الفصل الخامس

قبة السماء الواسعة

تعتمِد بعض أساليب السفر لدى السكَّان الأصليين على مفهومٍ معاكس للمفهوم الغربي للحركة؛ حيث تستخدِم بدلًا من ذلك نمطًا ينطلِق فيه الملَّاح مغادرًا في زورقه، بينما يشاهد اليابسة تختفي وراءه إلى أن تظهر أمامه في النهاية — بعد فترة زمنية قد تستغرق ساعات، أو أيامًا، أو أسابيع — جزيرةٌ أخرى، تقترِب ببطءٍ في الأفق لتحلَّ محلَّ ما خلَّفه وراءه. وخلال هذه الفترة، يكون البحَّار بما يؤدِّيه من عملٍ روتيني على متن السفينة — بدءًا من أعمال المركب، والمهام الملاحية، والتفاعُلات الاجتماعية — نقطة الارتكاز التي يدور حولها العالَم بأسرِه على متن السفينة. يُمثِّل لي هذا المنظور مفهومًا له تأثير كبير في نفسي ولا يبعُد على الإطلاق عما آلَفُه. وإذا ما طُلِب مني الاختيار، فسوف أميل عمومًا إلى تفضيل الرِّحلات الطويلة على الرِّحلات القصيرة، حيث تلك الفترات بين عبءِ المغادرة والاستعداد المُضطرب للوصول، التي لا تنشغلُ فيها إلا بالسفينة وأعمالها الروتينية. أقول هذا للمُتدرِّبين الذين يُطالبون بصخَبٍ بمعرفة وِجْهاتنا، دون أن يُدركوا أن الجانب الأكثر سحرًا في تجربتهم سيكون انشغالهم بعالَم السفينة، في انفصالٍ مؤقت، ولكنه تام، عن أي واقع آخر، حقيقيًّا كان أو افتراضيًّا.

لم أقضِ وقتًا كافيًا على متن السفن التجارية الكبيرة كي أحكُم بشأن ما إذا كان هذا الشعور ينطبق على المجال بأكملِه. ربما لا، ولكنه يظهر كثيرًا بين البحَّارة. زوجتي مهندسة بيئية ولكنها كانت ذات يومٍ بحَّارة أيضًا. لقد أبحرْنا معًا حول العالم في نصفَي الكرة الأرضية المُتعاكسَين. فقد تسلقَت الأهرامات، وسبحَتْ مع أسماك القرش الحوتي، ونامت على أكياس الحبوب المكدسة تحت حراسةٍ مُسلحة في ميناء جيبوتي الأفريقي. على الرغم من هذا كلِّه، فإن أكثر ما يعلَق في ذاكرتها هو ذكريات الليالي المدارية السرمدية في البحر، وهي تعبر المحيط الهندي في يختٍ هولندي بصاريتَين يُسرِّب المياه، حيث تُفرِّغ المياه كل ساعة وتستمع إلى مختاراتٍ من قائمةٍ قصيرة من المُحادثات المُتكرِّرة بلا نهاية حول فِرق موسيقى البانك، وسباقات الفورمولا وان، والسؤال الذي لم يعرِف أحد إجابته قطُّ وهو ما إذا كانت شخصية هاريسون فورد في فيلم «بليد رانر» هي في الواقع مُستنسَخًا. استغرقت الرحلة من أستراليا إلى السويس ثلاثة أشهر، أمضت معظمها في كنس طبقاتٍ رقيقة من الغبار الأحمر عن سطح السفينة كل صباح، نثرات رملية من صحراءَ غير مرئية.

جمعَ دودج مورجان، وهو رفيق لي من نيو إنجلاند تعرفتُ عليه مؤخرًا، ثروته من مجال الإلكترونيات، ولكنه اشتُهِر برحلةٍ حول العالم، حطَّمت الأرقام القياسية، أكْمَلَها في عام ١٩٨٦ على متن اليخت «أمريكان بروميس»، الذي بُنِي خصيصي لهذا الغرض. استغرقت الرحلة ١٥٠ يومًا، احتفلَ خلالها بعيد ميلاده الرابع والخمسين. أصبح بعد ذلك مُتحدِّثًا شهيرًا، حيث كان يصعد إلى مِنصة حفل عشاء لهذا النادي أو ذاك وينتظر أن يهدأ الحضور.

سمعتُه ذات مرة يقول: «إن محاولة الوصول إلى مكانٍ ما عن طريق الإبحار هو غباء مُستحكم.»

أظن أن وِجهة نظره هي أنه من الأفضل لأي شخصٍ ينطلِق في مثل هذا المسار أن يركِّز على فعل الإبحار نفسه، وليس على النتيجة. يُذكِّرني هذا بقصة برنارد مويتيسييه، وهو رجل فرنسي كان على وشك الفوز في عام ١٩٦٨ بأول سباقٍ للإبحار الفردي حول العالَم عندما قرَّر الاستمرار في الإبحار بدلًا من ذلك. توقَّف في نهاية المطاف في تاهيتي، بعد أن قطعَ نصف رحلة أخرى حول العالم.

في بعض الأحيان، أجلس في جانب السفينة المحجوب عن الرياح وأُحدِّق في الفراغ، في لحظاتِ دُوار يمكن فيها أن تتخيَّل أن الماء يتدحرج مثل السَّجادة وأننا واقفون بلا حَراك. في هذه اللحظات، يكون أحيانًا في مقدوري أن أجمعَ السفينة بأكملِها في مخيلتي؛ جميع الأجزاء المُتحركة والأعمال البشرية الروتينية، بل أيضًا خط سفرنا الطويل؛ الفترة التي تكون فيها السفينة عالَمًا مُستقلًّا بذاته، وكبسولةً في وضع السقوط الحر، لا تتأثر بجاذبية مقر الانطلاق أو الوجهة.

إنها رحلة طويلة للغاية، لدرجة أن هدفنا يبدو قريبًا ونحن لا نزال على بُعد ٣٠٠ ميل منه، أي يومَين كاملَين من الإبحار إذا أسرعنا. تقع جزيرة نوكو هيفا في موقعٍ متوسط في منتصف أرخبيل الماركيز، وهو مجموعة من النقاط التي تملأ الخريطة مثل حُبيبات الرمل بالقُرب من خط الزوال ١٣٩، على بُعد ٦٠٠ ميل جنوب خط الاستواء. يُقال إن التسميات العريقة لتلك الجُزر تُشير إلى الأجزاء الفرعية من منزلٍ يبنيه الإله البولينيزي أتيا، وهي: هِيفا أُوَا، ونُوكو هِيفا، وأُوَا هُوكا. ومعانيها على التوالي: دعائم الإله، وسقف الإله، وحطب الإله. أُول مُستجِدَّات اليوم هو أننا قد اقتربنا للغاية من وجهتنا لدرجةٍ أصبح معها استخدام الخريطة ضرورة. تُرسَم خرائط الملاحة البحرية عادةً على ورق تخطيط، وهو ببساطة صفحات فارغة مطبوعة عليها شبكة من خطوط الطول والعرض بخطوط خضراء رفيعة. لا يلزم أي شيءٍ أكثر من ذلك؛ لأنه في غياب أي عقباتٍ معروفة (مثل هاواي) يُفترض أن المحيط السحيق شديد العمق بدرجة تُمكِّن أي سفينة من الطفو فيه دون أن تجنح أو تصطدم بعقبة تحت الماء.

إذا ما حافظت السفينة على المراقبة اليقظة وانتباهها لمدى قُربها من سلسلة الجُزُر المنعزلة، فإن هذا النوع من التقدير لموقع السفينة في المحيط السحيق يُعَدُّ صحيحًا بشكلٍ عام من منظور السلامة. ولكن المحيطات شاسعة — خاصة ذلك الذي نحن فيه الآن — وحتى بعد ألف عامٍ من عبور الإنسان لها، لا تزال هناك أشياء تستحقُّ التوقُّف عندها. الخريطة التي فتحناها استعدادًا لوصولنا هي من إنتاج البحرية البريطانية، وعليها رقم فهرسة، ربما أول مَن خصَّصه هو بوفورت نفسه. مَن يدري؟ إنها طبعة قديمة أُحادية اللون شديدة الوضوح كما لو أن أحد المهندسين الملكِيِّين مِن ذوي الشوارب قد انحنى على مِحبَرته وخَطَّها بيدِه. وعند مُعاينة الموقع الذي نتَّجه إليه بهذا الأسلوب البسيط، فإنه يبدو أشبَهَ بخريطةٍ من رواية «جزيرة الكنز» مرسومة باليد.

غالبًا ما تكون هناك مساحة أصغر في هوامش الخريطة، وهي نوع من الخرائط المُصغَّرة الموضَّحة عليها حدود المسوحات الفردية ومناطق تغطيتها والتي ترتبط وحداتها معًا مكوِّنةً فسيفساء الخريطة المِلاحية الكاملة. لن تكون جميعها حديثة المصدر. يظهر مُربع مكتوب عليه «من المسوحات التي أجرَتْها سفينة «فرديناند آر هاسلر، ٢٠١٦» التابعة للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي» بجوار مُربع آخر مكتوب عليه «قياسات السفينة «ويبيت» التابعة للملكية البريطانية، ١٨٧٢». المُحيط مكان كبير. وحدود معرفتنا في تزايدٍ مُستمر ولكنها تظلُّ غير مُكتملة، وربما لا تزال خرائط المناطق التي لم تخُضها السفن كثيرًا تحتوي على تحذيراتٍ مقتضبة للملَّاحين في هوامشها، ومن أمثلة ذلك:

«نشاط بركاني مُحتمل، ٢٠١٤.»

«يُقال إن جزيرة سنوك تقع على بُعد ميلَين شرق موقعها على الخريطة.»

صارت لديك الآن فكرة واضحة عن الأمر. في خريطة اليوم، وهي خريطة نموذجية للمحيط الهادئ الشاسع، يجد المرءُ دوائر صغيرة منقَّطة مع توصيفاتٍ بخطٍّ شديد الصِّغَر بجوارها:

«أمواج متكسرة، أُبلِغَ بها في عام ١٩١٢. مشكوك في وجودها.»

أهذا حوت قافز؟ أم حافة بازلتيَّة لبركانٍ غير معروف؟ إنها «علامة عائق ملاحي»، هكذا تُسمَّى هذه النقاط في الملاحة، وتُعبِّر عن خطَر ملاحي مشكوك في وجوده أو موقعه. وليُبحر الملَّاح بحذَر على مسئوليته.

مِن موقِعنا الآن تقع جُزر الماركيز مع اتجاه الريح مباشرةً. نقترب منها تدريجيًّا في سلسلةٍ من الخطوط المُتعرِّجة الطويلة مثل طائرة تخفض ارتفاعها عند اقترابها من مطارٍ بعيد في الأسفل. امتدَّت أشرعتنا المُربعة في مواجهة ضوء الشمس. فعند البحَّار، الحفاظُ على أن تكون السفينة في مواجهة الرياح يُماثل الحفاظَ على الارتفاع بالنسبة إلى الطيار؛ فهو هامش أمانٍ لا يُقدَّر بثمَن ولا يمكن الاستغناء عنه إلا مع ظهور ممرِّ الهبوط في الأفق، بحيث يُمكن قراءة أرقامه من نوافذ قمرة القيادة. في هذا الطريق، نَعِمنا بالسير في مواجهة الرياح طوال المسافة نحو هدفنا، ونحن نُدرك مع ذلك أنه في حالة غياب الانتباه يظلُّ هناك احتمال لتجاوز الهدف، وفقْد تلك الميزة القيمة والاضطرار إلى بذْل الجهد الذي كان من المُمكن تجنُّبه لاستعادة موقعنا الذي كنَّا فيه من قبل.

من شأن هذا أن يكون مُحرجًا لنا، ولكنه في الحقيقة ليس كارثيًّا. إذ يُمكننا بالاستعانة بمُحركنا الرئيسي استعادة الكثير من المسافة المفقودة إن اضطُررنا إلى ذلك. قديمًا، عندما كان الاعتماد على الأشرعة وحدَها، كان الأمر مختلفًا تمامًا، وغالبًا ما تُوضَع حدود الجغرافيا السياسية الحديثة اعتمادًا على حقائق أقدم حول مَن كانت له الهيمنة على المواقع البحرية التي تحظى بميزة أنها في مواجهة الريح. لنتأمَّل جزيرة بربادوس، في المحيط المجاور لنا. تبدو جُزر الأنتيل الصغرى في منطقة البحر الكاريبي مثل قلادةٍ طويلة من البراكين مُرصَّعة بالجواهر، في قوس من الجُزُر انبثق من تداخُل الصفائح التكتونية أسفله. التاريخُ المكتوب لهذه الجُزر يعكس الصراعات المُستمرة على السلطة بين القوى الاستعمارية، حيث تناوبت قوى أجنبية السيطرة عليها الكَرَّةَ بعد الأخرى قبل أن تنال استقلالها النهائي في القرن العشرين. لكنَّ الأمر لم يكن كذلك مع بربادوس، التي تقع على بُعدِ مائة ميل شرق سلسلة الجُزر الرئيسية بسبب شذوذ تَكتوني، مما يعني أن ثمة فرصةً واحدة أمام أي سفينة تقترب منها للعثور عليها قبل أن تنجرِف بلا رجعةٍ مع اتجاه الرياح متجاوزةً إيَّاها. أصبحت بربادوس بريطانية في عام ١٦٢٥ وبقِيَت كذلك حتى استقلالها في عام ١٩٦٦، أي بعد عام من ولادتي. ونجت بريطانيا نفسُها من أي غزوٍ بحري كبير منذ غزو النورمان عام ١٠٦٦، ويُعزَى ذلك غالبًا إلى أن أيَّ مُهاجمين مُحتمَلين من القارة كان لزامًا عليهم أولًا حشد جيوشهم على متن السفن والإبحار في مواجهة الرياح والطقس الرهيب السائد في شمال المحيط الأطلنطي. وفي مواجهة مثل هذه المِحنة المستمرة، تقدم بحَّارة شمال أوروبا تقدُّمًا كان بمثابة عزاءٍ لهم عن هذه المصاعب ليصبحوا الأفضل في العالم، وهي مكانة يُشاركهم فيها النيوزيلنديون، الذين شكَّلوا مجتمعًا بحريًّا آخر طوَّر حرفته وسط ضرباتٍ مُطَّردة من الرياح العنيفة والمُتقلبة.

في غرفة الخرائط لدينا، تتجمَّع مجموعة متواضعة من الأدوات حول ضوء طاولة الخرائط الخافت، حيث تكتسي الأضواء بِمَسْحة من اللون الأحمر للحفاظ على الرؤية خلال الليل ومساعدتنا على الشعور وكأننا نُبحِر بشيءٍ أسرع من مجرد سفينة شراعية بصارِيَين تتهادى عبر المحيط الهادئ الفارغ بسرعة ستِّ عُقَد. أو ربما بغوَّاصة نووية. فوق الخريطة توجَد أجهزة الراديو الصامتة، وجهاز نظام تحديد المواقع العالمي، وجهازا رادار، لا يلتقِطان شيئًا في الوقت الحالي، حتى عند تشغيلهما بحيث يلتقِطان أبعدَ نطاقٍ لهما. لا يوجَد شيءٌ يمكن ملاحظته على الشاشتَين سوى فوضى بحرية باهتة — يعاود النمط الحُبيبي العرضي لقِمم الأمواج في الظهور — وسطوع مؤقت لمؤشراتِ التوجيه في كل مرةٍ يعود فيها شعاعُ الموجات اللاسلكية بسرعة كاسحة إلى الصفر.

لا توجَد سفن أخرى معنا اليوم فيما يُسمِّيه البحَّارة «خطوط الطول المنعزلة»، ويبدو الهواء جافًّا جفافًا غريبًا، ولا يحمل سوى القليل من السُّحب الكبيرة بما يكفي لسقوط الأمطار. نحن الآن تحت تأثير تيار همبولت، وهو مسار دائم للمياه الباردة الصاعدة من ساحل بيرو، ينجرف في دورةٍ عكس اتجاه عقارب الساعة في دوَّامة جنوب المحيط الهادئ. إنه نسخة مُكبَّرة من جنوب المحيط الأطلنطي، حيث يحمل تيار بنجويلا الماءَ البارد بعيدًا عن مناطق الصيد الغنية في غرب أفريقيا ويأخذه في اتجاه البرازيل. النتيجة في الحالتَين هي ركنٌ من المناطق المدارية تنخفِض فيه الرطوبة على نحوٍ غير معهود، مع نشاط أقلَّ بكثيرٍ من العواصف العابرة المُرتبطة عادة بخطوط العرض المنخفضة في البحار. يكاد لا يُسمَع بالعواصف المدارية في هذه الأماكن، وهذا هو السبب.

•••

عندما نصل إلى جزر الماركيز، نجد شواطئَ خضراء مُورقة في مواجهة الرياح وظلالًا طويلة قاحلة الأمطار على سواحلها الغربية المحمية من الرياح. في نوكو هيفا، المرسى عند مُستوطنة تايوهاي الرئيسية عبارة عن تجويفٍ على شكل وعاء في تلالٍ مُتعرجة ومنحدرة، حيث الروابي البُنيَّة العالية التي تتخللها رُقَع خضراء من الشُّجيرات تنمو بمحاذاة مجاري المياه حتى الارتفاعات الأعلى حيث السماء المفتوحة وضوء النهار. تمتدُّ مجموعات الأشجار الصُّلبة الأخشاب على سلاسل التلال في حافة رفيعة. أسير مع الطاقم على الطريق الخرساني الوحيد الذي يمتدُّ على المنحدَر ذَهابًا وإيابًا من البلدة، مرورًا بمنازل أنيقة بها حدائق من نباتات الجَهنمية وأشجار المانجو. تُحيط بأشجار تين البنغال القديمة على جانب الطريق حجارة قائمة مُتآكلة، بعضها منحوت على شكل «تيكي»، أول رجل على الأرض في قصص الخلق البولينيزية.

في الأعلى تُوجَد أراضٍ عشبية وأشجار سَنْط عريضة مُتفرقة. وتتجول الأبقار والخيول بِحُرِّية. الجوُّ حارٌّ حتى نصل إلى قمة التل، حيث تُقابلنا مثل جُرعة من الجِعَة الباردة نفحةٌ من الرياح الشمالية وسماء ملبدة بالغيوم. فجأة يصبح المكان أكثر اخضرارًا بالأعلى، ويكاد يُشبه غابة سحابية، حيث تنمو أشجار السَّرْخَس الطويلة والصنَوبر والنباتات الهوائية في انحناءاتِ الفروع. يتفرَّع الطريق، ويُميَّز هذا التفرُّع بعلاماتٍ إرشادية أنيقة، وينحدِر إلى الوديان التي تبدو مُستعصية العبور بقدْر كونها خلَّابة، حيث أخاديد حادة وقِمَم مورِقة مثل قِمَم حلوى المرنج المُدببة. تقع تايبيفاي أسفل أحد هذه الأودية، وهي القرية التي قضى فيها الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل شهرًا في عام ١٨٤٢ قبل أن يؤلِّف كتابه الأول الشبيه بأدب الرحلات «تايبي». يقع المطار، حسبما سأعرف لاحقًا، على بُعد ٣٠ ميلًا برًّا من هنا، أي ساعتَين بالسيارة. تلك مساحة مُنبسطة، ويبدو كما لو أن الأرض فيها قد تُغطي مساحة ولاية تكساس بأكملها.

قبل أن تبدأ الإجازة الشاطئية، يجب أولًا أن أقدم أوراقَنا إلى الدرَك في مركز شرطة فرنسي نموذجي يقع في بستان موز، حيث تنتظِر سيارة لاند روفر زرقاء ناصعة في الممر بالخارج. يوجَد في حقيبة ظهري جوازات سفر ثمينة، ومجموعة من النماذج الجمركية، وجهاز لا سلكي محمول يُطلِق ذبذباتِ تشويش عشوائية. ومن خلفي ينطلِق زورقُنا المطاطي مُبتعدًا، يجر في أعقابه أثره الرغوي عائدًا بطاقمه إلى السفينة وطعام الإفطار في انتظارهم. أسمع ضجيجَ طيورٍ بين الأشجار، وأُدرك شعورًا مُقلقًا بالأرض الصُّلبة تحت قدميَّ، وأُذني الداخلية تسارع من أجل التكيُّف.

لا يُرى أحدٌ في مركز الدرك، وشمسُ الصباح شديدةُ السطوع بالفعل. أجد مقعدًا في الظلِّ وأنظر إلى الخلف باتجاه السفينة «روبرت سي سيمانز» التي كانت ترسو بمِرساة. تبدو بعيدةً جدًّا. هذا ما أُفضله بعد الرِّحلات الطويلة؛ أن أُحضر السفينة إلى مكانٍ أجده قريبًا بما يوفِّر الراحة، ثم ينتابُني شعور بأننا بطريقةٍ ما رسَونا في وسط المحيط، وهو ما يُمثل مضيعةً غير ضرورية للوقت بالنسبة إلى القوارب التي تنقل الناس إلى الشاطئ. يبدو منظرُ اليابسة سارًّا ولكنه يُصبح مُقلِقًا إلى حَدٍّ ما عندما لا تكون قد رأيتَه لبعض الوقت. أثناء الإبحار على طول سواحل موطني، أمرُّ على مرمى حجَر من الشاطئ دون أن أُفكر في الأمر، حيث تنجرف إلينا روائح الطُّعوم وعوادم الديزل المُنبعثة لتوِّها من أرصفة الصيد. أظن أن سفينتنا نفسها تبدو وكأنها قارب صيد. بعد شهرٍ من البقاء في البحر، أصبح بدن السفينة باهتًا بسبب الملح الجاف وخطوط خفيفة من الصدأ تتسرَّب من بالوعات السفينة. تميل سفينتنا قليلًا إلى اليمين، نتيجة التنقُّل المُستمر للسوائل بين مجموعة من الخزانات المختلفة: مياه عذبة من محطة تحلية المياه، والنفايات السائلة من الأحواض والمراحيض المخزنة للمعالجة والتفريغ في نهاية المطاف. كما أن هناك أيضًا وقود الديزل الثمين، الذي يحترق بالتنقيط المستمر في المولِّدات وبجرعاتٍ كبيرة في مُحركنا الرئيسي عند تشغيله.

يُعَد تتبع كل هذا جزءًا كبيرًا مما يفعله المهندسون في البحر، حيث يرتبط تنظيم السوائل في الخزانات ارتباطًا مباشرًا باستقرار السفينة، أي ما إذا كانت ستطفو في وضعٍ مستقيم أم لا، وتحت أي ظروف ستستعيدُ توازُنها بعد أثر القوى المعاكسة للحركة. الخزاناتُ المُمتلئة بوجهٍ عام أفضل من الخزانات الفارغة. وتُعتبر الخزانات الممتلئة جزئيًّا أو «الراكدة» الأسوأَ على الإطلاق؛ حيث تسمح بسبب امتلائها الجزئي بتدفُّق محتوياتها نحو أي جانبٍ من السفينة يميل بالفعل إلى الأسفل. يُطلق المعماريون البحريون في حساباتهم على هذا الوضع اسم «السطح الحر». توجَد في أوراق سفينتنا رسالة صارمة من خفر السواحل تُذكِّرنا بالحرص على أن تكون خزاناتنا الراكدة بأقلِّ عددٍ قدْر الإمكان، وبوجهٍ عامٍّ ألا تزيد عن خزانٍ واحد في كل فئة: الديزل، والنفايات السائلة، والمياه الصالحة للشرب. في حالة سفن الشحن، تُعَد الإدارة السليمة للخزانات أمرًا بالِغ الأهمية؛ فقد تتعرَّض السفينة التي لم تُدَر حمولتها بالطريقة الصحيحة للشرخ أو الانقلاب بسبب اختلال توازنها. في يوليو من عام ٢٠٠٦، أساءت حاملة السيارات «كوجار إيس»، المُمتلئة بآلاف المركبات الجديدة المتجهة إلى أمريكا، التعاملَ مع مياه الصابورة (الماء الذي تسحبه السفينة بمضخَّاتها من مياه البحر لحفظ اتِّزانها وهي خالية من الحمولة) وانقلبت فجأة بزاوية ٤٥ درجة، وظلَّت طافيةً مهجورة في خليج ألاسكا لأكثر من أسبوع قبل إنقاذها. وكانت السفينة «جولدن راي» أقل حظًّا، حيث تعرضت لحادث مماثل أثناء مغادرتها مدينة برونزويك بولاية جورجيا، في عام ٢٠١٩. وفي خطأ فادح، حمَّل أفراد طاقم السفينة أسطولًا من سيارات الدفع الرباعي الثقيلة على السطح العلوي وتركوا العديد من خزانات الصابورة الرئيسية فارغة. وبعد رُسُوها على سهلٍ طيني وانتهاءِ مسيرتها البحرية إلى الأبد، بيعَت خردةً، حيث قُطِّعت إلى شرائح مثل رغيف اللحم، وسحبتها بارجةٌ بعيدًا في عملية استغرقت عامَين حتى اكتملت.

أظن أن جنوحَ سفينتنا اليوم لم يكن بالشيء الذي كشف عن أمرٍ خطير فيها، بل أضافَ إلى جمالها؛ فقد كان تعزيزًا لمظهرها المُغامِر أثناء طفوِها في الميناء الخارجي، حيث تُثبَّت العوارِض متعامدةً وتُرفرف الأعلام وكأنها شيء من قرنٍ مضى. سأتحدَّث إلى ديفيد ومساعِده عندما أعود وأسألهما عن رأيهما. عندما غادرتُ، كانا مُنشغلَين بإعداد هدايا عيد الميلاد المجيد وربما لديهما أولوياتٌ أخرى.

يظهر من مكانٍ ما شُرطِيُّ درَك يرتدي قميصًا أبيض أنيقًا ويفتح بابَ مكتبه.

يقول بالفرنسية: «صباح الخير يا سيدي.»

يرتدي الزيَّ الرسمي الكامل ويضع قُبعة ويحمل سلاحًا جانبيًّا، وتكاد تظنُّه في باريس، على الرغم من أنني أُرجح أنه محليٌّ بحُكم مظهره. نحن قريبون من قمَّة ما يُسمى أحيانًا المُثلث البولينيزي، وهو مضلع عِرقي واسع يمتدُّ تقريبًا بين نيوزيلندا وهاواي ورابا نوي (جزيرة الفصح). تُمثل جُزر الماركيز الحَدَّ الخارجي لبولينيزيا «الفرنسية»، وهي منطقة شاسعة تمتدُّ في حَدِّ ذاتها من هنا رجوعًا إلى بورا بورا، على بُعد ٨٠ ميلًا غرب تاهيتي في جُزُر سوسايتي. توجَد في المُجمَل خمسُ مجموعاتٍ من الجُزر المنفصلة في بولينيزيا الفرنسية (دون احتساب قطعة غريبة تقع غرب المكسيك مباشرةً تُسمَّى كليبرتون أتول)، ويمنح وجودُها الجماعي فرنسا أكبر منطقةٍ اقتصادية خالصة في العالم — ٧٫٣ مليون ميل مربع — أكبر قليلًا من مساحة الولايات المتحدة، وحوالَي ضعف مساحة إنجلترا.

تمثِّل لي حقيقةُ أن هذه الأماكن فرنسية وبولينيزية في الوقت نفسه حالةً من حالتَين على القدْر نفسه من اللامعقولية؛ أن الفرنسيين تمكَّنوا من السيطرة على هذه المنطقة غير الأوروبية تمامًا قبل ثلاثة قرونٍ وتركوا بصمةً دائمة مثل ذلك الماركيزي الذي يرتدي زيَّ الدرَك، أو أن البولينيزيين قد وجدوا سبيلهم إلى هنا قبل ذلك بخمسمائة عام، حيث أبحروا بقوارب مفتوحة عبر مياهٍ لا نهاية لها، مُستخدِمين مهاراتٍ فُقِدت تقريبًا بمُضي الزمن. أثبتت النهضة الأخيرة في الملاحة التقليدية هذا المفهوم واستعادت بعضَ الأساليب التي يُحتمَل أنه جرى استخدامُها، غير أن روعة تلك الحقيقة لا تزال تبعث على القدْر نفسه من التأمل.

يُعتقَد أن الماركيزيين الأوائل قد أتَوا من تاهيتي أو مِن مناطق مجاورة، على بُعد ٨٠٠ ميل، في رحلةٍ عادةً ما تكون في مواجهة الرياح مباشرة. ويعني هذا على الأرجح أنهم فهموا أنماط المُناخ جيدًا بما يكفي لأن يعرفوا أن ثمَّة سنواتٍ بعينها تحمل فرصةً نادرة للإبحار بينما الريح خلفهم، وأنهم عندما وجدوا أماراتها انطلقوا في رحلتهم. وما إن أصبحوا في البحر، حتى صارت النجوم بوصلتهم، وتركوا إيقاع الأمواج يكشف عن تأثير التيارات والملامح الجغرافية غير المرئية. في بعض الأحيان، كانت الطيور بمثابة مُرشدين لهم، إلى أن انكشفت وِجهاتهم — كما هو الحال معنا بعد ألف عامٍ — من خلال السُّحب الطويلة التي تكوَّنت من الرياح المرتفعة فوق الأرض، وأعمدة المونوليث المفاجئة من الصخور البركانية المُغطاة بالأمواج التي تكتسِب لونًا ورديًّا في ضوءِ شروق الشمس الخافت.

إنَّ التاريخ السحيق لهذه الإنجازات اليوم يكشف عنه مجتمعٌ نشط من جماعات الإبحار التقليدية، واستخدام تأريخ النظائر الدقيق. يُقدَّر عدد سكان الماركيز في فترة ما قبل الاستعمار بما يقرُب من ١٠٠ ألف نسمة، مُنتشِرين بين هذه الجُزر البالِغ عددها ١٢ جزيرة أو نحو ذلك، حيث كانوا يصطادون الأسماك، ويزرعون المحاصيل، ويصنعون أدواتٍ حجريةً عُثِر عليها في مُستوطناتٍ أخرى على بُعد ألفَي ميل، وهو دليل لأي شخصٍ يشكُّ في وجود نظامٍ للرحلات المُتكررة بين هذه الأراضي الحبيسة النائية. سمعتُ في تاهيتي تقديراتٍ بأن ما يصِل إلى نصف مليون شخصٍ كانوا يعيشون منتشِرين بين الوديان البركانية الخِصبة حيث كانت التضاريس الشديدة الانحدار بمثابة منطقةٍ عازلة تمنع الصراع بين القرى. بين قطع أراضي الحدائق، وجوز الهند، والخنازير، والأسماك، كانت الجُزر غير محدودة تقريبًا في قُدرتها على إعالة الحياة حتى الوصول الكارثي للأوروبيين، الذين كانوا، مِثلي، رجالًا بيضًا في سفن شراعية. في الحقيقة، تُمثل كل جزيرة تقريبًا مكانًا عاش فيه الناس ذات يومٍ وكانوا في أحسن حالٍ حتى بدأ البحارة في الظهور. نحن جميعًا نعيش في الحاضر الذي وجدنا أنفسنا فيه، ولكن في حِلِّي في هذه الأماكن وتَرحالي منها، تكون هذه هي الأفكار الأصعب في التصالُح معها.

«أنتَ مستعمِر»، هذا ما سيقوله لي أحدُ طلابي بعد عدة سنواتٍ أثناء توقُّفي في مملكة تونجا البولينيزية. ويُردِف: «لا شأنَ لك هنا.»

أنا، على ما أظن، مجرد عابر سبيل.

أريد أن أسأله: «هل تعلم أن تونجا كانت تتمتَّع بالحكم الذاتي منذ نشأتها، ولم تُستعمَر قط؟»

يلوِّح أصدقاؤنا التونجيون من فوق رصيف الميناء، وهم عائلة عالِم محلي كان متعاونًا متحمسًا على متن السفينة خلال الأسبوعَين الماضيين. لا أشعر بأنني شخصيًّا استعماري، لكن المسائل أكثر تعقيدًا من ذلك. لستُ متأكدًا مما ينبغي أن أُفكر فيه غير امتناني لعمَلي في وظيفةٍ سمحت لي بالإبحار إلى هذه الجزيرة ومقابلة الأشخاص المُميزين الذين يعيشون هنا. في النهاية لا أقول شيئًا، وأختار عوضًا عن ذلك الصمتَ المُوارِب الذي يُعتبر ملاذًا قديمًا لقباطنة السفن. ربما يجعلني هذا جزءًا من مشكلةٍ أخرى أيضًا …

أروي بعضًا من هذا لزوجتي في رسالة عبر البريد الإلكتروني.

تقول: «أفهم ذلك. فعندما نُبحر من مكانٍ إلى آخر، يكون التحدِّي أننا نادرًا ما نبقى في أي مكانٍ فترة كافية لأن تتبلور أفكارنا؛ فالأفكار في رأيي مثل قِطَع الغسيل المُعلَّقة على الحبل. فهي تظهر عشوائيًّا، وتُرفرف في مهبِّ الرياح، ولا تجفُّ تمامًا قبل أن تغرب الشمس ويحين وقتُ جمعها.»

في متجر البقالة على الطريق من مركز الدرَك توجد أرغفة طويلة من خبز الباجيت الفرنسي بسعر ٣٥ سنتًا، وهو سعرٌ زهيد بلا شك يضمنه أحد مراسيم يوتوبيا الاشتراكية الفرنسية. المساواة! وكما سأكتشف قريبًا، هذا الخُبز هو الشيء الوحيد الرخيص في الجزيرة. إنه متجر صغير مزدحِم، تفيض فيه البضائع حتى تصِل إلى الشرفة الخرسانية التي تنام فيها الكلاب مثل النقانق على الدَّرَج. وعلى الرغم من تيَّار همبولت، فقد بدأ المطر يهطل بغزارة، ويُهرع سكان المدينة في سيارات لاند روفر، مندفِعين عبر السيل، ثم يُغادرون وهم يُغَطُّون خبزهم تحت القمصان والمظلَّات. يقِف بجانبي رجل ينتعِل صندلًا ماركة كويكسيلفر وقميصًا رثًّا قصير الأكمام. يستدير نحوي بوجهه المُزيَّن بوشوم لافتة. يضع قرطًا في أُذنه، وقد ربط شعرَه الداكن إلى الخلف بعقدةٍ من الريش. يهدأ المطر قليلًا، فيبتسِم مُرحِّبًا، ويُطفئ سيجارته مُلقيًا بها جانبًا، ويخرج إلى الشارع ومعه خبزه.

في فترة ما بعد الظهر، أخرجُ في نزهةٍ مع كارا وجيريمي، اللذَين أجدهما يتجوَّلان بين أكوام ثمار شجرة الخبز (ثمر نشوي مُستدير قد يغني عن الخبز إذا شُوِي) واليُكَّة في سوق المنتجات على الواجهة البحرية. بعد أن تزوَّجا في سبتمبر، أصبحا يُشبهان ثنائيًّا سينمائيًّا في جاذبيتهما المتناغِمة. بعد عدة محاولاتٍ وجدنا طريق الخدمة المؤدي إلى أبراج الاتصالات اللاسلكية أعلى البلدة، في مشهدٍ جمالي لا يمكن تفويته أشادَ به شخص الْتقَينا به في الطريق. من هنا يكون المنظر باتجاه الجنوب مباشرةً، على حافة هاويةٍ خطرة تنحدِر عبر مصاطب هابطة من النباتات وصولًا إلى المياه. إنه ليس مكانًا للقيلولة. يمكن رؤية السفينة «سيمانز» بعيدًا أسفلنا في الميناء، تسحَب برفقٍ عقدة سلسلة مِرساتها الطويلة. تطفو جزيرة أوا بو على مسافةٍ بعيدة، وتظهر فجأة على شكل إسفين أخضر تختفي قِمَّته في السُّحب. على بُعد حَيدٍ واحد من البلدة يقع خليج كوليت، حيث يمر الطريق عبر المُنتجع الفاخر الشديد الصغر الذي تجد فيه مَسبحًا لا مُتناهي الحجم وبيرة هينانو المثلجة. في أسفل أحد الأودية الصغيرة، يمتلك أحدُ الأشخاص حظيرة صغيرة وقطعة أرض مزروعة بشجر الموز. وترعى بضعة خيول، وبخلاف ذلك لا يُوجَد أي شيءٍ آخر. لا شيءَ يدلُّ على أن أكبر مُستوطنة في الأرخبيل تقع على بُعد ميلٍ واحدٍ على الطريق، أو حتى أن هناك أيَّ شخص آخر على وجه الأرض. هناك شاطئٌ رملي رمادي صغير تنطلِق فيه سرطاناتُ البحر مسرعةً رافعةً مخالبها كجنودٍ رافعين أسلحتهم بشكلٍ قطري. وتحت الماء، يتموَّج سمك الراي اللَّسَّاع ببطءٍ فوق القاع الأملس، باحثًا عن عشائه.

في هدوء الشفق، تتدرَّب أطقم قوارب على التجديف في حركاتٍ سلسةٍ عبر الخليج، وتمثل قواربهم تجسيدًا جديدًا برَّاقًا للحِرَف التقليدية، حيث الأبدان الرئيسية النحيلة للقوارب، أو «الواكا»، التي بالكاد تطفو فوق الماء وقوارب «الأما» الأصغر حجمًا، مع الإبقاء دائمًا على مسند التوازن في مواجهة الرياح لضمان الثبات. يربط بين هيكلَي البدَن قطعة مُستعرَضة تُسمَّى «أكا»، وهي كلمة تعلمتُها لأول مرة — كغيرِها من الكلمات — عندما كنتُ مراهقًا، من صديق للعائلة بنى يخوتًا مُتعددة الأبدان لسباقاتِ المُحيطات، وهي آلات تنافُسية فائقة السرعة، يعود أصلُها إلى اليخوت المصنوعة من الأخشاب والألياف التي انتشرت عبر مجتمعٍ بأكمله في مساحة ١٠ ملايين ميل مربع من المحيط. إنها عشية عيد الميلاد المجيد، ومع حلول الظلام الاستوائي السريع، نسير عائدِين بجوار كنيسةٍ مزيَّنة بنقوشٍ منحوتة فريدة ومغمورة بظلال مُرقَّطة من الأشجار المُحيطة وإضاءة الحديقة. سأعرف لاحقًا أن هذه هي كاتدرائية نوتردام، التي بُنِيت في سبعينيات القرن العشرين على موقع معبدٍ أقدم بكثير. المسيحية هنا مثل نبتةٍ جُلِبَت إلى هذه الأرض، غريبة ولكنها الآن تزدهر بشكلٍ لا ينفصم عن المشهد بأكمله. في الوقت الحالي، كلُّ ما يمكن ملاحظته هو الترانيم التي تُغنَّى باللغة الماركيزية وتنطلِق من داخل الهيكل المفتوح في مَدٍّ مُتعدِّد النغمات من الأصوات. يستغرق الأمر ١٥ دقيقة سيرًا على الأقدام من هنا للعودة إلى الرصيف، وخلال هذه الفترة لا ينبس أحدٌ ببنت شَفَة، باستثناء الردِّ على تحيَّات العائلات المُتجمِّعة تحت الأشجار المنخفضة على طول الواجهة البحرية.

تزور السفن السياحية المنطقة بين الحين والآخر، بما في ذلك سفينة «بول جاوجوين»، وقد تُوُفي الشخص الذي تحمِل اسمَه في هيفا أوا القريبة في عام ١٩٠٣ بعد فترة طويلة قضاها في إثارة استياء السكَّان المحليِّين. في بعض منشورات كتبَها رُكَّابها على الإنترنت، وجدتُ ذِكرًا للكاتدرائية التي مرَرْنا بها وهي تصدح بالغناء. يقول شخصٌ من لاس فيجاس: «إنها كنيسة أكثر من كونها كاتدرائية. تستحقُّ الزيارة، ولكنها لا تستحقُّ الذَّهاب في رحلة خاصة إلى الماركيز.»

•••

تقول الضابطة البحرية الثانية: «توجَد أشياء على شكل أميبا على شاشة الرادار.»

يبدو أنه أمرٌ يستحقُّ اهتمامي. أنتعلُ القبقاب وأصعد السُّلم المؤدي إلى غرفة الخرائط، مرورًا بمعاطف المشمع الواقي التي تتأرجح معًا بلُطف على شماعاتها. غادرنا تايوهاي في ضوء الآصال الساحر ليوم هدايا عيد الميلاد المجيد، ومنذ ذلك الحين نتَّجِه غربًا بسرعة شديدة، والهواء يزداد سخونةً ورطوبة باطِّراد. بالفعل تظهر على شاشة الرادار الخضراء حلقة ضبابية خافتة في الأفق، آخِذةً شكلًا بيضاويًّا متموِّجًا يبلغ عرضه ١٠ أميال. ثم حلَقات أخرى تطفو مثل أجسام خلوية على شريحةٍ مجهرية. هنا، في وسط أكبر مُحيط في العالم، لا شيء آخر يمكن رؤيته، بخلاف السُّحُب الكبيرة العالية التي تنتشر فجأة في كل مكان، وتسحب مجموعاتٍ داكنة من المطر تحتها. مع دنوِّ الشكل الأميبي الأقرب، يحدُث تغير طفيف في سطح البحر القريب، حيث يضيق الأفق المرتجِف لقمم الأمواج ليُشكل خطًّا داكنًا يمكن تمييزه من خلال المنظار كصفٍّ مُنفرد من أشجار النخيل يذوب في الحرارة. نرى ما يُشبه غشاءً خلويًّا من اليابسة مثبتًا بإحكام بين البحر والسماء.

تتشكَّل الجُزر المَرجانية الحلَقية مع انحسار المخاريط البازلتية للبراكين القديمة إلى البحر، وتُسارِع الشِّعاب المَرجانية الهُدَّابية في النموِّ لتعويض الانخفاض في قواعدها الغارقة. إنها جوهر التوازن الديناميكي، وهو توازن دائم ينتُج عن الحركة المُستمرة لأجزائه. إذا كانت الشِّعاب المَرجانية في حالةٍ جيدة، فقد تنمو بسرعةٍ كافية لتعويض المساحات الجيولوجية المنحسرة، حتى يُصبح كل ما يمكن رؤيته هو حلقة مُجزَّأة من الأمواج المُتكسِّرة و«موتو» — جزر صغيرة رملية ذات غطاء نباتي — تلتفُّ حول بحيرة مركزية. في منتصف هذه العملية، قد يظلُّ الجبل الأصلي موجودًا كقاعدة مُذهلة محاطة بالشِّعاب المَرجانية النائية، مما يُعطينا لمحةً عن العمر النسبي للجُزر المختلفة في السلسلة. فلنتأمَّل تاهيتي، أصغر جزر سوسايتي، وهي كتلة جبلية يبلُغ عرضها ٣٠ ميلًا ولا يحيط بها شيءٌ سوى بُحيرة على شكل شريط ضيق. توجَد مسافة يمكن للسياح السباحة فيها من الشاطئ إلى الشِّعاب المَرجانية. بالاتجاه غربًا، تصبح الجزُر أكثر انخفاضًا والبحيرات الشاطئية أكبر حجمًا، حيث جزر هواهين، وراياتيا، ثم بورا بورا على مسافة إبحار يوم، وقِمَمها الألبية من الحجر الرَّمادي تحدُّها غابة وبحيرة مُبهرة تساوي الجزيرة في الحجم تقريبًا، مما يخلق تباينًا بصريًّا بين قِمَمها ومياهها. تقطع المياه العذبة الجارية القنوات عبر الشِّعاب المَرجانية، مكوِّنةً ممرات يمكن للقوارب الدخول من خلالها إلى مرفأ طبيعي مثالي. وبعد ذلك، تزداد اليابسة قِدَمًا وتبدأ في التلاشي، فلا يبقى منها سوى ما يشبه كعكات الدونات من المَرجان الجاف بأسماء غير مألوفة حتى للقرَّاء من المُسافرين: موبيتي، ومانواي، وموتو وان، وهي دائرة مُغلقة تمامًا تُركت شواطئها لطيور خُطَّاف البحر وسرطانات جوز الهند.

إنها جزيرة مَرجانية حلَقية ناضجة، لا يزيد ارتفاعها عن بضعة أقدامٍ فوق مستوى سطح البحر، لا يمكن رؤيتها من مسافة بعيدة، مما يعرِّض البحَّار للجنوح عليها دون أن يرى اليابسة على الإطلاق. وتقع شواطئها على أجرافٍ مغمورة بالمياه، إذ يصل عُمق المياه إلى ألف قدم على بُعد ياردات من الشاطئ، وهو ما يعني أن القياسات المُعتادة قد لا تعطي أي تحذير بشأن قُرب الجزيرة. إن هذا الوضع وصفة أكيدة لتحطُّم أي سفينة. حتى الرادار له حدوده. فقد يظهر على الشاشة شاطئ مُنخفض، في ليلة يكون فيها البحر عاتيًا، وكأنه مجرد شريطٍ كثيف من الأمطار، أو لا شيء على الإطلاق. عند النظر عن قُرب إلى قطع اليابسة الجافة الضعيفة هذه، تجدها ليست أكثر من مجرد مجازاتٍ مُرتفعة وسط المحيط، مسارات مُتقطِّعة من الشُّجيرات والرمال البيضاء تمتدُّ إلى نقاط التلاشي في كِلا الاتجاهَين. في بعض الأحيان، يمكن رؤية الطرف المقابل من الجزيرة من بعيدٍ عبر بُحيرتها، حيث تكون زُرقة المياه غير معقولة.

لفهم دورة حياة مثل هذه التضاريس، أَحضِر خريطةً للمحيط الهادئ، ويُفضَّل أن تكون مخطَّطًا بحريًّا صغير الحجم يركز بشكلٍ كبير على مَعالم القاع، وهو ما يُسميه علماءُ المحيطات «قياس الأعماق». أول ما يطرأ في ذهني عند رؤية مثل هذه الخرائط هو التفكير في مدى قلَّة الأراضي التي يمكن رؤيتها من الأساس. ينبغي لأيِّ شخصٍ يشكُّ في أن كوكبنا يتكوَّن في معظمه من المياه أن ينظر إليه من هذا المنظور وستتبدَّد شكوكه إلى الأبد. بعد كل تلك المياه، ما قد تُلاحظه بعد ذلك هو كيف تصطفُّ جميع الجزر — عندما تظهر — في تتابُع أنيق، وتتَّبع طرقًا طويلةً في ترتيب يوضح مسارَ نشأتها. تبدأ سلسلة هاواي وسط حمَم مُنصهِرة في الجزيرة الكبيرة التي تحمل الاسم نفسه (والحديثة العهد من الناحية الجيولوجية) ثم تمتدُّ جهة الشمال الغربي، أبعد ممَّا يُدرك معظم الناس، في صفٍّ من النقاط المُتناقصة والمُمتدة تقريبًا على خط الزوال ١٨٠، في منتصف الطريق إلى اليابان. عند كانيميلوهاي (مجموعة جُزر فرنش فريجات شولز)، على بُعد ٥٠٠ ميل من هونولولو، تستلقي السلاحف البحرية على حافةٍ طولها ٢٠ ميلًا من الألسنة الرملية المحيطة بمسلَّة رائعة من الحجر الرمادي، حيث فرصتك الأخيرة لرؤية صخرةٍ حقيقية حتى طوكيو. يُطلَق على هذه الصخرة اسم «لا بيروس بيناكل»، وقد سُمِّيت على اسم المُستكشِف الفرنسي الذي عثر على المكان مصادفةً ذات ليلةٍ في عام ١٧٨٦، الأمر الذي لا بدَّ أنه دفع المُراقِب البحري إلى إطلاق نداءٍ مُفاجئ ومُربك لتفادي الارتطام بها.

تُغذي المياهُ الدافئة وأشعة الشمس مجموعةً من الكائنات الحية التي تتفاعل مع التغيرات الأرضية الدائمة، وتسعى جاهدةً نحو السطح مع انحسار الطبقة السُّفلية الصخرية للأرض من الأسفل. من كانيميلوهاي، ثمة مسافة ٨٠٠ ميل أخرى إلى موكو بابابا (جزيرة كيور المرجانية الحلَقية) غير المأهولة، آخِر أرضٍ جافة في ولاية هاواي، ولا يتبقى بعد ذلك سوى جبال إمبرور البحرية، وهي أسلاف غارقة للجُزر التي كانت موجودة. إن حركة القشرة المُحيطية فوق أعمدة الحرارة في وشاح الأرض هي المُتسبِّبة في هذا كلِّه.

يقول عالِم جيولوجي أعرفُه: «تخيَّل شريحةً رقيقةً من المَطَّاط، تُسحَب ببطءٍ عبر لهب شمعة. تلك هاواي.»

بعدما تُحمَل الشعاب الهُدَّابية بواسطة حركة الصفائح إلى المياه الشديدة البرودة، تفقد في النهاية قُدرتها على مواكبة الجبال الغارقة، وتختفي الجزيرة المَرجانية الحلَقية. وهذا ما يُسمَّى بنقطة داروين.

•••

الجُزر الأميبية الموجودة اليوم هي جزر تواموتو، وهو أرخبيل شاسع لا يكاد يُدرك، يمتدُّ من قرب تاهيتي على طول الطريق شرقًا إلى جُزر بيتكيرنز التي تُوصَم بأنها كانت ملاذَ متمردي سفينة «باونتي»، ولكنها أيضًا أحدث الانبثاقات الصخرية في عمليات تشكيل الأرض المتواصِلة. وستكون جُزر بيتكيرنز نفسها في المُستقبل جزرًا مَرجانية حلَقية إذا مرَّت العصور اللازمة لذلك وحُفِظَت التوازنات البيئية. نحن الآن وسط الجُزر المرجانية الحلَقية التي تكافئ العمالقة الغازية في نظامٍ شمسي، وأولها رانجيروا، أكبر جُزر تواموتو، والتي يبلُغ مُحيطها ١٢٥ ميلًا، وبُحيرتها واسعة بما يكفي لاستيعاب السفن السياحية. تصل سرعة تيارات المدِّ والجَزر في مدخل رانجيروا إلى سبع عُقَدٍ حيث تنحسِر وتتدفَّق صفحة المياه الكبيرة شبه المحاصَرة، ممَّا يشكل أمواجًا رأسية كبيرة بما يكفي لممارسة رياضة ركوب الأمواج. تقول توجيهاتُ الإبحار: «يُوصى بالمرور عند ركود المياه.» تظهر رانجيروا وسلسلة طويلة من أشباهها في التكوين في أقدم روايات المُستكشِفين الأوروبيين، بدءًا من ماجلان، الذي رأى جزيرة بوكا بوكا في عام ١٥٢١ وأطلق عليها اسم سان بابلو، وضمَّها بطريقةٍ عشوائية نوعًا ما مع جزيرة فلينت الحاليَّة إلى ما أسماه بجُزر أصحاب الحظ العاثر. كانت بوكا بوكا أول جزيرة يراها عالِم الأنثروبولوجيا النرويجي ثور هايردال (الحالم المُتعجرف أو المجنون العنصري، حسبما تراه …) قرب نهاية رحلته الطويلة عبر المحيط الهادئ على متن «كون تيكي»، وهو طوف من خشب البَلْسا كان قد بناه في بيرو لإثبات نظريته المشكوك فيها القائلة بأن البولينيزيين الأصليين كانوا قد جاءوا في الواقع من أمريكا الجنوبية.

بعد أن أطلق لويس أنطوان دو بوجنفيل على جُزر تواموتو اسم الأرخبيل الخَطِر بعد مروره بها في عام ١٧٦٨، أصبحت بلا شكٍّ عقبةً كئودًا ومروعةً لأي سفينةٍ غربية تحاول اجتيازها. وفي الوقت نفسه، كانت مسارًا مُحببًا إلى سكَّان الجُزر، الذين كانوا يشقُّون طريقهم شرقًا في قوارب صغيرة أكثر ملاءمةً لمواجهة التضاريس المفاجئة في وسط المحيط. وفَّرَت جُزر الموتو مكانًا للتوقُّف، وإعادة التزوُّد بالمؤن، وربما حتى البقاء، على الرغم من أنها، بأرضها الرقيقة وإمداداتِ مياهها النادرة، لم تكن قَطُّ كفؤًا للجُزر الأكبر حجمًا من ناحية كونها موطنًا دائمًا للعيش. إلى الشرق منَّا توجَد جزيرة موروروا، حيث كان الفرنسيون ما بين عامَي ١٩٥٦ و١٩٩٦ يختبِرون الأسلحة النووية، في الجو أول الأمر ثم في آبار عميقة حُفرَت وصولًا إلى قاع البحيرة. وفي عام ١٩٧٩ عَلِقَت إحدى هذه القنابل وانفجرت في منتصف طريقها إلى أسفل بئرها البالِغ طولها ٨٠٠ متر، مما أدى إلى تصدُّع قلب الجزيرة المرجانية الحلَقية الحجَري مثل السنِّ المكسورة. وراقبَت بلدان أوقيانوسيا، التي كانت الرياح تهبُّ في اتجاهها، ما يحدُث في فزع؛ إذ ظلَّ نفوذها السياسي لسنواتٍ عديدة غير كافٍ لفَرض تغيير.

عندما أُبحِر في سواحل أخرى، عادةً ما تبدو لي هوامش الخرائط مليئةً بما هو مألوف، حتى عندما أكون بعيدًا عن الوطن. سان دييجو، وميامي، وأيرلندا الغربية، وبرمودا، كلُّها أماكن يمكنني من خلالها تصوُّر المشاهد على الشاطئ، وأحيانًا حتى قراءة خرائط الحافلات في مخيلتي. أما هنا فالعكس هو الصحيح؛ فنحن مُحاطون عن كثَب بالجُزر ذات الأنماط الأميبية، وعلى مسافةٍ بعيدة توجَد مواقع أكثر غموضًا. من هذه المواقع جزيرة مانجاريفا التي كانت مزدهرة ذات يوم، والتي تضاءل عدد سكانها المحليون لأسبابٍ غير معروفة منذ فترة طويلة، ثم ظلَّت لعقودٍ تحت سيطرة كاهن يَسوعي مجنون يُدعى أونوريه لافال. وهناك أيضًا جزيرة هندرسون، حيث أمضى الناجون من سفينة صيد الحيتان الغارقة «إسيكس» أسبوعًا واحدًا فقط في البحث عن المياه والسقوط في الحُفَر قبل أن يختار معظمهم العودة إلى البحر في قواربهم المكشوفة. وجزيرة بيتكيرن الشهيرة، وعلى مسافةٍ أبعد لا تزال هناك رابا نوي، حيث وظَّف المجتمع المحلِّي مهاراته الهائلة في بناء تماثيل المواي المُميِّزة للجزيرة، وهي آلاف التماثيل الحجرية غير المفهوم سببُها، بعضُها بحجم حافلاتٍ مدرسية تقف مُنتصبة.

يعيش حاليًّا في هذه الجزر و٧٠ جزيرة أخرى أو نحو ذلك من جزر تواموتو ١٥ ألف نسمة تقريبًا من السكان، الذين يتحدَّثون لهجتهم البولينيزية الخاصة، الباوموتو، بالإضافة إلى بعض الفرنسية. وتوجَد هناك مزارع اللؤلؤ، والمُنتجعات، والمجتمعات المحلية المُستدامة بفضل الموارد التقليدية من شِعابٍ مَرجانية وحدائق، جميعها محصورة بين البحيرة الخضراء والمُحيط المفتوح. لم أزُر بعدُ العديد من هذه الأماكن، ولكنها في هذا الصدد تُذكِّرني بكلمات المؤلِّف مارك فانهويناكر، وهو طيار له أسلوب بديع في الكتابة عن مشاهد طبيعية لأماكن لم تطأها قدمٌ غير أنه يمكن استشعارُها بالتحليق فوقَها. إنه مفهوم ينسبه إلى سكان ألاسكا، الذين يُمكنهم جوًّا عبور مساحاتٍ شاسعة من ولايتهم التي لا يوجَد بها طرُق برِّية، حيث يحلِّقون في طائراتٍ صغيرة إلى أراضيهم البرِّية الخاصة. أشعر بالشيء نفسه تجاه جُزر تواموتو، التي تُشبه في الوقت الحالي حلقاتِ كوكبِ زُحَل التي تمرُّ عبر نافذة سفينتي الفضائية، غير مُستكشَفة ولكنَّها آسِرة، إن لم تكن ذات حضورٍ شديد الجاذبية للغاية.

ترتفع السُّحب وتتمدَّد بسرعة في السماء من حولنا، وكأنها براكين جوية مدفوعة بالتبخُّر الهائل وعدم الاستقرار فوق البِرَك الدافئة من مياه البحيرة، حسبما أظن. وتحوم فوق المياه الضحلة، مضاءةً من الأسفل بلوحةٍ خيالية من اللونَين الأخضر والأزرق، ثم تنجرِف بعيدًا عن الشاطئ، لتجلب لنا زخَّاتٍ من الأمطار تستمرُّ لساعة، وفترات هدوء مفاجئة تتبَعُها عصفاتُ رياحٍ مندفعة تجعل الإبحار شِبهَ مستحيل، والوقت بين السيول قصير جدًّا بحيث لا يسمح بالإبحار مدةً كافية.

قلتُ للمُعاوِن: «إن هذا يُشبه محاولة نصبِ خيمةٍ في نهاية ممرِّ إقلاعٍ بأحد المطارات.»

فينظر إليَّ كما لو كان لم يَخطر له ذلك التحدِّي بعينِه من قبل. نُنزِل الأشرعة وأستدعي ديفيد لتشغيل المحرك الرئيسي، مُتخيِّلًا الملَّاح والمُستكشِف بوجاينفيل هنا في يومٍ مثل هذا، وسفينته الخشبية، المُثقلة بصوارٍ مُصَرصِرة وأشرعةٍ من قماش القنب المُهترئ، عائمةً بلا حولٍ ولا قوة. ربما يقول سكَّان الجزيرة، وهم يقِفون بجانب زوارِقهم التي نقلوها بأمانٍ إلى الشاطئ، إنه جلبَ ذلك على نفسه.

•••

هنا في الثُّلث الأخير من الرحلة، يتولى المُتدربون فعليًّا إدارة السفينة. هذا هو نموذج الطالب البحري، وهو أسلوب التعلُّم التجريبي الذي يتجلَّى بطريقةٍ أو بأخرى في كل بيئة تدريب قائم على المهارات. فطالِب الطب يُغلق شقوق الجراحة بالغُرَز، ويركِّب السبَّاك المُتدرب مرحاضًا جديدًا بينما يذهب مُعلِّمه لاحتساء القهوة. ويوجِّه مُدربُ الطيران تلميذَه أثناء الهبوط، بينما يُبقي إحدى يدَيه خفيةً بالقُرب من عمود التحكُّم. اليوم تتولَّى شابَّة تُدعى إليزا مسئولية مناوبة فترة العصر. تظهر عند المدخل، وشعرُها لا يزال مُصففًا لأعلى كالأشواك منذ حفل عبور خطِّ الاستواء قبل أسبوعَين. أرفع عينيَّ عن نُسختي من دليل «مون» للسفر الخاص ببولينيزيا الفرنسية. وتبدأ مُحادثتنا على نفس وتيرة طلَب طعام الغداء في بلدٍ غريب.

«مرحبًا يا إليوت.»

«مرحبًا يا ليزي. كيف يُمكنني مساعدتكِ؟»

«في الواقع، هناك قارب قريب، على بُعد ميلَين تقريبًا.»

«حسنًا …»

«و — إحِم — هم يلوِّحون بأذرُعهم إلينا ويُطلِقون الشعلات.»

حسنًا إذن. هذا حدَث غير رُوتيني. نحن بصدد ترك مسار الانزلاق. ويظهر جيريمي، مُدرب الطيران، خلف إليزا، وبابتسامةٍ وإشارة بِيده دون أن ينبس بكلمة يُوجهها إلى أن تنعطِف، كما لو كان يفتح لي بابًا أُهرَع من خلاله في طريقي للحصول على مزيدٍ من المعلومات.

تتأرجح السفينة «تيهيناناكي ٣» ذات المحرك، من تاهيتي بشدَّة وسط الأمواج ونحن بمُحاذاتها عرضيًّا. أطفَئوا شُعلاتهم عند هذا الحد، لكنني لاحظتُ ضوءَ منارة الإنقاذ الخاصة بهم يومِض بسرعة من صندوق المقصورة. إنها سفينة صيد رياضية صغيرة، يبلُغ طولها ٣٥ قدمًا تقريبًا، من النوع الذي لا يبدو غريبًا في ميامي أو مونتوك. يتَّكئ الرجال في قَمْرة قيادتها على براميل الوقود ويراقبوننا في هدوء. لا يردُّ أحدٌ على اللاسلكي. ربما تعطَّل. عما قريب سنعرِف أنهم في طريقهم إلى نوكو هيفا في زيارة عائلية. عادةً ما تكون مخازن الوقود في تلك السفن، المُصمَّمة عادةً لقضاء يومٍ واحد من الصيد بالقُرب من الساحل، مدعومةً بحمولة من الديزل على سطح السفينة، ولكنهم سهوًا تركوا خزَّانهم الرئيسي يفرُغ. تتطلَّب إعادة تشغيل مُحرك الديزل في مثل هذه الظروف التخلُّص أولًا من الهواء الذي دخلَ إليه، وهي مهمة تتطلَّب أدواتٍ ودرايةً فنيَّةً تقتصر على عددٍ محدود من المحاولات قبل نفاد بطارية التشغيل. وهذه تمامًا النقطةُ الحرِجة التي وصلَ إليها أفرادُ هذه الرحلة الاستجمامية، حيث أعادوا ملء خزانات الوقود ولكن المُحركات لا تزال مُعطلة وقد نفدت البطارية. وبطريقةٍ ما، فرغت خزاناتُ مياههم أيضًا، وهو تطوُّر لا يُعرف سببُه كاملًا على الإطلاق.

بدافعٍ من حُسن النية والتزام البحَّارة الأزلي بتقديم المساعدة، نشرع في إيجاد حل. نضع ديفيد ومُترجمًا مؤقتًا، اخترناه عشوائيًّا من بين الطلَّاب، في قاربنا الزودياك القابل للنفخ بعد محادثةٍ قصيرة صاخبة. يندفِعان بجانبنا للاستعداد، ويضبط ديفيد وقفته مثل راكب الأمواج للتعامُل مع المعَدَّات أثناء تحميلها. صندوق أدوات. إبريق ماء. بطارية احتياطية مملوءة بالحمض وثقيلة للغاية، ربما تكون من أول الأشياء التي تُفضِّل ألَّا تحمِلَها معك في قاربٍ مطاطي صغير. يُسرعان مبتعدَين ومعهما جيريمي الذي يتولى الدفة، ويختفون على فتراتٍ في الأمواج الطويلة المائجة. أُشاهِدُهم وأنا واقف على السياج، رافعًا يدي لأحجب عن عينيَّ شمسَ الآصال بأشعَّتها المُنخفضة الزاوية.

تظهر كارا في حالة من الارتباك الواضح. فقد انفصلَ زوجُها الجديد مؤقتًا عن المجموعة.

وتسأل: «ألا يُمكننا فحسب أن نترك ديفيد معهم؟»

تتأرجَّح ثلاثة قوارب متقاربة وسط الموج، بينما ضوءُ النهار آخِذ في الانحسار. عندما تتحرك الغيوم الكبيرة مُبتعدةً عن البحيرات، يُصبح نسيجُها المُتماوج مرئيًّا، حيث تحلُّ لوحة ألوان الشفق الكريمية محلَّ تلك اللوحة البيضاء الأُحادية اللون. لم تُرهبنا أية عواصف حتى قُرب حلول الظلام، عندما جعلتني نفخةُ دخانٍ مفاجئة وهديرُ ضوضاءٍ أُدركُ أن ديفيد قد نجح في مهمَّته وجعل سفينة التاهيتيين تعاوِدُ المُضي قدمًا إلى وجهتها. يرتفع صوته عبر اللاسلكي ليؤكِّد ذلك في صيحةٍ حماسية مبتهجة، كلماتها غير واضحة. يُدير جيريمي القارب عائدًا ليصطحب فريقنا بينما يختفي العالَم في عاصفةٍ مطيرة قاتمة تزامنَت مع غروب الشمس.

ننجرف بلا أشرعة، ويتشتَّت سريعًا أفراد الطاقم والمعَدَّات التي تراكمت حول جهودنا للإنقاذ مثل حشدٍ مِن الناس الذين يُفتَح عليهم خرطوم إطفاءِ حريق. تتحوَّل فترة ما بعد الظهيرة الهادئة إلى فوضى عارمة، وقاربنا طافٍ هناك في مكانٍ ما وسط الدوَّامة العنيفة وعلى متنِه ضابطنا الرئيسي، وكبير المهندسين، وأحد الطلَّاب الذي يخوض الآن، بفضل تخصُّصه الثانوي في اللغة الفرنسية، أعظمَ مغامرة في حياته. يمرُّ مساعد المُضيف من خلفي، ويقرَع جرسَ موعدِ تناول العشاء. فيُذَكِّرني هذا بأنَّ أعمال السفينة الروتينية راسخة، مثل أجزاءٍ ميكانيكية مُتحركة تتبع مساراتٍ ثابتة ما لم يُعطِّلها شيءٌ ما. وهنا تكمُن قوة هذه الأنظمة وضعفها في آنٍ واحد، في وجود حَلٍّ مرِن لمعالجة الأمور غير المُتوقَّعة بطريقةٍ آمنة. ليس هناك بند في قائمة تحديد مقارِّ تمركز أفراد طاقم تشغيل السفينة اسمُه «إنقاذ التاهيتيين»، ولا توجَد قاعدة في النظام تنصُّ على ألا يقرَع طاقمُ المطبخ جرسَ العشاء وسط العاصفة. فالفرقة الموسيقية ستستمِرُّ في العزف حتى لو كانت السفينة تغرَق.

يتساقط الماءُ في مجرًى يَقطُر من فتحة غير مُحكمة الغلْق في غرفة الخرائط. اكتسحت شاشةَ الرادار فقاعةٌ خضراء من الأمطار التي تمرُّ ببطءٍ وأنا أُشاهدها، وأعبثُ بالأزرار لأرى ما إذا كان بإمكاني العثور على أيٍّ من القاربَين القريبَين على الشاشة. لا يوجَد شيءٌ، ثم يأتيني نداءٌ مفاجئ من سطح السفينة ليُخبرني بأن المطر قد توقَّف. وبالفعل توقَّف المطر، ويُمكنني رؤية الموجة القوسية المُضيئة لزورقنا المطَّاطي وهو يشقُّ طريقه عائدًا إلينا، وشعاع مصباحٍ يدوي يميل لأعلى ولأسفل. التاهيتيون خلفنا مباشرةً، وأضواؤهم الآن مُضاءة، ويعلو صوت هدير مُستمر من محركاتهم، وفجأة تصدح موسيقى من مُكبرات الصوت على سطح سفينتهم. لم يُضيِّعوا أيَّ وقتٍ في العودة إلى الاستمتاع بكامل طاقتهم. وسرعان ما أصبحوا أيضًا بجانبنا، أربعة رجال ضخام في قاربٍ صغير يترنح فوق الأمواج. يجلس اثنان على كراسي القارب، والثالث يُوازِن جسده بلا مُبالاة بالقُرب من السياج لإعادة إبريق الماء الذي نسيناه. بهدوءِ سائقِ حافلةٍ يُعَشِّق القائد دوَّاسة الوقود ليظلَّ قريبًا دون أن يلمسنا، بينما تندفع مركبتُهم الصغيرة إلى جوارنا.

يُمرِّرون إلينا الإبريق ويُحيُّوننا صائحِين بالفرنسية:

«شكرًا أيها الأصدقاء! حظًّا طيبًا!»

ثم يختفون، وتتلاشى الأضواءُ والموسيقى في الظلام. أمامهم ما يقرُب من ٦٠٠ ميل ليقطعوها، وهي مسافة أشكُّ في أنه يُمكنهم معها التوقُّف للحصول على أية راحة. إنهم ليسوا أول التاهيتيين الذين ينطلِقون كما فعلوا في قاربٍ صغير. أُفكِّرُ في جرينلاند، وكيف اعتدتُ خلال رحلاتي هناك على سماع أصواتِ المُحركات الخافتة في الخليج القطبي الشمالي الشاسع والهادئ، صدًى يتمخَّض تدريجيًّا عن مركبٍ صغير على متنِه عائلةٌ من الإنويت، أو صيادٌ واحد يرتدي قميصًا منقوشًا يلوِّح بتحيةٍ معتادة، ويمرُّ المركب وهو يُصدر ضوضاء انفجارية تتغيَّر نغمتُها بتأثير دوبلر، ثم يعود ليختفي في الأفق.

يضع أفرادُ فريقِ مَركبنا معَدَّاتهم ويجلسون ومعهم أطباقٌ بها بقايا طعام العشاء. يقول أحدُهم: «عملية إنقاذ في البحر!» يُومئ جيريمي برأسه أنْ نعم. تضمَّنت الفترة التي قضاها في خَفر السواحل مَواقف أكثر رُعبًا، حيث كانت المخاطر أعلى والحلول أضعف. في إحدى جولاته عندما كان ملازمًا جديدًا، قادَ فريقًا على متن سفينة شحنٍ يُشتبَه في نقلِها المُخدِّرات، ووقفَ يحرس بسلاحٍ شخصي على الجسر بينما كان فريقُ البحث الخاص به يشقُّ طريقَه عبر السفينة. أفشى قائدُ الدفَّة المُرتعِبُ السِّرَّ، ربما على أمَل التخفيف من العقوبة.

قال: «الكوكايين مُخبَّأ في الصاري.»

تبيَّنت صحةُ قولِه هذا، وهو ما شكَّل مصدرَ انتصار مؤقت لأفراد فريق جيريمي حتى أدركوا ببطءٍ أن السفينة — التي أغرقها أفرادُ طاقمها عند اكتشاف بضاعتهم المُهربة — كانت في طريقها للغرَق.

بالإضافة إلى مهمة إنفاذ القانون، يمكن لخفر السواحل الأمريكي فعل أشياء مثل الطيران في وجود الأعاصير ورفع الضحايا إلى برِّ الأمان في ظروفٍ لا يمكن تصوُّرها. غير أن غالبية عمليات الإنقاذ في البحر تتولَّاها سفنٌ مدنية عادية تمر مصادفةً أو تُحوِّل مساراتها وَفقًا لتعليمات وكالات الإنقاذ غير القادرة على إرسال خدماتها إلى جميع الضحايا المُحتمَلين. عندما غرقت السفينة التعليمية «كونكورديا» قبالة ساحل أمريكا الجنوبية في عام ٢٠١٠، أنقذ طاقمَها سفينتا نقلِ رقائق الخشب اليابانيَّتان «هوكويتسو دِيلَيت» و«كريستال بيونير»، بناءً على طلبٍ من السلطات البرازيلية. جلبَ القائدان السفينتَين بمُحاذاة طوَّافات النجاة مباشرةً لإجراء عملية الإنقاذ، حيث قادا ببراعةٍ سفينتَيهما الفولاذيَّتَين اللتَين كانتا مثل جُرفَين بطول ٩٠٠ قدم وكأنهما قاربان من تلك القوارب التي تلتقط المُتزلجين على الماء.

بعد تسع سنواتٍ من إنقاذ السفينة «كونكورديا»، مرَّت بنا مصادفةً السفينةُ «كريستال بيونير» في أحد الأيام شمال أوكلاند بينما كنَّا نُجري تدريبًا على إخلاء السفينة.

«إلى السفينة «روبرت سي سيمانز»، معكم السفينة «كريستال بيونير»، ZCYA
«إلى السفينة «كريستال بيونير»، معكم السفينة «روبرت سي سيمانز»، WDA4486. كيف يُمكننا مساعدتكم؟»

«أجل، مساءَ الخير يا «روبرت سي سيمانز». هل كل شيءٍ على ما يرام؟»

البحرُ مترامي الأطراف، لكنه في الوقت نفسه صغير بما يدعو إلى الدهشة.

•••

عند مدخل مَرفَأ تاهيتي الرئيسي تظهر أُولى العلاماتٍ المِلاحية التي نراها منذ أن غادرنا المكسيك، وهي عبارة عن زوج من العوَّامات المَطلية بعناية وسط مياه الممر المُضطربة، حيث يتدفق تيارٌ ثابت تفرضه عودةُ الأمواج المُتكسِّرة فوق الشِّعاب المَرجانية. حذَّروني من أن التيار يمكن أن يُفاجئني، خاصة إذا كانت هناك أمواجٌ كبيرة وأدَّت إلى ارتفاع منسوب المياه في البحيرة. تقع الشعابُ المرجانية على بُعد عدة مئاتٍ من الياردات من الساحل، وهي حاجزُ أمواجٍ طبيعي مثالي ولكنها مسطحة تمامًا وخالية من أي إشاراتٍ توجيهية. من بعيد، لا يكون الميناء نفسه مرئيًّا، لكونه مُستويًا أمام كتلة الأرض الخضراء حتى تظهر ملامحه ويتَّضح على بُعد ميلٍ تقريبًا. قبل ذلك، تشعر وكأنك تندفع نحو جدارٍ مُصمَت من الجبال، مع أماراتٍ على وجود عمرانٍ على طول الشاطئ ولكن لا يوجَد دليل يُذكَر على وجود مَرفَأ. وُضِعَ مَبْنيان صغيران — ما يُسمِّيه البحَّارة «نطاقًا ملاحيًّا» — على سفح التلِّ للمساعدة في التأكُّد من صحَّة المسار. فإذا ظهر البرج المُنخفض في المقدمة مُحاذيًا للبرج الأطول في الخلف، تكون في منتصف القناة. لم تقترب سفينتُنا من رصيف ميناءٍ منذ ستة أسابيع. في أوقاتٍ كهذه، أرغبُ عبثًا في الحصول على فترةٍ فاصلة، تمهيد تدريجي للرجوع إلى اليابسة بعد قضاء فترة طويلة في البحر المفتوح.

سلسلة من العبَّارات تمضي في طريقها للخروج من القناة، وتتَّصِل بنا وحدةُ تحكُّم المرفأ، تطلُب معرفة نوايانا.

«صباح الخير يا «روبرت سي سيمانز»! متى تتوقَّعون الدخول؟»

بَنَت تاهيتي مطارًا دوليًّا فوق شعابها المرجانية الهُدَّابية، وهو على الأرجح خيار سيختاره العديد من المهندسين المِعماريين إذا أُتيحت لهم الفرصة لذلك. تخيَّل مليارات الأطنان من الخرسانة الطبيعية، المُتوفرة مجانًا والمنبسطة بشكلٍ مثالي في خطٍّ مُستقيم طويلٍ موازٍ للشاطئ. العيب الوحيد هنا هو قناة السفن التي تمرُّ شرق الممرِّ مباشرةً، حيث يمكن أن يؤدي وصولٌ في توقيتٍ سيئٍ إلى أسوأ كوارث وسائط النقل. هذا هو العنصرُ الأساسي في الحصول على إذنِنا، فمع مغادرة الرحلة الصباحية للتو، يُسمَح لنا بالتقدُّم. مسئولُ اللاسلكي ودودٌ للغاية.

يقول بمزيج من الإنجليزية والفرنسية، مرحِّبًا بنا كمُضيف في مطعمٍ بكلِّ بشاشةٍ كما لو كان موظفًا مدنيًّا في الجنة: ««روبرت سي سيمانز»، لديكم تصريح بالدخول. مرحبًا بكم في تاهيتي!» يتدفَّق الماء من الفتحة في الشعاب المرجانية، وهناك مَن يُمارس رياضة ركوب الأمواج شرق القناة أثناء مرورنا. أراقبُ علاماتِ المدى وأُعطي التعليمات لقائد الدفة؛ فقد أصبح عالَمنا فجأةً بعد كل هذا الوقت أصغرَ وأسرع في المرور. تستدير سفينةٌ أمامنا استعدادًا للمغادرة. نُبحرُ عبر القناة، بالقُرب من شاطئٍ تظهر فيه بوضوح صفوفٌ طويلة من الزوارق المكدَّسة بلونٍ تلوَ الآخر مثل أقلام تلوين في علبتها.

يسأل أحدُ أفراد الطاقم: «لماذا تركنا تلك العوامة الخضراء على يميننا؟»

أقول: «سأُجيبك لاحقًا بخصوص هذا الأمر.»

بعد ذلك يأتي منعطفٌ إلى يسارنا، بزاوية ٩٠ درجة تقريبًا، وصَوب الرصيف المُخصص لنا، والذي يقع أعلى حوضٍ طويل بعد يختٍ ضخم طلاؤه شديد اللمعان مثل حمَّام سباحة. يتولَّى ديفيد مهمة التحكُّم في المُحرك.

أقول له: «تقدَّم ببطءٍ.»

نشق طريقنا نحو الرصيف، ونقترب الآن من اليخت الكبير حتى يُصبح بجانبنا، وتنعكِس صورتنا من جوانبه العلوية في ومضاتٍ مُتموِّجة. ثمة شخصٌ على سطح مقدِّمة اليخت يُلمِّع السياج بمِنشفة، وشابَّة ترتدي سروالًا قصيرًا ناصع البياض تحمل صينيةً وتنزل سُلَّمًا ولكنها تتوقَّف لمشاهدتنا ونحن نمر. على رصيف الميناء أمامنا رجلٌ تاهيتي ضخم يرتدي خُوذةً واقية وسُترة فسفورية، يقِف تلك الوِقفة المُتكاسلة المُتعارَف عليها عالميًّا لعُمَّال أرصفة الموانئ. وبجانبه يقِف وكيلُنا، الذي لا يقلُّ عنه تميزًا في هيئته المُعتادة، قميص بولو، ونظارة شمسية، وحافظة أوراق مُهمة تحت ذراعِه.

نقترب من أعلى زقاقٍ مسدود، حيث يسدُّ الرصيف الخرساني طريقنا بزاويةٍ تبدو قائمةً، وهو في الواقع يميل قليلًا بعيدًا عنَّا، وذلك وَفقًا لرسمِه على مُخطط المَرفأ. لقد قيل لي إن هناك موجة صعبة هنا، نوعٌ من تأثير التناثُر في البحيرة مدفوع بالارتفاع والانحسار المُستمرَّين لأمواج المحيط. يُمكنني أن أرى الآن دليلًا على ذلك على طول حاجز الرصيف، حيث تموُّج بطيءٌ للسطح الهادئ، والارتفاع الطفيف لبُقعة من الحطام بجانبنا. أشم الرائحة الترابية لنباتاتٍ استوائية، ممزوجة برائحة البطاطس المَقلية وعوادم السياراتِ القادمة من طريق السيارات.

«أَوقفوا المُحركات.»

ما زلنا نتقدَّم في طريقنا، بسرعةٍ تكاد تُمكِّننا من توجيه الدفة، واليخت المَطلي بعناية على مسافةٍ تبدو قريبةً جدًّا. أنظرُ عاليًا إلى عارضتنا — قوائم أفقية طويلة، أطرافها مرصَّعة بالمُعَدَّات — فأجِدُها مثبَّتة بميلٍ حادٍّ لتُمكِّننا من الاستدارة برشاقةٍ قدْر الإمكان. توقَّف الرجل الذي يحمِل المنشفة عن التلميع ليتَّكئ على السياج ويُشاهدنا. نحتاج إلى التوقُّف قريبًا، بل في الواقع، نحتاج إلى أن نتوقَّف أثناء الانعطاف، والتحكُّم في زخمنا لفترةٍ كافية حتى نتوقَّف بموازاة الجدار الخرساني الذي أصبح الآن أمامنا مباشرةً. أُفكِّر في حركات اليوجا.

أقول: «ببطءٍ للخلف. أَدِرِ الدفَّة ١٥ درجة يمينًا.»

يستغرق القاربُ الآلي الأُحادي المِروحةِ الذي يعكس مساره وقتًا طويلًا للبدء في الرجوع إلى الخلف، على الرغم من أنه سينحرف إلى اليمين على الفور تقريبًا بينما تضرب المياه المتناثرة من المروحة الدوَّارة هيكلَ السفينة. أشعرُ بدفع المروحة. للحظة، أصبح اليخت وطلاؤه الباهظ الثمن قريبَين على نحوٍ مُذهل، ثم يبتعِدان متضائلَين في الحجم بينما تتأرجح مُقدمتنا ويحمِلنا التقدم بعيدًا بزاوية، لنُصبح الآن بمُحاذاة وجه الرصيف.

«أوقفوا المُحركات.»

تحرَّكنا طافِين بقوة الدفع حتى توقفنا، تقريبًا في تاهيتي، ناظرِين عبر أربعة أقدام من المياه العَكِرة إلى عامل تثبيتِ الحبال. يملأ اندفاعُ المياه الحوض؛ فنرتفع ثُم نستقر، وننزلق بسلاسةٍ جانبًا عبر المسافة المُتبقية، كما لو كان ذلك مُخططًا له، وتمتصُّ مصدَّاتُنا المطاطية الصدمة التي لم تكن هيِّنة. ها قد وصلنا.

«اربطوا جميع الحبال»، هكذا أقول وسط فوضى حبال الرسو الضخمة التي كانت، حتى ساعةٍ مضت، تقبع ساكنةً في خزانتها طوال الطريق من بويرتو فالارتا.

آخِر خطوة في ترتيب الخطوات هي التأكُّد مع ديفيد من أنَّنا انتهَينا من إيقاف المُحرك، وإعلام قائد الدفة بذلك أيضًا، حتى يتمكَّن من تثبيت العجلة في وسط السفينة. في عمليات الرُّسُوِّ الصعبة مثل هذه، عادةً ما أختارُ عضوًا من ذوي الخبرة في الطاقم لتوجيهها، لكنني أُدركُ في هذه اللحظة أنني قد نسيتُ فعل ذلك. تتولَّى الدفةَ إليزا، التي لم تُغفِل شيئًا طوال تلك العملية المحفوفة بالمخاطر، والآن تنظُر إلى الوراء بعينَين يقظتَين عندما أذكُرُ اسمَها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥