الفصل السادس

السفينة الأم

يستقر مركزُ التنبؤ بالطقس والمناخ مثل مركبةٍ فضائية جاثمة على الأرض في ساحة خلفية بحرم جامعة ميريلاند في مدينة كوليدج بارك. إنه نتاجٌ مُذهل للاستخدام غير التقليدي للمُستطيلات في الهندسة المعمارية، ومَدخله مَخفيٌّ جيدًا عن العامة من المارة. عندما أصلُ إلى هناك بعد عدة محاولاتٍ باءت بالفشل، يلوِّح لي بعضُ الحرَّاس في مكتب الرَّدهة بالدخول، بإيماءاتٍ يمكن بالكاد رؤيتها عبر الزجاج العاكس. ارتفاعُ الأبواب ضِعف طولِي. ويُصدِر لي أحدُها طنينًا، فأتحسَّس المِقبض، وأبحثُ في جيوبي عن بطاقة الهوية التي سأحتاجها عند الدخول.

ينتظرِني مُضيِّفي عند جهاز الكشف عن المعادن. تركَ جو سيانكيفيتش وظيفتَه كقبطان لأحدِ زوارق القطر ليُصبح خبيرًا في الأرصاد الجوية في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، في الوقت نفسه الذي بدأتُ فيه مَسيرتي المهنية كبحَّار. رأيتُ اسمَه لأول مرة في عام ١٩٩٠، عندما انضممتُ إلى مركبٍ شراعي مُتعدِّد الصواري مُتَّجه عبر المحيط الأطلنطي إلى البرتغال وسط ذروة مشاعري عقب انفصالي عن حبيبتي في الكليَّة. كان ذلك في أواخر شهر أكتوبر، ذروة موسم العواصف، وبينما كنتُ أعاني مع زملائي على السفينة على مدار شهرٍ من العواصف المُتواصلة، كانت عقوبتُنا تتنبَّأ بها كلَّ يومٍ خرائطُ الطقس الباهِتة الصادرة عن الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي، والتي كانت تصِلنا في رسائل تخرج مُلتفَّةً ببطءٍ من جهاز الفاكس. تحمِل كلُّ خريطة من هذه الخرائط توقيعَ راسِمِها، وهو تقليدٌ يُعطي مسئوليةً فريدة لهذه الوحدات المُجَمَّعة من البيانات الأولية ومهارة المُتنبِّئين، ومِن بين الأسماء الأخرى المحفورة الآن في ذاكرتي كان اسم جو. من مَوقعي البعيد، اتَّخذ خبراءُ الطقس طابعًا غامضًا، لا يختلف عن غموض الفنَّانين البارِعين الذين يُوقِّعون على اللوحات الأخيرة في روايةٍ مصوَّرة.

يشغل جو اليوم منصبَ رئيس فرع في مركز التنبؤ بالمُحيطات، وهي إحدى ثماني وحداتٍ تتَّخذ من البناء الهائل للأرصاد الجوية، الذي دخلتُه للتوِّ، مقرًّا لها. تتعامل إدارتُه مع طقس المحيطات في الجانب الأمريكي مِن العالم، جنبًا إلى جنبٍ مع مركزَين مُماثلَين في هونولولو وميامي. إنها مساحة مائية تُعادل رُبع الكوكب. ونطاقُ عملهم الجماعي هو الأرصاد الجوية للمياه المفتوحة، وعملياتُ السفن في الرحلات البحرية البعيدة عن الشواطئ. أما تنبؤاتُ الأرصاد الخاصة بالمياه الساحلية — التي قد ترجع إليها قبل الذَّهاب إلى صيد سمك القاروس في عصر أحد الأيام — فيتولَّى أمرَها مجموعةٌ من الإدارات الصغيرة المُنتشرة مكاتبُها في جميع أنحاء القارَّة. يوجَد مكتبٌ كهذا على مقربةٍ من مكان إقامتي في ولاية ماين. عندما تواصلتُ معهم طالبًا إجراء جولةٍ لدَيهم، أنهَوا المُحادَثة. واعتذروا قائلِين إنهم مشغولون للغاية. حسنًا، معهم حق. ولحُسن حظِّي الكبير، كان جُو سعيدًا جدًّا بمساعدتي؛ فربما يتمتع بجدول أعمال أكثرَ مرونةً وبما وصَفَه بالاهتمام الشديد بتحسين أحوال السفن الشراعية.

إنه مُولع بأن يقول: «إنها [أي السفن الشراعية] بطيئةُ الحركة وشديدة التأثر بالطقس، وتحمل بضائعَ ثمينة.»

قلبُ المَبنى عبارة عن بهوٍ شاهق، تُطلُّ عليه شرفاتٌ، وتُضيئه جدرانٌ خارجية زجاجية ذات فتحات. أتطلَّع حولي بحذَر بحثًا عن أي شخصٍ قد يحمل سيفًا ضوئيًّا كذلك الذي يظهر في سلسلة أفلام «حرب النجوم» (ستار وورز). وبينما نصعدُ الدرجَ بين طابقٍ وآخر، أجِد لافتاتٍ مميِّزة لمداخل الأقسام الأخرى، فهذا مركز التنبُّؤ المناخي. وذاك مركز النمذجة البيئية. وهذا مركز تطبيقات الأقمار الصناعية وأبحاثها. كما توجَد غرَفُ مركز التنبؤ بالمحيطات في الطابق العلوي، وعندما نصِل إليها، تكون الساعة قد جاوزت لتوِّها الثامنة صباحًا، بالتوقيت الصيفي لشرق الولايات المتحدة. إنه وقتُ الظهيرة بالتوقيت العالمي المُوحَّد، وهو أحدُ المعايير الأربعة الرئيسية في دورة التنبؤ الجوي اليومية. يضم المركز حوالي ٢٠ عالِمًا في الأرصاد الجوية، يعملون في مجموعةٍ مُكوَّنة من خمسة أفراد في كلِّ مرةٍ في نوباتٍ مُدتها ١٠ ساعات. يجلسون جميعهم في أحد طرفَي منطقة العمليات الرئيسية، وهي مساحة طويلة وواسعة مليئة بوَحَدات العمل. أراهم ينقرون على لوحاتِ المفاتيح بسرعةٍ وخفة وبتركيز عميق بالقُرب من الشاشات المليئة بمعروضاتٍ غريبة. المكان هادئ هدوءًا مُدهشًا. نمُرُّ بمجموعاتٍ من أقسامٍ أخرى يتوقَّف جميع أفرادها عن عملِهم ليُومِئوا برءوسهم مُرحِّبين بنا. تأتينا تحيةٌ باللُّغة الإسبانية من قِسم يضمُّ علماء من أمريكا الجنوبية، جميعهم يرتدون ملابس لافتةً للانتباه أكثر من نظرائهم الجالسين بجوارهم.

يقبع فرانك موسوندا خلف خمسِ شاشاتٍ عريضة في مجموعة مركز التنبؤ بالمحيطات، وقد بدأ لتوِّه في تحليل سطح المحيط الهادئ، حيث يُطالع لقطة لحالة الغِلاف الجوي في الماضي القريب جدًّا تُعرَض أربع مراتٍ كل يوم. يدعوني للمُشاهدة. يبدأ فرانك بخريطة الظهيرة في الساعة الثانية عشرة والنصف بالتوقيت العالمي المُوحَّد، وهو وقت كافٍ للتأكد من وصول البيانات من جميع سفن المُراقبة المنتشرة في النطاق المُكلَّف به. يبدأ تصنيفَه بتجميعٍ أساسيٍّ للضغط، ودرجة الحرارة، والرياح؛ وهي رسوماتٌ رقمية تُنشئها نماذجُ الطقس المختلفة التي تعمل في همهمةٍ مُستمرة على أجهزة الكمبيوتر الفائقة حول العالم. يُمكن لخبراء الطقس تجميع بياناتٍ من نماذج مختلفة وتحديد أي منها أكثر توافقًا عند مقارنتها بالملاحظات الفعلية. غالبًا ما يكون النموذج الأمريكي المُسمى نظام التنبؤات العالمي والنموذج الأوروبي المُتمثل في نموذج المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية المتوسطة المدى، مُتقاربَين ولكن نادرًا ما يتَّفِقان تمامًا. وقد تُوفر النتائجُ من وكالاتٍ أخرى دقةً مكانية أفضل في بعض الحالات.

اليوم هو يوم ربيعي مُعتاد في شمال المحيط الهادئ، حيث تهبُّ الرياح التجارية بشكلٍ جيد حول هاواي، وتشقُّ العديدُ من أنماط الضغط المُنخفِض طريقَها من الغرب إلى الشرق فوق خط العرض ٣٠. للأسف يتعرَّض أصدقائي في ألاسكا لضرباتٍ قوية من الرياح والأمطار. يترك فرانك لبرنامجه رسمَ الأيسوبارات — خطوط تَساوي الضغط الجوي — ويُجري عليها التعديلات يدويًّا عندما يلزم ذلك. ثم يرسُم الحدود الأمامية والمَعالم السطحية، التي تعتمد حدودُها على حساباته الخاصة ومجموعة من البيانات التحليلية التي تُساعده في تحديد النقاط الفاصلة الرئيسية في درجة الحرارة والرطوبة. وهنا يُضاف الثقلُ النوعي لخبرة خبير الأرصاد إلى حشدِ الآحاد والأصفار، وهو تقديرٌ حي لما يحدُث بالفعل بعيدًا في المياه. وللمساعدة في ذلك، توجَد صورُ أقمارٍ صناعية، إلى جانب التسجيلات المُهمة من السفن في البحر، التي يُمكن تمييز كلٍّ منها برمز الاتصال اللاسلكي الأبجدي الرقمي الموجود على الصورة. فمِن المؤكَّد أن سفينة «روبرت سي سيمانز» — WDA4486 — ليست بعيدةً عن جنوب أواهو، وتظهر رياحُها بسهمٍ يُشير بقوةٍ إلى الشرق. إذا فكرتُ مليًّا، يُمكنني تحديدُ هوية القبطان الذي يحلُّ محلي على متنِها، واقفًا في مكانٍ ما وفي يدِه فنجان من القهوة أو يُحدِّق بفتورٍ في شاشة الرادار. وبينما أتأمَّلُ المشهد، أُدرك أنه لم يمْضِ وقتٌ طويل بعد منتصف الليل في هاواي، وهذا يعني أنه أيًّا مَن يكون نظيري، فهو على الأرجح نائم الآن.
ينتهي تكليفُ فرانك عند الحواف القارية، وعند الانتهاء من مُسَوَّدته الأولى، يفحص خرائطَ من مكاتب أخرى للتأكُّد من أن ما رسمَه سيتوافق بسهولةٍ عند الحدود. إنه يُحبُّ العملَ في منطقة المحيط الهادئ لأن الطقس هناك، كما يُطلَق عليه، «سَلس»، بعيدًا عن اليابسة، فقد وجدَ وتيرتَه غير المُقيدة، مثل حصانٍ انطلقَ من بوابة البدء وقطعَ شوطًا كبيرًا في حلْبة السباق. الموعدُ النهائي الأول لفرانك هو بعد ٦٠ دقيقة من ساعة الظهيرة، حينما يجِب عليه إرسالُ خرائطه إلى المكاتب الشريكة المسئولة عن خرائط المساحات المجاورة. تُمرَّر الصور المشتركة ذَهابًا وإيابًا للتأكد من عدم وجود أية تناقُضاتٍ فيما يُعرَض. يتبادل خبراءُ الطقس المختلفون أطرافَ الحديث عبر نصوصٍ مختصرة (تَرِد فيها أسماءُ المكاتب بالأحرف الأولى) تظهر في مربع حوار على الشاشة:
TAFB [ميامي] في الانتظار
OPC جاهز
TAFB استقبَل
حسنًا
HFO [هونولولو] على ما يُرام

تتشكَّل الخريطة بفِعل أيدٍ بشرية تخلق آنيًّا شيئًا عرفتُه طوال معظم مسيرتي المِهنية على أنه شيءٌ مقدس. الأمرُ أشبَه بمشاهدةِ عمليةِ طباعة النقود الورقية. يُخبرني فرانك أن الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي لديها خوادم بياناتٍ خاصة بها تُشكِّل عمليًّا شبكة إنترنت داخلية خاصة. وهو أمرٌ مُهم لأنه أكثر مكانٍ لا يودُّ المرء أن يعبثَ به مُخترقو الشبكات. إنه في الأصل من زامبيا ويتحدَّث بأسلوبٍ يليق بمُحاضِرٍ في جامعة أكسفورد.

يقول: «عليك أن تفكِّر في هذا كما لو كان عمليةَ تأليفٍ لكتابٍ في التاريخ. فبمجرد إرسال هذه النتائج، سيقرؤها آلافُ الأشخاص الذين لا تعرفهم. واسمُك مُسجَّل على الخريطة!»

يُسرع خبراءُ الطقس في عملِهم، بهدف إتمامه قبل موعده النهائي كنوعٍ من التخفيف على زملائهم. يجب أن ينتهي فرانك من خريطته في الموعد المحدَّد لإرسالها قبل الساعة الثالثة و١٩ دقيقة عصرًا بالتوقيت العالمي المُوحَّد، وهي الفترة المُخصَّصة لبثِّها المُجدوَل إلى السفن. إذا لم يحدُث ذلك ستُصبح الخريطة «خُردة» متاحة عبر الإنترنت ولكنها مُستبعَدة من بثِّ محطاتِ راديو خفر السواحل. مهمتُه الأخيرة هي صياغة توقُّعٍ نصِّيٍّ بحالة الطقس، وهو في الواقع وصفٌ مكتوب لكلِّ شيءٍ رسَمَه للتو. إنه عمل روتيني بطيء ويتطلَّب مهارة عالية، ومُتقدِّم قليلًا عما تعلَّمه أشخاصٌ مثل جُو قبل سنواتٍ عندما كانوا مسئولي أرصادٍ جوية مُبتدئين، يرسمون بأقلام الرصاص على أوراق الأسيتات.

يتأرجح عِلمُ التنبؤ بحالة الطقس الآن بين الحُكم البشري والقَبول المُطلَق لما تُخبرنا به أدواتُنا وبرامج النمذجة. في عصر المعلومات الذي يُهيمِن عليه الاعتماد على التطبيقات، تلعب التغيُّراتُ السريعة دورًا كبيرًا. توظِّف هيئة الأرصاد الجوية الوطنية الأمريكية عدة آلافٍ من خبراء الطقس. وتُوظِّف قناة الطقس ما يقلُّ قليلًا عن ٢٠٠. بينما لا يعمل في بعض تطبيقات التنبؤ بحالة الطقس خبيرُ طقسٍ واحد على الإطلاق، إذ تعتمِد فحسب على المخزونات الشبكية لمُخرجات النموذج الخام في إنشاء نتائجها. انقر على شاشتك، وستحصل على أحوال الطقس في أي مكانٍ في العالَم دون تدخُّلٍ بشري مُزعج.

ما زال مركز التنبؤ بالمحيطات لا ينشُر معظم معلوماته بهذه الطريقة، على الرغم من أن المستقبل يتَّجه نحو الابتعاد عن الرسائل المكتوبة بخط اليد. ويعمل مكتب جُو على توفير مجموعةٍ موسَّعة من المنتجات الرقمية، بما في ذلك الخرائط التي يمكن استخراجها للحصول على معلوماتٍ وتنبؤاتِ طقس خاصة بموقع بعينِه تستخدِم الرسوم البيانية بدلًا من النصِّ المكتوب لتوضيح احتمالية وقوع أحداثٍ مُعينة بمرور الوقت. أحدُ التحدِّيات التي تُواجِه تطبيق هذه التحسينات في العالم البحري هو الحاجة في كل خطوةٍ إلى مراجعةٍ دءوبة ودقيقة للمعايير الدولية، والتي لا تزال في الوقت الحاضر تتطلَّب تنبؤاتِ طقسٍ يمكن تبادُلها فيما بين الأشخاص عبر أجهزة اللاسلكي. من القيود الأخرى عرضُ النطاق التردُّدي. الإنترنت العالي السرعة في طريقِه إلى البحر ولكنه لم يصِل بشكلٍ كامل بعد. تتمتَّع السفنُ الكبيرة الآن بالقدرة على الوصول إلى المنتجات الغنية بالبيانات عبر الأقمار الصناعية من شبكة الإنترنت، لكن العديد من السفن الأصغر لا تزال تفتقر إلى تلك القدرة، خاصة في البحار المفتوحة.

تستخدِم سفنٌ تجارية كثيرة خدماتِ التوجيه المُستند إلى الطقس، لا سيَّما شركات التنبؤ بالطقس التي تُقدِّم لها المشورة حول المسارات التي ينبغي لها أن تسلُكها. حتى الآن، لا يزال جزءٌ كبير من هذه المشورة يعتمد على عِلم المناخ؛ أي على القواعد الأساسية التقليدية. قد تختار سفنُ الحاويات عبورَ شمال المحيط الهادئ على طول خطِّ العرض ٣٠؛ لأنه وَفقًا للاحتمالات يُعَد المسار الأكثر أمانًا لها، فهو شمال مسارات الأعاصير الاستوائية، ويقع في معظم أجزائه جنوبَ العواصف شِبهِ القطبية التي يُمكنها أن تفكَّ الصناديق من أربِطتها وتُلقي بها في البحر مثل كراسي سطح السفن غير المُثبَّتة. يعني هذا لبعض السفن الانحرافَ لمئاتِ الأميال بعيدًا عن الطريق، مع خَسارة ملايين الدولارات سنويًّا بسبب زيادة استهلاك الوقود. وفي بعض الأحيان، لا يكفي حتى هذا الاحتياط لمنع الخسائر الكارثية في البضائع.

فكِّر، على حَدِّ قول جُو، في مدى ما يُمكنهم فِعله باستخدام تدفُّق كامل من البيانات المتولِّدة باستمرار، والمتاحة آنيًّا. أُفكِّر في هذا بالفعل. إن المرء ليتعجَّب من مقدار ما نعرفه عن الطقس الآن مقارنةً بما كنَّا نعرفه في عام ١٩٠٠، عندما وصل إعصارٌ غير متوقَّع إلى الشاطئ في تكساس وقتلَ ١٠ آلاف شخص، أو حين يتذكَّر ما حدث في فبراير من عام ٢٠١٦، عندما خاضت السفينة السياحية «أنثِم أوف ذا سيز» عمدًا فيما تبيَّن أنه عاصفة شتوية مروِّعة قبالة كيب هاتيراس. لم تكن هناك وَفَياتٌ أو إصاباتٌ خطيرة جرَّاء ما أعقب ذلك من هياج للبحر، ولكن هذا بلا شك كان مثالًا على أنه لا يزال أمامنا الكثير ممَّا يتعيَّن أن نتعلَّمه. يعرض جُو شرائح من عرضٍ إيضاحي قدَّمه حول حادث السفينة «أنثِم». أبحرَتِ السفينة الجديدة تمامًا جنوبًا من نيويورك بينما كانت العاصفة تتشكَّل لتوِّها شمال جزر البهاما، وقد كانت «قنبلة طقس» تقليدية تعمَّقت في اندفاعٍ انفجاري عندما عبرت إلى تيار الخليج الدافئ. وقد واجهت السفينة «أنثِم» قبالة ساحل كارولينا رياحًا بلغت سرعتها ١٤٥ عقدة من الشمال الغربي، خلف جانب السفينة الأيمن مباشرة. ونظرًا إلى عجز السفينة عن الحفاظ على مسارها أو الدوران في مواجهة الطقس، قُذِفَت جانبًا بسرعة ١٠ عُقد، وتدحرجت مثل زورقٍ مطاطي بينما انجرفَ ما في داخل السفينة من أثاث وأشجار نخيل مزروعة في أُصُص فيما يُشبِه انهياراتٍ جليدية صغيرة. وقبعَ أربعةُ آلاف راكب في مقصوراتهم بحثًا عن الأمان، وهم يهتزُّون مثل أمتعة المطارات. التقط مَن كان منهم قريبًا من النوافذ صورًا لأمواجٍ أعلى من سطح السفينة الرئيسي.

لا يزال خبراءُ الطقس يفتقرون إلى أدواتٍ كافية للتنبؤ باستمرارٍ بمِثل هذه الحوادث المفاجئة. ننظر أنا وجُو إلى صور الأقمار الصناعية المُتحركة للعاصفة التي اجتاحت السفينة «أنثِم»، والتي كان من المتوقَّع أن تُولِّد رياحًا تبلغ سرعتها ٦٥ عقدة ولكنها في الواقع تجاوزت ضِعف هذه السرعة. تُمثل السُّحب دوَّامة أشبه بحلوى المارينج، تدور بسرعةٍ تبدو أنها تتجاوز ما هو متوقَّع عادةً من الظواهر الجوية العادية. إنها في خضمِّ تكثيف لا يستطيع جُو نفسه تفسيره بالكامل. من الأفق البعيد، يبدو نمط الطقس وكأنه رأس مِطرقة مُلتوٍ، كخُطَّافٍ هائل من السُّحب يُحيط بمنطقة مفتوحة خلف المركز. أسفل البُقَع الخالية من السحب، يمكن رؤية تيار الخليج نفسه، الذي يتَّخذ في التصوير الحراري هيئةَ ظلٍّ رمادي.

يُوقِف جُو الفيديو ويهز رأسه.

يقول: «هناك الكثير مما يحدث هناك، والذي ما زلنا لا نعرف عنه شيئًا.»

لقد أُخِذَ طاقمُ السفينة «أنثِم»، أصحابُ الخبرة الواسعة والمعلومات الوفيرة، على حين غِرة. وقد شاهدوا عبر النوافذ اللامعة لمقرِّ قيادة السفينة، مع عجز مراوِحهم عن الصمود أمام هذا الطقس، وقوعَ ما لا يمكن تصوُّرُه. في أيامٍ لا حصر لها في المستقبل، ومن على سطح سفينتي المكشوف والمطر يتساقط على نظارتي، سأشاركهم فزعَهم. يمكن للمرء أن يدرُس هذه الأشياء إلى أجَلٍ غير مُسمًّى، لكنَّ المفاجآت أبدًا لا تنتهي.

•••

رسمَ الأدميرال روبرت فيتزروي وفريقٌ من زملائه خرائطَ الطقس البحرية الأولى منذ أكثر من ١٥٠ عامًا في هيئة الأرصاد الجوية الملكية التي كانت حديثة العهد آنذاك. ومستندًا إلى العمل الذي كان قد أنجزه ويليام ريدفيلد فيما يتعلق بالأعاصير في أمريكا، أنتجَ فيتزروي أولَ رؤيةٍ كاملة لإعصارٍ خارج مداري في رسمٍ للعاصفة الكارثية التي ضربت سفينة «رويال تشارتر» في أكتوبر من عام ١٨٥٩. كان مكتبُ الأرصاد الجوية قد أمضى عدة سنواتٍ في العمل على خرائطه المُسمَّاة بالخرائط «الإحداقية» الجديدة، لكن جهودهم في رسم عاصفة «رويال تشارتر» كانت أوَّلَ ما أظهر قُدراتهم الحقيقية. وعبر شبكةٍ من نقاط البيانات المُجمَّعة، استخلصوا قصةَ هذه العاصفة المُدمِّرة التي هبَّت في أواخر الصيف وهاجمت الجُزر البريطانية بشراسةٍ كأسدٍ هصور. مكَّنت التقاريرُ الواردة من السفن والمحطات الساحلية البعيدة فيتزروي من رسم صورته الرائعة لكُتلتَين هوائيتَين عظيمتَين عالقتَين في ظاهرة القص، حيث سلسلة من الأيام المعتدلة تنتهي بغطاءٍ ضبابي قاتم، ثم في ظلام الليل تهبُّ رياحٌ شديدة مفاجئة من الشمال تتجاوز سرعتُها ١٠٠ عقدة، فتُدمِّر الحظائر والطرق وأساطيلَ صيدٍ كاملة بثباتٍ مروِّع. وفي قلبِ كل هذا كانت السفينة البخارية «رويال تشارتر»، تُحاوِل إكمال الساعات الأخيرة من رحلةٍ مُدتُها ٦٠ يومًا من ملبورن إلى ليفربول. وبعد أن رفضتْ خيارَ التوقُّف في اللحظة الأخيرة في ميناء هوليهيد الويلزي، دُفِعَتْ إلى الشاطئ وتحطَّمت على جزيرة أنجلسي، ليَلقى ٤٥٠ شخصًا تقريبًا مصرعَهم؛ أي أكثر من ٩٠ في المائة من مجموع أفراد طاقمها.

أدَّت هذه المأساة إلى إطلاق حملةٍ لبناء شبكة من محطات الإشارة للتحذير من العواصف على طول الساحل البريطاني، كلُّ واحدةٍ منها مكلَّفة برفع علاماتٍ مُعينة عندما تُشير التقارير إلى اقتراب عاصفة. يلاحظ أحدُ حراس المحطة في غرب أيرلندا تحولًا ملحوظًا في الرياح أو تغيرًا في قراءة البارومتر، فيمتطي خَيَّالٌ صهوةَ جواده ويُهرع إلى أقرب جهاز تلغراف، ثم يشرع فيتزروي وفريقُه في العمل ويقرِّرون ما إذا كانت التحذيرات لها ما يُبررها. لقد كان الأمر برمَّته قائمًا إلى حَدٍّ كبير على التركيز على الوقت الحاضر، ومقيَّدًا بنطاق الرؤية البشرية في منتصف القرن التاسع عشر، ومع ذلك ظلَّت أدواتٌ مُماثلة قيدَ الاستخدام بعد ٨٥ عامًا، عندما كانت تقاريرُ الطقس التي يبثُّها الراديو من أيرلندا الغربية جزءًا رئيسيًّا وحاسمًا في قرار المُضي قُدُمًا في عمليات إنزال الحلفاء في ساعة الصفر.

•••

في رواية ويليام جيبسون «كلُّ أحزابِ الغد»، يتحسَّر أحدُ الشخصيات على التطوُّر المُخصَّص لغرضٍ مُعين للمعالج الدقيق، مشيرًا إلى مدى الاختلاف الذي سيبدو عليه جهاز الكمبيوتر لو أُعيد تصميمُه بالكامل. ينتاب العامِلين بهيئة الأرصاد الجوية الوطنية اليوم شعورٌ مُماثل، فهي أشبه بجهاز مُركَّب من أجزاءٍ صغيرة مُجمَّعة معًا، وقد أُوكِلت إليها الآن مُهمة أكبر بكثير. يُعتبر الطقس، على غرار السياسة، ظاهرة محلية وعالمية في آنٍ واحد. بالنظر إلى الهيئة على الورَق، تجِدها مؤسسة بيروقراطية جديرة بالتأمُّل، على الرغم من أنها لا تزال مجرد فرعٍ واحد من فروع الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي. تضم الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي خمسةَ مكاتب عمليات أخرى، بما في ذلك الهيئة الوطنية لمصايد الأسماك البحرية ومكتب العمليات البحرية والجوية، وهي بمثابة قوة بحرية مصغَّرة لجمع البيانات، لدَيها سفنٌ بيضاء وطائرات زرقاء ولا تمتلك أية أسلحة. لا يعرف الكثير من الناس أنه بإمكانهم بالفعل العمل في وظيفة ضابطٍ مُفوَّض في قوات الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي، تمامًا كما هو متاح في قوات مشاة البحرية الأمريكية. تضمُّ هيئة الأرصاد الجوية وحدَها عشرات الأقسام الفرعية المُنفصلة، وكلُّها متداخِلة بدرجاتٍ متفاوتة من الانسيابية. إلى جانب مركز التنبؤ بالمُحيطات، يوجَد المركز الوطني للأعاصير، ومركز التنبؤ بالعواصف، ومركز التحذير من التسونامي. كما يوجَد مركز طقس الطيران ومجموعة الأرصاد الجوية لرحلات الفضاء، ولكنها غير نشطة منذ آخِر رحلةٍ لمكوك فضائي وينبغي عدم الخلط بينها وبين مركز التنبؤ بطقس الفضاء. يُراقِب ١٣ مركزًا من مراكز تنبؤاتِ الأنهار حالةَ الممرَّات المائية الداخلية. ويأخُذ ١٢٢ مكتبًا من مكاتب التنبؤات الإقليمية — وهي بمثابة جواهر التاج لمناطق الكونجرس التابِعة لها — ملاحظاتها ويدمجها مع البيانات العالمية، ثم يختصِرها في تعليماتٍ صغيرة مُفيدة على المستوى المحلي، على سبيل المثال، في التخطيط لقضاء عطلة نهاية أسبوع في التخييم، أو الانطلاق في رحلات صيد الكَرْكَند.

تتدفَّق التوقعاتُ الفعلية من قائمة من المنافذ الآخِذة في التزايد يومًا بعد يوم، من مطبوعاتٍ، وبثٍّ إذاعي وتلفزيوني، وشاشاتٍ ساطعة لعددٍ لا حصر له من الأجهزة الشخصية. تُمثل الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي مجتمعةً متاهةً مُعقدة من المعلومات، حيث يمكن أن يواجِه الخبراءُ أنفسهم صعوبةً في تحديد البيانات المُهمة أثناء ظهورها ضِمن قوائم نقطية. في أعقاب إعصار ساندي المُدمر الذي ضربَ حاضرة نيويورك في عام ٢٠١٢، عُقدت سلسلةٌ طويلة من الجلسات لتحديد أيٍّ من أقسام نظامِ التحذير قد نجحَ وأيها لم ينجح. بجميع المقاييس، لم يكن إعصارُ ساندي حدثًا بسيطًا فيما يتعلَّق بالأرصاد الجوية. فقد بدأ في هيئة إعصار مداري ثم تحوَّل إلى نمَط مُعقَّد خارج مداري في مكانٍ ما قبالة ولاية كارولينا الشمالية، فشكَّل على الفور تحدياتٍ مكانية أمام شبكة التنبؤ والإنذار. وجدَ المُستجيبون المحليُّون تدفُّقًا مكثفًا في المعلومات غير أنه لم يكن مُترابطًا دائمًا. في منتدًى عُقِد بعد الحدث، عبَّر أحدُ الأطراف المَعنية عن أفكاره حول أداء مَوقع الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي في تعليقٍ مُسجَّل.

قال: «يحتاج الأمر إلى عدد نقراتٍ أكثر من اللازم عبر طبقاتٍ مُتعددة من الروابط للوصول إلى المعلومات المطلوبة.»

تُجمَّع بياناتُ هيئة الأرصاد الجوية الوطنية بأموال الضرائب وتُعتبر ملكًا للجمهور. لذلك تحصُل معظم وكالات الأرصاد الجوية الخاصة على معلوماتها من الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي، حتى إذا كانت تُوظِّف اختصاصيي الأرصاد الجوية التابِعين لها. وفي الأوقات الغريبة التي عاشتها أمريكا في عهد ترامب، رُشِّح باري لي مايرز، الرئيس التنفيذي لشركةٍ ربحية كبيرة للتنبؤ بأحوال الطقس تُدعَى «أكيو ويذر»، لمنصب الرئيس الجديد للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي. وهو محامٍ وليس خبيرًا في الأرصاد الجوية. وعلى الرغم من غرابة الأمر، فليست هذه هي المرة الأولى التي تكون فيها الوكالةُ محورًا للتوتُّر القائم بين المصالح العامة والمؤسسات الخاصة. ففي عام ١٩٨٣، اقترحَ مدير الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي في عهد الرئيس رونالد ريجان خصخصة الأقمار الصناعية للوكالة وخفض قوَّتها العاملة بمِقدار الثُّلث. وبموجب هذا الاقتراح، كان يمكن لأي جهةٍ ترغب في الحصول على البيانات شراءها من الشركات التي اشترَت الأقمارَ الصناعية. لم يُنفَّذ أيٌّ من هذا في نهاية المطاف، لكن الفكرة ظلَّت قائمة بما يكفي لتُعاود الظهور بعد عقدَين من الزمن، هذه المرة في مشروع قانونٍ فاشل لمجلس الشيوخ يُسمَّى قانون واجبات هيئة الأرصاد الجوية الوطنية لعام ٢٠٠٥. وقد اقترح مشروع القانون هذا أن يقتصر ترخيصُ الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي على نشْر بيانات الطقس المجَّانية، بهدف تعزيز النموِّ في قطاع التنبؤ بأحوال الطقس الخاص.

بدأت هيئةُ الأرصاد الجوية في عام ١٨٧٠ باسم مكتب الأرصاد الجوية، وهو مُلحقٌ مُثير للجدل إلى حَدٍّ ما لسلاح الإشارة بالجيش الأمريكي. أكثر ما يعتمِد عليه التنبؤ بأحوال الطقس هو القُدرة على مشاركة البيانات مِن أماكن مُتعدِّدة على نحوٍ متزامِن؛ أي أنه لفهم ما سيحدُث في مدينتك، تحتاج إلى معرفة ما يحدُث في المدن الأخرى المُحيطة بك على الخريطة. أصبح هذا مُمكنًا لأول مرةٍ مع انتشار التلغراف حوالي عام ١٨٥٠، وساعدَ عليه تطورٌ كبير آخر باختراع الراديو في مَطلع القرن العشرين. في عام ١٩١٢، بدأت السفن تتمتَّع بالقدرة على الإبلاغ عن حالة الطقس من البحر لاسلكيًّا، وهي ركيزة أساسية لا تزال قائمة حتى اليوم لجمع البيانات.

كان بناءُ شبكةِ مُعالجة فعَّالة أمرًا بالغَ الأهمية أيضًا، نظرًا إلى الحاجة الماسَّة إلى هذا المجال الجديد للمعلومات. حاليًّا تؤدي النماذج الحاسوبية قدرًا كبيرًا من هذا العمل، ولكن في البداية كان الأمر يعتمِد على البشر وحدَهم، حيث كانوا هم الذين يُسجِّلون البيانات، ويتشاركونها، ويعتمِد بعضُهم على بعضٍ لتفسيرها تفسيرًا صحيحًا. لم تكن شبكة التنبُّؤ المُبكرة بأحوال الطقس تختلِف عن مستشفًى مُترامي الأطراف يعمل آلافُ الأطباء بجِدٍّ في أجنحتِه المختلفة لتشخيص حالةٍ مَرضية مُستعصية واحدة. ينبغي لمَن يريد التعرُّف على المتاعِب المُبكرة التي واجهتها الهيئة أن يقرأ كتابًا بعنوان «عاصفة إسحاق» للكاتِب إريك لارسون. يحكي هذا الكتاب قصةَ الإعصار المداري الذي وصلَ إلى الشاطئ في الثامن من سبتمبر عام ١٩٠٠، وحوَّل بلدة جالفيستون المُزدهرة، بولاية تكساس، إلى كُومة من الأخشاب الطافية خلال عصر ذلك اليوم. لقي ١٠ آلاف شخصٍ مصرعهم، معظمهم غرقًا في منازلهم أو بسبب ما تعرَّضوا له من ضرباتٍ مُبرِّحة من الحطام المُتطاير. على الرغم من الادِّعاءات اللاحِقة بخلاف ذلك، لم يُصدِر مكتب الأرصاد الجوية أية تحذيراتٍ مناسبة بشأن الإعصار في ذلك اليوم.

كان هذا هو العصر الذهبي في التاريخ الأمريكي، وهو علامة بارزة أخرى على الغطرسة الأمريكية عندما ظننَّا أننا قد توصَّلنا إلى فهمٍ كاملٍ للأمور، ولكن الواقع كان يُثبت غير ذلك. في إطار فَهم العلماء الأمريكيين المحدود للأعاصير الحلزونية المدارية، كانوا في عام ١٩٠٠ مُقتنِعِين بأن الأعاصير المدارية تسلك دائمًا مسارًا ضيقًا بين جُزر الهند الغربية وشمال المحيط الأطلنطي، ومن ثَمَّ لا تدخُل خليجَ المكسيك. كما أنه لم تكن لديهم معرفة حقيقية ﺑ «التيار الحَلقي»، وهو عبارة عن قوس من الماء الدافئ يتدفَّق شمالًا من قناة يوكاتان، ويمكن لحرارته أن تُسبِّب اضطراباتٍ صغيرة تتحوَّل إلى نمَط جوي مُدمر عند وصولها إلى الخليج، على نحوٍ أشبه بقطعة قماشٍ مُشبعة بالزيت تُلقى على جمر نيران أحد المُخيمات. كان لدى الكوبيين أفكارٌ أخرى. فلِكونهم من السكان الأصليين للمناطق المدارية، كانت لدَيهم صورةٌ أدق للأعاصير، لكن تحذيراتهم لم تَلقَ آذانًا صاغية. في الواقع، في الصباح المشئوم الذي لاحظَ فيه اختصاصيُّو الأرصاد الجوية في هافانا مرورَ إعصارٍ حلزوني وخلصوا إلى أنه كان مُتجهًا إلى تكساس، منعتهم السلطاتُ الأمريكية من إرسال توقُّعات الطقس إلى البر الرئيسي عبر أجهزة التلغراف المحلية، التي كانت تحت سيطرة الولايات المُتحدة في أعقاب الحرب الإسبانية الأمريكية. شخصية آيزاك التي تظهر في كتاب لارسون هو الدكتور آيزاك كلاين، الذي كان في ذلك الوقت رئيسًا لمكتب الأرصاد الجوية في جالفستون. في الفصل الأول، نلتقي به وهو يقود عربتَه على الشاطئ، وهو يُراقِب بتوجُّس عميق بينما تبدأ موجة طويلة في الانكسار على الشاطئ.

أظهرت الحربُ العالمية الأولى وسنواتُ الازدهار التي تلَتْها مدى أهمية الطقس في مشاريع القرن الجديد، في مجالاتِ المدفعية والطيران والحروب البحرية والسفر بالسيارات والبواخر. بحلول عام ١٩١٩ كان المكتب يجمَع البيانات من الغِلاف الجوي باستخدام المناطيد، ويُقدِّم نواتج تنبؤية مُتخصِّصة للطائرات والسفر على الطرق السريعة والشحن. في عام ١٩٢٠ أُنشِيء قسمٌ بحري، وهو المكتب السابق على مكتب جُو وفرانك. ووفاءً لجذوره الزراعية، واصلَ المكتب أيضًا تقديم خدمة تحذيراتٍ الطقس لمُزارعي التوت البري، وإصدار نشرة توقعات الصقيع لمزارعي البطاطس، بالإضافة إلى إشعارٍ خاص لمُربِّي النحل، وذلك دعمًا لصناعة عسل النحل.

جاءت نقطةُ التحول التالية في حوالي عام ١٩٢٥، حيث سعى القسم إلى دمج رؤى المدرسة النُّرويجية الجديدة للأرصاد الجوية في أساليب التنبؤ الخاصة به. افترض النُّرويجيون، بقيادة الفيزيائي فيلهلم بيركنس (والِد جاكوب بيركنس)، افتراضًا صائبًا، وهو أن الطقس محكوم بالتفاعُل الهيدروديناميكي لِما يُسمَّى «الكُتَل الهوائية»، وهي كتلٌ منفصلة من الغِلاف الجوي احتفظت إلى حَدٍّ كبير بخصائصها الفيزيائية من حيث درجة الحرارة والرطوبة، وتتفاعل من خلال الميزات الموجودة على حدودها أو «جبهاتها». كافحت مدرسةٌ جديدة للقياس الديناميكي المُتفاعِل من أجل أن تحلَّ محلَّ المدرسة القديمة التي تعتمِد على الحَدس. كانت أمور متغيرة كثيرة لا تزال في انتظار العمل عليها، ولكن كل هذا كان يعني تحوُّلًا جوهريًّا من الأسلوب الوصفي إلى الأسلوب التحليلي في عملية التنبؤ بأحوال الطقس.

خلال هذه الفترة هاجر كارل جوستاف روسبي من السويد للعمل في وظيفة باحثٍ مشارك في مكتب الأرصاد الجوية. كان روسبي نجمًا صاعدًا سيُصبح لاحقًا مهندس الأرصاد الجوية الأبرز في أمريكا، وقد استمرَّ روسبي ذو الشخصية الآسِرة في عمله لفترة كانت كفيلةً لِلَفت الانتباه له ولكنه طُرِدَ من منصبِه في عام ١٩٢٧ لتقديمه إرشاداتٍ غير مُصرَّح بها لتشارلز ليندبيرج بشأن إحدى محاولاته لخَوض رحلاتٍ جوية طويلة. وسرعان ما وجدَ روسبي بيئةً أكثر ملاءمةً له في المجال الأكاديمي، حيث قادَ مع فريقٍ من زملائه تطوير عِلم الأرصاد الجوية إلى عِلمٍ كمِّي. كان الدعم لهذه العملية في معظمِه عسكريًّا، يدفعه النموُّ السريع في مجال الطيران ويُعززه إصرارُ روسبي على أن خبراء الطقس المُعاصِرين بحاجةٍ إلى مجموعة واسعة وقابلة للتكيُّف من المهارات — «المعرفة التي يسهل نقلُها ولا يحدُّها مكان» — المُستمَدة من مبادئ أساسية وليس من معرفةٍ محلية مُكتسبة من ملاحظةٍ طويلة الأمد.

كانت الحربُ العالمية الثانية نقطة التحوُّل في حملة روسبي من أجل وضع نظام تنبؤٍ بأحوال الطقس قائم على أساسٍ علمي، حيث كان عمل أنظمة القتال الحديثة — ولا سيَّما الطائرات — يعتمد اعتمادًا كليًّا على وسائل كَمية للتنبؤ بالطقس. وقد وفَّرت البرامجُ التدريبية التي وضعها روسبي وزملاؤه أثناء الحرب الكتلةَ الحرجة من علماء الأرصاد الجوية اللازمة للانتقال بالعِلم إلى النصف الثاني من القرن العشرين. توفَّرت أيضًا الكثير من الطائرات المُستعمَلة الجيدة التي أُعيد استخدامها لأغراضٍ علمية بعد انتهاء الحرب، إلى جانب وجود الجدول الزمني العاجل للحرب الباردة الجديدة، التي اعتمدت اعتمادًا كبيرًا على علوم الطيران للحفاظ على توازُن القوى الرهيب.

استغرق عالَم علوم الطقس نصفَ القرنِ التالي في التطوُّر ليُصبح الشبكة التي نعرفها اليوم، في تطوُّرٍ مُرتبط ارتباطًا مباشرًا بالقدرة البشرية المُتفجرة على جمع المعلومات وتبادُلها. يُذكرنا أندرو بلوم في كتابه الرائع الذي أصدره في عام ٢٠١٩، «آلة الطقس»، أن عَولمة علم الطقس تمثل أحد النجاحات الدبلوماسية القليلة التي لا يمكن نُكرانها في حِقبة ما بعد الحرب. وبعيدًا عن الحرب الباردة، فإن النِّطاق الهائل للغِلاف الجوي — إلى جانب الاعتراف العام بأن ما يحدُث في هذا المجال يؤثر بالضرورة علينا جميعًا — قادَنا إلى ستة عقودٍ من التعاون الدولي في المُنظمة العالمية للأرصاد الجوية، إحدى وكالات الأمم المُتحدة. في وقتنا الحاضر تتبادل الدول بياناتِ الطقس فيما بينَها بحُرِّية نوعًا ما.

•••

بالقُرب من المحطة التي يعمل فيها فرانك، تنتشِر مجموعةٌ كبيرة من الشاشات التي تُومِض بصور الأقمار الصناعية، والتي تبثُّها مجموعةٌ رائعة من التقنيات المُتطوِّرة التي تدور في صمتٍ بعيدًا في الفضاء. فتَستخدِم تقنيةٌ تُسمى «قياس التناثر» أجهزةَ الرادار لقياس الرياح من الفضاء عن طريق استشعار بِنية سطح البحر. وتُجمَع البيانات في خرائط ملوَّنة جميلة، مثل اللوحات الانطباعية لمجال رياحٍ بحرية. كان فيتزروي سيَبكي تأثرًا لو كان قد رأى هذا التطوُّر. كانت الريادة في هذا العلم للوكالات الأمريكية، لكن أدواته الأساسية تُحلِّق الآن في الأغلب على متن مَركباتٍ فضائية أوروبية، هي بمثابة طيور غريبة تدور في مداراتٍ قُطبية تُتيح لها رؤية الكوكب بأكمله، على غرار طريقةِ تقشير ثمرة برتقال، في ١٤ جولة يومية أثناء دوران الأرض. أما أقمار الرصد البيئية العاملة ذات المدار الثابت التابعة للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي، فتفعل العكس تمامًا، حيث تراقِب باستمرارٍ قطاعًا واحدًا من سطح الأرض من ارتفاع ٢٦ ألف ميل، من نقطةٍ تتطابق فيها حركتُها المدارية تطابقًا تامًّا مع حركة دوران الأرض. تلتقِط الكاميرات الموجودة على متن وحدات هذه الأقمار صورًا لتكوينات السُّحب ويُمكنها تتبُّع حركة بخار الماء المحمول في الهواء وهو ينتقل في أنهارٍ جوية لتوصيل الأمطار إلى السطح. يعتمد المتنبئون في المناطق المدارية على بيانات هذه الأقمار لتقييم الأعاصير المدارية، وذلك باستخدام طريقة تُسمى تقنية دفوراك لمقارنة درجات الحرارة بين عين العاصفة الدافئة وقِمَم السُّحب المحيطة الأبرد. وتوجَد مجموعة جديدة من الأدوات لتسجيل البرق، تظهر صورُها وامضةً على الشاشات بالقرب من المكان الذي يعمل فيه فرانك؛ إذ تُرسَل قياسات طاقة العواصف إلى الفضاء وتعود مرةً أخرى إلى هذا المكان ذي الأرضيات المفروشة بالسجَّاد والموظفين الذين يرتدون القمصان ولا يرتدون شيئًا فوقها، حيث يبدو الطقس وكأنه موجودٌ في كلِّ مكانٍ ولكنه مع ذلك يبدو بعيدًا جدًّا.

من الصعب المُبالغة في تقدير مدى التطوُّر الهائل لفهمنا للطقس بفضل الصُّوَر الملتقَطة من الفضاء، بدءًا من القُدرة على الرؤية الآنية لشكل كل ظاهرةٍ جوية وحجمها. عندما كان والدي مراهقًا، كان تصوُّر العواصف يُشبه إلى حَدٍّ كبير القصة الخيالية القديمة التي فيها مجموعة من المكفوفين ومعهم فيل، حيث يُمسِك بعضهم بالخرطوم وبعضهم الآخر بالذيل، ثم يتناقشون حول ماهية الحيوان الذي يلمسونه. ولكن سطح الأرض يُغطي مساحة قدرُها ٢٠٠ مليون ميل مربع، بينما تُشَغِّل الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي ١٦ قمرًا صناعيًّا فقط، حسب آخِر معلوماتٍ اطلعتُ عليها. كِلا الرقمَين يُذكراننا بأن شبكة رصدنا للطقس لا تزال غير مُكتملة. ولتسألوا فحسْب مَن كانوا على متن السفينة «أنثِم أوف ذا سيز».

•••

نُسِبَ الفضلُ إلى فيلهلم بيركنس في عام ١٩١٣ باعتباره أولَ عالِمٍ يختصر الأنماط الدائمة التغيُّر للغِلاف الجوي إلى مجموعةٍ من المعادلات القابلة للتطبيق، ولكن في تلك الحقبة التي كانت لا تزال تُجرى فيها الحسابات يدويًّا، كانت فكرة تطبيق هذه المعادلات فعليًّا تُنافي المنطق. في عام ١٩٢٠، اقترح عالِم فيزياءٍ بريطاني يُدعَى لويس فراي ريتشاردسون حلًّا خياليًّا يتمثَّل في ملءِ ملعب كرة قدَم بآلافٍ من البشر — ٦٤ ألف شخصٍ على وجه الدقة — لأداء دور أجهزة الكمبيوتر؛ فيحلُّون جميعًا المعادلات الرياضية في وقتٍ واحدٍ ويتواصَلون مع قائدٍ من خلال إشارات اليد والمصابيح اليدوية. هذا في الواقع ما يفعله الكمبيوتر الحديث، ولكن باستخدام رقائق السيليكون بدلًا من النسَّاخين. تشكَّلت نظرتي الشخصية حول الطاقة الخام المُستخدَمة في تشغيل نماذج الطقس أثناء جولة لي في المعهد الوطني لأبحاث المياه والغِلاف الجوي في نيوزيلندا قبل عدة سنوات. تقع أجهزة الكمبيوتر الفائقة لديهم في مبنًى بحجم مرآبٍ بثلاثة عنابر، جنوب وسط العاصمة ويلينجتون مباشرةً على امتداد شاطئ خليج لِيال. جمَّعَنا دليلُنا في ساحة انتظار السيارات، حيث يُمكنك رؤية طيور البطريق وهي تغوص وتطفو على امتداد حافة الميناء. كان يومًا صيفيًّا دافئًا، بلا رياح تقريبًا، وهو أمر نادر الحدوث في ويلينجتون.

قال: «سنتحدث في الخارج. فالمَبنى صاخب للغاية بالداخل، فلا يُمكنك حتى أن تسمع صوت أفكارك.»

سألتُه: «أيُّ صخب؟» عادةً ما ظننتُ أن أجهزة الكمبيوتر صامتة.

قيل لي إن ظني صحيح، فأجهزة الكمبيوتر يمكنها أن تكون هادئة، ولكن تنبعِث منها حرارةٌ عالية تتطلَّب تبريدًا كبيرًا حتى تعمل هذه الآلات القوية دون أن تنصهِر. ومن هنا جاءت جدوى وضع أشياء مُهمة كهذه عند حافة ميناء، حتى لو كان ذلك في قلب منطقة مُعرَّضة للزلازل. سيحافظ أساسُ المبنى المرِن نظريًّا على ثباته ويمنعه من الانزلاق نحو البحر، وفي الوقت نفسه يوجَد إمدادٌ وفير من مياه البحر الباردة للمبادِلات الحرارية. دلفنا إلى الداخل. كان مُضيفُنا على حَقٍّ؛ فقد كانت المِضخَّات صاخبةً للغاية. تحت غرفة طويلة مليئة بما يُشبه المبرِّدات السوداء الكبيرة كانت هناك شبكة من الممرَّات العشوائية التي توجَد بها المُحركات الهادرة وأنبوب مُتشابك. أنا دخيل على منشآت أجهزة الكمبيوتر الفائقة، ولكن باعتباري خبيرًا مُتمرِّسًا في غُرَف محركات السفن، شعرتُ بألفةٍ في المكان. أكثر ما كان يَلفت الانتباه في الثلاجات السوداء فوقَنا — والتي تُسمَّى في الواقع «الرفوف» — هو ما كان جليًّا من استهلاكها الهائل للطاقة وتكلفتها الباهظة. فتحَ الفنيُّ بابًا، كان بداخله صفوف مُتتالية من عُقَد الحوسبة الفردية. بَدت وكأنها خراطيشُ حبر لطابعةٍ كبيرة الحجم.

قال: «هل ترى ذلك أيها الضابط؟ يبلغ سعر الواحدة منها ١٠٠ ألف دولار.»

بصرف النظر عن التكلفة والضوضاء، كان الجزءُ الآخر المُميز في زيارتنا هو أجواء الوُد والتَّرحاب، حيث أخرجوا مجموعتنا المختلِطة من البحَّارة والعلماء إلى ضوء النهار الساطع، وقادونا نحو المقهى لتناوُل الفطائر وعصير الليمون. هذه إحدى منشأتَين لأجهزة الكمبيوتر الفائقة في نيوزيلندا، وهي الأكبر على الإطلاق، فهي تُمثل حجر زاوية في البنية التحتية الوطنية للبيانات. كان رجلٌ أشقر الشعر، يرتدي صندلًا ويضع نظارته الشمسية على رأسه، يُمسك بالباب للمُتأخِّرين ويبتسِم لهم مُرَحِّبًا. في موطني، كنا سنخضع لفحص شبكية العين بينما يحوم الحرَّاس بالقرب منَّا في سُتراتهم الواقية من الرصاص.

كان ذلك في عام ٢٠١٧. كانت تجربتي التالية مع أجهزة الكمبيوتر الحديثة بعد ذلك بعامَين، عندما عاودتُ زيارة الموقع الإلكتروني للمعهد الوطني لأبحاث المياه والغِلاف الجوي للحصول على المزيد من المعلومات حول الأجهزة التي رأيناها. فوجدتُها قد اختفت، وحلَّ محلَّها بالفعل جهازا كمبيوتر أكبر وأسرع هما ماوي وماهويكا. يبدو الجهازان في الصوَر مُتطابقَين تقريبًا، غير أن الخزانات، التي كانت ذات يومٍ سوداء بلا ملامح، أصبحت الآن مُزينة برسوماتٍ جذابة مُستوحاة من الأعمال الفنية للسكَّان الأصليين. كانت الآلات الإعجازية التي كنَّا قد زُرناها سابقًا، والتي لا نعرف أسماءها، تُبرِّد دوائرها الكهربية في مكانٍ ما مخصَّص لأجهزة الكمبيوتر المُستعملة أو ربما يُعاد تدويرها لصنع محامص كهربائية.

•••

لا يُمثِّل النموذج الرياضي في الواقع أكثر من مجرد مجموعة من المعادلات المُترابطة فيما بينها لمحاكاة عمليةٍ مُعينة. يمكنك تصميم نَموذج للتنبؤ بإنفاقك الشهري على طعام الكلاب عن طريق حساب تكلِفة الكوب الواحد منه وضربه في عدد الأكواب التي يتناولها كلبك في كلِّ وجبة. لعلَّك تفعل شيئًا كهذا بالفعل، نظرًا إلى ما لتلك النماذج البسيطة من أثرٍ حتى في حياة أكثرنا نفورًا من الرياضيات. قد تُصبح العملية الحسابية أكثر تعقيدًا إذا تغيَّرت أسعار الطعام، أو تناولَ كلبُك كَمياتٍ أقل في الأيام الحارة، أو أطعمَه أحدُ أصدقائك وجبةَ إفطارٍ إضافية في إحدى عطلات نهاية الأسبوع. لهذا السبب نجد أن النماذج المُصمَّمة للتنبُّؤ بالأنظمة المُعقدة — مثل الطقس أو سوق الأوراق المالية — سرعان ما تُصبح مُعقدة. ولهذا السبب أيضًا كان علينا أن ننتظِر حتى عصر أجهزة الكمبيوتر الفائقة لتتطوَّر هذه النماذج وتُصبح أكثر فاعلية. يُستمَد خطُّ الإسْناد المرجعي لتنبؤاتِ الإدارة الوطنية للمحيطات والغِلاف الجوي عادةً مما يُسمَّى بنموذج نظام التنبؤ العالمي، وهو — كما يُوحي الاسم — عبارة عن محاكاةٍ عالمية تتطلَّب قدرًا هائلًا من القدرة الحاسوبية. ربما يُمكنك البدء بالحساب اليدوي، ولكن بحلول الوقت الذي يُنهي فيه أحفادك عملياتك الحسابية سيكون زمان الطقس الذي تُحاول التنبؤ به قد ولَّى منذ فترةٍ طويلة.

في الحقيقة، لن يدنو أحفادك حتى من حلِّ عملياتك الحسابية. فكما ذكرتُ مؤخرًا، يتطلَّب نموذج نظام التنبؤ العالمي ما يقرُب من ٩٠ دقيقة لتشغيله على جهاز الكمبيوتر الفائق الجديد الخاص به، وهو جهاز قادر على إجراء ٨٫٤ بيتافلوب، أو ٨٫٤ كوادريليون (واحد وأمامه ١٥ صفرًا) عملية في الثانية. للتقريب، مجرد عدِّك بصوتٍ عالٍ من واحد إلى كوادريليون سيستغرق منك حوالي ٢٥ مليون سنة. في رحلتي البحثية للتحقق من هذه الادعاءات الغريبة، صادفتُ معلومةً صغيرة أخرى ولكنها مثيرة للاهتمام، وهي أن الدماغ البشري يظلُّ حتى الآن الكمبيوتر الأكثر كفاءة على هذا الكوكب. ليس ثمة مجال للمقارنة. فللمادة الرمادية في أدمغتنا القدرة على إجراء ما يعادل ١٠٠ بيتافلوب من العمليات، اعتمادًا فقط على الطاقة المُستمَدة من كعكة دونات أو وعاء من عصيدة الشوفان. ربما كان سيُمكننا بالفعل إجراءُ العمليات الحسابية يدويًّا، لو كانت أقلامُنا أسرع مما هي عليه.

صديقي جريج عالِم مُحيطاتٍ تدرَّب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ويُدرِّس الآن في جامعة ماين. نقضي جُلَّ وقتنا معًا في رياضة التجديف بالكاياك، ولكن في إحدى رحلاتنا النهرية الأخيرة وَجَّهتُ دفة الحديث نحو مجال تخصُّصه.

قلتُ له: «أخبِرني كيف تعمل نماذج الغِلاف الجوي.»

ومثل أي عالِم مُحترف، قدَّم جريج شرحًا كاملًا ومناسبًا للنشر في دورية علمية، على الرغم من أنه كان يرتدي بدلة غطس، ويبحث مليًّا في حقيبة غدائنا على أمل أن يجد قطعةً مَنسية من قوالب الطاقة ليأكُلها.

قال جريج إن الفكرة الأساسية هي أن النماذج تُقسِّم جزءًا مُعينًا من البيئة إلى مربعاتٍ صغيرة ثلاثية الأبعاد. يُمكن أن يبلغ عرض كل مربع بضعة أميال أو قد يزيد عن ذلك بكثير. سيحاول النموذج أساسًا التنبؤ بكيفية تغيُّر كل كميةٍ من الكميات المَعنية (درجة الحرارة، السرعة، الرطوبة، إلخ) بمرور الوقت في كل مربع. يُحسَب متوسط هذه التغييرات في المُربع بأكملِه وعلى مدار الفترة الزمنية المَعنية بأكملها. يبدأ النموذج بالوقت الحالي، ثم يُضيف التغييرات لتقدير القيمة في المرة التالية. ثم يُعيد العملية برمَّتها مرة أخرى. وهكذا دَوالَيك. داخل كل مربع، يُمكن أن تتغيَّر كل كمية (مثل درجة الحرارة) لأنها تُضاف إلى جدران المُربع أو تُطرَح منه، أو من مصادر أو مصارف داخلية.

يجب أن يُراعى في النماذج أحجام الفترات الزمنية وكل خليةٍ شبكية، والحجم الكُلي للنطاق المعني. تتأثر دقَّة النتائج تأثرًا كبيرًا بطريقة إدخال الشروط الحدِّية والبيانات الأولية. هناك دائمًا ظواهر تحدُث على مقاييس أصغر من أن تلتقطها الشبكة، ومن ثَمَّ يجب تقريب قِيَمها. وإحدى هذه الظواهر المزجُ المُضطرب، مثل هَبات الرياح. في الغِلاف الجوي، نحتاج إلى نماذج مساعِدة لمعرفة احتمالية تكوُّن السُّحب، أو قطرات المطر، أو الثلج، وكيفية تفاعُل ذلك مع نمط الطقس ككُل.

تابعَ جريج شرحَ النمط الدائم التحديث والتعديل لنماذج الطقس الحديثة، وذلك باستخدام مُدخلاتٍ من المُلاحظات الآنية لتصحيح نفسها باستمرار أثناء عملِها. لم يبدأ تطبيقُ ذلك سوى في تسعينيات القرن العشرين، عندما أصبحت أجهزةُ الكمبيوتر كبيرةً بما يكفي للتعامُل مع الحسابات الضخمة. يبدو الحديث عن الفيزياء مع جريج شبيهًا إلى حدٍّ ما بخَوض مباراة كرة تنس في مواجهة اللاعبة الأشهر سيرينا ويليامز، مع أن ما ذكَره عن دمج الملاحظات الآنية بدا لي مألوفًا على الفور. إنه من صميم عملي. فقد سجَّلتُ، مثل معظم البحَّارة التجاريين، قِيمَ الطقس المُختلفة على مدارِ ما يبدو وكأنه عمرٌ كامل، وجدولْتُها لإرسالها إلى الوكالات المَعنية بالغِلاف الجوي عبر البرنامج العالمي لسفن المُراقبة الطوعية. أنا واثقٌ من أن عمليات التشغيل المُعتادة لنماذج التنبؤ بأحوال الطقس تُغذَّى بهذه البيانات القيَّمة، وهو ما يساعد على ضمان دقة المعادلات. لقد ساهمت الأجهزةُ الرقمية في تبسيط هذه العملية إلى حدٍّ ما، غير أن طقوس الإبلاغ بحالة الطقس لا تزال مُرتبطة عندي بصورة البحَّار المُغطَّى بزخَّات المطر الذي يمسك بقلم رصاص ملطخ بالشحم ويحاول جاهدًا قراءة البارومتر باستخدام مِصباح يدوي خافت.

لدى المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية المتوسطة المدى نموذجُه الخاص، الذي يكافئ تقريبًا نظام التنبؤ العالمي ولكنه يختلف عنه في بعض الجوانب الرئيسية؛ إذ يُشغِّل المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية المتوسطة المدى نموذجَه مرتَين يوميًّا فقط، ممَّا يعني أن تصحيح أخطائه من مرة تشغيلٍ إلى أخرى قد يستغرق وقتًا أطول. أما النموذج الأوروبي فيستخدِم شبكة بياناتٍ أدقَّ وطريقةً أكثر تطوُّرًا لنمذجة الضغط والارتفاع، مما يُميزه، حسب قول الكثيرين، بمراعاةٍ أفضلَ للتفاصيل ونتائج أدقَّ على المدى الطويل. يعزو جُو سيانكيفيتش الفضل إلى القيادة الأوروبية في التحسينات الكبرى التي أُدخِلَت على أساليب النمذجة الدائمة الاستجابة للتغيُّرات. حتى الآن، يمتلك المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية المتوسطة المدى جهاز كمبيوتر أكبر حجمًا. ويقول البعض إن نموذجَه أدقُّ في أغلب الأحيان، وهذا لا يعني بالطبع أنه لا يُخطئ مُطلقًا.

تنخفض الدِّقة المُتوقَّعة للتنبؤ انخفاضًا ملحوظًا بمرور الوقت. هذا لا يعني خطأ النموذج عندما لا يتوقَّع في يوم الاثنين حالة الطقس الصحيحة ليوم الجمعة، ولكن يعني أن عدم التيقُّن لدى النظام كبير جدًّا بحيث لا يمكن التنبؤ بالطقس بدقَّة مُطلقة. بوصفي مستخدمًا نهائيًّا لتنبؤات الطقس، أتردَّد عمومًا في وضع خططٍ ثابتة بناءً على تنبؤات تتجاوز ٧٢ ساعة مُستقبلًا. ينشر مركز التنبؤ بالمحيطات خرائط يومِيَّة لما يصِل إلى ٩٦ ساعة من التنبؤ بحالة الطقس، وهي النقطة التي يُدرك عندها البحَّار الحصيف أن حالة المُحيط في الواقع قد تختلف اختلافًا كبيرًا عن حالته المُتوقَّعة. تؤكِّد هذا الأمر الرسومُ البيانية الإحصائية الصادرة عن مركز النمذجة البيئية التابع للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي، حيث تُظهِر كيف تقلُّ موثوقية النماذج الشائعة — التي يُسمِّيها خبراء الأرصاد الجوية «إجادة» — مع كل فترةٍ زمنية مُدتها ٢٤ ساعة. يُشير جُو إلى أنه من الواقعي الآن القول بأن أنماط الطقس الفردية يمكن التنبؤ بها تقريبًا لمدة خمسة أيام، وقد تصِل تنبُّؤات الأنماط الأكبر إلى أسبوع. تُوزِّع الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي بعضَ النتائج التي يظهر أنها صالحة لمدة ثمانية أيام، ولكن لا شكَّ في أنها تفعل ذلك بشيءٍ من التردُّد. يمكن لنموذج نظام التنبؤ العالمي نفسه التنبؤ بما يصِل إلى ١٦ يومًا مستقبلًا، مما يؤدي إلى توقعاتٍ قد توفر بعض الإرشادات العامة، ولكنها ليست مناسبةً لاتخاذ القرارات التشغيلية. فلا تُغامِر بحياتك أو بمصدر رزقك بناءً عليها؛ فالأمر أشبَه بالموقفَين التاليين:

«هل يُمكنني زراعة حديقتي خلال الإجازة المدرسية؟»

«ربما. ولكن قد يشهد هذا الأسبوع سقوطَ أمطار.»

«هل يُمكننا ترتيب جولة تزلُّج بين الجبال في المناطق النائية في ممرِّ ستيفنز باس الجبلي لعُطلة نهاية الأسبوع بعد أسبوعَين من الآن؟»

«لا تفكِّر في ذلك.»

كان إدوارد لورينز عالِم أرصاد جوية أمريكيًّا، اشتهر بعمله في تطوير ما يُسمى «نظرية الفوضى» وبصياغته لما أسماه مفهوم «أثر الفراشة»، والذي فيه يتسبَّب اضطرابٌ بسيط في نظامٍ مُعقد في إحداث سلسلةٍ من النتائج غير المُتوقعة. بدأ مسيرته في هذا المجال عام ١٩٦١ بشيءٍ من المصادفة؛ ذلك عندما قرَّر أثناء إعادة تشغيل نموذج للطقس على جهاز الكمبيوتر الخاص به تقريب أحد أرقام البيانات من ٠٫٥٠٦١٢٧ إلى ٠٫٥٠٦. أدى ذلك إلى عمل النموذج بطريقةٍ غير متوقَّعة تمامًا، وهو ما قادَ لورينز إلى استنتاجاته حول مدى حساسية عمليات المحاكاة الجوية للتغيُّرات الصغيرة في الظروف الأولية. في هذا العالَم غير الخطِّي المُتغير باستمرار، حَدَّدَ أن فرصة التنبؤ بالطقس بأي درجةٍ من «الإجادة» على الإطلاق ستنخفِض إلى ما يقرُب من الصفر عند حاجز الأسبوعَين تقريبًا.

قال لورينز في ورقته البحثية الأولية: «مع القِيَم المختارة … يمكن التنبؤ بالحركات الركامية (بما يصِل إلى) ساعة تقريبًا، وبالحركات الإحداقية لبضعة أيام، وبالحركات ذات النطاق الأكبر لعدة أسابيع.»

بفضل التطوُّر الهائل في قدرة أجهزة الكمبيوتر، اكتسبت النماذج القدرة على تحسين قدراتها التنبؤية بمعدل يومٍ واحد تقريبًا لكل عَقدٍ منذ ثمانينيات القرن العشرين، ولكن يبدو أن هناك بالفعل حدًّا قريبًا جدًّا من عتبة لورينز، وهي النقطة التي يصبح فيها عدد النتائج الممكنة كبيرًا جدًّا بحيث لا يسمح بحَلٍّ مُستقر. يستخدِم المتنبِّئون بالطقس ما يُسمى بأساليب «التجميع» كوسيلةٍ للتحوُّط من أثر الفراشة، حيث يعملون على تشغيل تكراراتٍ مُتعددة للسيناريو الواحد بالتوازي، كلٌّ منها باختلافاتٍ صغيرة في الظروف الابتدائية. يشكِّل هذا مجموعةً من المُستقبَلات المُحتمَلة، وهي مجموعة من التنبؤات المتعددة التي يُحسَب متوسطها بعد ذلك لتكوين تنبؤ واحد. إنها تقنية مفيدة إذا كنت تحاول تحديد المناطق المُعرَّضة للتهديد من حالة طقس بعينِها، مثل إعصار مداري. يُطلق على هذا الفرع من علم الإحصاء اسم «تحليل مونت كارلو» (نسبةً إلى نادي مونت كارلو الشهير للقمار)، وهو اسم غير مُطمْئِن بالمرة لمَن يخوضون منَّا مقامرة عالية المخاطر في مجال التنبؤ بالطقس.

•••

تُميَّز القنوات الملاحية بالعوامات، وهي أجسام توجيهية يضعها في أماكنها أشخاصٌ حذِرون باستخدام أدواتٍ دقيقة. على الرغم من ذلك، يُنصَح البحَّارة بعدَم وضع كلِّ ثقتهم في معلومة واحدة؛ اتْبَع العوامات، ولكن عليك أيضًا مراقبة الرادار، والتحقُّق من نظام تحديد المواقع العالمي، والنظر من النافذة تحسُّبًا لوقوع أمرٍ غير معروف أدى إلى خروج إحدى العوامات عن مكانها. يسعى البحَّارة إلى تحقيق المُستوى نفسِه من الاحتياط فيما يتعلق بالطقس، مُدركين أن التنبؤات بالطقس قد تكون مُستقاةً من عمليةٍ تحمِل اسمَ نادي قمار شهير لكثرة ما يعتريها من تغيُّر وعدم استقرار؛ ومن ثَمَّ فهناك عدة نتائج ممكنة. في حالة تنبؤ النماذج المتنافسة بوصول إحدى العواصف إلى موقعَين مختلفَين في اليوم نفسه، فقد يكون من الحكمة تجنب كليهما حتى تتَّضح الصورة المستقبلية على نحوٍ أفضل.

هناك بعض التحدِّيات التي تُعَد جزءًا لا يتجزأ من هذه العملية. أحدُها أن المصدر الأصلي للمواد التنبؤية غالبًا ما يكون مَخفيًّا وراء طبقاتٍ من وسائل الإعلام. تحصل العديدُ من الوكالات، العامة أو غيرها، على بياناتها الأولية من مجموعة النماذج الأساسية نفسها. وهذا يعني أنه عند مقارنة خريطة للإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي بشيءٍ نزَّلته للتوِّ من موقع Weather.com، فقد تكتشف أنك في الواقع تنظر إلى المصدر نفسه مرتَين. فلتحقيق احتياطٍ حقيقي، يجِب على البحَّار المُفترَض (أو طيَّار الطائرة، أو المسافر في مناطق نائية) أن يبحث بطريقةٍ مدروسة عن بدائل. والأهم من ذلك كله، يجب عليه النظر إلى السماء لمعرفة ما إذا كان الواقع يتوافق مع ما يتوقعه الخبراء. مثل الكثير من الأشياء التي يُقدمها الإنترنت، تُعرَض خرائطُ الطقس عرضًا جميلًا، وتكون مليئةً بالمعلومات، وسرعان ما تُصبح قديمةً بلا فائدة. فكِّر في هذا: عندما يُستخدَم نموذجٌ لرسم خريطة تنبؤات بالطقس مدتها ٢٤ ساعة، فإنه يعمل ببياناتٍ ربما يكون قد مرَّ عليها ستُّ ساعاتٍ عند نشر الخريطة. وبمرور ١٢ ساعة على الخريطة نفسها، يصبح ما فيها بمثابة تنبؤٍ بالمستقبل بناءً على تقديراتٍ أُجريَت في الماضي البعيد. لا بأس في ذلك ما دمتَ تُدرك أن ما تراه من المُستبعَد أن يكون المسار الدقيق للأحداث. ولكن في حالة تجاهل هذا التحذير، فقد تكون العواقب وخيمة.

هناك مثالٌ مأساوي على هذا الإغفال يتمثل في غرق السفينة التجارية الأمريكية «إلفارو» في عام ٢٠١٥. أبحرت «إلفارو» في ٢٩ سبتمبر من مدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا، في رحلتها الأسبوعية إلى بورتوريكو، حيث كانت تُخطط لتشقَّ طريقها شرق جُزر البهاما، كان سيجعلها بالتأكيد على مقربة شديدة من إعصارٍ حلزوني مداري في مرحلة تكوُّنه يُسمَّى جواكين. بعد أقلَّ من ٤٨ ساعة، هبَّ إعصار جواكين وكان إعصارًا من الفئة الرابعة، فغرِقت السفينة وغرِق معها جميع أفراد الطاقم البالِغ عددهم ٣٣ فردًا لعدم قُدرتها على تعديل مسارها المُخطَّط له بما يتناسَب مع ذلك الحدث المُستجد. كانت هذه أسوأ كارثة تتعرَّض لها سفينة أمريكية منذ أكثر من نصف قرن.

تُعتبر قصة «إلفارو» بمثابة دراسة حالة في سوء اتخاذ القرار، لكن طبيعة التنبؤ بالطقس في العصر الرقمي لعبت دورها أيضًا في النتيجة المروِّعة. بادئ ذي بدء، كانت بداياتُ إعصار جواكين تتشكَّل لبعض الوقت في شمال المحيط الأطلنطي، وكانت التوقُّعات المتعلقة بمستقبله أبعدَ ما تكون عن كونها قاطعة. ببساطة، كانت هناك الكثير من الأمور المجهولة المرتبطة بقوى أخرى قريبة في الغِلاف الجوي. في الواقع، كانت النماذج تواجِه صعوبة كبيرة في تحديد توقُّعات إعصار جواكين، لدرجة أن مناقشة العواصف التي أجرتها الإدارة الوطنية للمُحيطات والغِلاف الجوي في الصباح الذي أبحرت فيه «إلفارو» انتهت بهذه الجُملة غير المطمئِنة: «غنيٌّ عن القول أن الثقة في تفاصيل المسار المتوقَّع، وخاصةً بعد ٤٨ ساعة، منخفضة للغاية.»

وتمثيلًا لحالة عدم التيقُّن هذه، أظهرت الخرائط إعصار جواكين وهو يدور في المكان نفسه تقريبًا قبالةَ جنوب شرق جُزر البهاما لعدة أيام قادمة. للوهلة الأولى، يمكن لمِثل هذه الصورة أن تجعل العاصفة تبدو وكأنها شيءٌ ثابت، غير أن ما تُعبِّر عنه حقًّا في بعض الحالات هو شكٌّ كبير بشأن مُستقبلها. بالعودة إلى المقياس القديم لقاعدة البحَّارة ١-٢-٣ — حيث يُضيف كلُّ يومٍ يمر ستِّين ميلًا من عدم التيقُّن إلى الموقع المتوقَّع للإعصار — بحلول الأول من أكتوبر كان هناك احتمال متساوٍ بأن يقع مركز الإعصار جواكين في أي مكانٍ في نطاق دائرة يبلُغ قُطرها حوالي ٣٠٠ ميل.

ألقى الكابتن مايكل ديفيدسون نظرةً على هذه المعلومات ووضعَ خطةً للانطلاق نحو الجنوب الشرقي، مرورًا بالجهة الشاطئية لإعصار جواكين في طريقِه إلى بورتوريكو. بدا هذا في أحسن الأحوال مخاطرةً محفوفةً بالمخاطر، لكن «إلفارو» كانت سفينةً سريعة، وبدا أن هناك حيزًا كافيًا يسمح لها بأن تنسَلَّ بين مسار العاصفة المُتعرِّج والحدود الخارجية الخطرة لجُزر البهاما. ومع الأسف، كان إعصارُ جواكين في طور الانجراف نحو الجنوب والغرب أكثر ممَّا توقَّعه أي أحد، ومع تحرُّكه إلى منطقة بها مياه أدفأ ورياح قصٍّ أقل، فإن مرحلة التكثيف الناتجة ستُضاعف سرعة الرياح المدمجة في العاصفة إلى ١٤٠ عقدةً في أقلَّ من ٤٨ ساعة.

كان بدن «إلفارو» قديمًا، لكن معَدَّات الاتصال المزوَّدة بها كانت حديثة، وكان القبطان يُخطِّط لرحلته باستخدام تنبؤاتِ طقس أعدَّتها خدمةُ توجيهٍ تجارية، وتم تنزيلها من اتصالٍ بالبريد الإلكتروني عبر الأقمار الصناعية. ما لم يكن على عِلم به هو ما أصبح يُسمَّى «كُمون المعلومات القاتل» في جلساتِ الاستماع التي أعقبت غرق سفينته. إن البيانات التي كانت تُرسَل أربع مرات يوميًّا إلى البريد الوارد للكابتن ديفيدسون قد جُمِعَت من عمليات تشغيل النموذج، وكانت تُجمَع في رسومات، وتُشكَّل بطريقةٍ كانت تعني أن بعضها قد مضى عليه ستُّ ساعاتٍ على الأقل — دورة تنبؤية كاملة — بحلول الوقت الذي كان يراها فيه. وذات مرة، أُرسِلَت إليه الخريطة نفسها مرتَين على التوالي عن طريق الخطأ. كان أفراد الطاقم — الذين كانوا يُشاهدون قناة الطقس التلفزيونية في مقصوراتهم ويقرءون التنبؤات النصِّية على جهاز استقبال «إنمارسات-سي» الخاص بغرفة القيادة — يحصلون على معلوماتٍ أحدث ومُرعبة أكثر حول العاصفة التي كانت في طور تكوُّنها. وقد أعربوا عن شكوكهم، ولكن على نحوٍ وُصِف بأنه «فشل ذريع في ثقافة التواصل في السفينة «إلفارو»»، ومن ثَمَّ لم تُؤخَذ شكوكهم في الاعتبار في خطة عمل القبطان. وسط كل هذا، لم يكن لدى ضباط «إلفارو» أية وسيلة لقياس قوة الريح واتجاهها في وقتِ هبوبها الفعلي، ومن ثَم لم تكن هناك طريقة فعَّالة لمعرفة أن إعصار جواكين كان في مكانٍ غير متوقَّع وأقوى بكثير مما كان متوقعًا. كان مقياس سرعة الرياح في السفينة مُعطَّلًا منذ عدة أشهر.

•••

في نهاية اليوم، نخرج أنا وجُو بصفتنا مجرد مُسافرَين وسط مَدِّ الزحام النهاري لضواحي واشنطن. نحن في شهر مايو، وقد اكتست الأشجار بالفعل باللَّون الأخضر الغامق الصيفي والسُّحب تتلاطَم في السماء، الأمر الذي كان سيُثير قلقي لو كنتُ في البحر. تبدأ قطراتُ المطر لتوِّها في التساقُط على الرصيف الخرساني الجاف تاركةً وراءها بُقَعًا داكنة. يتوجَّه جُو إلى سيارته بينما أرفع قلنسوة سُترتي بتفاؤلٍ وأنطلق إلى متاهة الأرصفة والشوارع المُتقاطعة التي أوصلتني إلى هنا. ومع أني ملَّاح، فما زلتُ أفتقِد بوصلتي الداخلية أحيانًا في اليابسة. في مكانٍ ما إلى جنوب موقعي توجَد محطة المترو بالتأكيد، لكن شحن هاتفي قد نفد. لا توجَد هنا غرفة خرائط يُمكنني الرجوع إليها، ولا سِرب محلِّق من الطيور البحرية ليُرشدني إلى الاتجاه الصحيح.

أجد في النهاية تقاطُعًا أتذكَّره وأُحدِّد مساري بينما تزمجِر السيارات المارة وتشقُّ هبَّةُ ريحٍ طريقها عبر قِمَم الأشجار. هناك على مسافةٍ بعيدة يوجَد مينائي، حيث يُضيء مقهى ستاربكس أسفل الكتلة الخرسانية لمرآب السيارات. تُقابلني طبقةٌ كثيفة من المطر في منتصف الطريق، فصِرتُ مبتلًّا تمامًا في الوقت الذي وجدتُ فيه ملجأً. أقف في طابور المقهى بجوار امرأة ترتدي ملابس أنيقة وجافَّة على نحوٍ غريب وسط هذه الأمطار، في مثال للوقار المِهني. أتساءل في نفسي: «هل لدَيها مجال طاقة يَحميها؟» كلَّا، بل معها مِظلة مطوية الآن بأناقة في حقيبة يدِها. في الواقع، معظم الناس من حولي يحمِلون المظلَّات ولا يقلُّون عنها في أناقتهم. ربما قرءوا توقُّعات الطقس. أدركتُ فجأة آثار أقدامي المُبلَّلة ومعطف المطر البرتقالي الذي تتساقط منه المياه. إنها السُّترة نفسها التي أرتدِيها في البحر، ولا تزال جيوبها مليئة بقطع قديمة من الخيوط وأغلفة الحلوى. يبدو وكأنني مررتُ عبر بوابة من عالَمٍ موازٍ، من أرض يُسمَح فيها بارتداء ملابس كهذه للعمل إلى أرضٍ أخرى لا يُسمح فيها بذلك. ولكن لا يبدو أن أحدًا يُلقِي لي بالًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥