكوَّنة من عواصف رعدية. ينشأ فرقٌ حادٌّ ومفاجئ في الضغط بين حواف الظاهرة ومركزها، وهو ما يظهر على خرائط الطقس من خلال نقطةٍ مركزية لخطوط تَساوي الضغط الشديدة التقارُب. ووسط النمَط السلس نسبيًّا للمسارات المتعرِّجة، يبرز الإعصارُ مثل عقدةٍ في لوح من خشب الصنَوبر. يحمل الهواءُ البحري المداري كَمياتٍ هائلة من الطاقة المُخزَّنة في شكل حرارة كامنة، وذلك ضِمن حمولته الكبيرة من الرطوبة المُتبخِّرة. عندما يتكاثف بخارُ الماء هذا في شكل سُحب، تنطلِق الحرارة إلى عمود الهواء، مما يؤدي إلى تقوية دورة الحَمل الحراري. وهذا ما يُسمِّيه العلماء «آلية الرجع الإيجابي»، حيث تؤدي نتيجة العملية إلى تشجيع العملية نفسها على الاستمرار. يُعَدُّ هذا الإطلاقُ للحرارة الكامنة مُحفزًا أساسيًّا في أنماط الطقس بجميع أنواعها. فهذا ما يجعل السُّحب تمتدُّ عموديًّا في الغِلاف الجوي. ولكن المناطق المدارية مُتفردة في مخزونها اللامتناهي من الهواء الدافئ الرطب. وفي ظلِّ الظروف المناسبة، يمكن لبُقعة بسيطة لا تُشكِّل خطرًا من الحَمل الحراري الموضعي أن تمتصَّ ما يكفي من الطاقة من بخار الماء، فتتمدَّد لتُصبح إعصارًا حلزونيًّا مداريًّا.

في شمال المحيط الأطلنطي تظهر العواصف في مراحل تكوُّنها الأولى في شكل «أمواج مدارية»، تكون عبارة عن اهتزازاتٍ مُتنقلة في الرياح التجارية التي تمرُّ عبر المحيط بمعدل حوالَي ٥٠ موجة في السنة. معظمها لا يُسفِر عن شيءٍ، على الرغم من أن ثُلثها تقريبًا سيتحوَّل في النهاية إلى أعاصير حلزونية. عند النظر إليها من أعلى، تظهر على شكل تموُّجاتٍ قصيرة في التيار الشرقي، وهي قيعانٌ صغيرة من الضغط الاستوائي المُنخفِض الذي يندفع بضع درجاتٍ شمالًا على خطوط العرض. وبعضها قوي بما يكفي ليشقَّ طريقه عبر أمريكا الوسطى وإلى شرق المُحيط الهادئ. إذا كنتَ قد أبحرتَ من قبل في المناطق المدارية، فمِن المُحتمل أن تكون قد رأيت في إحداها، سلسلةً متواصلة من الأمطار غير المنتظمة والرياح العاصفة، مصحوبة بانخفاضٍ في قراءة البارومتر وسلسلة من التحولات في اتجاه الريح. في غرب المحيط الهادئ، تتشكل الأعاصير الحلزونية في منطقةِ تقارُب جنوب المحيط الهادئ، وهي أخدود واسع مُتحرك من الهواء المُضطرب عند مُلتقى الرياح التجارية وشيء يُسمى مُرتفَع كِرماديك. هنا يمكن أن تصبح مجموعاتٌ من العواصف الرعدية المحلية كثيفةً بما يكفي لأن تتحوَّل إلى اضطراباتٍ مُنظمة، يجمع بعضُها ما يكفي من الطاقة لتتحوَّل إلى أعاصير حلزونية مُستقلة بذاتها. شاهدتُ هذه العملية عن كثَب للمرة الأولى في عام ٢٠١٥، عندما تجمعتْ عقدة من المطر بالقُرب من جُزر سليمان لتُشكِّل إعصارَ بام في الوقت نفسه الذي كنَّا نستعدُّ فيه لمغادرة ميناء دنيدن في الجزيرة الجنوبية لنيوزيلندا. كان إعصارُ بام عاصفًا بشدة، وتقريبًا لم يتضرَّر منه شعبُ الكيوي (النيوزيلنديون)، لكنه ألحق أضرارًا فادحة بشعب جزيرة فانواتو، حيث مات ما لا يقل عن ٦٠ شخصًا. ظهرت في الأخبار صورٌ لمناظر طبيعية لغاباتٍ وارفة تحوَّلت بفِعل الرياح إلى منطقة مقطوعة الأشجار.

لا يزال العلم يفتقِر إلى جميع الأدوات اللازمة لتحديد التوقيت الدقيق لتكوُّن الأعاصير الحلزونية، غير أن هناك قائمة مرجعية يمكن الاسترشاد بها إلى حَدٍّ ما؛ فيجب أن تكون درجة حرارة سطح البحر ٢٦ درجة مئوية على الأقل، وهو الحدُّ الذي يحصر تكوُّن العواصف في نطاقٍ ضيق نسبيًّا من المحيط. ويجب أن تكون العاصفة بعيدة بما يكفي عن خط الاستواء — بشكل عام على الأقل خمس درجاتٍ من خط العرض، أو ٣٠٠ ميل بحري — ليسري فيها تأثيرُ كوريوليس. كما أن نمَط رياحٍ محددًا يجب أن يكون موجودًا، وهو أن تكون الرياح قوية بما يكفي لحَمْل الهواء المُرتفع بعيدًا عن مركز العاصفة، ولكن ليست قوية لدرجةٍ تُشتِّت نمَط الطقس نفسه، ويصعب رؤية ذلك إلا إذا كنتَ عالمًا تفحص بياناتِ مناطيد الطقس. «النقاش حول الأعاصير» — الذي ربما يكون المُنتج الأقل جاذبية بين العروض العديدة التي يُقدمها المركز الوطني للأعاصير — عبارة عن مجموعة من النصوص الرتيبة التي يكتبها خبراء الأرصاد الجوية كتعليقٍ مُستمر على كل عاصفة. ويُهيمن عليها الحديثُ عن أشياء مثل «رياح القص» و«الرياح الباعثة للأعاصير» و«التماثل الرأسي»، وهي جميعها ظواهر على ارتفاعاتٍ عالية تُمثل العوامل الخفية في أحداث الطقس السطحية.

تتكوَّن الأعاصير الحلزونية المدارية في جميع أحواض المُحيطات، غير أنها أكثر شيوعًا في بعضها عن الأخرى. واحتمالُ حدوثها أرجحُ في أواخر الصيف وحتى أوائل الخريف، عندما تدفع الحرارةُ الموسمية درجاتِ حرارة البحر إلى ذروتها السنوية. سيسمح الهواء الرطب، والمُحيط الدافئ، والرياح القوية بما يكفي في الأعلى للعاصفة بالتكوُّن عبر مراحِل تدريجية حتى تصِل إلى حالة الإعصار، التي تكون فيها سرعة الرياح أعلى من ٦٤ عقدة وتظهر «عين الإعصار» المُميزة، والتي هي نواة الهواء الهادئ التي تُشكِّلها الحلقةُ المُغلقة للحَمل الحراري الشديد خارجها. في البحر تكون عينُ الإعصار بقعةً معروفة بالظروف المُضطربة حيث تندفع الأمواجُ من كل اتجاهٍ بسبب الدوران المحيط. وتحدث أشدُّ الرياح في «جدار العين»، وهو عبارة عن حلقةٍ سميكة من المُزن الرُّكامي تقع مباشرةً خارج العين نفسها. ومن هناك تهدأ الأمور تدريجيًّا كلما ابتعدنا عن المركز. بالمُقارنة مع الأعاصير غير المدارية، يُمكن أن يكون نصفُ قطر الرياح الكاملةِ السرعةِ في إعصارٍ مداري أصغرَ نسبيًّا، حيث يبلُغ متوسِّطه ٥٠ ميلًا. وقد تمتدُّ منطقة الرياح الخطرة، والتي عادةً ما يتحدَّد أنها تفُوق قوة العاصفة (٣٥ عقدة)، إلى ٢٠٠ ميل.

يبدأ مقياسُ أعاصير سافير-سيمبسون من الفئة ١ وحتى الفئة ٥. تبلغ سرعةُ الرياح المُستمرة للعواصف في الفئة ٥ ما لا يقلُّ عن ١٣٥ عقدة، مع ضغطٍ مركزي أقل من ٩٢٠ ملِّيبار. العواصف القوية لهذه الدرجة نادرة نسبيًّا؛ فوَفقًا للمركز الوطني للأعاصير، لم تهب سوى حوالَي ٤٠ منها في المحيط الأطلنطي منذ بدءِ تسجيل قراءات المقياس في عام ١٨٥١. إعصار باتريشيا، الذي شهده شرقُ المحيط الهادئ في عام ٢٠١٥، هو صاحب الرقم القياسي الحالي من حيث الشدة، حيث بلغت ذروة سرعة رياحه المستمرة ١٨٧ عقدة. ولكن سرعة الرياح ليست إلا أحد مقاييس القدرة التدميرية للعاصفة. تسبَّب إعصارُ ميتش في هطول ٧٠ بوصة من الأمطار على هندوراس في عام ١٩٩٨، ويرتبط بما يصِل إلى ١٠ آلاف حالة وفاة بسبب الفيضانات. وفي أغسطس من عام ٢٠١١، حوَّلَت البقايا المُشبعة بالمياه لإعصار إيرين مدينة روتشستر الجبلية بولاية فيرمونت إلى جزيرة. من المعروف أن مدينة نيو أورليَنز تعرَّضت للدمار الشديد بسبب إعصار كاترينا في عام ٢٠٠٥ عبر مزيج من الأمطار الغزيرة و«عُرام العواصف»، وهي موجة من مياه البحر التي هبَّت عليها الرياح ودفعها الإعصار إلى الأمام مما أدَّى إلى ارتفاع مستويات سطح البحر المحلية بما يصِل إلى ٢٠ قدمًا.

إذا تزامن ارتفاع المدِّ مع عُرام العاصفة، فمن المُمكن أن يصبح الوضع بالغَ الخطورة. كان أحد معارفي مشرفًا على الواجهة البحرية في متحف ساوث ستريت سيبورت في مانهاتن في خريف عام ٢٠١٢ عندما وصل إعصارُ ساندي. كان هو وطاقمه قد انتهَوا للتوِّ من تجهيز مراسي العاصفة عندما ارتفع المد. وارتفعت المياه ستة أقدام في ساعةٍ واحدة. ودفعتْ بعضَ أرصفة القوارب العائمة إلى ساحة انتظار السيارات، متجاوزةً أحد حواجز الحماية، وواصلتْ المُضيَّ في طريقها. تحول شارع ساوث ستريت إلى نهر. عندما رأى الطاقم المياه الخضراء تبدأ في التدفُّق على السلالم المؤدية إلى محطات مترو الأنفاق، عرَفوا أن مشاكل أكثر خطورة كانت وشيكة الحدوث.

يظل توقُّع مسارات الأعاصير وما سينتج عنها عِلمًا غير دقيق. وكما هو الحال مع العواصف الأخرى، يعتمِد عمل خبراء توقُّع الأعاصير على مزيجٍ من المراقبة، والنمذجة الحاسوبية، والحدس. يمكن تلخيص عدم القُدرة المُستعصي على التنبؤ بالأعاصير، على أفضل نحو، فيما يُعرَف بقاعدة البحَّارة ١-٢-٣، وهي أداة تجريبية قديمة لا يزال يستخدمها البحَّارة على نطاقٍ واسع. وقاعدة البحَّارة ١-٢-٣ هي كالآتي: عند رسم سلسلة من المواقع المتوقَّعة للعاصفة، يرسم البحَّار أولًا دائرة حول كل موقعٍ لتمثيل نصف القطر المُتوقَّع للرياح الخطرة. وبعد ذلك، مراعاةً لعدم اليقين، يُضيف ٦٠ ميلًا بحريًّا إضافيًّا إلى نصف قطر العاصفة لكل يومٍ في المستقبل تتوقَّعه التنبؤات الجوية. تشكِّل المساحةُ الناتجة عن توسيع الدوائر حدودًا بيانية للمواقع المُحتملة للعاصفة على مدار الاثنتَين والسبعين ساعة القادمة، أي جميع الأماكن التي لا يُنصَح بالوجود فيها. قد ينتج عن توسيع هذه العملية، لتشمل يومًا رابعًا، مساحةٌ كبيرة بما يكفي لملءِ نصف حوض المحيط، وبعبارة أخرى: أيُّ توقعاتٍ طويلة المدى لحركة الإعصار يجب التعامُل معها بحذَر شديد.

بشكل عام جدًّا، تتخذ الأعاصيرُ المدارية مساراتٍ على شكل قِطع مكافئ؛ إذ تتحرك ببطءٍ غربًا أثناء وجودها في المناطق الاستوائية، ثم ترتدُّ مرة أخرى نحو الشرق أثناء انتقالها إلى خطوط العرض الأعلى، تُوجهها الرياحُ الغربية السائدة وتأثيرُ كوريوليس الأقوى. وغالبًا ما تُحاذي الأعاصيرُ المدارية أنماطَ الضغط العالي الكبيرة والمُستقرة في وسط أحواض المُحيطات الرئيسية، مُتتبِّعة التيارات الدافئة عند أطرافها الغربية. يحمل تيارُ الخليج المياهَ المدارية والهواءَ الرطب الدافئ إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة في الصيف، وهو ما يُمثل مسارًا سريعًا رئيسيًّا للأعاصير. ولتيار كوروشيو أثرٌ مُشابه في غرب المحيط الهادئ، حيث تُسمى الأعاصير المدارية هناك بأعاصير التايفون. فعادةً ما تبدأ العواصفُ في شمال المحيط الأطلنطي في مسارٍ غربي، مُتجهة أولًا نحو منطقة البحر الكاريبي ثم إلى البر الرئيسي لأمريكا الشمالية. تتشكَّل عواصفُ شرق المحيط الهادئ — التي تحظى باهتمامٍ أقلَّ من نظيراتها في المحيط الأطلنطي — غربَ أمريكا الوسطى وقد تنعطف نحو هاواي أو تأخذ انحرافاتٍ حادة يمينًا عائدةً إلى المِكسيك، حيث تظهر مساراتُ الأعاصير القديمة على شكل خطوط خضراء من النباتات في الصحراء.

يرجع الفضلُ في أول مُخطط كامل لمسار أعاصير المحيط الأطلنطي إلى مالِك باخرة أمريكي يُدعى ويليام ريدفيلد، الذي جمَّع عددًا لا يُحصى من الملاحظات المحلية عن عاصفةٍ كانت قد ضربتْ شرق الولايات المُتحدة في سبتمبر من عام ١٨٢١. وانطلاقًا من انبهاره بإدراك أن الرياح من اتجاهَين مُتعاكسَين كانت قد سُجِّلَت في وقتٍ واحد في ولايتَي كونكتيكت وماساتشوستس المجاورتَين، استخدم ريدفيلد بياناته للكشف عن كلٍّ من مسار العاصفة وشكلها؛ واصفًا إياها وصفًا صحيحًا بأنها «دوَّامة هوائية مُتنقلة» كانت قد شقَّت طريقها على مدار عدة أيام من جزر الهند الغربية إلى مقاطعة نوفا سكوتيا الكندية، مُخلِّفةً دمارًا في أعقابها. قادته استنتاجاتُه إلى نزاع غير متوقَّع مع عالِم من فيلادلفيا يُدعى جيمس إسبي، الذي كان يبني نظرياته الخاصة حول آلياتِ عمل الحَمل الحراري والتبخُّر. كان لدى إسبي نَموذجٌ مختلف للعواصف، مَبنيٌّ على فكرة اندفاع الرياح مباشرةً نحو عمودٍ مركزي صاعد من الهواء الدافئ. أمضى هو وريدفيلد السنواتَ الثلاثين التالية في جدالٍ حول أيهما المُخطئ، ومن المؤسف أن كليهما تُوُفِّي قبل أن يُظهِر عملُ عالِم رياضياتٍ يُدعى ويليام فيريل أن كلَيهما كانت لديه أجزاءٌ منفصلة من التفسير الصحيح نفسه، وهو أن الأعاصير المدارية — والأعاصير الحلزونية بوجهٍ عام — هي في الواقع نتاجٌ مشترك للتقارُب والدوران، اللذَين يَنتجان بدورهما عن الطفو النسبي للهواء الدافئ وعزم دوران تأثير كوريوليس.

•••

كقاعدةٍ عامة، يكون الإعصار المداري في نصف الكرة الشمالي أقوى في الجانب الذي يكون على يمين مساره، حيث يُضاف زخم سرعته الأمامية إلى قوة الريح. تتحدَّث المراجع عن نصفَي الدائرة باعتبار أن أحدَها «خَطِر» والآخر «صالح للملاحة» (كما لو كان من المُمكن أن يتخيل المرء أن أيَّ جزءٍ من الإعصار غير خطير)، لكن البحَّارة الذين يُواجهون هذه العواصف يعلمون أن هناك أماكن من السيئ التواجُد فيها وأخرى أسوأ. والخطر الثاني الأقل وضوحًا في نصف الدائرة الخطير هو أن الدوران فيها يُعيد السفن إلى مسار العاصفة، ولا يُبعدها عنه.

الكابتن فيل ساكس زميلُ سفينةٍ قديم من عالَم الإبحار، سنحت له فرصةٌ غير سارة للتفكير في كلِّ هذا منذ فترةٍ أثناء رحلةٍ من كيب كود إلى جزر فيرجن. بعد ظُهر يوم ٢٢ أكتوبر ١٩٩٢، كان هو وسفينته — المركب الشراعي المُتعدد الصواري «ويستورد» — شمال شرق برمودا، يبحرون ببطءٍ عائدَين إلى روتينهما بعد أن تقاذفتهما عاصفة في الأيام السابقة. لا يزال شهرُ أكتوبر هو موسم الأعاصير المدارية في شمال المحيط الأطلنطي، وكان «ويستورد» يتَّجه شرقًا من أجل البقاء بعيدًا عن مساراتِ العواصف الأكثر شيوعًا في أواخر العام. وعلى الرغم من هذا التحوُّط، وجدَ الكابتن ساكس نفسه في مواجهة الأخبار المفاجئة عن إعصارٍ يُدعى فرانسيس، يتشكَّل على بُعد أقل من ٣٠٠ ميل جنوب موقعه. لم يكن من المعتاد أن تتكوَّن عاصفةٌ مدارية عند خطِّ عرضٍ شمالي بعيد إلى هذا الحدِّ عن خط الاستواء، لكنه لم يكن أمرًا مُستغربًا. اندفعت كتلة كبيرة من الهواء مُحمَّلة بالطاقة خروجًا من المناطق المدارية إلى فوق بحر سارجاسو الدافئ. سمحَ انخفاضُ سرعة الرياح في الأعلى بتقارُب تلك الكتلة في عمودٍ دوَّار من الحَمل الحراري، وتولَّد إعصار حلزوني. قد لا يحدُث هذا في شهر يونيو، ولكن بعد صيفٍ حارٍّ طويل كانت درجاتُ حرارة سطح البحر في ذروتها، ومن ثَمَّ أصبحت جميع العناصر اللازمة متوفرة.

بالتأكيد لم يكن القبطان مُهتمًّا بهذه التفاصيل الدقيقة في تلك اللحظة. فكلُّ ما كان يشغله هو أن يُبعِد سفينتَه عن طريق الإعصار. كان من المتوقَّع أن يتَّجه إعصارُ فرانسيس نحو الشمال؛ وقد بَدت خطة فيل في البداية معقولة؛ إذ كانت على النحو التالي: أن يتَّخذ مسارًا جهة الجنوب الشرقي، ويسلك مسارًا قُطريًّا بعيدًا عن مسار العاصفة يمر مركزه من مؤخرة السفينة. كان هذا سيؤدي إلى مرور «ويستورد» عبر ما كان يبدو ظاهريًّا أنه الجانب الخطير من نظام العاصفة، لكن فيل شعر أنه كان باستطاعته تحقيقُ مستوًى مناسب من الأمان في إبحاره ما دامت السفينة كانت تتحرَّك بسرعة جيدة وأن مسار العاصفة سار حسب التوقُّعات. ولكن لسوء الحظ لم يتحقق أيٌّ من هذَين الشرطَين. فمع وجود مركز إعصار فرانسيس جنوب غرب موقع السفينة، كانت الرياحُ تهبُّ من جهة الجنوب الشرقي، وأصبح التقدم أصعبَ بمضيِّ اليوم. كان من شأن التحوُّل مع اتجاه الرياح أن يجعل الإبحارَ أسهل بكثير، ولكنه كان سيُعيد السفينة مباشرةً إلى مسار العاصفة. وفي الساعات الأولى من يوم ٢٣ أكتوبر، غيَّر الإعصارُ نفسه مسارَه، وبدأ ينحرف باتجاه الشمال الشرقي. وعلى النحو الذي كانت تسير به الأمور، كان من المتوقَّع أن تمرَّ السفينة في ذلك الوقت على بُعد ٥٠ ميلًا فقط من عين الإعصار، بشرط أن تظلَّ محتفظة بسرعتها الحالية في ظلِّ ارتفاع الأمواج.

وهكذا وجدَ الكابتنُ ساكس نفسه في مواجهة جميع أهوال نصف الدائرة الخَطِر. ومع وجود سفينته إلى يمين مسار العاصفة، فإن سعيَه للهروب في الاتجاه الذي كان يتَّجه إليه كان يعني الكفاح من أجل التقدُّم في مواجهة الريح، والارتداد طوال الوقت إلى مسار الإعصار. وكان مِن المرجَّح جدًّا، من الناحية الإحصائية، أن يستمرَّ إعصار فرانسيس في الانعطاف نحو الشرق. كانت ليلة دافئة حالِكة السواد. وكانت الرياحُ لا تزال تهبُّ بسرعة أقل من ٣٥ عقدة، لكن قراءة البارومتر كانت تهبط بشدة وملأ البرقُ السماءَ. يُمثل الإسراع في مسار الإعصار القادم مشهدًا مُخيفًا، ولكن هذا هو بالضبط ما اختار القبطان فِعله بعد ذلك. صعد على سطح السفينة وأبلغ أفرادَ المناوبة بقراره، وهو أن السفينة ستدور بزاوية ١٨٠ درجة وتتَّجه غربًا خافضةً أشرعتها ومُعتمدةً بالكامل على طاقة المحرك. وهذا سوف يقودها مباشرةً عبر مسار الإعصار، ولكن بأقصى سرعةٍ ومع وجود الرياح خلفها. إذا صدَقت التوقُّعاتُ، فسوف تتجاوز السفينة العين بمسافة مائة ميل، وستكون في نصف الدائرة الأيسر الأكثر أمانًا بحلول الصباح. يُمكنني أن أتخيل مهندسَ السفينة يقف متأهِّبًا في هذه اللحظة، ويرفع إحدى يدَيه مثل راعي بقر في مسابقات الروديو، ويسعى جاهدًا لضبط دوَّاسة الوقود بسلاسة بينما تميل السفينة في قوسِها البالغ ٤٠ قدمًا. لم يكن «فيل» يقف بعيدًا عنه، وأخذ يسحب بقوةٍ دُخَان سيجارة ظلَّت مشتعلة بعزيمة مُتقِدة تحت المطر الغزير.

لا بدَّ أن أحدًا ما قال: «بأقصى سرعة يا سيد سولو.»

كانت رحلة جامحة، ولكنها كانت ناجحة في نهاية المطاف. سمعتُ أجزاءً من القصة من الأصدقاء في الأشهُر التي تلت ذلك، وبعد بضع سنواتٍ ظهرت نسخة كاملة من القصة في مَرجع كتبَه الكابتن آندي تشيس، الأستاذ في أكاديمية ماين البحرية. إليكم جزءًا من رواية «فيل» التي تبدأ بعد وقتٍ قصير من قراره بتغيير المسار:
٢٣ أكتوبر — استيقظتُ ولاحظتُ أن الفجر لم يبزغ بعد. ارتديتُ ملابس المطر لأتفقَّد الوضع على سطح السفينة. كانت الرياح قد اشتدَّت فوصلَت قوتها إلى ثمانيةٍ أو تسعة. ما لفتَ انتباهي حقًّا كان اتجاه الريح. في مُنتصف الليل سَجَّلَت المناوبة ريحًا قادمةً من الجنوب الشرقي. بعد فترةٍ وجيزة من بدء تحرُّكنا غربًا، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، عكست الريح اتجاهها إلى الشرق. كانت الساعة حينئذٍ الرابعة والنصف، وشعرتُ بالريح تهبُّ بقوة من الشمال الشرقي. كانت الرياح المُياسِرة (التي تتَّجه في اتجاه عقارب الساعة) هي تمامًا ما توقَّعنا أن نشعر به إذا كنا بالفعل نعبر المسار إلى النصف الصالح للملاحة من العاصفة. كانت قراءةُ البارومتر تنخفض في ذلك الحين بما يقرُب من ملِّيبارَين في الساعة، غير أن الرياح المُياسِرة رفعت معنوياتي. توجهتُ إلى الأسفل بتوتر، ولكن بتفاؤل، لمتابعة نشرة طقس السادسة صباحًا.
بدأ التقرير … أذهلتني مرة أخرى سرعةُ تطوُّر هذه العاصفة. فلم نواجِه إعصارَ فرانسيس إلا لمدة ١٦ ساعة. حُدِّدَ موقعُ عينِ الإعصار أولًا: ٣٠٫٠ درجة شمالًا و٦٠٫٠ درجة غربًا في الساعة الخامسة صباحًا بتوقيت جرينتش، ونحن الآن نتحرك بزاوية ٠٣٠ درجة في اتجاه الشمال الحقيقي بسرعة ١٠ عُقَد. لقد نجحنا! كنا في نصف الدائرة الصالح للملاحة. كنت أعلم أننا كنَّا بعيدِين كلَّ البُعد عن تخطِّي مرحلة الخطر، وأن العاصفة يمكن أن تُغيِّر مسارها مرة أخرى في أي وقت. لكن إعصار فرانسيس اتخذ المسار المتوقَّع. سنكون الآن قادرين على الابتعاد بالإسراع مع هبوب الريح على السَّطح الرُّبعيِّ الأيمن للسفينة. شعرتُ بثقلٍ هائل يُرفَع عن كاهلي. كانت الريح لا تزال تشتد، لكنَّنا واجهناها بمزيدٍ من الثقة. كانت الشمسُ تشرق جهة الشرق، فشعرتُ بارتياحٍ كبير. خلال الصباح استمرَّت الريح وارتفاع الأمواج في التزايد. بحلول الساعة الثامنة صباحًا، كنَّا نُسجِّل رياحًا بقوة ١٠، وربما ١١. في تلك المرحلة يصعب للغاية التحديدُ بدقة. بلغَ ارتفاعُ أكبر الأمواج ٢٠ قدمًا. وقد بَدت مختلفةً إلى حَدٍّ ما عن معظم أمواج العواصف الأخرى التي سبقَ أن واجهتها. فقد بَدت أكثر شبهًا بالزجاج، ذات سطح أكثر نعومة. ربما كان ذلك بسبب انجراف قِمَمها بواسطة الريح. استمرت السفينة في الإبحار جيدًا بينما كنا نُسرِع أمام العاصفة بسرعةٍ تزيد عن ثماني عُقَد. وصلت قراءةُ البارومتر إلى أدنى مستوياتها. كنا الآن نبتعِد عن الإعصار.

في وقتٍ لاحق، يعترف الكابتن تشيس بشعوره ببعض التناقض في المشاعر حيال استخدام هذه القصة كمثالٍ تعليمي، حيث انطوت على حيلة محفوفة بالمخاطر مُتمثلة في عبور مسار الإعصار للوصول إلى الأمان في نصف دائرته الأقل خطورة. من المؤكَّد أن مثل هذه الخطوة مُسجَّلة في مكانٍ ما على قائمة الأشياء التي يجب على البحَّار ألا يفعلها أبدًا. من وجهة نظري أنه، في عالَم الواقع البحري الدقيق، يُعَدُّ هذا مثالًا على ما قد يتبيَّن أنه خيارك الأفضل وسط مجموعة من البدائل السيئة. رأى الكابتن ساكس فجأة إعصارًا يتشكَّل جنوب سفينته ويتَّجه نحوَه، وبعد أن قرَّر أن التوجُّه شرقًا سيكون مُستحيلًا، اتخذ قرارًا سريعًا، وإن كان جريئًا، بالرجوع عبر مسار الإعصار. وبذلك راهنَ رهانًا صحيحًا على أن العاصفة ستتَّجه شرقًا بينما يتَّجه هو غربًا. كان هذا القرار الأخير عبارة عن خطةٍ لحالة طوارئ حرجة. فلو أن إعصار فرانسيس كان قد توقَّف أو حوَّل اتجاهه، لكانت النتيجة مختلفة كثيرًا.

ثمة قصة أخرى أكثر مأساوية، وهي قصة السفينة العالية الصواري «باونتي» التي اتخذَ قائدُها روبن والبريدج قرارًا لا يمكن تفسيره بمغادرة مدينة نيو لندن بولاية كونكتيكت، في محاولة لأن يسبق إعصارَ ساندي. كان ذلك في ٢٦ أكتوبر ٢٠١٢. وكان إعصارُ ساندي يضرِب جزر البهاما، ويُتَوَقَّع أن يتَّجه شمالًا خلال الاثنتَين والسبعين ساعة القادمة في مسارٍ موازٍ إلى حَدٍّ ما إلى ساحل الولايات المتحدة. مع اقتراب المساء، واستعداد السفن الأخرى للبقاء في الميناء حتى تمر العاصفة، أخبر الكابتنُ والبريدج طاقَمه المذهول أنه خطَّط بدلًا من ذلك للإبحار على الفور والاندفاع في عُرض البحر بعيدًا عن الإعصار القادم، والإبحار بأقصى سرعةٍ شرقًا لكسب مساحةٍ كافية لمناورة السفينة في البحر بينما تمرُّ العاصفة خلفهم.

وللأسف، بمجرد أن صار والبريدج في البحر، وجدَ نفسه في مواجهةِ مِحنة تُشبه إلى حَدٍّ بعيدٍ ما واجهه فيل ساكس في محاولته الإبحار شرقَ إعصار فرانسيس. حتى عندما كانت السفينة «باونتي» تُكافح من أجل كسب مساحة للمناورة، كانت الرياحُ المعاكسة في الربع العلوي الأيمن من الإعصار تدفع السفينة باستمرارٍ إلى مسار العاصفة مرةً أخرى، مما جعل من المُستحيل تجنُّب العاصفة كما كان مُخططًا له. عندئذٍ، قرَّر القبطانُ بدلًا من ذلك الإبحارَ عائدًا إلى الشاطئ، عابرًا مسار العاصفة مجددًا ومنعطِفًا بسرعةٍ جنوبًا مع رياحٍ خلفية في نصف الدائرة الأيسر لإعصار ساندي. تسبَّب هذا الاختيار في بعض المشاكل. فقد كان إعصار ساندي ضعيفًا مقارنةً بمعظم الأعاصير، لكنه كان يُغطي مساحة كبيرة جدًّا، وتزايَدَ حجمُه مع خروجِه من المناطق المدارية وبدء تحمُّله بهواءٍ أبرد. وتحدِّيًا لبعض التوقُّعات السابقة، استدارت العاصفة نحو اليابسة في ٢٨ أكتوبر، مما حَدَّ بشكلٍ كبير من المساحة المتاحة لأي سفينةٍ تحاول المرور على طول الساحل. بلغت سرعةُ الرياح ٧٠ عقدة وارتفعت الأمواجُ إلى ٣٠ قدمًا، متكسِّرةً على نحوٍ فوضوي وسط التيارات المعاكسة لتيار الخليج. عانت السفينة «باونتي» — التي كانت سفينة خشبية قديمة صيانتُها موضع شكٍّ وتُعاني من تسريبٍ شديد — من دوَّامة رهيبة استمرَّت طوال اليوم من إصاباتٍ لطاقم العمل وتعطُّل في المعَدَّات قبل أن تغرَق قبالة كيب هاتيراس في صبيحة يوم ٢٩ أكتوبر. تمكَّن أفرادها، الذين سقطوا في الماء عند انقلاب سفينتهم، من إطلاق إشارة استغاثة، وحدَّدت طائراتُ خفر السواحل الأمريكية موقِعَهم بأعجوبة. أُنقِذَ الجميعُ باستثناء اثنَين، حيث انتشل سبَّاحون مُنقذون أحدَ عُمَّال سطح السفينة وكان يُدعى كلودين كريستيان لكنهم لم يتمكَّنوا من إنعاشه. ولم يُعثَر على الكابتن والبريدج، ولم يجد أحدٌ مُطلقًا تفسيرًا تامًّا لقراره بمغادرة الميناء الآمن.

في مؤتمر في ذلك الشتاء أُقيم حفلُ تكريم للبحَّارة المفقودين وسفينتهم. وقد حضره العديدُ من أفراد الطاقم الناجين. لم يكن لدى أيٍّ منهم أدنى فكرة عما كان يُفكر فيه قائدهم، بخلاف قولهم بأنهم رأوه يُنجز أشياءً رائعةً من قبل وأنهم ربما ألهمتهم جرأتُه لاتباعه كما فعلوا. كان في المبنى أيضًا أعضاءٌ من المجموعة الجوية لخفر السواحل التي أجرت عملية الإنقاذ، وقد دُعُوا لحضور حفل توزيع الجوائز تقديرًا لجهودهم. وفي إحدى الحفلات التي أعقبت ذلك، التقيتُ بطيَّارٍ كان قد طار بطائرته من طراز سي-١٣٠ إلى مكان الحادث، مُسرعًا تحت سحابة الإعصار ومُحدِّقًا في نوافذ قَمْرة القيادة بحثًا عن علاماتٍ على وجود حياة. كان ذلك قبل الفجر بقليل. كان طاقمُ الطائرة قد رصدَ السفينة المنكوبة ثم رصدَ وميضًا وحيدًا في الماء، يطفو بمَعزل عن طوَّافات النجاة، وهو الضوء الذي تبيَّن لاحقًا بعد التحقُّق أنه كان ضابطَ سفينة «باونتي» الأول، الذي كان مُتشبثًا بقطعةٍ من الحطام العائم.

أوضحَ لي الطيَّارُ، وهو يرتشف مشروبًا اشتراه له أحدُهم، أن المهمة التي أعقبت ذلك كانت أن ينعطف بطائرته على الفور ويرجع إلى مكان الحادث. وهذا يعني التحليق بطائرةٍ تزن ٤٠ طنًّا في دائرةٍ ضيقة بما يكفي للإبقاء على التواصُل مع الهدف المراد إنقاذه، كلُّ ذلك دون أن تتيهَ الطائرة وسط السُّحب أو تسقط في المحيط. تحدَّث بصوتِ الطيارين الرصين، تلك النغمة العذبة التي تُذكِّر المرء بأماكنَ بعيدةٍ عن المياه المالحة. كانت طائرتُه قد حلَّقت حول مكان الحادث أثناء عملية الإنقاذ، وهي علامةُ طيران للمروحيتَين اللتَين رفعتا أفرادَ الطاقم واحدًا تلوَ الآخر من وسط الدوَّامة في سلال شبكية، معلَّقة بجديلةٍ رفيعة من السلك.

في الخارج، دارت عاصفةٌ ثلجية حول النوافذ مع اختفاءِ الضوء من السماء. كنَّا في إيري، بنسلفانيا؛ وهو مكانٌ ليس معروفًا بكونه قِبلةً في المعرفة والتقاليد البحرية. أنهى الطيارُ شرابَه ونظر حوله بحثًا عن رفاقه. بَدا يافعًا جدًّا، ومرتبكًا إلى حَدٍّ ما بسبب شُهرته المفاجئة. لم يكن لديَّ الكثير لأقوله ردًّا على قصته. في بعض الأيام، ودون سابق إنذار، تقابل الأشخاص الذين تتطلَّع للغاية إلى أن تكون مِثلهم، ولا يسعك لتحقيق ذلك إلا السعي جاهدًا لكي تحذوَ حذوَهم.

سوف تستمر العواصفُ المدارية ما دامت قد توفَّرت لها رياحٌ مُواتية في الأعلى وإمدادٌ جيِّد من الهواء الدافئ الرطب. وعادةً ما تتلاشى بعد انجرافِها إلى الشاطئ، على الرغم من أن الأمر قد يستغرق أيامًا حتى تتبدَّد طاقتُها، وتظلُّ خطرة بعد فترةٍ طويلة من وصولها إلى اليابسة. يمكن أن تندلِع العواصفُ من جديد إذا تحركت مُتراجعةً فوق المياه الدافئة، كما يحدُث غالبًا عندما تضرِب ساحلَ خليج فلوريدا ثم تُعاود الظهور فوق المحيط الأطلنطي. في مراحل الإعصار المداري الأخيرة، قد يتحوَّل إلى حالة «ما بعد مدارية»، حيث يختلِط بالهواء البارد ويُشكِّل حدودًا أمامية مثل الإعصار الحلزوني المَوجي. غالبًا ما يكون لهذه الأنماط الجوية أثرٌ واسع الامتداد، مع رياحٍ مُستمرة تفوق قوة العاصفة في جميع الأنحاء. ليس مُستغرَبًا أن يبتلِع إعصارٌ حلزوني غير مداري عاصفة مدارية أخرى بأكملِها. يمكن لهذه الدفعة المفاجئة من الحرارة والرطوبة أن تؤدِّيَ إلى نتائج مُذهلة، مثلما هو الحال عندما تتناول شخصيةُ الرسوم المتحركة «باباي» علبةً من السبانخ. وهذا ما حدث لما يُعرَف ﺑ «العاصفة المثالية» التي اندلعت في عام ١٩٩١، والتي نشأت عن اتحادٍ انفجاري بين إعصارٍ مداري في أواخر الموسم ورياحٍ خريفية شمالية شرقية قبالة نيو إنجلاند. مرَّ إعصارُ ساندي بتطوُّر مُماثل حيث اندمجَ مع عاصفةٍ خارج مدارية قبل وصوله إلى ساحل نيوجيرسي مباشرةً، مما وضعَ مركزَ التنبؤ بالمُحيطات في موقفٍ نادر تَمثَّل في إصدار تحذيراتٍ من عاصفةٍ ثلجية بسبب الإعصار. أتذكَّر صورةً رائعةً التقطَتْها الأقمارُ الصناعية لقُرص من سُحُب إعصار ساندي وهو يتَّجه مباشرةً إلى فكَّي الإعصار الحلزوني الشمالي، حيث كانت تبدو أشبَهَ بلقطةٍ مقتَطَعةٍ من لعبة الفيديو القديمة باك مان.

قد يصعُب على خبراء الأرصاد خلال هذه التحوُّلات تصنيفُ عاصفةٍ في فئة بعينها. فقد تجمَع العاصفةُ بين الخصائص المدارية وخارج المدارية، أو قد تكون المسألة مُتعلقةً بالإدارة. المركز الوطني للأعاصير في ميامي هو المسئول عن العواصف المدارية في الولايات الأمريكية المتجاورة، بينما تتولَّى عادةً أمرَ التحذيرات من الأعاصير الحلزونية الموجية مكاتبُ فرعية مُختلفة تابعة لهيئة الأرصاد الجوية الوطنية. عندما تتبدَّد عاصفةٌ مدارية أو تخرُج عن نطاق المناطق المدارية، قد يصعُب تحديدُ الجهة المسئولة عن التعامُل معها. فضَّل المركزُ الوطني للأعاصير في وقتِ إعصار ساندي أن يُولي مسئولية هذه العواصف لنظرائه غير المُختصِّين في الأنماط الجوية المدارية، مثلما هو الحال في تحويل حركة الطائرات من مطار ميامي إلى مطار جون كنيدي. وقد تسبَّب هذا في مشكلةٍ لمديري الطوارئ عندما بدأتِ العاصفةُ هذا التحوُّل قبل ساعاتٍ قليلة من وصولها المتوقَّع إلى اليابسة على شاطئ نيوجيرسي. هل كان الإعصار المداري لا يزال قائمًا؟ هل كان من المنطقي تحويل مسئولية التوقُّعات والتحذيرات في خِضمِّ وصول العاصفة إلى المركز السكاني الأكثر كثافةً في أمريكا الشمالية؟ ما الذي كان من شأنه أن يكون أقلَّ إرباكًا لمديري الطوارئ؟

بدأت بعد ذلك مفاوضات. وبعد الكثير من النقاش في موقع الحدث، صدر القرارُ الإداري بعدم تصنيف إعصار ساندي في فئة الأعاصير المدارية، ومن ثَمَّ أصبحت جميع التحذيرات شمال النقطة المُحدَّدة — مدينة دوك في ولاية كارولاينا الشمالية — هي تحذيراتٌ بعواصف غير مدارية. وهكذا نُحِّيَت الاعتباراتُ الدقيقة المتعلقة بالأرصاد الجوية جانبًا لصالح الإدارة الفعَّالة للكوارث. أو هكذا ظنَّ البعض. شعر آخرون أن غيابَ التحذير الرسمي الجاد من الإعصار المداري قد أفضى إلى شيءٍ من عدم اليقين فيما يتعلَّق بالاستعدادات للعاصفة. وقد أدَّت تداعياتُ إعصار ساندي إلى تحوُّلٍ جذري، حيث تتولَّى مكاتبُ مُحددة مسئوليةَ التعامل مع مثل هذه الأنماط الجوية منذ تكوُّنها إلى انتهائها طوال الفترة اللازمة لإصدار التحذيرات بشأنها. إذا تكوَّنت عاصفةٌ في دارك، إن جاز التعبير، فستظلُّ أنتَ المسئول عن التعامُل معها.

تُمنح الأعاصير الحلزونية المدارية أسماءَها وفقًا لمجموعةٍ من الأَعراف المُنتشرة حول العالم. كانت الممارسة المُتبعة في الإدارة الوطنية للمحيطات والغِلاف الجوي حتى عام ٢٠٢١ هي التناوبُ بين أسماء الأولاد والبنات — بوني، وكارلوس، وديبورا … إلخ. — والانتقالُ إلى الأحرُف اليونانية عندما يتجاوز عددُ العواصف السنوية عددَ الأحرف التي يمكن مُطابقتها بسهولةٍ في الأبجدية اللاتينية. كان هذا هو الحال في عام ٢٠٠٥، وهو عامٌ قياسي شهدَ ٢٨ إعصارًا حلزونيًّا، حيث خلفَ إعصار ويلما من الفئة الخامسة عواصف ألفا، وبيتا، وجاما، ودلتا، وإبسيلون، وزيتا. كان هذا موسمًا من النوع الذي ظننَّا جميعًا أننا لن نراه مجددًا أبدًا، حتى تفوَّق عليه تمامًا العام ٢٠٢٠ بعددٍ بلغَ ٣١ إعصارًا، وبلغَ ذروته بهجوم إعصار أيوتا من الفئة الخامسة على نيكاراجوا. لم يكن قد سبق لي أن سمعتُ عن الحرف اليوناني إيوتا قبل ظهور اسمِه على خرائط الطقس. ربما اعترفَ آخرون بوجود صعوباتٍ مُماثلة مع الأبجديات القديمة؛ لأن المركز الوطني للأعاصير أعلن بعد ذلك بفترةٍ وجيزة أنه سيُطلق أسماءً بشريةً كاملةً على جميع العواصف المُستقبلية، بغضِّ النظر عن عددِها الإجمالي.

على أي حال، تُعَدُّ قائمة الألقاب الإعصارية مُقدمًا قبل ستِّ سنوات، ثم يُعاد استخدامُها بعد ذلك. أُزيلَت أسماءُ العواصف ذات الأهمية التاريخية، ولهذا السبب لن نرى الأسماءَ ميتش، أو ساندي، أو كاترينا مرةً أخرى. كما استُبعِدَت من القائمة الأحرف Q وU وX و Y وZ — التي ربما يُنظَر إليها على أنه من الصعب للغاية العثور على أسماءٍ لها — لذلك لن نرى أبدًا أسماءً مثل كوين، أو أورسولا، أو زينا، أو زافيير، أو يولاندا، أو زيلدا، أو زيبولون. يا لها من خسارة! وبغضِّ النظر عن الأسماء، فغالبًا ما ترتبط العواصفُ في الذاكرة بتأثيرها على السكَّان، ومن دون احتمال حدوث وَفَياتٍ أو دمار كبير، فمِن المستبعَد أن تسمع عنها كثيرًا في قنواتِ الطقس. هل يتذكَّر أحدٌ في مدينة نيويورك إعصارَ فرانسيس؟ انظر إلى المكتوب على موقع ويكيبيديا عن العاصفة المدارية زيتا التي لم تحظَ باهتمامٍ كبير، والتي تشكَّلت في ديسمبر من عام ٢٠٠٥ واستمرَّت في الواقع إلى العام التالي.

يقول نصُّ المقال: «وحيث إن زيتا لم تقترِب قطُّ من اليابسة، فلم يكن هناك أيُّ تأثير للعاصفة بخلاف مشاكل ملاحية بسيطة.»

بوصفي ملَّاحًا محترفًا، تساءلتُ عما إذا كان الملَّاحون في ذلك الوقت قد شعروا أن عاصفة زيتا مجرد مشكلةٍ بسيطة. لقد اعتدتُ على قضاء ساعاتٍ طويلة في متابعة المواد الخاصَّة بالتنبؤات البحرية، مثل الخرائط والمناقشات المُتعلِّقة بأماكن على الكوكب من المُستبعَد أن يوجَد بها أحدٌ سوى البحَّارة والطيور. ولكن لمُعظم مَن يُتابعون الطقس، المُحيط هو المكان الذي يمكن أن تمرَّ فيه العواصف بأمانٍ دون تعطيلٍ لحياتهم أو تهديد لمُمتلكاتهم. يُخلِّد المؤلِّف جون ماكفي في كتابه «البحث عن سفينة»، نوعًا من العبارات المتداولة الترادُفية، التي يرويها على لسان بحَّارٍ على متن السفينة التجارية «ستيلا ليكيس»؛ حيث يصف بحَّارًا في منزله بعيدًا عن البحر يجلس مُتمددًا مُستريحًا على كرسيِّه المُفضَّل يشاهد الأخبارَ التي يصِف فيها خبيرُ الأرصاد الجوية تداعياتِ عاصفةٍ ساحلية مُدمرة في نيو إنجلاند. شهدت المدنُ والبلداتُ كوارثَ كبيرة، ولحقت أضرارٌ بالممتلكات وربما حدثت وَفَيات، ولكن الخطر قد زال الآن، على حَدِّ قول خبير الأرصاد الجوية.

ويقول مؤكِّدًا: «لقد مضتِ العاصفة بأمانٍ إلى البحر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥